شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية
برنامج دليل 1446هـ
المجلس الأول([1])
إن الحمد لله .. أما بعد:
فهذه مقدمتان بين يدي الشرح:
المقدمة الأولى: التعريف بالمؤلف([2]):
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام وعَلَم الأعلام.
ولد في العاشر من ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران.
وقدم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التتر على البلاد، سنة سبع وستين وستمائة.
وأخذ العلم عن جماعة من العلماء منهم والده عبد الحليم وابن أبي عمر شارح المقنع، وابن عبد القوي المعروف بالناظم وغيرهم كثير.
واشتغل بالعلم منذ صغره، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة.
وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه.
ولما توفي والده الشيخ شهاب الدين، كان له حينئذ إحدى وعشرين سنة، فقام بوظائفه بعده، فدرَّس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وجلس مكان والده بالجامع أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن. فكان يفسر القرآن من حفظه.
وشرع الشيخ في الجمع والتصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدْر إلى آخر عمره.
ونقل ابن رجب عن الذهبي في معجم شيوخه، في ترجمة شيخ الإسلام أنه قال: .. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: إني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
ونقل ابن رجب عن كمال الدين بن الزملكاني أنه قال عن ابن تيمية: "كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذاك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذهبهم أشياء، ولا يُعرف أنه ناظر أحدا فانقطع منه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها".
ونقل ابن رجب عن العلامة ابن القيم قال: سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما دَخَلَ إِلَى القلعة، وصار داخل سورها نظر إِلَيْهِ وَقَالَ: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].
وَأَمَّا تصانيفه رحمه اللَّه: فَهِيَ أشهر من أَن تذكر، سارت مسير الشَّمْس فِي الأقطار، قَدْ جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها.
منها: كتاب: الإيمان، والاستقامة، وجواب الاعتراضات المصرية عَلَى الفتاوى الحموية، وتلبيس الجهمية فِي تأسيس بدعهم الكلامية، ومنهاج السنة النبوية، ودرء تعارض العقل والنقل،
والصارم المسلول عَلَى شاتم الرسول، والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام، وغيرها كثير.
توفي رحمه الله تعالى سجيناً في قلعة دمشق، فِي سحر ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
تنبيه:
جاء في البداية والنهاية 18/296 في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله ابن كثير عن البرزالي في تاريخه: (وجلس جماعة عنده قبل الغسل، وقرءوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا . . . ثم صلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظهر، وحمل من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك ... وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، وقيل: إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهم ...)
وما ذُكر في هذا الكلام من التبرك بذوات الصالحين، وهو من التبرك الممنوع شرعاً.
المقدمة الثانية: التعريف بالمنظومة:
هذه المنظومة في بيان عقيدة السلف الصالح، وهي من بحر الكامل.
وسميت اللامية؛ لأن قافيتها حرف اللام، فكل بيت منها ينتهي بحرف اللام.
وليس هناك جزم بأنها من نظم شيخ الإسلام، ولكن هناك قرائن تدل على أنها له رحمه الله تعالى، فالظن الغالب أنها من نظمه، ويدل لذلك أمور ([3]):
قُبحاً لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل).
وإنما لم يُقطع بكون هذه المنظومة من نظمه رحمه الله تعالى لأنه لم ينسبها إليه أحد من تلاميذه ومعاصريه.
لكن مع هذا فإن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كان كثير التأليف، تصعب الإحاطة بجميع مؤلفاته، وبعض هذه المؤلفات إنما هي جواب سؤال لمن يسأله.
فاحتمال أن يكون نظم هذه القصيدة ولم تنتشر عند تلاميذه ومعاصريه كغيرها من أجوبته وتآليفه رحمه الله تعالى.
قال ابن رجب في ترجمته في الذيل على طبقات الحنابلة عند ذكره لمؤلفات شيخ الإسلام: (وَأَمَّا القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإِحاطة بِهَا، لكثرتها وانتشارها وتفرقها).
وأيَّاً كان فهي منظومة مفيدة في الاعتقاد على مذهب السلف، يغلب على الظن أنها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والله أعلم.
من شروحها:
اللآلئ البهية شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية، لأحمد بن عبد الله المرداوي الحنبلي، كان حياً سنة 1263ه. وهو شرح مطبوع. وقال في المقدمة ص3: (لما وقفت على أبيات عديدة جامعة للمسائل المتفق عليها عند السلف، مفيدة حاوية لأمهات مسائل الاعتقاد، تنسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكنت منذ زمن أتطلب لها شرحا جامعا، لأكون خلفه تابعا فلم أجد شيئا من ذلك)
والمؤلف لم يوقف له على ترجمة، والمرداوي نسبة إلى مردا، قرية قرب نابلس في فلسطين، وهي قرية خرج منها علماء كثيرون.
وشرحه هذا مفيد، لكن انتُقد عليه فيه أشياء.
وعليه تعليقات للشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى.
أما المعاصرون فشرحها جماعة منهم بشروح مطبوعة ومسموعة.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رُزق الهدى من للهداية يسأل
(يا سائلي) يا من يسألني سؤالا يطلب به الهدى.
(عن مذهبي وعقيدتي) المذهب هو: ما قاله المجتهد بدليل، ومات قائلا به. وهذا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة 1/533.
والمراد بقوله هنا: (مذهبي) أي المذهب العقدي، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، لأن هذا النظم في الاعتقاد، لا في الفقه، ولقرينة قوله: (وعقيدتي) أي ما اعتقد من أصول الدين، التي دل عليها الكتاب والسنة، على فهم سلف الأمة.
والعقيدة: ما يعقد عليه القلب، ويجزم به، من غير شك([4]).
وظاهر هذا البيت أن شيخ الإسلام سأله سائل عن عقيدته فأجابه بهذه الأبيات، وهذا يرد كثيراً، فقد يُسأل العالم عن اعتقاده فيجيب برسالة يبين فيها ما يعتقده مما عليه السلف، ثم تنتشر وينتفع بها الناس.
(رزق الهدى من للهداية يسأل) هذا دعاء من الشيخ رحمه الله تعالى لمن يسأل سؤال هداية واسترشاد فغرضه من السؤال العلم، وحصول الفائدة له، فدعا له الشيخ أن يرزقه الله الهدى، أي الهداية، والهداية على قسمين: هداية دلالة وإرشاد، وهي العلم النافع، وهداية توفيق وإلهام، وهي العمل الصالح.
قال الناظم:
اسمع كلام محققٍ في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل
هذا فيه أمر للسائل وتنبيه له بأن يسمع ما سيرد عليه في هذه المنظومة من كلام محقَّق، والمحقِّق هو الذي يثبت المسألة بدليلها([5]). ولا شك أن هذه المنظومة فيها تحقيق لعقيدة السلف الصالح في المسائل التي ذكرها رحمه الله تعالى، وأدلتها من الكتاب والسنة ظاهرة.
وما كان كذلك فإن يقين لا شك فيه، ولا تردد.
(لا ينثني عنه) أي لا يرجع عنه قائله (ولا يتبدل) أي ولا يبدله بغيره، بل هو ثابت عليه، كيف لا، وهو اعتقاد السلف الصالح، وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة.
وفي نسخة: (ولا يتحوَّل) والمعنى لا يختلف.
قال الناظم:
حُبُّ الصحابة كلِهم لي مذهبٌ ومودة القربى بها أتوسل
الصحابة جمع صحابي، والصحابي عرَّفه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة الإصابة في تمييز الصحابة 1/158 بقوله: (وأصحّ ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابيّ: من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام)
ومعنى البيت أن حُبَّ جميع الصحابة الكرام y مما أذهب إليه وأعتقده، وذلك لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، فأهل السنة والجماعة يحبون ويوالون جميع الصحابة y؛ لما لهم y من القدر العظيم، والمكانة العالية، أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابة العزيز، ورضي عنهم، وتاب عليهم، ووعدهم الحسنى، فقال سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وقال جل شأنه: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
والقرن الذي عاش فيه الصحابة رضي الله عنهم، خير قرون هذه الأمة على الإطلاق، فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون عن دينه) رواه الإمام أحمد([6]).
ولرفعة قدر الصحابة رضي الله عنهم، ومكانتهم وسابقتهم، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم والقدح فيهم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه. فأعمالهم وإن قلَّت، أعظم أجراً عند الله تعالى، من أعمال غيرهم مهما عظمت، وما ذاك إلا لكمال إيمانهم وتصديقهم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلَمَقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة) رواه ابن أبي عاصم في السنة([7]).
وقد ورد الوعيد الشديد، فيمن يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يطرده الله تعالى من رحمته، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من لعن أصحابي» رواه الترمذي.
والطعن في الصحابة y وانتقاصهم وعيبهم من علامات أهل البدع، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من انتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أبغضه لحدثٍ كان منه، أو ذكر مساوئه كان مبتدعاً، حتى يترحم عليهم جميعاً، ويكون قلبه لهم سليماً).
كما أن أهل السنة والجماعة يكفون عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الفتن، ولا يلوكون ألسنتهم بذكر شيء من ذلك، وإنما ينشرون محاسنهم، ويذيعون بين الناس فضائلهم، قال العوام بن حوشب([8]) رحمه الله تعالى: (اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأتلف عليهم القلوب).
وإنما نهى السلف الصالح عن الخوض فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، لأن ذلك ذريعة إلى القدح والطعن في بعضهم، وقد ابتلينا في هذا الزمان، بمن يقص على الناس ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الحروب والفتن، وينشرون ذلك عبر الوسائل المختلفة، ونشر ذلك بين الناس والاستماع إليه مخالف لاعتقاد السلف الصالح.
(ومودة القربى) أي محبة قرابة النبي r (بها أتوسل) أي بهذه المحبة لآل بيت النبي r أتقرب إلى الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي: تحسنوا إليهم وتبروهم. وهذا أحد الأقوال في تفسير الآية، قال به سعيد بن جبير رحمه الله تعالى([9]).
وعن زيد بن أرقم t قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا([10]) بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ([11]): أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ... رواه البخاري 3712.
وقال عمر للعباس رضي الله عنهما: (فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم) رواه الطبراني في المعجم الكبير 7264، وصححه الألباني في الصحيحة 3341 بطرقه وشواهده.
قال ابن كثير في تفسيره 7/202 بعد ذكر هذين الأثرين عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (فحال الشيخين، رضي الله عنهما، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك؛ ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين، رضي الله عنهما، وعن سائر الصحابة أجمعين).
وعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ» رواه البخاري 3713.
ومعنى: (ارقبوا محمدا) احفظوه (في أهل بيته) فلا تسبوهم ولا تؤذوهم.
ويدخل في آل النبي r أزواجه رضي الله عنهن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ قال ابن كثير في تفسير هذه الآية 6/410: (وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح).
ثم قال (الذي لا يَشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، فإن سياق الكلام معهن)
وإذا كانت محبة آل بيت النبي r مشروعة ومأمور بها، كانت محبتهم عبادة يتوسل بها المرء إلى ربه، أي يتقرب بها إلى ربه جل وعلا، ويشرع أن يتوسل بها في دعائه، فيقول مثلا: اللهم بمحبتي لصحابة نبيك r وآل بيته أعطني كذا. فهذا من التوسل المشروع، ودل عليه حديث الثلاثة أصحاب الغار، الذين توسل كل واحد منهم في دعائه بعمل صالح عمله خالصا لوجه الله تعالى.
أما التوسل الممنوع فمنه التوسل بذوات الصالحين أو جاههم أو حقهم، كقول بعضهم: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحق فلان، فكل هذا من التوسل الممنوع، الذي يعد من البدع؛ لعدم الدليل عليه.
ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في التوسل، وهي قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.
وفي قوله: (حب الصحابة كلهم لي مذهب) هذا رد على الرافضة الذي يبغضون أكثر الصحابة y، ويسبونهم ويلعنونهم، ويرون أنهم قد ارتدوا عن الإسلام إلا نفرا قليلا منهم.
وفي قوله: (ومودة القربى بها أتوسل) رد على النواصب الذين يبغضون آل البيت ويعادونهم.
فأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فهم يحبون جميع الصحابة رضي الله عنهم، ويحبون آل البيت، ولا يغلون في أحد منهم، ولا يرفعونه فوق منزلته، ولا ينتقصون أحداً منهم.
قال الناظم:
ولكلهم قدرٌ علا وفضائلُ لكنما الصديقُ منهم أفضلُ
في بعض النسخ: (ولكلهم قدر وفضل ساطعٌ) والمعنى واحد.
فالصحابة y لهم فضل عظيم، كما تقدم ذلك، ولكن أفضلهم الصحابي الجليل والصديق الأكبر، أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
اسمه عبد الله بن عثمان، وكنيته أبو بكر، وكنية أبيه أبو قحافه، ولقب بالصديق والعتيق، كان رضي الله عنه رجلاً نحيفاً خفيف اللحم أبيض يخضب لحيته بالحناء والكتم، وكان تاجراً يسافر في تجارته إلى الشام، وكانت التجارة أشرفَ مكاسب قريش.
وسبب تسميته بالصديق ما روته عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ ممَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. رواه الحاكم 4407، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة 306.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» رواه الترمذي 3661، وصححه الألباني.
وعَنْ أَنَسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ» رواه الترمذي 3664، وصححه الألباني.
وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ نزلت في أبي بكر.
وقال علي بن أبي طالب t وهو يخطب على المنبر: (أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، عُمَرُ) رواه الإمام أحمد 835، 837، وقال محققو المسند: إسناده صحيح.
قال الذهبي بعد هذا الأثر: (وهذا متواترٌ عَنْ عليّ رضي الله عنه، فقبّح الله الرافضة)([12])
قال السفاريني في لوامع الأنوار البهية 2/315: (وقد أجمع المسلمون أن المراد بقوله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40] أن الصاحب المذكور هو أبو بكر).
وعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا يُعَلِّمُونَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم 2325.
توفي t سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وعمره ثلاث وستون سنة، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها بوصية منه، وصلى عليه عمر t، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال.
ثم بعده في الفضل عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين([13])،
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي الجَنَّةِ» رواه الترمذي 3747، وصححه الألباني.
ثم بعد العشرة في الفضل أهلُ بدر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ثم بعدهم في الفضل الذين بايعوا تحت الشجرة، لقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» رواه مسلم.
قال الناظم:
وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو الكريم المنزل
أي وأقول معتقدا في مسألة القرآن العظيم ما ورد في الآيات أنه كلام الله عز وجل المنزل على نبيه محمد r، نزل به جبريل عليه السلام بعدما سمعه من الله جل جلاله بصوت وحرف، ثم سمعه محمد r من جبريل عليه السلام، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في القرآن العظيم. وكلام الله جل وعلا عند أهل السنة والجماعة قديم النوع حادث الآحاد.
ومعنى قديم النوع: أن الله لم يزل ولا يزال متكلما ليس الكلام حادثًا منه بعد أن لم يكن، ومعنى حادث الآحاد: أن آحاد كلامه أي: الكلام المعين المخصوص حادث؛ لأنه متعلق بمشيئته متى شاء تكلم بما شاء كيف شاء([14]).
وقد دل على إنزال القرآن الكريم عدة آيات، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ وروح القدس هو جبريل عليه السلام، وإذا كان روح القدس عليه السلام نزل بالقرآن من الله تعالى، علم أنه سمعه من الله عز وجل.
وأخبر سبحانه أن يُسمع ويُقرأ، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ وهو جبريل عليه السلام ﴿عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ وفي وصف جبريل عليه السلام بالأمين دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به، لا يزيد فيه ولا ينقص.
فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله يتكلم بحرف وصوت، كما جاء في حديث عَبْدَ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ t قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» رواه الترمذي 2910، وصححه الألباني.
ولفظ الصوت صحت به الأحاديث، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» قَالَ: «فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ، فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ، الْحَقَّ» رواه أبو داود 4738، وصححه الألباني.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/458: (وَيَلْزَمُ مِنْهُ) أي من نفي الصوت (أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُسْمِعْ أَحَدًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ كَلَامَهُ بَلْ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ ... وَإِذَا ثَبَتَ ذِكْرُ الصَّوْتِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ ...).
وفي بعض النسخ: (فهو القديم)([15])
والأليق بمذهب شيخ الإسلام لفظ: (الكريم) وإن كان لفظ (القديم) يحمل على قدم النوع.
وفي بعض النسخ: (فهو الحكيم) وهذا لقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾
قال الناظم:
وأقول قال الله جل جلاله والمصطفى الهادي ولا أتأول([16])
أي وأقول في صفات الله عز وجل ما قال الله تعالى وما قال رسوله r، فأثبتها لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، ولا أتأولها.
كقول الله تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ وقوله سبحانه: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ وقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وقوله جل وعلا: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وغيرها.
ومن أقوال الرسول r في الصفات حديث: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» رواه البخاري 1145، ومسلم 758.
وحديث: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» رواه مسلم 2654.
وحديث: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رواه الترمذي 1924، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وصححه الألباني.
فهذه الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله تعالى نثبت ظاهرها لله عز وجل على ما يليق به سبحانه، مع العلم بمعانيها، فلا نفوض المعنى، بل معاني الصفات معلومة في اللغة، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى لما سئل: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم ...، أي معلوم المعنى، وإنما التفويض يكون للكيفية، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
وأسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، يوقف فيها على ما في القرآن والسنة, فلا يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو سماه به رسوله r، ولا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله r، وهذه قاعدة من قواعد الأسماء والصفات، فلا يزاد في الأسماء والصفات ولا ينقص منها، وإنما يوقف فيها على النصوص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يسحقه تعالى من الأسماء والصفات، فوجب الوقوف في ذلك على النص، لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ولأن تسمية الله تعالى أو وصفه بما لم يسم به أو يصف به نفسه جناية في حقه سبحانه فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص([17]).
وقوله: (والمصطفى الهادي) المصطفى من أسماء النبي r، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري 6/558 قال: (ومن أسمائه المشهورة المختار والمصطفى والشفيع المشفَّع والصادق المصدوق وغير ذلك).
عن وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ t قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» رواه مسلم 2276.
والهادي من أسمائه، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/557: (ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق الشاهد المبشِّر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير وفيه أيضا المذَكِّر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزَّمِّل والمدَّثِّر).
والهادي أي الذي يهدي غيره، والمراد هداية الدلالة والإرشاد، قال الله تعالى عن نبيه r: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي تدل وترشد.
أما هداية التوفيق فليست إلا لله وحده، كما قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
وقوله: (ولا أتأول) أي لا أصرف ألفاظ النصوص عن المعنى الظاهر المتبادر منها إلى معنى آخر مرجوح، من غير دليل يدل عليه، فهذا هو التأويل الذي ذمه السلف.
وأهل البدع في باب الأسماء والصفات على أقسام: فمنهم من ينفي الأسماء والصفات، وهم الجهمية، ومنهم ما يثبت الأسماء وينفي جميع الصفات، وهم المعتزلة، ومنهم من يثبت الأسماء ويثبت بعض الصفات، وينفي ما عداها كالأشعرية، فإنهم يثبتون لله تعالى سبع صفات فقط([18]).
وأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وتحريف الكلام: أي تغييره، وهو إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى.
والغالب في باب الصفات أن التحريف يكون في المعنى، وهو أحد معاني التأويل، وهو صرف اللفظ عن المعنى الظاهر المتبادر منه إلى معنى آخر مرجوح، من غير دليل يدل عليه.
وهذا هو التأويل المذموم، وهو تحريف، فإن وجد دليل معتبر يدل على التأويل فهو تأويل محمود.
مثال التأويل المذموم قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، وأهل البدع يقولون: معنى ﴿اسْتَوَى﴾: استولى على العرش. وهذا منهم تأويل، حيث صرفوا اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر مرجوح بلا دليل، وحقيقته أنه تحريف للكلام.
ومثال التأويل المحمود قوله تعالى ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: 1]، فمعنى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾، أي سيأتي أمر الله، فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾.
والمراد بالتعطيل هنا نفي الصفات الإلهية، وإنكار قيامها بذاته تعالى، فينكر المعطل أن يكون لله تعالى يد، وينكر أن يكون له سمع، وهكذا، من غير أن يؤول الصفة إلى معنى آخر.
والتكييف للصفات أن يعتقد أن صفاته تعالى على كيفية كذا.
ومذهب السلف تفويض كيفية الصفات، فالله أعلم بكيفية صفاته، لأنه سبحانه أخبرنا بالصفات، ولم يخبرنا بكيفيتها.
وأما تفويض معنى الصفات فليس مذهب السلف، بل هو مذهب أهل البدع، وهم أهل التفويض، أي تفويض المعنى.
ومن الخطأ القول بأن التفويض هو مذهب السلف؛ كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم، فإن السلف لم يكونوا يفوضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرؤون كلاما لا يفهمون معناه؛ بل كانوا يفهمون معاني النصوص من الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل، ثم يفوضون كيفية الصفات.
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ مَالِكًا وَجَدَ مِنْ شَيْءٍ كَمَوْجِدَتِهِ مِنْ مَقَالَتِهِ ، وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ، يَعْنِي الْعَرَقَ قَالَ: وَأَطْرَقَ الْقَوْمُ ، وَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَأْتِي مِنْهُ فِيهِ ، قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْ مَالِكٍ ، فَقَالَ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُوَلٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا ، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ([19]).
وأما التمثيل؛ فهو اعتقاد أن صفات الخالق جل وعلا مثل صفات المخلوقين، كمن يقول: إن يد الخالق جل وعلا كيد المخلوق، ونزوله كنزول المخلوق، وهكذا، تعالى الله عن ذلك علواً عظيما.
وليس المراد من قول السلف في الصفات أنها تثبت من غير تكييف أنهم ينفون الكيف مطلقا؛ فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف؛ إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه.
قال الناظم:
وجميع آيات الصفات أمرُّها حقاً كما نقل الطراز الأول
اشتهر عن السلف في آيات الصفات قولهم: "أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف".
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بما دلت عليه آيات الصفات وأحاديث الصفات من إثبات الصفة لله عز وجل حقيقة، مع الإيمان بما لها من المعاني المعروفة في لغة العرب، لكن بلا تكييف للصفة، بل يفوضون الكيفية، يقولون: الله أعلم بكيفية الصفة، أما المعنى فهو معلوم، فمثلا: قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ يثبتون لله تعالى صفة الإتيان، على ما يليق به سبحانه، لكن لا يعلمون كيفية الإتيان، أما معنى الإتيان في لغة العرب فهو معروف.
وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ اليد معلوم معناها في اللغة، فيثبت أهل السنة والجماعة صفة اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، لكن لا يعلمون كيفية اليد.
وهذا الإثبات للصفات عند أهل السنة من غير تشبيه بصفات المخلوق، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
فأهل السنة والجماعة يمرون آيات الصفات حقا كما نقل الطراز الأول، وهم سلف هذه الأمة من الصحابة y والتابعين وتابعيهم بإحسان، ومنهم الأئمة الأربعة وأئمة الهدى من أصحاب الكتب الستة وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال الناظم:
وأردُّ عهدتها إلى نقّالها وأصونها عن كل ما يُتخيل
أي أرد العهدة في نقل هذه النصوص المتضمنة للصفات إلى مَن نقَلَها من الثقات الأثبات، وأحميها عن كل ما يُتخيل بالبال، أو يخطر بالخيال من تكييفها، فما يَرِد بالبال أن صفات الله تعالى على كيفية كذا فالله جل جلاله على خلاف ذلك.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
([1]) تنبيه: هذا الشرح مستفاد من بعض شروح هذه الرسالة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.
([2]) ينظر في ترجمته: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 4/491- 529، والبداية والنهاية لابن كثير 18/295.
([3]) ينظر: مجلة الحكمة العدد 14، ص317، وتحقيق خالد الحيان للامية شيخ الإسلام.
([4]) قال البعلي في المطلع ص499: (الاعتقاد: من أفعال القلوب، وهو "افتعال" من عقد القلب على الشيء: إذا لم يزل عنه، وأصل العقد: ربط الشيء بالشيء، فالاعتقاد: ارتباط القلب بما انطوى عليه ولزمه).
([5]) التحقيق: إثبات المسألة بدليلها. ينظر: حاشية الروض لابن قاسم 1/9.
([6]) قال الألباني في تحقيق الطحاوية ص470: حسن موقوفاً.
([7]) وقال الألباني في ظلال الجنة ص: صحيح.
([8]) وصفه الذهبي بالإمام المحدث، روى عن مجاهد والنخعي، وذكره أحمد فقال: ثقة ثقة. توفي سنة 148هـ. انظر سير أعلام النبلاء (6/354).
([9]) ينظر الأقوال في تفسير الآية في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى.
([10]) قال النووي في شرح مسلم 15/179: (هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم وهو اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الحسنة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة فيقال غدير خم).
([11]) قال النووي في شرح مسلم 15/180: (سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما وقيل لثقل العمل بهما).
([12]) تاريخ الإسلام 2/138.
([13]) ينظر للفائدة: الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري ت: 694ه.
([14]) شرح لمعة الاعتقاد للشيخ ابن عثيمين ص74.
([15]) وفي النسخة التي ذكرها الشيخ البليهي: (فهو الحكيم).
([16]) هذا البيت سقط من القصيدة في بعض النسخ.
([17]) انظر: القواعد المثلى لابن عثيمين ص16.
([18]) وهي التي ذكرها السفاريني في الدرة المضية: (له الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم واقتدر).
([19]) رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/441.