هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد وحفظ المال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه أكمل الهدي، ومن ذلك هديه في الاقتصاد وحفظ المال، فقد ورد عنه في أحاديث كثيرة ما يدل على ذلك، منها ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَسَرَ، فَاِتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سَلْسَلَةً مِنْ فِضَّةٍ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. والشَّعب: الصدع. والسَّلْسَلة: إيصال الشيء بالشيء.
ففي هذا الحديث حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للمال، حيث أصلح هذا القدح، لما كان إصلاحه ممكنا، ولم يتخلص منه ويشتري غيره.
وَعَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
والإهاب: الجلد، أو ما لم يدبغ من الجلد. ففيه حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للمال، حيث أرشد إلى الانتفاع بجلد هذه الشاة، ولو كانت ميتة، لإمكان تطهيره بالدبغ واستعماله بعد ذلك.
وعَنْ أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ففيه الاقتصار على القليل من الماء، وعدم الإسراف فيه، وإن كان عبادة لله تعالى، فكيف بالإسراف في غيره؟.
وقال البخاري في الصحيح 1/39: (وَكَرِهَ أَهْلُ العِلْمِ الإِسْرَافَ فِيهِ – يعني الوضوء - وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكان النبي لا يجاوز غسل كل عضوا ثلاثا، سوى الرأس فيمسحه مرة واحدة.
ولا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتصد ويحفظ المال لحاجته وفقره، فإنه صلى الله عليه وسلم لو أراد زهرة الدنيا وما فيها لحصلت له، ولكنه اختار ما عند الله عز وجل مما هو خير وأبقى، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ ... متفق عليه.
فينبغي للمؤمن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في النفقة، وأن يحذر من الإسراف فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ ووصف الله عباده المتقين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾.
وأنبه في آخر هذا المقال إلى حديثين في هذا الباب لا يصحان عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أولهما: حديث: (ما عال من اقتصد) رواه الإمام أحمد (2469) أي ما افتقر من اقتصد. والحديث ضعفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام 4/567، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده ضعيف، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (4459) : ضعيف.
ثانيهما: حديث: (الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (6744) وقال أبو حاتم في العلل (2354): هذا حديث باطل. وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (157): ضعيف. وحكم عليه في ضعيف الجامع (2286) بأنه موضوع.
ويغني عنهما ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ، وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ، وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» رواه أبو داود (4776) وحسنه الألباني.
والْهَدْيَ الصَّالِحَ: أَيِ الطَّرِيقَةُ الصَّالِحَةُ.
وَالسَّمْتُ الصَّالِحُ: أَيْ حُسْنُ هَيْئَتِهِ وَمَنْظَرُهُ فِي الدِّينِ.
وَالِاقْتِصَادُ: أَيْ سُلُوكُ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالدُّخُولُ فِيهَا بِرِفْقٍ عَلَى سَبِيلٍ يُمْكِنُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ.
وجُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ: أَيْ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مَنَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْبِيَاءَهُ فَاقْتَدُوا بِهِمْ فِيهَا وَتَابِعُوهُمْ عَلَيْهَا.ا. ه. من عون المعبود 13/94 بتصرف.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.