شرح ثلاثة الأصول للإمام المجدد رحمه الله تعالى([1])
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض
نسخة خاصة لبرنامج دليل 7/3/1446هـ
الدرس الأول
إن الحمد لله . . . أما بعد:
التعريف برسالة ثلاثة الأصول:
تسميتها: اسمها المشهور عند العلماء (ثلاثة الأصول) وسماها بعضهم (الأصول الثلاثة) وبعضهم (الأصول الثلاثة وأدلتها)
وهذا التركيب (ثلاثة الأصول) تركيب صحيح من جهة اللغة([2]).
موضوع الرسالة([3]):
تقرير التوحيد، وهو توحيد الألوهية، كما قرر فيها توحيد الربوبية، وبيَّن أن الرب هو المعبود، وإذا كان هو الرب وحده فليكن هو المعبود وحده.
وفي الأصل الثاني، وهو معرفة العبد دينه، بيَّن أن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد . . . إلخ.
وفي الأصل الثالث هو معرفة العبد نبيه صلى الله عليه وسلم بين أنه ما من خير إلا ودل الأمة عليه، وهو التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، وما من شر إلا وحذرها منه، وهو الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه.
فنجد أن الأصول الثلاثة في هذه الرسالة يجمعها أمر مشترك وهو تقرير توحيد الألوهية.
نقل الشيخ ابن قاسم رحمه الله تعالى في حاشيته على ثلاثة الأصول عن المصنف رحمه الله تعالى قولَه: (قال المصنف قدس الله روحه: قررت ثلاثة الأصول توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام).
زمن تأليف هذه الرسالة([4]):
ألفها الشيخ رحمه الله تعالى في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام، وانتشر الجهل بالتوحيد عند كثير من الناس، ووقعوا في انحرافات عقدية، وكان كثير منهم لا يقرون من التوحيد إلا بالربوبية، فلا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولهذا اعتنى المؤلف رحمه الله تعالى فيها بتسهيل العبارة، وكثرة الأدلة لإقناع الناس بما تضمنته هذه الرسالة من التوحيد الخالص، والتحذير من الشرك.
وجاء في الدرر السنية 1/146 في سبب تأليف هذه الرسالة: (وطلب الأمير: عبد العزيز بن محمد بن سعود، من الشيخ رحمه الله، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الدين؛ فكتب هذه، وأرسلها عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها).
إلا أن هذه الرسالة التي أرسلها الأمير عبد العزيز تختلف بعض الشيء عن النسخة المشهورة من جهة الزيادة أو النقص أو اختلاف العبارة، وإن كان المضمون واحدا، وهو تقرير التوحيد.
لأن الشيخ محمدا رحمه الله تعالى كتب هذه الرسالة عدة مرات، كما نجد ذلك في الدرر السنية في المجلد الأول ص125، 137، 147، 151، فليس هذا من اختلاف النسخ، بل من تعدد التأليف.
أهمية هذه الرسالة، وما تميزت به([5]):
وقد كان ولاة الأمر فيما مضى يُلزمون الناس بتعلم هذه الرسالة، ويبعثون الدعاة لتعليم الناس هذه الرسالة، ثم لما فتحت المدارس النظامية قُررت هذه الرسالة على طلاب المرحلة الابتدائية.
ولهذا اعتنى العلماء بشرحها، فمن الشروح المطبوعة:
وهو أول شرح يُدوَّن لهذه الرسالة.
وغيرهم كثير.
تنبيه:
في النسخة المشهورة لهذه الرسالة ثلاث مقدمات، وهي رسائل مختصرة:
الأولى: تبدأ من قوله رحمه الله تعالى: (اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل ...)
الثانية: تبدأ من قوله رحمه الله تعالى: (اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل ...)
الثالثة: تبدأ من قوله رحمه الله تعالى: (اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم ...)
وهذه المقدمات موجودة في نسخة واحدة، وهي النسخة المشهورة المتداولة، ولا توجد هذه المقدمات في بقية النسخ.
ولهذا قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على ثلاثة الأصول ص25 عند قول المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثةُ التي يجب على الإنسان معرفتها؟ ...) قال ابن قاسم: (وهي المقصودة بهذه النبذة، وما تقدمها من المسائل: فلعل بعض تلاميذه قرنها بها).
وبناء على هذا فبداية رسالة ثلاثة الأصول من قول المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ ...) وما قبلها فهو من كلام المؤلف رحمه الله تعالى وله أهميته وفائدته، ولكنه ليس ضمن رسالة ثلاثة الأصول([8]).
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل:
الأولي: العلم. وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة: الصبر على الأذى فيه.
والدليل قوله تعالى: بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب العلم قبل القول والعمل. والدليل قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ فبدأ بالعلم قبل القول والعمل)
قال رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) تقدم الكلام على البسملة في شرح القواعد الأربع في الدرس الماضي.
(اعلم رحمك الله) كلمة (اعلم) يؤتي بها عند ذكر الشيء المهم، الذي ينبغي العناية به، وما قرره المصنف رحمه الله تعالى هنا من أصول الدين حقيق بأن يُهتم به غاية الاهتمام.
(رحمك الله) دعاء لك بالرحمة أي غفر الله لك ما مضى، ووفقك وعصمك فيما يُستقبل.
والشيخ رحمه الله تعالى يستعمل مثل هذه العبارة كثيراً، فيقول: اعلم رحمك الله. اعلم أرشدك الله لطاعته. أسال الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة. وهذا من حسن عنايته ونصحه وقصده الخير للمسلمين.
وقوله: (رحمك الله) فيه تنبيه على أن مبنى هذا العلم على التلطف وعلى الرحمة بالمتعلمين، وكان العلماء يروون لمن بعدهم في من طلب الإجازة بالحديث حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رواه أبو داود 4941، وصححه الألباني.
وهو معروف عند أهل الحديث بالحديث المسلسل بالأولوية؛ لأن كل راو يقول لمن بعده: وهو أول حديث سمعته منه.
قال العلماء سبب ذلك أن مبنى هذا العلم الرحمة، ونتيجته الرحمة في الدنيا، وغايته الرحمة في الآخرة.
وفي هذا الحديث من الفوائد: إثبات علو الله تعالى، يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (يرحمكم من في السماء) وفيه أن الجزاء من جنس العمل، فالراحمون يرحمهم الرحمن.
(أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل) أي أنه يجب على كل مكلف أن يتعلم هذه المسائل الأربع.
(المسألة الأُولَى: الْعِلْمُ) وهو معرفة الهدى بدليله، وإذا أُطلق العلم فالمراد به العلم الشرعي، والعلم منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، وما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى هنا فهو فرض عين.
(وهو معرفة الله) أي بما تعرف به إلينا في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أسمائه وصفاته وأفعاله.
ومعرفة الله تعالى تكون بالنظر في الآيات الشرعية في الكتاب والسنة، والنظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات، فإن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات ازداد علماً بخالقه ومعبوده، قال الله عز وجل: ﴿وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰتٞ لِّلۡمُوقِنِينَ 20 وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ 21﴾ [الذاريات: 20-21] ومعرفة الله تعالى بالقلب تستلزم قبول شرعه والانقياد له.
(ومعرفه نبيه) أي تعرف نبيك وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي عليه الصلاة والسلام، وتعرف أن الله تعالى أرسله إلى الجن والإنس ليعلمهم الدين ويرشدهم إلى طاعة ربهم، وأن الواجب اتباعه والسير على منهاجه، ومعرفته فرض على كل مكلف، وأحد مهمات الدين.
وتكون معرفه النبي صلى الله عليه وسلم بالأدلة السمعية مثل قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِ﴾ [الفتح: 29] وقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144] وبالأدلة العقلية بالنظر والتأمل فيما جاء به من البينات التي أعظمها القرآن المشتمل على الأخبار الصادقة والأحكام العادلة، وما جرى على يديه من الخوارق، وإخباره بأمور الغيب، ومعرفته تستلزم قبول ما جاء به، وتصديقه فيما أخبر، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وتحكيم شريعته والرضا بحكمه، كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾ [النساء: 65] وقال سبحانه: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
(ومعرفة دين الإسلام)
الإسلام بالمعنى العام هو التعبد لله بما شرع منذ أن أرسل الله الرسل إلى أن تقوم الساعة.
قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ﴾ [البقرة: 128] وقال تعالى عن التوراة وأنبياء بني إسرائيل: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) وقال سبحانه عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: ﴿إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ﴾ [يونس: 84].
أما الإسلام بالمعنى الخاص فهو الدين الذي بَعث الله نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم به، وجعله خاتمة الأديان، لا يُقبل من أحد دين سواه.
فأتباع الرسل عليهم السلام مسلمون في زمن رسولهم، وأما حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فكفروا به فليسوا بمسلمين، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ﴾ [آل عمران: 85]
وفي كلام المؤلف رحمه الله تعالى إشارة إلى أن التقليد لا يجوز في باب العقائد وأنه لا بد من معرفة دين الإسلام بالأدلة من كتاب أو سنة أو إجماع؛ لأن من كان علمه بالاعتقاد عن غير دليل فهو مظنة لزعزعة اعتقاده، وتأثره بالشبه التي يثيرها أهل الباطل.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله تعالى: (فرض على كل أحد معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل، ولا يجوز التقليد في ذلك؛ لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة، إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنار، ويعتقد أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شك فيه، فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل فإنهم لا يفهمون المعنى غالباً). الدرر السنية 4/339.
(الثانية: العمل به)
فالعمل هو ثمرة العلم، والعلم مقصود لغيره، فلا بد مع العلم بدين الإسلام من العمل به، فإن الذي معه علم ولا يعمل به شر من الجاهل.
والعمل بالعلم منه ما تركه كفر، ومنه ما تركه معصية، ومنه ما تركه دون ذلك.
فالعلم بالتوحيد بأن الله وحده هو المستحق للعبادة، فإذا علم العبد ذلك ولم يعمل بهذا العلم فأشرك مع الله جل وعلا، وكان ترك العمل بهذا العلم في حقه كفراً.
وأما ما تركه معصية كمن علم أن الخمر حرام شربها فخالف ما علم فشربها.
(الثالثة: الدعوة إليه)
إذا حصل له بتوفيق الله تعالى العلم والعمل فيجب عليه السعي في الدعوة إلى الإسلام كما هي طريقة الرسل عليهم السلام وأتباعهم.
والدعوة واجبة على كل مسلم ومسلمة بحسب ما عندهم من العلم، وأعظم أمر تجب الدعوة إليه هو التوحيد وإفراد الله بالعبادة ونبذ الشريك عنه سبحانه وتعالى، وكذلك الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإنكار المنكر ونحو ذلك، فكل هذا من الدعوة إلى دين الإسلام، ولا بد للداعي إلى الله أن يكون على علم وبصيرة بما يدعو إليه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]
(الرابعة: الصبر على الأذى فيه)
لأن من قام بدين الإسلام ودعا الناس إليه فقد تحمل أمراً عظيماً، وقام مقام الرسل في الدعوة، وقصد أن يحول بين الناس وبين شهواتهم واعتقاداتهم الباطلة، فحينئذٍ لا بد أن يؤذى، فعليه أن يصبر ويحتسب.
وسنة الله تعالى في خلقه أنه لم يجعل القبول حاصلاً للنبين والمرسلين الذين هم أفضل الخلق، وإنما عُورضوا وأُوذوا فعليه أن يصبر كما صبر المرسلون، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتذي حذو الصابرين كما في قوله تعالى: ﴿فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35] فإن لم يصبر الداعي إلى الله كان من الذين يستخفنهم الذين لا يوقنون، كما قال تعالى: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الروم: 60].
(والدليل: قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، والعصر)
أي الدليل لهذه المسائل الأربع سورة العصر.
ففي هذا السورة العظيمة أقسم الله تعالى بالعصر؛ لشرفه وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأعمال الصالحة للمؤمنين وزمن التفريط والمعصية للمعرضين.
وأقسم سبحانه بالعصر وهو الصادق سبحانه وتعالى وإن لم يقسم، ولكن أقسم لتأكيد المقام، والله سبحانه وتعالى يُقسم بما شاء من خلقه، فأقسم بالسماء ذات البروج وبالضحى وبالشمس .... لأن المخلوقات تدل على عظمته، وعلى أنه سبحانه هو المستحق للعبادة، ولبيان عظم شأن هذه المخلوقات، وأما المخلوق فليس له أن يُقسم إلا بالله تعالى، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» رواه أبو داود 3251، وصححه الألباني.
(إن الإنسان لفي خسر) هذا جواب القسم، أي جنس الإنسان من حيث هو إنسان في خسارة وهلاك.
والألف واللام للجنس، أي كل إنسان في خسارة عظيمة، ثم قال: (إلا الذين آمنوا) وأكد ذلك بثلاثة مؤكدات: القَسَم، وإنَّ، واللام، التي تسمى المزحلقة الواقعة في خبر إنَّ، وتوكيد الكلام إنما يكون إذا كان المخاطب منكراً، والمشركون ينكرون أن يكونوا في خسارة؛ لأنهم يزعمون أنهم هم أصحاب النجاة.
(إلا الذين آمنوا)
استثنى الله سبحانه أهل الإيمان فليسوا في خسر، وهذا يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه، وفيه الحث على العلم فإنه لا يمكن أن يؤمن بدون علم، وهذا دليل المسألة الأولى.
والمعنى: إلا الذين آمنوا بما أمر الله تعالى من الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
(وعملوا الصالحات) المراد بالعمل الصالح أفعال الخير كلها، سواء أكانت ظاهرة أم باطنة، وسواء أكانت متعلقة بحقوق الله تعالى أم متعلقة بحقوق العباد، وسواء أكانت من قبيل الواجب أم كانت من قبيل المستحب، إذا كانت خالصة صواباً.
وهذا دليل المسألة الثانية.
عطف العمل بالواو على الإيمان، وأهل اللغة (النحاة) يقولون إن الواو تأتي كثيراً للمغايرة، فهل معنى ذلك أن العمل غير الإيمان، وأن مسمى الإيمان لا يدخل فيه العمل؟
الجواب: لا، لأن هذا من عطف الخاص على العام، لشرف ذلك الخاص ومزيد العناية به. وعطف الخاص بعد العام يأتي كثيراً، مثل قوله جل وعلا: (قل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) فهما من الملائكة والعطف هنا للخاص على العام.
(وتواصوا بالحق) أي أوصى بعضهم بعضاً بالإيمان بالله وتوحيده، وبالكتاب والسنة والعمل بما فيها، وهذا دليل المسألة الثالثة.
(وتواصوا بالصبر) أي بالصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، وهذا دليل المسالة الرابعة.
(قال الشافعي رحمه الله تعالى) هو محمد بن إدريس القرشي، الإمام الشهير، ولد في غزة سنه 150ه. وتوفي بمصر سنه 204 هـ، وهو أحد الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى.
(لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم([9]))
أي لو ما أنزل الله من القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم إلا هذه السورة لكفتهم في إقامة الحجة على الخلق في وجوب امتثال ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، فهي كافية لهم في معرفة أنه لا نجاة لهم إلا بالإيمان بالله والعمل الصالح، والتواصي على الحق، والتواصي على الصبر، ففيها بيان أسباب النجاة بإجمال، وبقية نصوص القرآن والسنة مفصلة ومبينة لما أجمل في هذه السورة.
وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع أبواب الشريعة، ولا يعني أن ما زاد على هذه السورة من القرآن الكريم لا حاجة إليه، فإن المسلمين بحاجة إلى كل ما جاء في كتاب الله عز وجل، وليس لهم عنه غنية، وإنما مراده رحمه الله تعالى ما تقدم.
(قال البخاري رحمه الله تعالى) البخاري هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله، ولد ببخاري في شوال سنة 194هـ. وتوفي سنة 256هـ.
(بابٌ العلم قبل القول والعمل) (بابٌ) يقرأ بالتنوين لأنه مقطوع عن الإضافة.
ترجم بالبداءة بالعلم لأن القول والعمل لا يصح إلا إذا صدر عن علم، كما قال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وعبادة الله التي هي أعظم حق له سبحانه على عباده لا تكون إلا بعلم.
(والدليل قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ فبدأ بالعلم قبل القول والعمل).
استدل الإمام البخاري رحمه الله تعالى بهذه الآية على وجوب البدء بالعلم قبل القول والعمل؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه أولاً بالعلم في قوله: (فاعلم) والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو يشمل الأمة، ثم أعقبه بالعمل في قوله: (واستغفر لذنبك) ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم، فدل على أن العلم مقدم على العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح النية المصححة للعمل.
والخطاب في قوله (فاعلم) للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يشمل الأمة.
(اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمُ ثلاثِ هذه المسائلِ، والعملُ بهن)
هذه الرسالة الثانية من المقدمات.
يجب على كل مكلف من ذكر وأنثى وجوباً عينياً تعلم ثلاث هذه المسائل، وكذلك المسائل الأربع السابقة؛ لأن فيها بيان أصل الدين وقاعدته.
وتعلم هذه الثلاث مسائل إنما يكون بمعرفتها واعتقاد معانيها ثم العمل بما دلت عليه.
وهذه المسائل الثلاث مجملة هي:
الأولى: في توحيد الربوبية. والثانية في توحيد الألوهية. والثالثة في الولاء والبراء.
(الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا؛ فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار)
قوله: (الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً)
فهذه الجملة تضمنت ثلاثة أمور:
الأول: أن الله خلقنا أي أوجدنا بعد أن لم نكن شيئاً.
والدليل على ذلك السمع والعقل، أما الدليل السمعي فهو في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] وقوله: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم: 20] وقوله: ﴿ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ﴾ [الرعد: 16] وقوله: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ﴾ [الأعراف: 11].
أما الدليل العقلي على أن الله تعالى خلقنا ففي قوله تعالى: ﴿أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ﴾ [الطور: 35] ومعنى الآية: أي هل خُلقوا هكذا دون خالق؟ أم هم الخالقون لأنفسهم؟ فإذا امتنع هذان الأمران تعين الأمر الثالث، وهو أنه لا بد من خالق وهو الرب تعالى.
ولم يُعرَف أن أحداً من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى إلا على وجه المكابرة، كما حصل من فرعون، مع كونه مستيقناً به في الباطن، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗا﴾ [النمل: 14].
الثاني: أن الله رزقنا، والدليل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58] وقوله سبحانه: ﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُ﴾ [سبأ: 24].
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الجنين: «يُبعث إليه ملَك فيُؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» متفق عليه.
وأما الدليل العقلي: فلأننا لا نعيش إلا بطعام وشراب، والطعام والشراب خلقه الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ 63 ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ 64 ...﴾ [الواقعة: 63-64] الآيات.
الأمر الثالث: أن الله لم يتركنا هملاً.
والهَمَل بالتحريك: هو السُّدى المتروك ليلاً ونهاراً، ولم يَرِد هذا اللفظ في القرآن، وإنما الذي ورد السدى والعبث، والجميع بمعنى واحد، وهو المتروك الذي لا يؤمر ولا ينهى.
والدليل من السمع على أن الله لم يتركنا سدى قوله تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36] وقوله عز وجل: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا﴾ [المؤمنون: 115] يعني لغير غاية وحكمة ﴿وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
أما الدليل العقلي على ذلك: فإن الله جل وعلا حكيم فقد خلقنا ورزقنا وأرسل إلينا الرسل وأنزل عليهم الكتب وأوجب علينا طاعتهم وأمرنا بالجهاد في سبيله، فلو لم يكن هناك حساب ولا عقاب ولا ثواب ولا جزاء لكان هذا من العبث الذي ينزه الله تعالى عنه.
(بل أرسل إلينا رسولاً) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله عز وجل إلينا بالهدى ودين الحق كما أرسل إلى من قبلنا قال الله تعالى: ﴿وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ﴾ [فاطر: 24] وذلك لإقامة الحجة على الناس، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار) لأن طاعته طاعة لله عز وجل، قال تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَ﴾ [النساء: 80] وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ [النساء: 13] وفي حق العصاة قال عز وجل: ﴿وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [النساء: 14].
وفي صحيح البخاري رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله ومَن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
(والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا 15 فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا 16﴾ [المزمل: 15-16])
أي الدليل على قول المؤلف رحمه الله تعالى: (بل أرسل إلينا رسولاً) قولُه تعالى: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا ....﴾ [المزمل: 15] يعني لكفار قريش. والمراد معشر الثقلين.
وقوله تعالى: ﴿رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ﴾ [المزمل: 15] يعني شاهداً على أعمالكم، كما في قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ [الحج: 78].
وقوله تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا﴾ [المزمل: 15] وهو موسى عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه الآية الكريمة تذكير للأمة بهذه النعمة العظيمة، وهي إرسال هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتحذيرها أن تفعل مثل ما فعل قوم فرعون فيصيبهم ما أصابهم.
والمعنى أن الله جل وعلا أرسل إليكم رسولاً كما أرسل إلى فرعون رسولاً، فانظروا ماذا كان موقف فرعون وقومه من الرسول؛ لأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل.
قال تعالى: ﴿فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا﴾ [المزمل: 16] أي شديدا مهلكا، وذلك بأن أغرقه الله تعالى وقومه، فلم يفلت منهم أحد، ثم بعد ذلك عذبهم في قبورهم إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۖ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ﴾ [غافر: 46].
(الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرَك معه أحد في عبادته، لا ملَك مقرب ولا نبي مرسل)
هذه هي المسألة الثانية وهي في توحيد الألوهية، والمعنى أن الله جل وعلا يوجب على المكلفين إفراده بالعبادة؛ لأنه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ ولأنه سبحانه هو الخالق الرازق الذي له الملك والأمر، فلا يرضى سبحانه وتعالى أن يُشرَك معه أحد مهما بلغت منزلته، لا ملَك مقرَّب ولا نبي مرسل ولا غيرهما من الخلق من باب أولى؛ لأن العبادة لا تصلح إلا لله وحده، وصرفها لغيره ظلم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ﴾ [لقمان: 13] والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وسمى الله المشرك ظالما لأنه وضع العبادة في غير موضعها، لأنها لا تكون لمخلوق بل للخالق وحده.
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا﴾ [الجن: 18])
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ [الجن: 18] المساجد تُفسر عند أهل العلم بتفسيرين:
الأول: أنها المواضع التي بنيت لعبادة الله تعالى، ويكون المعنى: أن هذه المساجد ما بنيت إلا لله وحده، فلا تعبدوا فيها غيره.
الثاني: أنها الأعضاء التي يُسجَد عليها: الجبهة والأنف، واليدان والركبتان وأطراف القدمين، فهذه الأعضاء خلقها الله تعالى ليسجد له بها، فلا يسجد بها لغيره.
وقوله: ﴿فَلَا تَدۡعُواْ﴾ [الجن: 18] يعم جميع الداعين، أي جميع الخلق، فليس لأحد منهم أيا كان أن يدعو مع الله تعالى أحدا.
كما يعم نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقوله ﴿أَحَدٗا﴾ [الجن: 18] النكرة في سياق النهي فتفيد العموم أي فلا تدعوا مع الله أحداً كائناً من كان لا ملَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا غيرهما من باب أولى.
فصار عندنا في الآية ثلاثة عمومات: عموم الداعين، وعموم الدعاء، وعموم المدعوين مع الله تعالى.
(الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله)
هذه المسألة الثالثة تتعلق بالولاء والبراء، والمعنى: أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك باتباع أمره واجتناب نهيه، ووحد الله في عبادته، فإنه يجب عليه أن يوالي أهل الإيمان، ويعادي أهل الشرك والكفر، ولا يجوز له موالاتهم.
والموالاة هي: الموادة والمحبة، ضد المعاداة، فالموالاة معناها: أن تتخذ ولياً، وأصلها من الوَلاية، والوَلاية هي المحبة، قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّ﴾ [الكهف: 44] أي هناك المحبة والمودة والنصرة لله الحق.
والمحادة هي: المجانبة والمخالفة والمعاداة، يعني أن المؤمنين في حد، وأعداء الله الكافرين في حد.
قال سبحانه: ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ ...﴾ [الممتحنة: 4] الآية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله".
(ولو كان أقرب قريب) أي ولو كان من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أقربَ الناس إليك كالأب أو الابن أو الأخ ونحوهم، فإن الله قطع التواصل والتواد والتوارث وغير ذلك من الأحكام بين المسلمين والكفار، والقرب الحقيقي هو قرب الدين لا قرب النسب.
وهذا فيما يتعلق بالموالاة وهي المحبة والمودة، أما التعامل مع الكافر فهو جائز في كل معاملة تجوز بين المسلمين، كالبيع والإجارة ونحوها، ويجب معاملتهم بالعدل، والوفاء لهم بالعهود والمواثيق التي بيننا وبينهم، ونعامل من لم يقاتلنا منهم بالإحسان، كما قال تعالى: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8] وقال في حق الوالدين المشركين: ﴿وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗا﴾ [لقمان: 15].
(والدليل قوله تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22])
(لا تجدُ) بضم الدال، فهذا نفي، ويقول علماء البلاغة إن النفي أبلغ من النهي؛ لأن النهي متعلق بالمستقبل، والنفي متعلق بالماضي والمستقبل، فيكون المعنى لا تجد في أي وقت من الأوقات قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله.
ومن والى الكافرين فقد ترك واجباً من واجبات الإيمان، واستحق أن يُنفى عنه الإيمان؛ لأن الله نفى اجتماع الإيمان مع مودتهم فقال: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ [المجادلة: 22] فمودتهم تنافي كمال الإيمان الواجب، ولا يلزم من نفي الإيمان عنه أن ينتفي بالكلية، بل منه ما هو مكفِّر، ومنهم ما هو معصية غير مكفِّرة.
وعلى أصل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن من نُفي عنه الإيمان فهو واقع في كبيرة. قال رحمه الله تعالى في الفتاوى 11/654: (نفي الإيمان والجنة أو كونه من المؤمنين لا يكون إلا عن كبيرة).
قوله: (أو عشيرتهم) العشيرة: الجماعة من أقارب الرجل الذين يتكثَّر بهم.
(أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) أي أولئك الذين لم يحصل منهم مودة للكافرين أثبت الله في قلوبهم الإيمان، فقلوبهم مؤمنة موقنة لا تؤثر فيها الشبه والشكوك.
(وأيدهم بروح منه) أي قواهم بنصر منه، ونوَّر قلوبهم بالإيمان وبالقرآن وحججه، وسمى نصره إياهم رُوحاً؛ لأنه به يحيون الحياة الطيبة.
(أولئك حزب الله) الإضافة إلى الله إضافة تشريف، وهي تقتضي أنهم أنصار الله، وعباده المقربون، وأهل كرامته سبحانه.
(ألا إن حزب الله هم المفلحون) أي هم أهل الفلاح والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.
والموالاة للكفار والمشركين على قسمين([10]):
1- التَّوَلِّي: وهو الذي جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [المائدة: 51] والتولي معناه محبة الشرك وأهل الشرك، أو محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان قاصداً ظهور الكفر على الإسلام، وهذا كفر أكبر، وإذا كان من مسلم فهو ردة.
2- المولاة: وهي محرمة، من جنس محبه المشركين والكفار لأجل دنياهم، أو لأجل قرابتهم ونحو ذلك، وضابطه: أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا، ولا يكون معها نصرة على المسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام، وإلا صار من القسم المكفِّر.
والدليل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 1] فأثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم باسم الإيمان اتخاذ المشركين أو الكفار أولياء بإلقاء المودة لهم.
وكما في قصه حاطب رضي الله عنه لما كتب لكفار قريش يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم، حيث سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟» فدل على اعتبار القصد؛ لأنه إن كان قصَدَ ظهور الشرك على الإسلام وظهور المشركين على المسلمين فهو نفاق وكفر، وإن كان له مقصد دنيوي كمالٍ أو جاه ونحو ذلك فليس بكفر، وإن كان محرما وكبيرة من كبائر الذنوب. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
إن الحمد لله . . . أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين)
هذه الرسالة الثالثة من المقدمات بين يدي رسالة ثلاثة الأصول.
بدأها بالدعاء بقوله: (أرشدك الله لطاعته) كعادته رحمه الله تعالى في رسائله.
ولفظها لفظ الخبر، ومعناها الطلب، أي اللهم أرشِدْه لطاعتك.
والرُّشد: هو الاستقامة على طريق الحق، فمعنى أرشدك الله: أي وفقك وهداك.
والطاعة: فعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه.
والحنيفية: طريقة وشريعة الخليل إبراهيم عليه الصلاة السلام وجميع الأنبياء عليهم السلام.
وهي عبادة الله بالإخلاص وترك عبادة ما سواه قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾
وقال عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗا﴾.
والحنيف مشتق من الحَنَف وهو الميل، فالحنيف المائل عن الشرك قصداً إلى التوحيد.
وقيل الحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه.
والمعنيان لا يتعارضان.
والملة بمعنى الدين، وهو اسم لكل ما شرعه الله سبحانه لعباده.
(أن تعبد الله) العبادة في اللغة بمعنى التذلل والخضوع، يقال طريق معبَّد أي مذلل.
وفي الشرع عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
(مخلصا له الدين) الإخلاص من الخلوص، وهو الصفاء والسلامة من أي شائبة.
والمعنى أن تعبد الله تعالى عبادة خالصة له وحده، لا تجعل شيئا منها لغيره.
(وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾).
(وبذلك) الإشارة هنا إلى العبادة الخالصة.
(أمر الله جميع الناس) كما قال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾
(وخلقهم لها) أي ما خلق الله جميع الناس إلا لعبادته وحده سبحانه.
(كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾) فدل على أن الله خلق الخلق لحكمة عظيمة، وهي عبادته دون ما سواه.
والجن عالم غيبي مخلوق من نار، وسُمُّوا جناً؛ لاجتنانهم أي استتارهم عن العيون.
والإنس هم البشر، وسمُّوا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض.
(ومعنى يعبدون: يوحدون)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل موضع في القرآن (اعبدوا الله) فمعناه وحدوا الله.
(وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو إفراد الله بالعبادة)
إنما كان التوحيد هو أعظم ما أمر الله به؛ لأنه به تُكفَّر الذنوب وتُستوجب الجنة ويُنجى من النار، ولأن التوحيد هو الأصل الذي يُبنى عليه الدين كله.
والتوحيد في اللغة مصدر وحد يوحد أي جعل الشيء واحداً.
وفي الشرع عرفه المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: وهو إفراد الله بالعبادة.
ومراده بهذا التعريف: التوحيد الذي بُعثت الرسل لتحقيقه؛ لأنه هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء عليهم السلام وأقوامهم.
والتعريف الأعم للتوحيد: وهو إفراد الله تعالى سبحانه وتعالى بما يختص به.
فيدخل في هذا التعريف أنواع التوحيد الثلاثة.
توحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
توحيد الألوهية: وهو إفراد الله بالعبادة.
توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
والعبادة نوعان:
1- عبادة كونية: وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني، وهو ما يقدره الله تعالى على العباد مؤمنهم وكافرهم من مرض وفقر وفقد محبوب ونحو ذلك، وهذه شاملة لجميع الخلق، قال سبحانه: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا﴾.
2- عبادة شرعية: وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي، وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا﴾.
(وأعظم ما نهى الله عنه الشرك، وهو دعوة غيره معه)
لأن الشرك أظلم الظلم، وفيه هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين، وهو أقبح المعاصي؛ لما فيه من تسوية المخلوق الناقص بالخالق الكامل من جميع الوجوه.
ومما يدل على أن الشرك أعظم الذنوب ما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك».
وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ثلاثاً: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور».
والشرك في الأصل بمعنى النصيب.
وفي الشرع عرَّفه المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: وهو دعوة غيره معه.
أي أن يَجعل مع الله إلها آخر، مِن ملَك أو رسول أو ولي أو حجر ونحوه، يعبده كما يعبد الله تعالى، وذلك بدعائه والاستغاثة به والذبح له وغير ذلك من أنواع العبادة.
وهذا من الشرك الأكبر، المخرج من الملة.
أما الشرك الأصغر، فهو: ما جاء في النّصوص أنه شركٌ ولم يَصِلْ إلى حدِّ الشّركِ الأكبر([11]). وقيل هو: كلُّ وسيلة وذريعة يُتَطَرَّقُ منها إلى الشِّرْكِ الأكبرِ من الإراداتِ والأقوالِ والأفعالِ التي لم تبلغْ رتْبةَ العبادةَ([12]).
ومن أمثلة الشرك الأصغر: الحلف بغير الله تعالى، والرياء اليسير في العبادات، وقول ما شاء الله وشئت، وقد يكون شركاً أكبر بحسب قصد قائله.
الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر:
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗا﴾)
ففي الآية الأمر بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
(شيئاً) نكرة في سياق النهي فتعم الشرك قليله وكثيره، كما تعم الشرك بالملَك والنبي والولي وغيرهم من المخلوقين.
كما أنه سبحانه لم يخص نوعاً من أنواع العبادة ليعم جميع أنواعها من الدعاء والصلاة والتوكل وغيرها.
(فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم)
هذا بداية رسالة ثلاثة الأصول كما تقدم.
وأتى رحمه الله تعالى بصيغة السؤال والجواب؛ لأن ذلك أوقع في النفس.
وطريقة الشيخ في عرض السؤال والجواب طريقة نافعة في تقرير المعلومات وسرعة فهمها، وتهيئ السامع لما سيلقى عليه من العلم، وهذه الطريقة كان يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما الغيبة" . . .
وهذه الأصول الثلاثة هي التي يُسأل عنها الإنسان في قبره، وهذا يدل على عظم أهميتها، وأنه يجب معرفة معناها، ثم العمل بمقتضاها، لعل الله أن يوفق العبد للجواب الصحيح في قبره إذا سأله الملكان، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ﴾.
ثم إن المؤلف رحمه الله تعالى أتى بهذه الأصول الثلاثة مجملة، ثم فصَّلها كما سيأتي، وطريقة الإجمال ثم التفصيل في عرض العلم من مقاصد أهل البلاغة؛ لأن النفوس إذا عرفت الشيء إجمالاً تطلعت لمعرفته تفصيلاً.
(فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي ليس لي معبود سواه)
هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى في تفصيل الأصل الأول.
(من ربك؟) أي مَن خالقك، ومَن معبودك؟
(فقل ربي الله الذي رباني) أي ربي الله الذي خلقني، وأوجدني من العدم، ورباني بالنعم.
(وربى جميع العالمين بنعمه) أي خلق جميع الخلق، وأوجدهم من العدم، ورباهم بالنعم.
(وهو معبودي ليس لي معبود سواه) هذا مدلول كلمة التوحيد، لا إله إلا الله.
وابتدأ المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الأصل وهو معرفة العبد ربه؛ لأن الذين خاطبهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، فاستدل به على توحيد الألوهية؛ بمعنى أنه سبحانه إذا كان هو المستحق للربوبية فليكن هو المستحق للعبادة.
(والدليل قوله تعالى: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾)
رب العالمين: أي رب جميع الخلق، فكل ما سوى الله تعالى داخل في قوله (العالمين).
ودلت الآية أيضا على أن الله تعالى هو المعبود، فإن لفظ الرب إذا أُفرد دخل فيه المعبود، فالمعنى أنه رب العالمين وخالقهم ومعبودهم وحده دون ما سواه.
(وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم)
فالوجود ينقسم إلى قسمين: رب ومربوب.
والعوالم كثيرة: عالم الإنس وعالم الملائكة وعالم الجن وغير ذلك.
وأنت أيها الإنسان من جملة ذلك العالم، ورب هذه العوالم ومعبودها هو الله تعالى وحده.
(فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟)
يعني ما دليلك على معرفة ربك؟
(فقل: بآياته ومخلوقاته)
الآيات أي الدلائل والعلامات الدالة على وحدانية الله تعالى.
وكذا جميع المخلوقات دالة على وحدانية الله تعالى، فكل فرد من أفراد مخلوقاته وإن دق دال على وحدانية الله عز وجل، ولهذا قال الشاعر:
فوا عجباً كيف يُعصى الإله ** أم كيف يجحده الجاحد
وفي كـــــــــــــــــــــــــــــــل شيء له آية ** تدل على أنه واحــــــــــــــــــــــد
(ومن آياته الليل والنهار، والشمس والقمر)
أي ومن آياته الكونية المشاهدةِ بالأبصار الدالةِ على وحدانيته سبحانه الليلُ والنهار، فكون الليل يأتي بظلامه ويعمُ الأرض، ثم يعقبه النهار فيعم الأرض بنوره، بهذا التعاقب والانتظام لا شك أنه دال على خالق أوجده ودبَّره.
وكذا من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى الشمس والقمر، الجاريان بجريان دقيق، وسير منضبط، هذا كله دال على موجد ومدبر لهما.
(ومن مخلوقاته السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهما)
أي ومن أعظم مخلوقاته السماوات السبع وما فيها من بديع الخلق وما فيها من الكواكب السيارة، والنجوم الزاهرة، والأرضون السبع وما فيها من الحيوانات والنباتات والبحار والأنهار والجبال وغير ذلك، كل ذلك من أعظم الدلائل على وحدانية الله تعالى وتفرده بالخلق.
وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَرَادُوا الْبَحْثَ مَعَهُ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي قَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ سَفِينَةٍ فِي دِجْلَةَ، تَذْهَبُ، فَتَمْتَلِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهَا، وَتَعُودُ بِنَفْسِهَا، فَتَرْسُو بِنَفْسِهَا، وَتُفْرِغُ وَتَرْجِعُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدَبِّرَهَا أَحَدٌ؟! فَقَالُوا: هَذَا مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا! فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا كَانَ هَذَا مُحَالًا فِي سَفِينَةٍ، فَكَيْفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ!!([13])
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ﴾)
هذا الدليل على أن الليل والنهار والشمس والقمر من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته، وانفراده سبحانه باستحقاق العبادة.
وتضمنت هذه الآية النهي عن عبادة غير الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ﴾ ثم الأمر بعبادة الله تعالى وحده ﴿وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾
وفي قوله سبحانه: ﴿إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ﴾ أي إن كنتم تخصونه بالعبادة وحده.
(وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾)
هذا الدليل على أن السماوات والأرضين من مخلوقات الله تعالى الدالة على وحدانيته.
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ﴾ تعرَّف إلينا سبحانه بأعظم مخلوقاته، وهي السماوات والأرض ﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ﴾ أي علا عليه واستقر عليه علوا يليق بجلاله وعظمته، لا يماثل علو المخلوقين ﴿يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا﴾ أي سريعا ﴿وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ﴾ أي مذللات ﴿بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ فهو المتفرد بالخلق، كما أنه المتفرد بالأمر.
(والرب هو المعبود)
أي من معاني الرب ومما يُطلَق عليه: المعبود. كما أن الرب يطلق على الخالق والمالك والمتصرف ومربي جميع العالمين بالنعم.
ومعنى المعبود: المستحق أن يعبد وحده دون ما سواه. لأنه سبحانه هو الخالق وحده فيتعين أن يكون هو المعبود وحده.
(والدليل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ 21 ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ 22﴾)
هذه الآية خطاب لجميع الخلق ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ وهي أول نداء يمر بك في القرآن الكريم. ومعنى ﴿ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ أي وحدوه بالعبادة.
قال البغوي في تفسير الآية: (﴿ٱعۡبُدُواْ﴾ وَحِّدُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِبَادَةِ فَمَعْنَاهَا التَّوْحِيدُ)
كما أن أول فعل يمر بك في القرآن الكريم: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ وتقديم المعمول هنا يفيد الحصر، أي: لا نعبد سواك، ولا نستعين بغيرك.
وأول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام: ﴿ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ﴾
وهذا كله يدل على أهمية التوحيد، وضرورة العناية به، والدعوة إليه.
﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ﴾ أي أوجدكم وأوجد الذين من قبلكم من العدم.
﴿لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ عقابه، ولا يُتقى عقابه إلا بأن يعبد وحده.
﴿ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا﴾ أي منبسطة مسطحة كالفراش، تتمكنون من السير فيها وتنتفعون منها بأنواع المنافع.
﴿وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ﴾ أي سقفا.
﴿وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡ﴾ أي أنزل من السحاب مطرا، وأخرج به النبات والثمرات، وهذا كله من أفراد ربوبيته.
﴿فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا﴾ الأنداد جمع ند، وهو الشبيه والمثل والنظير، أي لا تجعلوا لله نظراء وأمثالا في العبادة.
﴿وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ تفرده سبحانه بالخلق والتدبير، وهذا يقتضي إفراده سبحانه بالعبادة.
فاحتج عليهم بما أقروا به، فالمستحق لأن يكون ربا هو المستحق لأن يكون معبودا.
(قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة)
وهذا الكلام من الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مؤكد لما تقدم، وفيه أن ما قرره الشيخ في هذه المسألة هو ما قرره علماء السنة قبله، فلم يأت بشيء جديد.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية من تفسيره 1/194: (ومنْ أَشْبَهِ آيَةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [غَافِرٍ: 64] وَمَضْمُونُهُ: أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ مَالِكُ الدَّارِ، وَسَاكِنِيهَا، وَرَازِقُهُمْ، فَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَك بِهِ غَيره)
وقال في البداية والنهاية 1/334 ط. هجر: (وَإِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّكُمْ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْخَالِقُ لَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ).
(وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان)
ذكرها مجملة، وستأتي مفصلة في كلامه رحمه الله تعالى.
(ومنه الدعاء)
أي ومن أنواع العبادة الدعاء
(والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى)
ذكر المؤلف جملة من أنواع العبادة، وأنواعها كثيرة، وتعريف العبادة الذي يجمع لك كل أنواعها، هو ما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو أحسن تعاريفها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا﴾)
هذا الدليل على اختصاص الرب جل وعلا بالعبادة.
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ تقدم أن "المساجد" تُفسَّر عند أهل العلم بتفسيرين:
الأول: أنها المواضع التي بُنيت لعبادة الله تعالى، ويكون المعنى: أن هذه المساجد ما بُنيت إلا لله وحده، فلا تعبدوا فيها غيره.
الثاني: أنها الأعضاء التي يُسجَد عليها: الجبهة والأنف، واليدان والركبتان وأطراف القدمين، فهذه الأعضاء خلقها الله تعالى ليُسجَد له بها، فلا يُسجَد بها لغيره.
فلا تدعوا مع الله أحدا: كلمة (أحدا) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم، فتشمل كل من يُدعى مع الله تعالى، من الأنبياء عليهم الصلاة السلام والملائكة عليهم الصلاة السلام والصالحين وغير ذلك.
(فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر)
أي من صرف أي نوع من أنواع العبادة مما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى ومما لم يذكره لغير الله تعالى فهو مشرك كافر، أي الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، كمن يستغيث بالأولياء، ويطلب منهم كشف الكربات وقضاء الحاجات، وينذر لأصحاب القبور، ويذبح للجن، أو يقول لميت مدد يا فلان، كل ذلك من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام.
وهو كافر أيضا لجحوده ما أوجب الله عليه من التوحيد.
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَن يَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرۡهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾)
أي الدليل على أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله تعالى فهو مشرك كافر، قوله تعالى: ﴿وَمَن يَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ﴾ أي من أشرك مع الله تعالى غيره في عبادته، وجعله إلها مع الله عز وجل.
﴿لَا بُرۡهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ﴾ أي لا دليل له على قوله، وهي صفة كاشفة لبيان الأمر الواقع، وهو أن كل من دعا غير الله تعالى فلا يمكن أن يكون معه برهان.
﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ﴾ أي أن الله تعالى سيحاسبه على ذلك، وهذا فيه تهديد عظيم.
﴿إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ أي لا فلاح لهم في الدنيا ولا في الآخرة ولا نجاة، فدل على أن من يدعو غير الله تعالى – دعاء عبادة أو دعاء مسألة - أنه كافر.
(وفي الحديث: «الدعاء مخ العبادة»)
هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الأدلة على ما ذكر من أنواع العبادة، ذكرها أولاً مجملة، ثم فصَّل بذكر أدلتها.
ذكر أولاً الإسلام والإيمان والإحسان، وهذه كما تقدمت الإشارة إليه ستأتي إن شاء الله تعالى في كلام المؤلف رحمه الله تعالى مفصلة بأدلتها في الأصل الثاني من هذه الرسالة.
وبعدها ذكر الدعاء، والدعاء على قسمين دعاء عبادة ودعاء مسألة، ولهذا بدأ به المؤلف رحمه الله تعالى؛ لأنه أهم أنواع العبادة، بل كل أنواعها راجعة إليه.
واستدل المؤلف رحمه الله تعالى على أن الدعاء عبادة بهذا الحديث: «الدعاء مخ العبادة» والذي أخرجه الترمذي في جامعه (3371) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ» وقال الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ». وضعفه الألباني.
ومعنى مخ العبادة: أي خالصها، ومخ الشيء خالصه، وإنما كان الدعاء مخ العبادة وخالصها؛ لأنه ما من عبادة إلا وفيها دعاء إما لفظا وإما باللازم.
وفي معنى هذا الحديث ما أخرج الترمذي (3372) عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60] وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وصححه الألباني.
ونلحظ أنه في هذا اللفظ الآخر جاء مقرونا بالآية التي ذكرها المؤلف بعد الحديث، مما يؤكد أن الدعاء عبادة.
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾)
هذا دليل آخر على أن الدعاء عبادة.
ووجه الدلالة من الآية في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ﴾ فأمر بدعائه، ولا يأمر جل وعلا إلا بما يحب، فدل على أن الدعاء محبوب إلى الله سبحانه، وإذا كان محبوبا فهو داخل في تعريف العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ...
وأيضا قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي﴾ فسمى الدعاء عبادة.
﴿سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أي أذلاء صاغرين. عوقبوا بنقيض قصدهم، لما استكبروا عن عبادة الله تعالى وحده، عاقبهم الله تعالى بالذلة والصغار يوم القيامة.
(ودليل الخوف قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾)
الخوف عبادة قلبية، وقد أمر الله به في هذه الآية فقال: ﴿وَخَافُونِ﴾ فدل على أنه محبوب إلى الله تعالى، لأن الله تعالى لا يأمر إلا بما يحب، فدخل في حد العبادة: اسم جامع ...
ولذا فلا تصرف عبادة الخوف إلا لله تعالى؛ لأن الله تعالى نهى عن الخوف من غيره فقال: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمۡ﴾.
ومن خاف من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فهو مشرك، كخوف المشركين من آلهتهم أن تصيبهم بأذى إذا لم يوقروها، أو إذا تكلموا فيها بما لا يليق في زعمهم، يقولون قد تصيبك بالموت أو المرض أو ذهاب العقل ... لأنك آذيت الآلهة، أو لم تقم بحقها عليك، حتى إنهم يتهددون أهل التوحيد الذين يبينون بطلان دعاء هذه الآلهة وعبادتها، فهذا كله من الخوف الشركي، ويسمى خوف السر، وهذا النوع لا يجوز صرفه إلا لله تعالى فهو سبحانه الذي بيده النفع والضر، ومن صرف هذا الخوف إلى غيره فهو مشرك الشرك الأكبر.
أما الخوف الطبيعي، كمن يخاف من الأسد أن يفترسه، أو من النار أن تحرقه، أو من ظالم قادر على أذيته، وغير ذلك، فهذا لا يضر، ولا يقدح في توحيد العبد، وهو خوف مباح يحصل للمرء بمقتضى الطبيعة، وقد وقع من نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُ﴾ وقال سبحانه: ﴿فَأَوۡجَسَ فِي نَفۡسِهِۦ خِيفَةٗ مُّوسَىٰ﴾ لكن لا بد أن يستحضر في هذا النوع من الخوف أنه لا يضره هذا الذي يخاف منه إلا بقضاء الله تعالى وقدره.
ودلت هذه الآية على أن الخوف من الله تعالى شرط لصحة الإيمان، لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ إن: شرطية، فدلت على أن الخوف عبادة، وأن هذا الخوف الذي هو عبادة شرط لصحة الإيمان، وينتفي الإيمان عند انتفائه.
(ودليل الرجاء قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾)
الرجاء عبادة قلبية، والرجاء ضد الخوف، وهو الطمع والرغبة في الحصول على المقصود.
ورجاء المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى شرك أكبر، مثل من رجا مخلوقاً أن يهدي قلبه، أو رجا الكفيف ميتاً أن يَرُدَّ عليه بصره.
أما الرجاء الطبيعي، كأن يرجو حصول خير له من هذا المخلوق فيما يقدر عليه، ولا يترتب على ذلك فعل محرم أو ترك واجب فهذا لا بأس به، مع استحضار أن هذا المخلوق سبب فقط، وأن الأمر كله بقضاء الله وقدره.
ووجه الدلالة من الآية على أن الرجاء عبادة أن الله تعالى امتدح من يرجو لقاء ربه، أي ملاقاة ربه يوم القيامة، وجعل طريق ذلك العمل الصالح وترك الشرك، فدل على أن هذا النوع من الرجاء محبوب إلى الله تعالى، وإذا كان محبوبا فهو عبادة.
(ودليل التوكل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ وقال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓ﴾)
التوكل عبادة قلبية، وهو تفويض الأمر إلى الله والاعتماد عليه في حصول المطلوب ودفع المرهوب، مع بذل الأسباب المشروعة.
والدليل على أن التوكل عبادة قوله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ﴾ فقدم المعمول (على الله) على العامل (فتوكلوا) فأفاد الحصر؛ لأن من قواعد العربية أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، فيكون المعنى: توكلوا على الله وحده.
وفي أمره بالتوكل عليه دليل على أنه عباده كما تقدم، لدلالته على أنه محبوب إلى الله تعالى، فيدخل في حد العبادة.
﴿إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ إن: شرطية، فدل على أن التوكل على الله تعالى شرط في صحة الإيمان، ينتفي بانتفائه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓ﴾ أي كافيه في جميع أموره، وإذا كان الله تعالى كافي من توكل عليه، دل على أنه لا يجوز التوكل إلا على من بيده الكفاية وحده.
ولأنه رتب على التوكل عليه سبحانه الجزاء وهو الكفاية لعبده المتوكل عليه، فدل على أن التوكل محبوب إلى الله تعالى، وإلا لم يرتب عليه هذا الجزاء، وإذا كان محبوبا إلى الله عز وجل دخل في حد العبادة كما تقدم.
(ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ﴾)
هذه العبادات الثلاث الرغبة والرهبة والخشوع كلها عبادات قلبية.
فالرغبة معناها طلب الشيء بمبالغة، أي يطلب الشيء طلبا بالغا.
وعُرِّفت: بأنها الرجاء المؤكد الذي معه حب وخضوع لمن يرجوه.
فمن رغب من المخلوق فيما لا يقدر إلا الله فقد صرف العبادة لغير الله عز وجل.
أما الرغبة من المخلوق فيما يقدر عليه ولا يترتب على ذلك فعل محرم أو ترك واجب فهو جائز، لكن مع استحضار أن الأمر كله بقضاء الله تعالى وقدره.
ومن الأدلة على أن الرغبة عبادة قوله تعالى: ﴿وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب﴾ أي لا إلى غيره.
والرهبة: معناها قريب من الخوف، وهي الخوف الذي يثمر الهرب من المخوف منه.
والخشوع: معناه الذل والسكون.
فالخشوع لله تعالى يفيد التذلل لله سبحانه والتواضع والخضوع له دون ما سواه.
ودليل هذه العبادات الثلاث قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ﴾ فأثنى على هؤلاء المذكورين في هذه الآية بهذه الصفات الثلاث، ولا يثني جل وعلا عليهم إلى بصفات يحبها، فدل على أن هذه الصفات عبادة، لا تصرف إلا له وحده.
والدعاء في قوله تعالى: ﴿وَيَدۡعُونَنَا﴾ يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة.
ولأنه سبحانه قال في هذه الآية: ﴿وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ﴾ فقدم الجار والمجرور، وحقه أن يؤخر، فدل على الحصر، أي خاشعين لنا لا لغيرنا.
(ودليل الخشية قوله تعالى ﴿فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي﴾)
الخشية عبادة قلبية، وهي بمعنى الخوف لكنها أخص منه، فهي الخوف الذي يحمل صاحبه على اللجأ إلى الله تعالى، والاستقامة بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وقيل: هي الخوف المبني على العلم بعظمة من يخشاه.
والدليل على أن الخشية عبادة قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي﴾ فأمر بخشيته سبحانه فدل على أنها محبوبة إليه لأنه لا يأمر إلا بما يحب، فتدخل حينئذ في حد العبادة المتقدم.
ولأنه سبحانه أمر بخشيته ونهى عن خشية ما سواه، فدل على أن الخشية عباده لا تصرف إلا إلى الله تعالى.
ومثل هذه الآية: ﴿فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ﴾
(ودليل الإنابة قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُواْ لَهُۥ﴾)
الإنابة بمعنى التوبة إلا أنها أخص منها، وهي أعلى مقامات التوبة، فالتوبة فيها الإقلاع عن الذنب والندم على فعله، والعزم على عدم العود إليه، والإنابة تفيد هذا المعنى وتزيد الإقبال على الله تعالى بالعبادة والازدياد منها.
والدليل على أنها عبادة قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ﴾ فأمر بالإنابة إليه فدل على أنها عبادة كما تقدم.
قال ابن كثير في تفسير الآية: (﴿وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُواْ لَهُۥ﴾ أَيِ: ارْجِعُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَسْلِمُوا لَهُ)
(ودليل الاستعانة قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله»)
الاستعانة عبادة، ومعناها طلب الإعانة.
والاستعانة التي لا يجوز صرفها إلا لله تعالى هي الاستعانة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ومن استعان بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهو مشرك الشرك الأكبر.
أما الاستعانة بمخلوق في أمر يقدر عليه فهي مباحة، كالاستعانة به في حمل شيء ثقيل، أو الاستعانة به في عمل ما من الأعمال التي يقدر عليها فهذا لا بأس به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» أخرجه مسلم.
والدليل على أن الاستعانة عبادة قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ أي نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.
وهذا الحصر أفاده تقديم ما حقه التأخير، فقدم المعمول وهو ﴿إِيَّاكَ﴾ فهو مفعول به مقدم، على العامل وهو ﴿نَسۡتَعِينُ﴾ وهو فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقدير: نحن.
وإذا كان الله تعالى يرضى لنا أن نستعين به دل على أن الاستعانة عبادة، لدخولها في حد العبادة كما تقدم.
وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله»: هذا الحديث أخرجه الترمذي في جامعه (2516) في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما قال فيه: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني.
وهذا الحديث فيه حصر الاستعانة بالله تعالى وحده.
(ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾، و ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾)
الاستعاذة: طلب الإعاذة، ومعناها: الاستجارة والالتجاء والاعتصام.
فالاستعاذة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى شرك أكبر. لأن هذه الاستعاذة عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.
والدليل على أنها عبادة قوله تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾ فأمر جل وعلا بالاستعاذة به، ولا يأمر إلا بما يحب، فتكون الاستعاذة عبادة كما تقدم. ومثلها في الدلالة الآية الأخرى.
والمراد بالفلق: بياض الصبح إذا انفلق من الليل.
والاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كالاستعاذة بالسلطان ونحوه لدفع ظلم ظالم عنك، ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفتن: «ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به» أخرجه البخاري 3601، ومسلم 2886.
(ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ﴿إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ﴾)
الاستغاثة: طلب الإغاثة، وهي الإنقاذ من الشدة، والاستغاثة أخص من الدعاء.
فالاستغاثة هي دعاء المكروب خاصة.
فمن استغاث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهو مشرك كافر؛ لأن هذه الاستغاثة عبادة لا تصرف إلا إلى الله تعالى.
والدليل على كونها عبادة قوله تعالى: ﴿إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ﴾ فرتب على الاستغاثة به الجزاءَ بالاستجابة له، ولا يجازي الله تعالى بالاستجابة لعبده إلا إذا فعل ما يحب، فدل على أن الاستغاثة عبادة.
كما يُستدل على أن الاستغاثة عبادة بأنها نوع من الدعاء كما تقدم، فيشملها ما تقدم من الأدلة على أن الدعاء عبادة.
(ودليل الذبح قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُۥ﴾)
الذبح عبادة مالية، ويقصد به: إراقة الدم تعظيما للمذبوح له وتقربا إليه.
وقد قرنه الله تعالى بالصلاة في قوله سبحانه: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ أي ذبحي ﴿وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي﴾ أي ما أحيا عليه من العمل الصالح، وما أموت عليه ﴿لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُۥ﴾ فدل على توحيد الله تعالى بذلك كله.
واللام في قوله (لله) تفيد الاختصاص، فدل على أن الذبح خاص بالله تعالى، لا يذبح لغيره، فمن ذبح متقربا بالذبح لغير الله تعالى فهو مشرك شركا أكبر.
وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ فأمر جل وعلا بالنحر له سبحانه، فدل على أنه عباده.
(ومن السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله»)
هذا الحديث أخرجه مسلم 1978.
وجه الدلالة منه: أن هذا الحديث يدل على أن الذبح لغير الله تعالى مما يبغضه الله تعالى؛ لأن فاعله ملعون، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، وإذا كان جل وعلا يبغض الذبح لغيره، ففي مقابل ذلك أن التقرب بالذبح لله تعالى وحده محبوب له، وإذا كان محبوبا فهو عبادة.
(ودليل النذر قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَيَخَافُونَ يَوۡمٗا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِيرٗا﴾).
النذر: هو إلزام مكلف نفسه لله عبادة غير واجبة عليه بأصل الشرع، تعظيما للمنذور له.
والدليل قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ ...﴾ فقد أثنى الله تعالى على عباده الأبرار بأنهم يوفون بالنذر، وهو سبحانه لا يثني إلا على من فعل ما يحب، فدل على أن الوفاء بالنذر عبادة.
ويدل لكون النذر عبادة قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥ﴾ يعني وسيجازيكم عليه، ويثيبكم كما يثيبكم على النفقة في الخير، فدل على أن النذر عباده.
والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله ... أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة)
لما فرغ المؤلف رحمه الله تعالى من الأصل الأول وهو معرفة الرب جل جلاله، شرع في الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام.
وقوله: (بالأدلة) أي بأدلة الكتاب والسنة، وفيه التنبيه على أنه لا يسوغ التقليد في ذلك، بل لا بد أن تكون معرفته بدين الإسلام بمقتضى الأدلة الشرعية.
فمن أسباب الثبات على الدين في الحياة الدنيا وعند السؤال في القبر أن تكون معرفة العبد بدينه بالحجج من الكتاب والسنة، لأن المقلد عُرضة لأن يضل عندما ترِدُ عليه أي شُبهة.
(وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله)
هذا تعريف دين الإسلام، وهذا التعريف تضمن ثلاث جُمل:
1- الاستسلام لله بالتوحيد: يعني الذل والخضوع لله تعالى بإفراده بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
2- الانقياد له بالطاعة: فعلاً للأوامر، وتركاً للنواهي، طاعة لله تعالى.
3- والبراءة من الشرك وأهله: فلا بد أن يتبرأ المسلم من الشرك، ويعتقد بطلانه، ويتبرأ من أهل الشرك، وأن يبغضهم، ويعاديهم أشد المعادات.
وقوله: (والبراءة من الشرك وأهله) هذا المعتمد في تعريف الإسلام من كلام المؤلف رحمه الله تعالى، وأما عبارة: (والخلوص من الشرك وأهله) يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في شرحه لهذه الرسالة ص165: لا أدري من أين أتوا بها. أ.هـ.
ولفظ (البراء من الشرك وأهله) أدلّ على المراد من لفظ (الخلوص من الشرك) لأن الخلوص من الشرك إنما هو خروج عن الشرك وليس فيه معنى البراءة من الشرك وأهله.
ويؤيده أن لفظ (البراءة) هو المناسب للآية التي استدل بها المؤلف رحمه الله تعالى كما سيأتي ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ 26 إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26-27]
(وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان)
هذه مراتب الدين، ذكرها أولا مجملة، ثم فصّلها، وذكر أدلتها.
ومعنى المراتب: أي الدرجات، وكل واحدة منها أخص من الأخرى، أخصها الإحسان، ثم بعدها الإيمان، ثم الإسلام، وهو أوسعها.
ويُمثِّل لها أهلُ العلم بثلاث دوائر، دائرة صغيرة تمثل الإحسان، ثم دائرة أكبر منها بداخلها الدائرة الصغيرة تمثل الإيمان، ثم دائرة أكبر منهما، بداخلها هاتان الدائرتان وتمثل الإسلام.
فكل محسن فهو مؤمن مسلم، وليس كل مسلم أو مؤمن محسناً.
وكل مؤمن فهو مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، لكن لا بد أن يبقى معه إيمان يصحح إسلامه، وإلا كان كافرا أو منافقا.
ولهذا فقد نفى الله الإيمان عمن أخل ببعض واجباته، كما في حديث: (والله لا يؤمن، قالوا مَن يا رسول الله، قال: من لا يأمن جارُه بوائقَه) ونحو هذا الحديث.
(وكل مرتبة لها أركان) الأركان جمع ركن، وهو جانب الشيء الأقوى.
(فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)
وهذه الأركان دل عليها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: «بني الإسلام على خمس ...» الحديث.
والإسلام إذا اجتمع مع الإيمان صار الإسلام يراد به الأعمال الظاهرة، والإيمان يراد به الأعمال الباطنة.
(فدليل الشهادة) أي شهادة ألا إله إلا الله (قوله تعالى: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18])
هذه الشهادة هي أعظم شهادة في الوجود، فإنها من أعظم شاهد وهو الله سبحانه، على أعظم مشهود به وهو توحيده.
والملائكة يشهدون كما شهد الله تعالى بأنه لا إله إلا هو.
وأولوا العلم كذلك يشهدون، أنه لا إله إلا هو، لما عندهم من علم الكتاب والسنة بذلك، والمراد بالعلم هنا العلم الشرعي.
واستشهاده جل وعلا بملائكته وأولي العلم دليل على فضلهم وعدالتهم، فإنه لا يُستشهَد إلا من كان غاية في العدالة.
وفي الآية دليل على فضل العلماء، ومكانتهم، والترغيب في طلب العلم، إذ أشهدهم الله تعالى على أعظم مشهود به وهو توحيده سبحانه، وقرنهم مع نفسه تبارك وتعالى والملائكة في هذه الشهادة.
قائما بالقسط: أي بالعدل في خلقه وتدبيره، فلا يظلم أحدا.
لا إله إلا هو: أعاد كلمة التوحيد للتأكيد، وذلك لعظم شأن التوحيد.
(ومعناها لا معبود بحق إلا الله) فمعنى كلمة التوحيد: أنه لا يستحق أحد العبادة إلا الله تعالى.
فليس معناها: لا قادر على الاختراع إلا الله. أو لا خالق إلا الله، كما يقوله بعض المبتدعة، لأن هذا تفسير لها بالربوبية، ولو كان هذا تفسيرها لقالها كفار قريش؛ لأنهم مقرون بالربوبية، فكفار قريش يعلمون معنى كلمة لا إله إلا الله. وأنها تنفي عبادة الآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى، ولهذا امتنعوا أن يقولوها، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ يَسۡتَكۡبِرُونَ 35 وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوٓاْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٖ مَّجۡنُونِۢ 36﴾ [الصافات: 35-36] وقال تعالى عنهم: ﴿أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ﴾ [ص: 5]
وليس معناها: لا إله موجود إلا الله. لأن الآلهة الموجودة غير الله تعالى كثيرة، لكنها ليست بحق.
وليس كما يقول التبليغيون: مقصد لا إله إلا الله: إخراج اليقين الفاسد من القلب على الأشياء، وإدخال اليقين الصحيح على ذات الله.
ثم بين المؤلف رحمه الله تعالى أن هذه الكلمة لها ركنان: النفي والإثبات.
(«لا إله» نافيا جميع ما يعبد من دون الله) الإله: فعال بمعنى مفعول، فالإله هو المألوه أي: المعبود.
(«إلا الله» مثبتا العبادة لله وحده)
فهذان الركنان لا بد من اجتماعهما النفي والإثبات، فالنفي وحده ليس بتوحيد، والإثبات وحده ليس بتوحيد، فمن ينفي العبادة عن غير الله تعالى فقط، ولا يثبتها لله فليس بموحد، ومن يثبت العبادة لله تعالى، ولا ينفيها عن غيره فليس بموحد.
(لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه) يعني كما أنه المتفرد في ملكه، فيجب أن يكون هو المستحق للعبادة دون ما سواه، فمن لا يملك لا يستحق أن يعبد.
لأن توحيد الربوبية أقر به جميع الخلق إلا ما ندر، فيحتج عليهم بما أقروا به على ما أنكروه.
(وتفسيرها الذي يوضحها) أي والدليل على تفسير كلمة التوحيد من القرآن الكريم الذي يوضحها (قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ﴾ [الزخرف: 26]) هذا معنى (لا إله) وهو النفي؛ لأنه قد برئ من كل ما يعبدون (﴿إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 27]) هذا فيه معنى (إلا الله) وهو الإثبات، ومعنى فطرني أي ابتدأ خلقي.
(﴿فَإِنَّهُۥ سَيَهۡدِينِ 27 وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ 28﴾ [الزخرف: 27-28]) أي وجعل إبراهيم عليه السلام هذه الكلمة: ﴿إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ 26 إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26-27] والتي هي معنى لا إله إلا الله، جعلها باقية في عقبه، لا يزال في ذريته من يدين بها.
(وقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64])
هذا الدليل الثاني من القرآن على تفسير كلمة التوحيد، ومعنى ﴿كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ﴾ [آل عمران: 64]: الكلمة تطلق على الجملة المفيدة، أي كلمة عدل نستوي نحن وأنتم فيها.
ثم فسرها بقوله تعالى: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾ [آل عمران: 64] هذا معنى: لا إله إلا الله، فدل على أن معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.
﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ﴾ [آل عمران: 64] أي أعرضوا عن ذلك، ولم يجيبوك.
﴿فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] يعني صرحوا لهم ذلك بالمشافهة بأنكم مسلمون، وأن دينكم خلاف دينهم.
(ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة: 128])
(أنفسكم) فيها قراءتان: أنفُسكم أي بشرا مثلكم، ليس بملَك، لكي يتمكنوا من مخاطبته وسؤاله عما يشاؤون من أمور دينهم.
والقراءة الثانية: أنفَسكم أي أكرمكم وأشرفكم، ومن كان كذلك فإن النعمة به على العباد أعظم ممن لم يكن كذلك.
﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ﴾ [التوبة: 128] أي شاق عليه ما يُلحِق بأمته العنت والمشقة.
﴿حَرِيصٌ عَلَيۡكُم﴾ [التوبة: 128] أي حريص على هدايتكم وإنقاذكم من النار.
(ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع)
هذا معنى شهادة أن محمدا رسول الله، يعني أنه لا يكفي النطق بها باللسان، بل لا بد من العمل بما دلت عليه، فلو قالها بلسانه، ولم يعمل بما دلت عليه، لا يصير من أهل شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن من قال لا إله إلا الله ولم يعمل بمقتضاها لم يكن من أهل هذه الكلمة على الحقيقة.
(ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد: قوله تعالى: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5])
دليل الصلاة والزكاة في الآية واضح، وتفسير التوحيد يؤخذ من قوله: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ﴾ [البينة: 5] والحنيفية: ملة إبراهيم عليه السلام، وهي عبادة الله تعالى بالإخلاص، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه.
وقيل في معنى الحنيف: إنه المائل عن الشرك قصدا.
وذلك دين القيمة: أي ما ذكر في هذه الآية هو دين الملة القيمة أي المستقيمة.
(ودليل الصيام قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]) هذا الدليل واضح، ومعنى كتب: أي الكتابة الشرعية، أي كتب عليكم شرعا، أي أوجب عليكم، وتطلق الكتابة ويراد بها الكتابة الكونية، كما في قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ﴾ [الأنعام: 54].
والمراد بالصيام في الآية صيام شهر رمضان.
(ودليل الحج قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران: 97])
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 97] أي واجب وفرض لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.
لأن لفظة (على) تدل على الوجوب.
﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]: (قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومَن جحد فريضة الحج فقد كفر، والله غني عنه)([14]).
(المرتبة الثانية: الإيمان)
أي المرتبة الثانية من مراتب الدين، والإيمان عند أهل السنة: اعتقاد بالجنان أي بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
(وهو بضع وسبعون شعبة) البضع: من الثلاثة إلى التسعة، والشعبة هي الخصلة.
(فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) هذه الجملة متن حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري ومسلم.
فأعلاها قول لا إله إلا الله: هذا أعلى شعب الإيمان، وذلك أن كلمة الإخلاص هي أساس الملة.
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق: من حجر أو شوك ونحوه، وهذا عمل.
وما بين الأعلى والأدنى خصال كثيرة من شعب الإيمان.
والحياء شعبة من الإيمان: الحياء عمل قلبي، يحمل صاحبه على فعل يجمِّل ويزين، ويمنعه من ارتكاب ما يدنِّس ويشين.
وشعب الإيمان متنوعة، منها ما إذا فُقد أزال الإيمان، كشعبة الشهادتين، فمن لم يأت بهذه الشعبة فليس بمؤمن، ومنها ما إذا فقد يزول معه كمال الإيمان الواجب، لا أصل الإيمان، كمن لم يزك، أو لم يصم رمضان.
ومنها ما إذا فقد يزول معه كمال الإيمان المندوب، كإماطة الأذى عن الطريق، فهو مستحب.
وبهذا يتبين أن كل خصلة من خصال الدين داخلة في الإيمان.
(وأركانه ستة) أي أصول الإيمان، التي لا يصح إلا بها جميعا، فمن لم يؤمن بركن منها لم يصح إيمانه.
(أن تؤمن بالله) هذا أعظم أركان الإيمان، ومعناه الإيمان بوحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن ما عبد من دونه فهو باطل.
(وملائكته) أي الإيمان بجميع الملائكة عليهم السلام إجمالا، ونؤمن بما علمنا في الكتاب والسنة من تفاصيلهم، كجبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، وغيرهم ممن علمنا اسمه وعمله الذي وكله الله به، ونحو ذلك.
(وكتبه) أي بالكتب المنزلة من الله تعالى على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام من السماء، فنؤمن بالقرآن الكريم والتوراة والإنجيل والزبور، وأن القرآن الكريم ناسخ لما قبله من الكتب.
(ورسله) أي الإيمان بجميع الرسل والأنبياء عليهم السلام الذين أرسلهم الله تعالى، سواء من علمنا اسمه ومن لم نعلم اسمه، فنؤمن بهم جميعا، ونؤمن أن محمدا r خاتمهم.
(واليوم الآخر) أي الإيمان بكل ما يكون بعد الموت، فيدخل في ذلك الإيمان بنعيم القبر وعذابه، والإيمان بالبعث، والحساب، والصراط والحوض والجنة والنار وغير ذلك مما يتعلق باليوم الآخر.
وأهم ما في اليوم الآخر البعث بعد الموت، لأن كفار قريش كانوا يستبعدون أن يبعثوا بعد الموت، بعد أن صاروا رفاتا.
ولهذا جاء في بعض روايات الحديث عند مسلم برقم 9: «مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ».
(وتؤمن بالقدر خيره وشره) والإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بأربع مراتب:
فلا يكون مؤمنا بالقدر إلا إذا آمن بهذه المراتب الأربع.
(والدليل على هذه الأركان الستة: قوله تعالى: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [البقرة: 177])
فهذه الآية واضحة الدلالة على خمسة أركان من أركان الإيمان، وقوله تعالى: ﴿وَٱلۡكِتَٰبِ﴾ [البقرة: 177] أي جنس الكتاب، فيشمل جميع الكتب المنزلة، أما الركن السادس، فأفرد دليله بقوله: (ودليل القدر: قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ﴾ [القمر: 49])
(المرتبة الثالثة: الإحسان ركن واحد وهو: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»)
الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو إيقاع العمل على أحسن الوجوه في الظاهر والباطن، وهذا لا يكون إلا ممن اتصف بالإخلاص لله تعالى.
وتفسير المؤلف رحمه الله تعالى الإحسان وقبله الإيمان وقبله الإسلام هو نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما يأتي في حديث جبريل عليه السلام.
والإحسان له مرتبتان:
وتلحظ هنا أنه قال في المرتبة الأولى: كأنك تراه. لأن العبد لا يرى الله تعالى حقيقة عند أدائه العبادة، وإنما يستحضر كأنه يرى ربه جل وعلا، بخلاف المرتبة الثانية فقال: فإنه يراك. لأن الله تعالى يرى عبده حقيقة، ولم يقل: كأنه يراك.
(والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ﴾ [النحل: 128])
هذا الدليل لمرتبة الإحسان، ومعية الله تعالى على قسمين:
وجه الدلالة: أن الله تعالى مع المحسنين معية خاصة بالنصر والتأييد والتوفيق، وهذا يدل على فضل المحسنين.
(وقوله: ﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ 217 ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ 218 وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ 219 إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ 220﴾ [الشعراء: 217-220]) الشاهد منه قوله: ﴿ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الشعراء: 218]
(وقوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: 61]) الشاهد منه قوله تعالى: ﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا﴾ [يونس: 61] وهذا يتضمن رؤيته جل وعلا لعباده.
(والدليل من السنة حديث جبريل المشهور) هذا الدليل على مراتب الدين الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، وعلى أن أركان الإسلام خمسة، والإيمان ستة، والإحسان واحد.
(عن عمر رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». فقال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت») أخرجه مسلم.
فيه أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في الكلام فإن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
(قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)
أي أنه لا يعلم متى وقوعها، وفيه أن من سئل عما لا يعلم فلْيَكُفَّ، ولا يتكلف ما لا علم له به، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ ...﴾ [الإسراء: 36]
فما سئلت عنه وأنت تعلم فأجب فيه بما تعلم.
وما سئلت عنه مما لا تعلم، فأجب بـ الله أعلم. ولهذا قيل في (الله أعلم) نصف العلم.
(قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها) أي تلد الأمة المملوكة سيدتها، يعني أن السراري يكثرن، ويلدن من السادة ولدا يكون سيدها؛ لأنه سبب عتقها. وهذا من علامات الساعة.
(وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان) العالة: جمع عائل وهو الفقير، (رِعاء الشاء) أي رعاة الغنم.
يعني ترى من كان في حال الفقر الحاجة، تراهم بعد أن وسع الله تعالى عليهم في المال يتطاولون في البناء، وهذا من علامات الساعة.
(قال فمضى، فلبثنا مليا. فقال: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم»).
وهذا الحديث حديث عظيم، عليه مدار العقيدة الإسلامية، لتضمنه لمراتب الدين الثلاث.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الرابع
الحمد لله ... أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم)
إنما كانت معرفته صلى الله عليه وسلم أصلا من أصول الدين؛ لأنه الواسطة بيننا وبين الله تعالى في بيان ما يأمر الله به، وما ينهى عنه.
ولا يمكننا معرفة الأصل الأول وهو معرفة الله تعالى، ولا معرفة الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام إلا بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصارت معرفته أصلا ثالثا.
(وهو: محمد)
النبي صلى الله عليه وسلم له أسماء كثيرة، أشهرها محمد، ومعناه: الذي يحمده الناس أكثر مما يُحمد غيره، وقد جاء في القرآن الكريم في مواضع، منها قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡ﴾ [الفتح: 29] وقوله سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ﴾ [الأحزاب: 40].
ومن أسمائه أحمد، وقد جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُ﴾ [الصف: 6]
ومن أسمائه ما روى جُبير بن مُطعِم رضي الله عنه، قَالَ: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي([15])، وَأَنَا العَاقِبُ» رواه البخاري 4896 ومسلم 2354، زاد مسلم: «وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا».
وكنية النبي صلى الله عليه وسلم أبو القاسم.
(بن عبد الله) وقد مات والده عبد الله والنبي صلى الله عليه وسلم حمل.
(بن عبد المطلب) وهو جده الذي كفله بعد موت أُمِّه، ثم مات وعمر النبي r ثمان سنين.
(بن هاشم، وهاشم من قريش) القبيلة الكبيرة المعروفة.
(وقريش من العرب) أي العرب المستعربة، لأن العرب على قسمين: عاربة ومستعربة.
والمستعربة: هم العدنانيون، والذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقريش من العرب المستعربة من العدنانيين، والمستعربة أفضل من العرب العاربة.
(والعرب) يعني المستعربة (من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبيا أفضل الصلاة والسلام)
(وله من العمر ثلاث وستون سنة).
(منها أربعون قبل النبوة) نبئ وعمره صلى الله عليه وسلم أربعون سنة.
(وثلاث وعشرون نبيا رسولا) فهو صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، والنبي: من أُوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه.
والرسول: من أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه.
فعلى هذا المعنى يكون النبي أعم من الرسول، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا.
(نُبِّئَ بـ ﴿ٱقۡرَأۡ﴾ [العلق: 1] وأُرْسِلَ بالمدثر) نبئ بسورة اقرأ، فحين أُنزلت عليه صار نبيا بذلك، لكنه لم يؤمر بالتبليغ، ثم أُرسل بسورة المدثر، فحين أُنزلت عليه صار رسولا، فهو قد أوحي له بشرع، أي بسورة اقرأ ولم يؤمر بالتبليغ فصار بها نبينا، ثم أُمر بالتبليغ بسورة المدثر فصار بها نبيا ورسولا.
(وبلده مكة) بها وُلد صلى الله عليه وسلم، وبها نشأ في حضانة أُمِّه، إلا زمن رضاعه في صغره، لما كان عند مرضعته حليمة السعدية في البادية، ثم صار بعد وفاة أمه في حضانة جده عبد المطلب، ثم بعد موته صار في حضانة عمه أبي طالب، فمكة بلده إلى أن هاجر إلى المدينة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وهاجر إلى المدينة)
(بعثه الله بالنِّذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) هذا فيه معرفة ما بعثه الله تعالى به، فهو ينذر عن الشرك الذي هو أعظم ما نهى الله عنه، ويدعو إلى التوحيد الذي هو أعظم ما أمر الله به.
ودعوة الرسل هي الدعوة إلى توحيد العبادة، وفي ضمن ذلك الدعوة إلى النوعين الآخرين توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
(والدليل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ 1 قُمۡ فَأَنذِرۡ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ 3 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ 4 وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ 5 وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ 6 وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ 7﴾ [المدثر: 1-7] ومعنى ﴿قُمۡ فَأَنذِرۡ﴾ [المدثر: 2]، ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد. ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ﴾ [المدثر: 3]، أي: عظمه بالتوحيد) فالتوحيد تعظيم لله عز وجل، لما فيه من إفراده سبحانه بالعبادة، لا يَشركه فيها أحد، والشرك تنقيص لله سبحانه وتعالى، لما فيه من مساواة المخلوق الناقص بالخالق الكامل.
(﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ﴾ [المدثر: 4] أي: طهِّر أعمالك عن الشرك) فالتطهير هنا معنوي، فالسورة مكية، ولم تفرض الصلاة بعد.
والمؤلف رحمه الله تعالى استدل بهذه الآية في رسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها على أن طهارة البدن والثوب والبقعة شرط لصحة الصلاة، لأن الآية إذا دلت على تطهير الثياب المعنوية فقد دلت على تطهير جنس الثياب، فيدخل في ذلك الثياب الحسية.
(﴿وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ﴾ [المدثر: 5]، الرجز الأصنام، وهجرها: تركها، والبراءةُ منها وأهلِها)
فكما يهجر الشرك يهجر أهله، قال تعالى: ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [الممتحنة: 4] فبدأ بالبراءة من العابد قبل المعبود، وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [مريم: 48] فابتدأ باعتزال العابد قبل المعبود.
فهجر المشركين وبغضهم داخل في أصل الدين.
(أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد)
أي أخذ على النذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد عشر سنين، وذلك قبل فرض الصلاة، وهذا يبين أن حقيقة ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم هو الإنذار عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، كما هو دعوة الأنبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ [النحل: 36] وقال الله تعالى عن جماعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هود وصالح وشعيب وغيرهم: ﴿ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ﴾ [الأعراف: 59].
فبقي صلى الله عليه وسلم هذه المدة الطويلة عشر سنوات كلها يدعو إلى التوحيد وينذر عن الشرك، وهذا يدل على عِظَم شأن التوحيد، وأهميته، وضرورة العناية به.
(وبعد العشر عُرج به إلى السماء) أي وبعد عشر سنين من البعثة صُعد بروحه وجسده إلى السماء، لا بروحه فقط، ولا بجسده فقط، بل بهما، وكان ذلك حسا لا مناما، أي أن المعراج به صلى الله عليه وسلم كان يقظة، قال الله تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا﴾ [الإسراء: 1].
(وفُرضت عليه الصلوات الخمس) فرضت عليه وهو في السماء، وأصل ما فرض خمسون صلاة ثم لم يزل عليه الصلاة والسلام يتردد بين ربه جل وعلا وموسى عليه الصلاة والسلام يقول: سل ربك التخفيف، حتى صارت خمس صلوات في اليوم والليلة.
(وصلى في مكة ثلاث سنين) صلى فيها الصلوات الخمس دون الجمعة؛ لأن الجمعة ما شرعت إلا بعد الهجرة إلى المدينة.
فصار مكثه صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة.
(وبعدها أُمر بالهجرة إلى المدينة) أي وبعد الثلاث عشرة سنة من البعثة أُمر صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة؛ لأجل الخلاص من أذى المشركين الذي آذوه صلى الله عليه وسلم وآذوا أصحابه رضي الله عنهم، وليتمكنوا من الجهر بالتوحيد، والتصريح بعداوة المشركين، وبيان شركهم وكفرهم، فهم لا يتمكنون من ذلك إلا بمفارقتهم.
(والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) الهجرة أصلها من الهجر وهو الترك.
وفي الشرع عرفها المؤلف رحمه الله تعالى: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
يعني لأجل الإسلام، لأجل إقامة دين الإسلام، أو لأجل التخلص من أذاهم، أما من ينتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام لا لأجل الإسلام، فلا يعد مهاجرا، كما لو انتقل لأجل أمر من أمور الدنيا.
(والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)
حكم الهجرة أنها فرض عين في حق القادر على الهجرة، أما العاجز فهو معذور.
(وهي باقية إلى أن تقوم الساعة) أي أن فرضيتها مستمرة إلى قيام الساعة، لم تنسخ، فيجب على القادر أن ينتقل من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
والهجرة باقية ما بقي جهاد الكفار، والجهاد باق إلى قيام الساعة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» متفق عليه، فالمراد: لا هجرة بعد فتح مكة من مكة إلى المدينة؛ لأنها صارت دار إسلام بعد الفتح.
(والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا 97 إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا 98 فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا 99﴾ [النساء: 97-99])
أي الدليل من القرآن الكريم على فرضية الهجرة قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ﴾ [النساء: 97] يعني بالإقامة بين أظهر المشركين بمكة، وحكم غيرها من بلاد الكفر حكمها.
﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡ﴾ [النساء: 97] القائل الملائكة عليهم السلام، أي في أي فريق كنتم، فريق المسلمين أو المشركين؟ والملائكة تعلم ذلك، ولكن الاستفهام هنا للتوبيخ.
﴿قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [النساء: 97]([16]) اعتذروا بالاستضعاف، وهذا ليس بعذر، ولهذا قالت لهم الملائكة عليهم السلام: ﴿أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ [النساء: 97] وإذا كانت أرض الله تعالى واسعة وهم قادرون على الهجرة من بلاد الكفر لم يكن الاستضعاف وحده عذرا لهم، وإنما الذي يُعذر مَن كان عاجزا عن الهجرة إلى بلاد الإسلام.
﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97] هذا فيه أن عدم الهجرة من القادر يعد كبيرة من كبائر الذنوب؛ لورود الوعيد عليه بجهنم.
ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ﴾ [النساء: 98] يتمكنون بها من هجرة بلاد المشركين، ودل قوله ﴿حِيلَةٗ﴾ [النساء: 98] وهي نكرة في سياق النفي على إفادة العموم، فهم لا يستطيعون أي حيلة كانت، ولا أقل حيلة، فدل على أن مَن أمكنه أدنى حيلة للهجرة من بلاد الكفر ولم يهاجر أنه ليس بمعذور.
﴿وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا﴾ [النساء: 98] أي لا يستطيعون سبيلا للخروج، ولو قُدِّر أنهم خرجوا ما عرفوا الطريق؛ لعدم معرفتهم بالدلالة، فهؤلاء هم المعذورون.
﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡ﴾ [النساء: 99] وعسى من الله تعالى واجبة.
فدلت هذه الآية على وجوب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ولا يعذر إلا من كان عاجزا عن الهجرة، أما المستضعف الذي لا يعجز عن الهجرة فتجب عليه؛ لأنه ليس بمعذور.
لكن وجوب الهجرة على المستطيع إنما هو في حق من لا يتمكن من إظهار دينه، أما من يتمكن من إظهار الدين في بلاد الكفر إما لوجود مَنَعةٍ من قبيلة أو فئة تمنعه من أذى الكفار، ونحو ذلك، فإن الهجرة لا تجب عليه، بل تستحب مخافة الفتنة عليه.
فإن كان في بقائه مع إظهار الدين مصلحة شرعية كالدعوة إلى الله تعالى في بلاد الكفر فهذا يستحب له البقاء؛ لتحقيق هذه المصلحة العظيمة، فإن الدعوة إلى دين الإسلام إظهار للدين وزيادة.
ومعنى إظهار الدين: إظهار التوحيد وأنه دين الله تعالى، وأن ما سواه هو دين الكفر، ويصرح لهم بالعداوة، كما قال تعالى: ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ﴾ [الممتحنة: 4] ...﴾ فهذا لا بد من التصريح به، وأن يعرفه المشركون من المسلم حقيقةً لا دعوى.
وقليلٌ من الناس مَن يُظهر دينه، وأقل منه من يدعو إليه.
(وقوله تعالى: ﴿يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّٰيَ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56])
هذا دليل آخر على وجوب الهجرة فناداهم الله تعالى باسم الإيمان، وأخبر أن أرضه واسعة، فمن لم يمكنه أن يعبد الله تعالى ويقوم بالواجب في أرضه فليخرج إلى ما وسَّع الله عليه من أرضه، ليعبد الله تعالى وحده.
(قال البغوي رحمه الله تعالى: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان)
لم يهاجروا: إما محبة لوطنهم، أو لبقائهم مع عشيرتهم، ونحو ذلك، وذلك لضعف إيمانهم.
ودلت الآية على أن المسلم الذي لم يهاجر وليس له عذر أنه لا يكفر؛ لأن الله وصفهم بالإيمان، لكنهم مرتكبون لكبيرة كما تقدم.
(والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها").
هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه (2475) من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه الألباني.
وهو يدل على أن حكم الهجرة باق لم ينسخ، وأنها لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها.
(فلما استقر بالمدينة أُمر ببقية شرائع الإسلام)
تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنين بمكة يدعو إلى التوحيد، ثم أُمر بالصلاة في ليلة الإسراء والمعراج ثم بعد ثلاث سنين أُمر بالهجرة إلى المدينة، وفيها أُمر ببقية شرائع الإسلام.
(مثل الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام)
يعني الزكاة ذات الأنصبة والمقادير المعروفة ما شرعت إلا بالمدينة.
والصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة.
والحج شرع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة.
والأذان والجهاد ما شرعا إلا في المدينة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراد عامة المعروف وعامة المنكرات ما شرع إلا في المدينة، وإلا فأعرف المعروف التوحيد، وكان يؤمر به في مكة، وأنكر المنكر الشرك، وكان ينهى عنه في مكة، ولكن المقصود المعروف غير التوحيد، والمنكر غير الشرك، هذا ما شرع إلا في المدينة، أما في مكة ما شرع من ذلك إلا القليل.
(أخذ على هذا عشر سنين) أي يوحى إليه في المدينة ببقية شرائع الإسلام، بل أكثر الشرائع إنما شرعت في المدينة.
(وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باقٍ) هذا فيه الإشارة إلى أن الدين ليس مرتبطا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن رسالته خاتمة الرسالات، وإلى الناس كافة، في كل زمان، وقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تزال طائفة من أمة الإسلام على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة.
(وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. والخير الذي دل عليه: التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه. والشر الذي حذر منه: الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه)
(بعثه الله إلى الناس كافة)
فرسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس، عربهم وعجمهم، وليست خاصة بالعرب.
(وافترض الله طاعته على جميع الثقلين: الجن والإنس) كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
(والدليل قوله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158])
فدلت الآية على عموم رسالته لجميع الناس، لقوله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ [الأعراف: 158] فهي تعم جميع الناس، وقوله ﴿جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158] تأكيد لعموم رسالته إلى جميع الناس.
والأدلة على ذلك كثيرة، إلا أن المؤلف رحمه الله تعالى لما ألف هذا الكتاب للعامة اختصر فيه واقتصر على بعض الأدلة تسهيلا على الطالب.
ومن الأدلة: عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: ... وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» رواه البخاري 335، ورواه مسلم 521 بلفظ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ».
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم 153.
(وأكمل الله به الدين) يعني أن الله تعالى لم يتوف نبيه صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن كمَّل الله به الدين، وبلَّغ البلاغ المبين، فقد بلَّغ صلى الله عليه وسلم الدين كاملا، ولم يبق شيء من الدين بلا بيان، لا من جهة العقيدة ولا العبادات ولا المعاملات ولا السياسة ولا غير ذلك من أمور الدين كلها قد بينها صلى الله عليه وسلم قبل وفاته.
(والدليل قوله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3])
وهذه الآية نزلت عليه في آخر حياته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع سنة عشر يوم عرفة، في أفضل يوم وفي أشرف موقف، ومات بعدها بنحو ثلاثة أشهر.
وروى مسلم 1844 في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ».
ولما قيل لسَلْمَان: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ([17]). قَالَ: أَجَلْ «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ» رواه مسلم 262.
يعني أنه صلى الله عليه وسلم علمهم حتى آداب التخلي، فكيف بغيرها؟
وفي كونه صلى الله عليه وسلم قد كمل الله به الدين رد على أهل البدع الذين يبتدعون عبادات بلا دليل شرعي، فلسان حالهم أن الدين لم يكمل، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: سَمِعْتُ مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ﴾ [المائدة: 3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا".
وقال الشاطبي في الاعتصام 1/65: (وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَتَى بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مُخَالِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَمْ يَبْتَدِعْ، وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا، وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ).
ثم ذكر هذا الأثر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
فمن ادعى أن الدين يحتاج إلى زيادة فقد كذب، ورد مدلول هذه الآية.
(والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ 30 ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ 31﴾ [الزمر: 30-31])
والأدلة على وفاته معلومة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٞ﴾ [الزمر: 30] أي ستموت، فمات كما أخبر الله تعالى، ومنها قوله سبحانه: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ﴾ [آل عمران: 144].
والعلم بوفاته من المعلوم المتواتر المستفيض الذي يعلمه العام والخاص، أما ما جاء به فهو باق.
ولم يقل أحد بأنه لم يمت صلى الله عليه وسلم إلا بعض أهل البدع، حيث زعموا أن الموت نقص، وهذا تكذيب لما علم ضرورة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
بهذا انتهى ما يتعلق بالأصل الثالث في كلام المؤلف رحمه الله تعالى، ثم ختم هذه الرسالة بذكر بعض الأصول الشرعية.
فقال: (والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى: ﴿مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ﴾ [طه: 55] وقوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتٗا 17 ثُمَّ يُعِيدُكُمۡ فِيهَا وَيُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجٗا 18﴾ [نوح: 17-18])
هذا الأصل وهو الإيمان بالبعث أصل مهم فقد أنكره كفار قريش وأضرابهم؛ ولهذا جاء تقرير البعث في القرآن والسنة في مواضع كثيرة.
والإيمان بالبعث داخل فيما تقدم من الإيمان باليوم الآخر الذي هو من أصول الإيمان الستة، فيكون داخلا في الأصل الثاني من هذه الرسالة، وإنما أتى به المؤلف رحمه الله تعالى هنا لأهميته وتقريره وذكر أدلته.
فمن أصول الإيمان: الإيمان بالبعث، وأن الناس إذا ماتوا يبعثون من قبورهم، واستدل له المؤلف رحمه الله تعالى بقوله سبحانه: ﴿مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ﴾ [طه: 55] أي من الأرض ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ﴾ [طه: 55] أي بعد موتكم ﴿وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ﴾ [طه: 55] أي يخرجون من قبورهم يوم البعث.
والآية الأخرى واضحة الدلالة على البعث.
ومما يدل على البعث من السنة حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» رواه البخاري 4482.
(وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى﴾ [النجم: 31])
أي لا بد من الإيمان بأنه بعد البعث يحاسب الله تعالى العباد، ويجزى كل إنسان بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ [النجم: 31] عدلا منه سبحانه ﴿وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى﴾ [النجم: 31] فضلا منه سبحانه.
(ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ﴾ [التغابن: 7])
فالمنكرون للبعث ككفار قريش استبعدوا إعادة الأجسام بعد موتها، وهذا من جهلهم بكمال علم الله تعالى وقدرته على كل شيء، فإن الله تعالى خلق آدم من طين.
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ 78 قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖ﴾ [يس: 78-79] فالإعادة أهون عليه سبحانه من البداءة، والكل عليه هين سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِ﴾ [الروم: 27].
(وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ﴾ [النساء: 165] وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ﴾ [النساء: 163]
(وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد) بعث الله تعالى إلى كل أمة من الأمم رسولا ليقيم الحجة عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا﴾ [الإسراء: 15] وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡ﴾ [إبراهيم: 4] فيخاطبهم بلسانهم لتقوم الحجة عليهم.
من أول رسول وهو نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
(يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة الطاغوت) هذه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعا، الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، والنهي عن عبادة غيره.
(والدليل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ [النحل: 36]) فكل رسول بعثه إلى قومه يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، واجتناب الطاغوت، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، وسمي الطاغوت طاغوتا لمجاوزة ما حُدَّ له شرعاً.
وقوله (اجتنبوا) أبلغ من: اتركوا. أي اتركوه وكونوا عنه في جانب بعيد، فأفادت هذه الكلمة (اجتنبوا) معنى الترك والبعد عنه، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].
وقوله تعالى: ﴿ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ [النحل: 36] هذا معنى لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة لها ركنان: النفي والإثبات، فالنفي في قوله: لا إله. أي نافيا جميع ما يعبد من دون الله، وهو معنى: (اجتنبوا الطاغوت)
وإلا الله: مثبتا العبادة لله وحده، وهو معنى (اعبدوا الله)
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ﴾ [البقرة: 256] فالكفر بالطاغوت فيه النفي، والإيمان بالله فيه الإثبات.
وهذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى كقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] ففي هاتين الآيتين أن أول ما بدأ به الرسل عليهم السلام أقوامهم: التوحيد، والنهي عن الشرك.
وهذا يفيد عظم شأن التوحيد، وأن الهمم يجب أن تصرف إلى معرفته والعمل به، ومعرفة ما يضاده، والحذر منه.
(وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله)
افترض جل وعلا على جميع العباد أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، لا بد منهما، ولا يكفي أحدهما، فالكفر بالطاغوت هو معنى (لا إله) والإيمان بالله هو معنى (إلا الله).
(قال ابن القيم رحمه الله تعالى) هو الإمام الكبير، والعلامة المحقق أجل تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، والمتوفى سنة 751 ه.
(الطاغوت ما تجاوز به العبد حده) فكل شيء تجاوز به العبد حده في الشرع، فإنه يكون بهذا الشيء طاغوتا.
(من معبود) يُعبَد مع الله تعالى بأي نوع من أنواع العبادة. فمن عُبِد مع الله تعالى من المخلوقين ورضي بذلك فإنه طاغوت؛ لأنه تجاوز حده، فحده في الشرع أن يكون عابدا لله تعالى لا معبودا.
(أو متبوع) يدخل فيه الكهان والسحرة الذين يُتَّبعون فيما يقولون، كما يدخل في ذلك علماء السوء الذين يدعون إلى الباطل، ويزينون المعاصي فيتبعهم الناس على ذلك.
(أو مطاع) أي يطاع دون الله تعالى في التحليل والتحريم، بأن يُحرِّم ما أحل الله عز وجل، ويُحِل ما حرَّم الله عز وجل، بأن يُعتقد أن طاعته لازمة كما أن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لازمة.
(والطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة)
(إبليس لعنه الله) وهو رأس الطواغيت، وإبليس من الإبلاس وهو اليأس لأنه يائس من رحمة الله تعالى، أو من البعد، وهو بعده عن الخير.
(ومن عُبِد وهو راض) بذلك، فمن عُبد من دون الله تعالى، وهو راض بأن يُعبد من دون الله تعالى، فهو طاغوت، من رؤوس الطواغيت وكبرائهم.
(ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه) سواء أعُبد أم لم يُعبد، فهو من رؤوس الطواغيت وكبرائهم.
(ومن ادعى شيئا من علم الغيب) كالمنجمين والكهان والرمالين ونحوهم.
(ومن حكم بغير ما أنزل الله) كمن يحكم بعادات الجاهلية والأعراف القبلية (السلوم) المخالفة لشرع الله تعالى، وكذا القوانين الوضعية المخالفة للشرع، فهذا الذي يحكم بغير ما أنزل الله تعالى من رؤوس الطواغيت وكبارهم([18]).
(والدليل قوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ﴾ [البقرة: 256]) أي هذا الدليل على أن الله تعالى فرض على جميع العباد الكفر بالطاغوت.
والرشد: ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم.
والغي: ما كان عليه أهل الجاهلية مما يخالف الشرع.
استمسك: مبالغة في الإمساك. والعروة الوثقى: أي القوية التي لا تنفك ولا تنقطع.
(وهذا معنى لا إله إلا الله) الإشارة في قوله: وهذا. إلى الآية: ﴿فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ﴾ [البقرة: 256] فإن كلمة التوحيد كفر بالطاغوت وإيمان بالله تعالى.
(وفي الحديث: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله») هذا الحديث من رواية معاذ رضي الله عنه، أخرجه الترمذي.
رأس الأمر الإسلام: أي أساس الأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، وحقيقة الإسلام هو توحيد الله تعالى، فمن ادعى الإسلام ولم توجد منه حقيقته فليس بمسلم.
وعموده الصلاة: هذا يفيد عظم شأن الصلاة، وأنها من الدين كالعمود للخيمة، فإذا سقط العمود سقطت الخيمة، فكذا الصلاة إذا فقدت من العبد فقد دينه، وهذا الحديث من أدلة تكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا.
ومن أدلة ذلك حديث: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» أخرجه الإمام أحمد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم.
وعن عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركُه كفر غيرَ الصلاة. رواه الترمذي.
وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله: ذروة سنامه أي أعلاه وأرفعه.
فدل على أن الجهاد في سبيل الله تعالى هو أعلى وأرفع الخصال في الدين؛ لما فيه من بذل النفس التي لا أنفس منها.
(والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم).
والحمد لله رب العالمين.
([1]) تنبيه: هذا الشرح مستفاد من عدة شروح لهذه الرسالة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.
([2]) ينظر: المقتضب للمبرد 2/175، ودرة الغواص للحريري ص111.
([3]) ينظر: المدخل لشرح ثلاثة الأصول ص15.
([4]) ينظر: المدخل لشرح ثلاثة الأصول ص5، 25، 32.
([5]) ينظر: مقدمة تحقيق شرح ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن إبراهيم ص31، والمدخل لشرح ثلاثة الأصول ص8، 24، 36.
([6]) قال الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله تعالى في مقدمة حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص7: (ولم يسبق أحد إلى الكتابة فيها على حدة قبل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - مجدد القرن الثاني عشر - أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب).
([7]) الدرر السنية 4/339.
([8]) ينظر: المدخل لشرح ثلاثة الأصول ص48.
([9]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 28/152: (قال تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لو فكر الناس كلهم في سورة والعصر لكفتهم. وهو كما قال. فإن الله تعالى أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحا؛ ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر) وهو في الاستقامة أيضاً 2/259، 260.
([10]) أشار إلى هذا التقسيم باختصار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في شرحه ص64، وتفصيله في شرح حفيده معالي الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى.
([11]) انظر: حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم (ص 51).
([12]) انظر: لقول السّديد لابن سعدي (ص 54).
([13]) شرح الطحاوية لابن أبي العز ص35، ت: شاكر.
([14]) تفسير ابن كثير.
([15]) أي على أَثَري.
([16]) قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: (﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض﴾ أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك؛ لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة).
([17]) (الخراءة) اسم لهيئة الحدث وأما نفس الحدث فبحذف التاء وبالمد مع فتح الخاء وكسرها.
([18]) والحكم بغير ما أنزل الله عز وجل قد يكون كفرا، وقد يكون معصية دون الكفر.