شرح عمدة الأحكام
المجلس الثاني من الحديث 8-22
برنامج دليل 1447هـ
إن الحمد لله . . أما بعد:
الحديث الثامن
عن عَمْرِو بن يَحْيىَ اْلمازِني عَنْ أبِيهِ قَال: شَهِدْتُ عمرْو بن أبي اْلحَسَنِ سَألَ عَبْدَ اللّه بْنَ زيد عَن وُضُوءِ النبي ﷺ، فَدَعَاَ بِتَوْر مِنْ مَاءٍ فتَوَضأ لَهُم وُضُوءَ النبي ﷺ. فَأكفأ عَلَى يَدَيْهِ مَنِ التَوْرِ فَغسَل يَدَيْه ثَلاثا، ثُمَّ أدْخَل يَدَهُ في التَّور فَمضْمضَ وَاستَنْشَقَ واستَنْثَرَ ثَلاثاً بثَلاث غرْفَاتِ، ثُمَّ أدْخل يدهِ فِي التَّوْر فغَسَل وجْهَهِ ثلاثا ثمَّ أدْخَلَ يَدَه فَغَسَلهُمَا مرتين إلى المرْفقيْن، ثُمَّ أدْخَلَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بهما رَأسَهُ فَأقَبَلَ بهمَا، وأدْبَرَ مَرّة وَاحِدَة، ثم غَسَلَ رجْلَيْهِ.
وفي رواية «بَدَأ بِمُقَدَّم رَأسِهِ حَتًى ذَهبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثمَ ردهما حَتَى رجع إِلَى المَكَانِ الذِي بَدَأ مِنْهُ».
وفي رواية «أتَانَا رسُولُ الله ﷺ فَأخرَجنا لَه مَاءً في تور مِن صُفْر». متفق عليه.
«التور» شِبْهُ الطَّست.
رواة الحديث:
عمرو بن يحيى: هو عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني، ثقة من أتباع التابعين، توفي سنة 130هـ، A.
وأبوه: يحيى بن عمارة المازني، ثقة من التابعين A.
عمرو بن أبي الحسن: هو الأنصاري المازني، صحابي t.
عبد الله بن زيد: هو ابن عاصم الأنصاري المازني t شهد أحدا وما بعدها، قتل يوم الحرة سنة 63هـ.
غريب الحديث:
- عن وضوء النبي ﷺ: أي عن كيفيته، والوُضوء هنا بضم الواو؛ لأن المراد فعل الوضوء.
- «بتور من ماء»: فسره المؤلف بأنه شبه الطست، وهو الإناء الصغير.
- «فأكفأ على يديه»: أمال وصب على يديه .
- إلى الكعبين: أي مع الكعبين، والكعب: عظم ناتئ في أسفل الساق.
- قفاه: القفا مؤخر الرأس والعنق.
- من صُفْر: أي نحاس أصفر من جيد النحاس.
ما يؤخذ من الحديث:
هذا الحديث يُعرف معناه مما تقدم في شرح حديث عثمان t، لأن كلا الحديثين يصف الوضوء الكامل للنبي ﷺ، إلا أنه يوجد في هذا الحديث زيادة فوائد على الحديث السابق منها:
1- ذَكر في هذا الحديث أن المضمضة والاستنشاق كانتا ثلاثا ثلاثا من ثلاث غرفات، ولم يذكر التثليث في حديث عثمان t.
2- في الحديث السابق ذكر أن غسل اليدين كان ثلاثا، وفى هذا الحديث ذكره مرتين فقط، ففيه التنويع في غسل الأعضاء، يغسل بعضها ثلاثا وبعضها مرتين، وإن كان التثليث هو الأكمل.
بل في هذا الحديث ذكر غسل الرجلين ولم يذكر عددا فيصدق على مرة واحدة.
3- قوله: «ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا» وفي رواية (يديه) قال النووي بعد ذكره أحاديث الروايتين. هي دالة على أن ذلك سنة، ولكن المشهور الذي قطع به الجمهور أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ.
4- قال في الحديث السابق: “ثم مسح برأسه” وفى هذا الحديث صرح بمسح الرأس كله، وفَصَّل كيفية المسح، والأحاديث يبين بعضها بعضاً، فدل على وجوب مسحه كله كما تقدم.
وفي هذا الحديث غير ما تقدم حرص السلف على السؤال عن سنة النبي ﷺ للاقتداء به.
وفيه التعليم بالفعل كما تقدم في حديث عثمان t.
الحديث التاسع
عَنْ عَائِشَةَ i قَالَتْ: «كَاَن رَسُولُ اللّه ﷺ يُعْجبُهُ التَيمُّن في تَنَعّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأنِهِ كُلهِ».
غريب الحديث:
«يعجبه التيمن»: يفضل ويسره تقديم الأيمن على الأيسر. وفي رواية: (يُحب)
«في تنعله»: لبس نعله.
«وترجله»: تسريح شعر رأسه ولحيته بالمشط، ودهنه وتجميله.
«وطُهوره»: بضم الطاء، التطهر. ويشمل الوضوء والغسل وإزالة النجاسة.
«وفى شأنه كله»: يعم جميع الأشياء المستطابة كهذه الأمثلة المذكورة، من مثل لبس القميص والسراويل، والأكل والشرب باليمين ونحو ذلك.
(وفي شأنه كله): عام مخصوص بمثل دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما مما يبدأ فيه باليسار.
ما يؤخذ من الحديث:
1-من فضل أمهات المؤمنين رضي الله عهن، لاسيما الحافظة العالمة الصديقة بنت الصديق، أنهن روين للأمة من أفعال النبي ﷺ، لاسيما الأفعال المنزلية، التي لا يطلع عليها غير أهل بيته، رَوَينَ علماً كثيراً.
2-إن تقديم اليمين للأشياء الطيبة هو الأفضل شرعاً وعقلا وطِبُّا. قال النووي: «قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين، في كل ما كان من باب التكريم والتزين وما كان بضدها استحب فيه التياسر».
وعن عائشة i قالت: كانت يد رسول الله ﷺ اليمنى لطُهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى. رواه أبو داود وصححه الألباني 1/9. وسكت عنه الحافظ في التلخيص 1/198.
3-إن جَعْلَ اليسار للأشياء المستقذرة، هو الأليق شرعا وعقلا.
ولهذا نهى النبي ﷺ عن الاستنجاء باليمين، ونهى عن مس الذكر باليمين، لأنها للطيبات، واليسار لما سوى ذلك.
4-استحباب تقديم الرجل اليمنى في لبس النعل، ومثله لبس الجورب والخف.
5-استحباب تقديم الجانب الأيمن من الرأس عند ترجيله، وكذا عند حلقه.
6-أن الأفضل في تقديم الوضوء ميامن الأعضاء على مياسرها، وكذا في الغُسل يقدم جانب بدنه الأيمن.
قال النووي: «أجمع العلماء على أن تقديم اليمنى في الوضوء سنة، من خالفهما فاته الفضل وتم وضوءه». قال في المغنى: «لا يُعلَم في عدم الوجوب خلاف».
الحديث العاشر
عَنْ نُعَيْمِ الْمُجْمِرِ عَنْ أبيِ هريرة h عَنِ النَّبيِّ ﷺ أنَهُ قَالَ: “إنَّ أمتي يُدْعَون يومَ القيَامةِ غُرُّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثارِ الْوُضُوءِ، فَمن استطَاَعَ مِنْكُمْ أن يُطِيلَ غرَّتَهُ[1] فَلْيَفْعَلْ.
وفي لفظ آخر: رَأيْتُ أبَا هُريرةَ يتوضأ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيهِ حَتى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَينِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْن، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه ﷺ يَقُولُ: «إن أمتي يُدْعَوْنَ يَوْم القِيَامَةِ غرا مُحَجلِين من آثار الوُضُوءِ، فمَنِ اسْتَطَاَعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيل غرته وَتَحْجيلَهُ فَلْيَفْعَل».
وفي لفظ لمسلم: سَمِعْتُ خليلي ﷺ يَقُول: «تبلغ الحِلْيَةُ من الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضوء»
راوي الحديث:
نُعيم المجمر: هو نعيم بن عبد الله المجمر، ثقة من التابعين، لُقِّب هو وأبوه بالمجمر؛ لأنه هو وأبوه كانا يجمران أي يبخران مسجد رسول الله ﷺ.
غريب الحديث:
أمتي: أي أمة الإجابة، الذين آمنوا به ﷺ، وتَرِد الأمة مرادا بها أمة الدعوة، ومنه قوله ﷺ: (لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار) رواه مسلم.
يُدعون: مبني لما لم يُسمَّ فاعله، أي يُنادَوْن للحساب يوم القيامة نداء تشريف وتكريم.
غرّاً: بضم الغين وتشديد الراء، جمع « أغر « أصلها لمعة بيضاء في جبهة الفرس، والمعنى أن أمة محمد ﷺ يأتون يوم القيامة تلمع وجوههم بياضا ونورا من آثار الوضوء.
محجلين: من «التحجيل» وهو بياض يكون في قوائم الفرس، والمراد به هنا: النور والبياض الذي يكون في أيدي المؤمنين وأرجلهم يوم القيامة، تشبيها بتحجيل الفرس.
الوضوء: بضم الواو هو الفعل.
المنكبين: المنكب: ما يجمع رأس الكتف والعضد.
خليلي: يريد النبي ﷺ، والخليل من بلغت محبته أعلى منازل المحبة.
الحلية: الزينة من مصوغ الذهب وغيره، والمراد هنا أي حلية المؤمن في الجنة.
فوائد الحديث:
1- إثبات البعث يوم القيامة وما فيه من جزاء وحساب.
2- فضيلة هذه الأمة حيث يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء.
3- فضيلة الوضوء.
4- فضيلة مجاوزة محل الفرض في غسل الوجه واليدين والرجلين، لتطول الغرة والتحجيل، عملا بهذا الحديث، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء.
وفي رواية للإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذلك لا يشرع لما يلي:
أ- أن قوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل ...) الصحيح أنه من كلام أبي هريرة t.
ب- لم ينقل عن أحد من الصحابة y أنه فهم هذا الفهم وتجاوز بوضوئه محل الفرض.
ت- أن كل الواصفين لوضوء النبي ﷺ لم يذكروا إلا أنه يغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، وما كان ﷺ ليترك الأفضل في كل مرة من وضوئه.
وعليه فلا يزيد على حد الوجه ولا على حد اليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين إلا قدرا يسيرا للاحتياط.
بَـاب دخـول الخـلاءَ والاستِطَـابـة
الخلاء: هو المكان الخالي، والمراد هنا المكان المعد لقضاء الحاجة، سمي بذلك لأن مريد قضاء الحاجة يطلب مكانا خاليا.
والاستطابة: طلب الطيب، والمراد هنا تطهير القبل أو الدبر من أثر البول أو الغائط بالماء أو الحجر ونحوه، لأنه بذلك يطيب هذا الموضع من النجاسة الطارئة عليه.
ومن كمال الشريعة أن بينت جميع ما يحتاج الناس إليه، حتى فيما يتعلق بقضاء الحاجة وآدابه، ففي صحيح مسلم (262) عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ»
فهذا الباب يذكر فيه آداب دخول الخلاء، والجلوس فيه، والخروج منه، كما يذكر فيه كيفية الاستطابة من الأنجاس في المخرجين بحجر وما يقوم مقامه والتحرز منها.
الحديث الحادي عشر
عن أنس بن مالك h أنَّ النبي ﷺ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَاَلَ: «اللهُمَّ إني أعُوذُ بِك من الْخُبثِ والْخَبائثِ».
الخُبُث -بضم الخاء والباء- جمع (خبيث) والخبائث: جمع خبيثة.
استعاذ من ذُكران الشياطين وإناثهم.
راوي الحديث:
هو أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، أمه أم سليم i، أتت به النبي ﷺ وله عشر سنين حين قدم النبي ﷺ المدينة، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِي، أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللهَ لَهُ، فَقَالَ: «اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ، الْيَوْمَ. رواه مسلم (2481) ورواه البخاري (6334) واللفظ لمسلم، وفي رواية لمسلم «فَدَعَا لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ» قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الْآخِرَةِ.
خدم النبي ﷺ عشر سنين حتى توفي ﷺ، وأقام بعد بالمدينة، ثم انتقل إلى البصرة حتى توفي سنة 93هـ t.
غريب الحديث:
إذا دخل الخلاء: يعنى إذا أراد الدخول كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ﴾ يعنى: فإذا أردت قراءة القرآن.
وجاء صريحا عند البخاري في «الأدب المفرد» فروى عن أنس t قال: كان النبي ﷺ إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: وذكر الحديث.
أعوذ بك: أي أعتصم بك، وهو خبر بمعنى الدعاء، أي اللهم أعذني.
الخبث والخبائث: الخبث، ضُبط بضم الخاء والباء كما ذكر المصنف، ومعناه ذكور الشـياطين، والخبائث: إناث الشياطين، وضبطه جماعة بإسكان الباء ومعناه: الشر، وهو معنى جامع حيث استعاذ من الـشر وأهله، وهم الخبائث، فينبغي للقائل مراعاة هذا المعنى العام.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب هذا الدعاء عند إرادة دخول الخلاء.
لكن يأتي قبله بقول: باسم الله. لحديث علي t مرفوعاً: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الخلاء أن يقول: بسم الله» رواه ابن ماجه. وصححه في الإرواء برقم (50).
2-مناسبة هذا الدعاء عند دخول الخلاء؛ لأن الخلاء محل خبيث، والشياطين تألف الأماكن الخبيثة، وتسعى لإفساد عبادة المسلم فناسب أن يستعاذ بالله من الخبث والخبائث.
3-إذا كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الخبث والخبائث وهو المعصوم ﷺ فغيره من باب أولى أن يأتي بهذا الدعاء عند دخل الخلاء.
4-أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في دفع ما يضرهم ويؤذيهم.
تنبيه: إن كان الخلاء في مكان معد له، كما في البيوت فيأتي بهذا الدعاء قبيل الدخول، وإن كان في الصحراء فيأتي بالذكر إذا أراد تشمير ثيابه لقضاء الحاجة.
الحديث الثاني عشر
عَنْ أبي أيّوبَ الأنصاري h قال: قالَ رسول الله ﷺ «إِذا أردتمُ الغَائِطَ فَلا تَستقْبِلوا القِبلَةَ بِغَاِئطٍ وَلا بَوْل وَلا تسْتدْبِرُوهَا وَلكنْ شَرقوا أوْ غَربُوا». قال أبو أيوب: «فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل».
راوي الحديث:
هو أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري النجّاري، شهد بيعة العقبة، ونزل النبي ﷺ عليه حين قدم المدينة حتى بنى مسجده وبيوته، وآخى بينه وبين مصعب بن عمير، شهد غزوة بدر وما بعدها، وشهد الفتوحات، ولازم الغزو، حتى توفي في غزوة القسطنطينية سنة 52هـ t.
غريب الحديث:
«الغائط»: المطمئن من الأرض، وكانوا ينتابونه لقضاء الحاجة، فكنوا به عن الحدث نفسه.
«والمراحيض»: جمع مرحاض وهو المغتسل، وقد كنوا به أيضا عن موضع قضاء الحاجة.
«ولكن شرقوا أو غربوا»: اتجهوا نحو المشرق أو المغرب.
وهذا بالنسبة لأهل المدينة ومن في سَمْتهم، ممن لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها إذا شرقوا أو غربوا.
فقدمنا الشام .. : أي بعد فتحها، فوجدوا فيها مراحيض قد بنيت قبل الإسلام باتجاه القبلة.
فننحرف عنها: أي نميل عن المراحيض التي بُنيت إلى جهة الكعبة.
ونستغفر الله: أي نطلب منه المغفرة، وهي ستر الذنب والتجاوز عنه.
وسبب الاستغفار منهم إما أنهم كانوا ينحرفون عن القبلة حال قضاء الحاجة، ولكن قد يقع منهم السهو فيستقبلون الكعبة، فإذا فطنوا، انحرفوا عنها، وسألوا الله الغفران عما بدر منهم سهواً.
وإما أنهم لم يغيروها بتحويلها إلى غير القبلة، وإما لأن انحرافهم لا يحصل به تمام الانحراف عن القبلة لصعوبة ذلك عليهم لكونها بنيت نحو القبلة.
المراد بالاستغفار هنا : الاستغفار القلبي لا اللساني، لأن ذكر الله باللسان في حال كشف العورة وقضاء الحاجة ممنوع.
ويحتمل أن يكون استغفارهم باللسان لكن بعد خروجهم من الخلاء.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تعظيم الكعبة المشرفة واحترامها.
2- حسن تعليم النبي ﷺ فإنه لما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة أرشد إلى المشروع في قوله: ولكن شرقوا أو غربوا.
3- النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، حال قضاء الحاجة.
وهل هذا النهي خاص بالصحراء أو يشمل البنيان أيضا؟.
فالجمهور على أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في الصحراء بلا حائل أي ساتر بينه وبين القبلة، ويجوز في البنيان وفي الصحراء مع الساتر، وهذا اختيار اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز A.
واستدلوا بهذا الحديث: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا».
ولمسلم: «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها»
وفي حديث سلمان t: نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول. رواه مسلم.
وأجازوا ذلك في البنيان لحديث جابر t: كان رسول الله ﷺ قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة. رواه أحمد.
وهو وإن كان ليس فيه التصريح بالساتر ولا البنيان لكن هو محمول على وجود الساتر؛ لأن هذا هو المعهود من حاله ﷺ المبالغة في التستر عند قضاء الحاجة.
وكذا حديث ابن عمر k قال: ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله ﷺ على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. متفق عليه. أي أنه مستدبر للقبلة. وهذا ظاهر أنه في البنيان.
فجمعَ الجمهور بين هذه الأحاديث بحمل أحاديث النهي على الصحراء بلا ساتر، وحديث جابر وابن عمر j على البنيان، أو مع ساتر.
وفي المسألة قول آخر: وهو التحريم مطلقا الاستقبال والاستدبار في البنيان والصحراء، وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم.
لأن النهي في الأحاديث السابقة مطلق، وهذا ما فهمه أبو أيوب y.
ولأن العلة هي تكريم القبلة، وهذا حاصل في الصحراء والبنيان، ولو كان مجرد الحائل كافيا لجاز في الصحراء لوجود الجبال ونحوها بيننا وبين القبلة.
وهذا القول أحوط، خروجا من الخلاف، والله أعلم.
4- ومن فوائد الحديث أن استقبال الشمس والقمر لا كراهة فيه، خلافا لما ذكره بعض الفقهاء، لأن قوله: (ولكن شرقوا أو غربوا) يلزم منه استقبال الشمس أو القمر أو استدبار أحدهما.
الحديث الثالث عشر
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ k قَالَ: رَقِيتُ يَوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأيْتُ النبي ﷺ يَقْضى حَاجَتَهُ مُسْتَقْبلَ الشَّام مُسْتَدْبرَ الكَعْبَةِ.
وفي رواية: مستقبلا بيت المقدس.
راوي الحديث:
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، أسلم مع أبيه وهاجر إلى المدينة، ولم يشهد غزوة بدر وأحد لصغره، وأجازه النبي ﷺ في غزوة الخندق، شهد له النبي ﷺ بالصلاح، وهو من المكثرين من الرواية عن النبي ﷺ، وكان شديد التحري والاحتياط في فتواه، وفي شأنه، توفي بمكة سنة 73هـ t.
غريب الحديث:
رَقِيت: بفتح الراء وكسر القاف أي صعدت.
بيت حفصة: أي دارها التي أسكنها رسول الله ﷺ.
وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين أخت عبد الله بن عمر j، تزوجها رسول الله ﷺ سنة ثلاث من الهجرة، بعد وفاة زوجها من جراحة أصابته بأحد، وكانت ذات رأي وفضل، ولاها عمر t على وقفه بخيبر، توفيت سنة 41هـ i.
يقضي حاجته: أي يبول أو يتغوط، كنى عنهما تأدبا، ولا يلزم من رؤية من يقضي حاجته أن تُرى عورته.
مستقبل الشام: أي موليها وجهه، والشام إلى جهة الشمال لأهل المدينة.
وبيت المقدس: هو المسجد الأقصى، ومعنى التقديس: التطهير، أي البيت المطهر.
ما يؤخذ من الحديث:
تقدم الكلام على حكم هذا الحديث عند ذكر الخلاف في المسألة في الحديث السابق.
ومما يضاف هنا:
1-الكناية عما يستحيى من ذكره بلفظ آخر. من قوله: (على حاجته).
2- جواز استقبال بيت المقدس عند قضاء الحاجة خلافا لمن كرهه.
الحديث الرابع عشر
عنْ أنَس بْنِ مَالِـكٍ h، أنَّـهُ قَالَ: «كَانَ رَسول الله يَدْخُلُ الخلاء فَأحْمِلُ أنَا وَغُلام نَحوِى إدَاوَةً مِنْ ماء وَعَنَزَةَ فَيَسْتَنْجِي بِاْلمَاء».
العنزة: الحربة الصغيرة.
غريب الحديث:
«وغلام نحوي»: الغلام هو الذكر الصغير المميز حتى يبلغ و»نحوي» يعنى هو مقارب لي في السن.
«إداوة من ماء»: بكسر الهمزة، هي الإِناء الصغير من الجلد يجـعل للماء.
«العَنَزة»: فسرها المؤلف: الحربة الصغيرة. يستتر بها عن نظر النـاس. فهي عصـا قصـيرة في طرفها حديدة يغرزها في الأرض ويجعل عليها شيئا يقيه من نظر المارين.
وقال النووي في شرح مسلم 3/163: (وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَصْحِبُهَا النَّبِيُّ ﷺ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ صَلَّى فَيَحْتَاجُ إِلَى نَصْبِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَكُونَ حَائِلًا يُصَلِّي إِلَيْهِ).
«يستنجي بالماء»: أي يطهر بالماء ما أصاب السبيلين من أثر البول والغائط.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز الاقتصار على الماء في الاستنجاء، وهو أفضل من الاقتصار على الحجارة، لأن الماء أنقى، والأفضل الجمع بين الحجارة والماء، فيقدم الحجارة، ثم يتبعها الماء، ليحصل الإنقاء الكامل.
وجواز الاقتصار على الاستجمار مجمع عليه بلا كراهة.
ودليله حديث عائشة مرفوعاً «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» رواه أحمد وأبو داود.
2- استعداد المسلم بطهوره عند قضاء الحاجة، لئلا يُحْوِجه إلى القيام فيتلوث.
3- تَحَفظُهُ عن أن ينظر إليه أحد، لأن النظر إلى العورة محرم. فكان يركز العنزة في الأرض وينصب عليها الثوب الساتر.
2- جواز استخدام الصغار، وإن كانوا أحراراً.
3- وفضيلة أنس t بخدمته النبي ﷺ.
الحديث الخامس عشر
عن أبي قَتَادة الْحَارِثِ بْنِ ربعي الأنصاري h أنَّ النبي ﷺ قَاَلَ: «لا يُمْسِكن أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهو يَبُولُ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلاَءِ بِيَمِيِنهِ، ولا يَتَنَفَس في الإنَاء».
راوي الحديث:
أبو قتادة الحادث بن ربعي الأنصاري الخزرجي، شهد أحدا وما بعدها، ويقال له فارس رسول الله ﷺ[2]، دعم النبي ﷺ في بعض أسفاره حين مال على راحلته من النوم، فلما استيقظ قال له: (حفظك الله بما حفظت به نبيه)[3] توفي سنة 54هـ بالمدينة t.
غريب الحديث:
لا يتمسح من الخلاء بيمينه: أي لا يستنج بحجر ولا ماء من البول والغائط بيده اليمنى.
ولا يتنفس في الإناء: أي لا يخرج النفس من جوفه في الإناء الذي يشرب منه.
ما يؤخذ من الحديث:
1-يشتمل هذا الحديث على ثلاث منهيات:
- ألا يمس ذكره باليمين حال بوله.
- ولا يزيل النجاسة من القبل أو الدبر بيمينه، سواء في الاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجارة ونحوها.
- ألا يتنفس في الإناء.
والحكمة في ذلك والله أعلم أن اليد اليمنى أعدت للأشياء الطيبة المرغوب فيها كالأكل والشرب، فإذا باشرت النجاسات وتلوثت، ثم باشرت الطعام والشـراب، أو حصل بها مصافحة للآخرين، فإنه ربما كان ذلك سببا لنقل الأمراض.
2- النَّهى عن التنفس في الإناء الذي يشرب منه لما في ذلك من الأضرار الكثيرة، التي منها تكريهه للشارب بعده، كما أنه قد يخرج من أنفه بعض الأمراض التي تلوث الماء فتنقل معه العدوى، إذا كان الـشارب المتنفس مريضاً.
والجمهور على أن النهي عن هذه الثلاث للكراهة، والصارف عندهم أنها من باب الآداب.
3- بيان شرف اليمين وفضلها على اليسار.
4- كمال الشريعة حيث تأمر بكل ما هو نافع وتنهى عن كل ما يضر أو يخشى منه الضرر.
تنبيه:
ظاهر قوله (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) التقييد بحال البول، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فذهب بعضهم إلى أن النهي حال البول فقط؛ لأنه ربما أصابه شيء من البول فتتلوث يده فنهي عن مسه حال البول، وأما في غير حال البول فلا توجد هذه العلة فيجوز مسه باليمنى.
وذهب بعضهم إلى أنه إذا نهي عن مسه حال البول باليمين الذي يحتاج فيه إلى مسه ففي غير حال البول أولى بالنهي.
وكلا القولين محتمل، والاحتياط ألا يمسه بيده اليمنى لا في حال البول ولا في غيره.
الحديث السادس عشر
عن عَبد الله بن عباس رضي الله تَعَاَلَى عَنْهُما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بقبرين فَقَاَل: «إِنَهُمَا ليُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذبانِ في كَبِير. أمًا أحَدُهُما فَكَاَن لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَول، وَأمَّا الآخر فكَاَن يمْشىِ بَالنميمَة».
فَأَخَذَ جَريدةً رَطْبَةً فَشَقَهَا نِصْفَيْنِ، فَغرزَ في كل قَبْر واحدَة.
فقالوا: يَا رَسُول الله، لم فَعَلْتَ هذَا؟ قَال: «لعَلهُ يُخَفَفُ عَنْهمَا مَا لم يَيْبَسَا».
راوي الحديث:
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، ابن عم رسول الله ﷺ، حبر الأمة وترجمان القرآن، قال النبي ﷺ فيه: (اللهم فقهه في الدين) متفق عليه[4]، وقال فيه: (اللهم علمه الحكمة) رواه البخاري (3756)، فأدرك علما كثيرا، وهو من المكثرين من الرواية عن رسول الله ﷺ، توفي رسول الله ﷺ وقد قارب الاحتلام، مات بالطائف سنة 68هـ.
غريب الحديث:
«إنهما ليعذبان»: المراد، يعذب من فيهما. من إطلاق اسم المحل على الحال فيه.
«وما يعذبان في كبير»: أي بسبب أمر كبير عليهما تركه لو شاءا ذلك، وإن كان كبيرا بالنسبة لعقوبته.
«لا يستتر»: بتائين، أي لا يجعل سترة تقيه من بوله والمعنى: لا يتوقى، وروي «لا يستبرئ».
«من البول»: أي بوله، كما في رواية أخرى، ومثله بقية الأبوال النجسة.
«يمشى بالنميمة»: النميمة: هي نقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد.
«فأخذ جريدة»: عسيب النخل الذي ليس فيه سعف.
«فغرز»: أي: غرس.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إثبات عذاب القبر، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ في ثبوت عذاب القبر للكفرة والعصاة ونعيمه للمؤمنين التقاة، فيجب على العبد اعتقاد ذلك والايمان به، ولا يخوض في كيفية ذلك واستبعاده بعقله ، فإن العقل لا مدخل له في أمور الغيب ، والواجب فيها التسليم لما جاء به الشرع.
2- عدم الاستبراء من النجاسات سبب في عذاب القبر، فالواجب الاستبراء منها: فالحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية. ويؤكد ذلك ما رواه الحاكم وابن خزيمة وهو “أكثر عذاب القبر من البول” قال ابن حجر: وهو صحيح الإسناد.
3- تحريم النميمة بين الناس وأنها من أسباب عذاب القبر، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة نمام).
4- رحمة النبي ﷺ بأمته حتى العصاة منهم.
5- الستر على الذنوب والعيوب. فإنه لم يصرَّح باسمي صاحبي القبرين، ولعله مقصود.
6-أن عدم التنزه من البول، والنميمة من كبائر الذنوب لورود الوعيد الشديد عليها.
7-التنبيه على عظم شأن الصلاة، حيث كان الإخلال بشيء من شروطها وهو اجتناب النجاسة سببا لعذاب القبر.
8-حرص الصحابة y على السؤال عن الحكمة من فعل النبي ﷺ.
وهل يشرع وضع الجريدة على القبر؟
الصحيح عدم مشروعية ذلك، لأنه يحتاج إلى دليل، وهذا الحديث لا يصلح للاستدلال على ذلك لما يلي:
- أن هذا الحديث قضية عين، حكمتها مجهولة، ولذا لم يفعلها النبي ﷺ مع غير صاحبي هذين القبرين.
- أنه على التسليم بمشروعية ذلك فنحتاج إلى ما يدل على أن صاحب القبر يعذب، لأن النبي ﷺ إنما وضع الجريدة على قبريهما لكونهما يعذبان، ونحن لا نعلم هل صاحب القبر يعذب أو لا، أما النبي ﷺ فقد كشف الله تعالى له عن حال هذين القبرين.
فهذا الحديث خاص بالنبي ﷺ، لما جاء في صحيح مسلم 3012 في حديث طويل: «إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ، بِشَفَاعَتِي، أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ»
وبهذا يتبين أن ما يفعله بعض الناس من وضع الزهور على القبور أنه من الأمور المحدثة، فضلا عما فيه من إساءة الظن بالميت.
بَـــابُ السّــوَاك
السواك: بكسر السين، اسم للعود الذي يُتَسَوّكُ به، ويطلق على الفعل الذي هو دَلك الأسنان واللسان واللثة بالعود أو نحوه.
مناسبة ذكره هنا، أنه من سنن الوضوء ومن الطهارة المرغب فيها.
وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، منها قوله ﷺ: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) رواه النسائي.
وفيه من الفوائد ما يفوت الحصر من النظافة، والصحة، وقطع الرائحة الكريهة، وطيب الفم، وذهاب صفرة الأسنان، وتحصيل الثواب، واتباع النبي ﷺ.
الحديث السابع عشر
عن أبِي هريرة h، عن النبي ﷺ قال: «لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي لأمَـرْتُهُمْ بِالسَّـوَاكِ عند كُل صَلاةٍ» متفق عليه.
غريب الحديث:
لولا: حرف امتناع لوجود، أي أنها تدل على امتناع شيء لوجود شيء آخر. أي لولا مخافة أن أشق على الأمة لأمرتهم بالسواك أمر إيجاب.
أمتي: يراد بها أمة الإجابة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- في الحديث بيان فضل السواك، الذي قارب به درجة الواجبات في الثواب.
2- تأكد مشروعية السواك عند كل صلاة، من فرض ونفل حتى صلاة الجنازة، لعموم قوله ﷺ: (عند كل صلاة).
والحكمة في ذلك والله أعلم أن العبد مأمور في حال تقربه إلى الله تعالى أن يكون على أكمل حال من النظافة وطيب الرائحة؛ إظهارا لشرف العبادة.
3- عموم الحديث يشمل صلاة الصائم، ولو بعد الزوال كصلاتي الظهر والعصر.
4- إنه لم يمنع من فرض السواك إلا مخافة المشقة في القيام به، ففيه كمال شفقة النبي ﷺ بأمته، وخوفه عليهم، حيث لم يأمرهم بالسواك عند كل صلاة أمر إيجاب.
5-أن الشرع لا يأتي بما فيه الحرج والمشقة على الناس.
6-أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح.
وهذه قاعدة عظيمة نافعة جدا. فإن الشارع الحكيم، ترك فرض السواك، على الأمة مع ما فيه من المصالح العظيمة، خشية من حصول مفسدة المشقة عليهم.
7-وفيه أن ما يأمر به النبي ﷺ يدل على الوجوب، إلا أن يدل دليل على أنه مستحب.
الحديث الثامن عشر
عن حُذَيْفَةَ بْن الْيَمانِ قَالَ: كَان رَسُول الله ﷺ إِذا قَامَ من الليل يَشُوصُ فاه بِالسوَاك.
راوي الحديث:
حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي، أسلم هو وأبوه، وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون، وشهد أحدا، وكان صاحب سر رسول الله ﷺ؛ لأنه ﷺ أخبره بأسماء المنافقين، استعمله عمر t على المدائن، وتوفي بها سنة 36هـ t.
غريب الحديث:
إذا قام من الليل: أي إذا قام من نوم الليل لصلاة الليل.
يشوص: والشوص دلك الأسنان وتنقيتها بالسواك؛ لتغير رائحة الفم بعد الاستيقاظ من النوم.
ما يؤخذ من الحديث
1- تأكد استحباب السواك بعد القيام من نوم الليل خاصة لمن يريد الصلاة؛ لتطييب رائحة الفم، وتنشيط القائم بعد مغالبة النوم على القيام.
2- تأكد مشروعية السواك عند كل تغير كريه للفم، كطول السكوت، والأكل ونحوه، أخذا من العلة.
3- مشروعية النظافة على وجه العموم، وأنها من سنة النبي ﷺ.
4- أن التسوك يكون للفم كله الأسنان واللثة واللسان، لقوله: (يشوص فاه) أي فمه، فيعم كل ما في الفم.
الحديث التاسع عشر
عَنْ عَائِشَةَ i قَالَتْ: دَخَل عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أبي بَكْر الصديق k عَلَى النَّبيِّ ﷺ وَأنا مُسْنِدَتهُ إِلى صَدْري -وَمَعَ عَبْدِ الرحْمنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بهِ- فَأبَدهُ رَسُول الله ﷺ بَصَرَهُ، فَأخَذْتُ السوَاكَ فَقَضِمْتُهُ وَطَيبتهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إَلَى النَّبيِّ ﷺ فاستنّ به، فما رأيت رسول الله ﷺ اسْتَنَّ اسْتِنَاناً أحْسَنَ مِنْهُ. فَمَا عَداَ أنْ فَرَغَ رَسُولُ الله ﷺ رَفَعَ يَدَهُ أوْ إِصبَعَهُ- ثم قال: «في الرَّفيقِ الأعلى» ثَلاثاً، ثُم قضى عَليهِ.
وكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتي وذاقِنَتى.
وفى لفظ: فَرَأيتهُ يَنُظُرُ إِلَيهِ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ يُحِـب السوَاَكَ فَقُلْتُ: آخُذُه لَك؟ فَأشَارَ بِرأسِهِ: أن نَعَمْ.
هذا لفظ البخاري، ولـ «مسلم» نحوه.
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أسلم عام الفتح، وقيل قبيل الفتح، وحسن إسلامه، وهو أخ شقيق لعائشة i، توفي بمكة سنة 58هـ t.
غريب الحديث:
«يستن به»: يُمِرُّ السواك على أسنانه، كأنه يحددها، وكان السواك الذي يستن به عبد الرحمن t من الجريد الأخضر كما في بعض روايات البخاري.
«فأبَدَّه»: مدَّ إليه بصره وأطاله.
«بين حاقنتى وذاقنتى»: الحاقنة: هي النقرة بين الترقوة وحبل العاتق فهي أسفل الحلقوم، وسميت بذلك لأن أسفل الحلقوم يلي ما يحقن الطعام.
والذاقنة: طرف الحلقوم الأعلى. وسميت بذلك لأنها تلي الذقن.
«فقَضِمته» بفتح القاف وكسر الضاد، أي مضغَتْه بأسنانها، ليلين. وفي رواية: قصمته: أي كسرته، فلعلها كسرت طرفه، ثم مضغته بأطراف أسنانها ليلين.
و «القضم» بأطراف الأسنان.
نقضته: أي فرقته ليسقط ما فيه من قشور ونحوها.
طيبته: أي جعلته صالحا للتسوك به.
في الرفيق الأعلى: أي اجعلني في الرفيق الأعلى، أي مع الرفقاء الأعلون وهم أهل الجنة.
ثم قضى: أي مات.
ما يؤخذ من الحديث:
1- محبة النبي ﷺ للسواك، يؤخذ من حرصه عليه حتى في هذه الحال العصيبة وهي حال الاحتضار، مع قولها: فاستنّ به، فما رأيت رسول الله ﷺ اسْتَنَّ اسْتِنَاناً أحْسَنَ مِنْهُ.
2- فضيلة الاستياك بالسواك الرطب.
3- مشروعية السواك كل وقت، لإقرار النبي ﷺ عبد الرحمن t على ذلك.
2- أنه ينبغي قبل التسوك إصلاح السواك وتهيئته ليكون صالحا للتسوك.
3- أنه يجوز الاستياك بسواك الغير بعد تطهيره وتنظيفه.
4- العمل بما يفهم من الإشارة والدلالة. من قولها: فأبده رسول الله ﷺ بصره. حيث فهمت i أنه يريد السواك.
5- إثبات علو الله تعالى في السماء. يؤخذ من رفع أصبعه ﷺ موحدا الله تعالى.
6- الرفيق الأعلى: هم المشار إليهم في سورة النساء وهم: ﴿ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا﴾.
7- فضيلة عائشة i بحسن عشرتها للنبي ﷺ، وموته في بيتها ويومها وفي حجرها.
الحديث العشرون
عَنْ أبِي مُوسَى الأشعري رضِىَ الله عَنْهُ قاَل : أتيْتُ النبي ﷺ وهُوَ يَستَاكُ بِسِوَاكٍ رَطْبٍ قَالَ وطَرَف السوَاكِ عَلى لِسَانِهِ، وَهو يَقُولُ: أُع أُع، وَالسوَاك في فِيهِ كَأنَهُ يَتَهَوَّع.
راوي الحديث:
أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري، قدم مكة وأسلم، ثم رجع إلى قومه، فلما كان فتح خيبر جاء مع خمسين من قومه إلى النبي ﷺ في المدينة، وكان حسن الصوت بالقرآن، ولاه النبي ﷺ على اليمن، مات بالكوفة سنة 44هـ t.
غريب الحديث:
على لسانه: أي على طرف لسانه من الداخل. بدليل قوله أع أع.
أُع أُع: بضم الهمزة وسكون المهملة. حكاية صوت المتقيئ.
كأنه يتهوع: التهوع، التقيؤ بصوت.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية السواك بالعود الرطب.
2- مشروعية المبالغة في التسوك؛ لأن في المبالغة كمال الإنقاء.
3-مشروعية التسوك على اللسان كما يشرع على الأسنان واللثة.
4-أن التسوك على اللسان يكون طولا، أما الأسنان فقد ذكر الفقهاء أنه يكون عرضا.
5-جواز التسوك والمبالغة فيه بحضرة الناس، لأنه ﷺ لم يختف بذلك.
بَـاب المسْـح عَلى الخـفّـين
المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين في الوضوء، وهو من الرخصة التي يحب الله أن تؤتى، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وقد دل على مشروعيته أحاديث كثيرة بلغت مبلغ التواتر.
وشذ الشيعة بمخالفتهم لأهل السنة في ذلك، فلا يرون المسح على الخفين.
الحديث الحادي والعشرون
عَنْ المغيرة بن شعبة قال: كُنْتُ مَع النبي ﷺ في سَفَر فَأهوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَيْهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا، فَإنَّي أدْخَلتُهُمَا طاهِرَتَيْنِ» فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
راوي الحديث:
المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، أسلم عام الخندق، وهاجر إلى المدينة، كان ممن يخدم النبي ﷺ في وضوئه، وكان من دهاة العرب، تولى البصرة، ثم الكوفة، ومات فيها سنة 50هـ t.
غريب الحديث:
كنت مع النبي ﷺ في سفر: أي كان في صحبته ومعيته في السفر، وكان ذلك في سفره في غزوة تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة.
فأهويت لأنزع: أي انحنيت مادَّاً يدي لإخراج خفيه من رجليه لغسلهما.
خفيه: ما يلبس على الرجل ساترا لهما من جلد ونحوه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية المسح على الخفين في الوضوء، ويقاس عليهما كل ما يستر الرجلين كالجوارب.
2- أن المسح على الخفين يكون على أعلاهما دون أسفلهما ولا عقبهما، لقوله: (فمسح عليهما) ولما ثبت في السنة من قول علي t: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح ظاهر خفيه).
3- أن المسح على الخفين لمن كان لابسا لهما أفضل من خلعهما وغسلهما؛ لأن هذا فعل النبي ﷺ.
4-اشتراط الطهارة للمسح على الخفين. وذلك بأن تكون الرجلان على طهـارة قبل دخولهما في الخف.
5-استحباب خدمة ذوي الفضل من العلماء والصالحين.
6-وفضيلة المغيرة t بخدمته للنبي ﷺ.
الحديث الثاني والعشرون
عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَان قال: كَنْتُ مَعَ النبي ﷺ، فَبَالَ وَتَوَضَّأ وَمَسَحَ عَلَى خُفَيهِ. (مختصرا).
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية المسح على الخفين.
2-فيه المسح على الخفين في الحدث الأصغر، لقوله فبال وتوضأ ومسح على خفيه، أما الأكبر فلا بد من الخلع.
والحمد لله رب العالمين
[1] هذه رواية أحمد، وفى الصحيحين أيضاً وتحجيله.
[2] كما في صحيح مسلم (1807).
[3] في صحيح مسلم (681) قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، قَالَ: فَنَعَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ، مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، قَالَ: فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ، مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: «مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟» قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ، قَالَ: «حَفِظَكَ اللهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ» ... الحديث.
[4] البخاري 143، ومسلم 2477، واللفظ للبخاري.