الدليل

2025-11-19 13:24:38

شرح الأربعين النووية لبرنامج دليل الأحاديث من 4-7 المجلس الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد.

الحديث الرابع:

 عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث أصل في باب القدر، والخوف من سوء الخاتمة.

   قوله: "وهو الصادق المصدوق": هو الصادق: يعني الذي يأتي بالصدق، وحقيقة الصدق: الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضده وهو الإخبار بما يخالف الواقع.

الصادق أي الصادق فيما أَخبر به. المصدوق فيما أُخبر به، أي أنه مُخبَر بالصدق.

وهذه الجملة (الصادق المصدوق) مؤكدة لقوله: (حدثنا رَسُولُ اللهِ). لأن من اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.

وقول ابن مسعود t هنا "وهو الصادق المصدوق" هذا من التهيئة لما سيأتي بعده، فإن الحديث تضمن الإخبار عن أمور غيبية، وهي أطوار الجنين، والتي لا تدرك بالحس والتجربة في ذلك الزمان، لعدم تقدم الطب، وإنما تدرك بالتسليم بخبر الصادق، بل فيها ما لا يدرك حتى بعلم الطب الحديث، وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد.

ففيه أن العالِم ينبغي له أن يقدم بين يدي كلامه الذي قد يُشكل على المتعلم ما يكون أدعى لقبوله.

(إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة) أي نطفة من المني.

(ثم يكون علقة مثل ذلك) يعني أربعين يوما، والعلقة قطعة من دم. فينتقل من طور النطفة شيئا فشيئا حتى يصل إلى طور العلقة.

(ثم يكون مضغة مثل ذلك) يعني أربعين يوما والمضغة قطعة من لحم، بقدر ما يمضغه الإنسان.

 (ثم يُرسَل إليه الملك) أي يرسل الله إلى هذا الجنين بعد تمام مائة وعشرين يوما ملَكا من الملائكة.

(فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)

فهذا الحديث يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوما في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوما منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المائة وعشرين يوما ينفخ فيه الملَك الروح ويكتب له هذه الأربع الكلمات.

 وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى (يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة . . .) وذكر هذه الأطوار الثلاثة النطفة والعلقة والمضغة.

ويتعلق بهذا الحديث مسائل من الفقه:

منها: أن الجنين إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، بل ذكر بعض الفقهاء أنه تشرع تسميته والعق عنه.

وإن كان سقوطه قبل نفخ الروح فيه فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويدفن في حفرة في المقبرة العامة.

ومنها أن سقوط الجنين إن كان بعد التخليق انتهت به عدة المرأة الحامل، وإن كان غير مخلق فلا تنتهي به العدة.

ومنها أن سقوط الجنين إن كان مخلقا فالدم الذي ينزل مع المرأة يكون دم نفاس يمنعها من الصلاة والصوم والجماع، وإن كان الجنين غير مخلق فالدم الذي ينزل معها ليس نفاسا، بل دم فساد، حكمه حكم الاستحاضة، فلا يمنعها من الصلاة والصوم والجماع.

وهل يجوز إسقاط الجنين (الإجهاض)؟ هذا يختلف فيه الحكم باختلاف الأطوار، وقد صدر بذلك قرار هيئة كبار العلماء، والذي جاء فيه:

(فإن مجلس هيئة كبار العلماء يقرر ما يلي:

1-        لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدا.

2-        إذا كان الحمل في الطور الأول وهي مدة الأربعين وكان في إسقاطه مصلحة شرعية أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه.

أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولاد أو خوفا من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدى الزوجين من الأولاد فعير جائز.

3-        لا يجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه، بأن يخشى عليها الهلاك من استمراره فيجوز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.

4-        بعد الطور الثالث وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل لا يحل إسقاطه حتى يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته.

وإنما رخص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعا لأعظم الضررين وجلبا لعظمى المصلحتين.

والمجلس إذ يقرر ما سبق يوصي بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر)([1]).

ومن مسائل هذا الحديث أن عِلْم ما في الأرحام مختص بالله جل وعلا، كما قال سبحانه: (ويعلم ما في الأرحام) وفي هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُرسَل الملَك فيؤمر بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل هذا من العلم الذي اختص الله به.

وأما ما وُجد في الطب الحديث من العلم بنوع الجنين هل هو ذكر أو أنثى، فهذا لا يعارض الآية؛ لأن علم أهل الطب لا يكون ابتداءً، بل لا يتمكنون من ذلك إلا بعد مضي مدة من الحمل، وذلك بتعليم الله تعالى لهم، وما هيأ لهم من الأسباب في ذلك، وعلمهم بذلك ليس قطعيا، ولو كان قطعيا فإنه محدود بكون ذكراً أو أنثى، فإن قوله تعالى: (ويعلم ما في الأرحام) يعم العلم بكونه ذكرا أو أنثى، وبرزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وتفاصيل هذا العلم لا يمكن للمخلوق العلم به. 

 (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه . . .) إلى آخر الحديث.

أي إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ففي قلبه دسيسة سوء، من حب محمدة على عمله أو طلب رئاسة ونحو ذلك، فأصل عمله ليس بصالح، وإن كان في الظاهر للناس أنه صالح، فآل به الأمر إلى خاتمة السوء عياذا بالله تعالى.

وإلا فإن من استقام على أمر الله تعالى ظاهر وباطنا فإن الله تعالى أكرم من أن يخذل عبده المؤمن، بل يحفظه الله تعالى في آخر عمره، ويحسن خاتمة بلطفه وإحسانه.

وفي الصحيحين عن سهل بن سعد t أن النبي  صلى الله عليه وسلم الْتَقى هو والمشركون وفي أصحابه رجل لا يدع شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  هو من أهل النار فقال رجل من القوم أنا أصاحبه فأتبعه فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال أشهد أنك رسول الله وقص عليه القصة فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) زاد البخاري في رواية: إنما الأعمال بالخواتيم.

وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة.

وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك مكتوب في الكتاب السابق، ومن هنا اشتد خوف السلف من سوء الخاتمة، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا. قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق.

ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ لأن دسائس السوء توجب سوء الخاتمة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقيل له يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا فقال (نعم إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء) خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه.

الحديث الخامس:

 عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.

هذا الحديث أخرجه البغوي في شرح السنة 1/211 بإسناده بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».

هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو أصل في رد البدع والمحدثات.

وهو مع حديث (إنما الأعمال بالنيات) يدلان على شرطي قبول العمل، فحديث الأعمال بالنيات دليل لإخلاص العمل، وهذا الحديث دليل للمتابعة للشرع.

فكل عمل لا يكون عليه أمر الله تعالى ورسوله r فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل ورسوله r فليس من الدين في شيء، وهذا دل عليه الحديث بمنطوقة.

وفي معنى هذا الحديث من القرآن الكريم قول الله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وقوله سبحانه: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

ودل هذا الحديث بمفهومه على أن كل عمل عليه أمر الله تعالى فهو مقبول غير مردود.

والمراد بأمره ههنا دينه كما جاء في الرواية الأخرى: (من أحدث في ديننا . . .) وكقوله تعالى: (فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)

وقوله: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا)

العمل قد يكون عبادة وقد يكون معاملة.

والذي يهمنا في هذا الحديث العمل الذي هو عبادة، أي من عمل عملا يتدين به، سواء أكان فعلا أم قولا أم اعتقادا ليس عليه أمر الله تعالى ورسوله r فهو مردود.

فما كان منها غيرُ مشروع أن يُتعبد به أصلا فهذا لا شك في رده، كمن يتعبد بالغناء والرقص، كما يفعل المبتدعة من أهل التصوف.

ومن العبادات ما هو مشروع في عبادة خاصة دون غيرها، كالقيام، فهو مشروع في الصلاة، وليس مشروعا لمن يستمع إلى الخطبة.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» رواه البخاري 6704.

 فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها.

وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقا للشريعة في أمور ستة: سببه، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.

فإذا لم يوافق الشريعة في هذه الأمور الستة فهو باطل مردود، لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه.

أولا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سببا مثل: أن يقرأ سورة الفاتحة عند عقد النكاح، فقراءتها في الأصل عبادة، لكن لما قرنها بسبب لم يجعله الله تعالى سببا - وهو عقد النكاح - صارت بدعة مردودة.

ثانيا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الجنس، فلو تعبد لله بعبادة لم يُشرع جنسها فهي غير مقبولة، مثال ذلك: لو أن أحدا ضحى بفرس، فإن ذلك مردود عليه ولا يقبل منه، لأنه مخالف للشريعة في الجنس، إذ إن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي: الإبل، والبقر، والغنم.

أما لو ذبح فرسا ليتصدق بلحمها فهذا جائز، لأنه لم يتقرب إلى الله بذبحه وإنما ذبحه ليتصدق بلحمه.

ثالثا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في القدْر: فلو تعبد شخص لله عز وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، ومثال ذلك: رجل توضأ أربع مرات أي غسل كل عضو أربع مرات، فالرابعة لا تقبل، لأنها زائدة على ما جاءت به الشريعة، بل قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا وقال: من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم.

رابعا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الكيفية: فلو عمل شخص عملا، يتعبد به لله وخالف الشريعة في كيفيته، لم يقبل منه، وعمله مردود عليه.

ومثاله: لو أن رجلا صلى وسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة، لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.

وكذلك لو توضأ منكسا بأن بدأ بالرجل ثم الرأس ثم اليد ثم الوجه فوضوؤه باطل، لأنه مخالف للشريعة في الكيفية.

خامسا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الزمان: فلو صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فالصلاة غير مقبولة لأنها في زمن غير ما حدده الشرع.

ولو ضحى قبل أن يصلي صلاة العيد لم تقبل لأنها لم توافق الشرع في الزمان.

سادسا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في المكان: فلو أن أحدا اعتكف في غير المساجد بأن يكون قد اعتكف في البيت، فإن اعتكافه لا يصح لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف، فالاعتكاف محله المساجد.

فهذه أمور ستة ينبغي مراعاتها ليكون العمل مشروعا.

ومما يتعلق بهذا الحديث أيضا أن من فعل عبادة مشروعة في الأصل، والتزم بها عددا أو هيئة أو زمانا أو مكانا مخالفا للسنة صار عمله بدعة، والمقصود أن يلتزم ذلك، لا أن يقع منه ذلك أحيانا، مرة أو مرتين ونحو ذلك، فهذا يقال في حقه خالف السنة، أما من يلتزم فقد ابتدع.

ومن أمثلة ذلك: من يلتزم ذكرا أو دعاء معينا كل يوم صباحا ومساء، مما لم يرد في الشرع أنه من أذكار الصباح والمساء، فهذا الذكر أو الدعاء وإن كان في أصله مشروعا، إلا أن التزام الإتيان به كل يوم في الصباح والمساء يجعله بدعة، لعدم الدليل على هذا التخصيص.

لكن لو أتى به مرة أو مرتين يعني من غير التزام فيقال هذا خلاف السنة، ولا يقال بدعة.

الحديث السادس:

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله e يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمي ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه البخاري ومسلم.

هذا من الأحاديث الجوامع.

وتقدم قوله الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث حديث عمر t: إنما الأعمال بالنيات. وحديث عائشة رضي الله عنها: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: الحلال بيّن والحرام بيّن.

وذلك أن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

فقوله r: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)

معناه أن الحلال المحض بيِّن لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض بيِّن لا اشتباه فيه، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك ويعلمون من أي القسمين هي.

فتكون الأحكام في هذا الحديث ثلاثة:

1- الحلال المحض: مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام وشرب الأشربة الطيبة ولباس ما يحتاج إليه من القطن والصوف وغير ذلك، إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع أو بميراث أو هبة.

2- الحرام المحض مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر ولباس الحرير للرجال، ومثل الاكتساب المحرم كالربا والميسر، وأخذ الأموال بسرقة أو غصب ونحو ذلك.

3- المشتبه: وهو ما اشتبه على المرء حكمه، هل هو حلال أو حرام، كما لو اشتبه عليه حكم المال أو العقد هل هو حلال أو حرام، أو اشتبه عليه حكم امرأة هل يحل له نكاحها أو لا؟ كما لو جرى كلام أن بينهما رضاع، ولم يثبت ذلك بوضوح فيكون أمرها مشتبها عليه. فهذا يطلب المرء فيه البراءة لدينة.

ويدخل في المشتبه ما توقف فيه العلماء من المسائل المشكلة كالنوازل مثلا، حتى يكتمل النظر فيها ويظهر الحكم الشرعي لهم، فمدة التوقف تكون فيها المسألة من المشتبه.

ويدخل في المشتبه على أهل العلم، هل صح الدليل في هذه المسألة أو لا؟ وإذا صح فيرِد الاشتباه من جهة هل دل على الحكم أو لا دلالة فيه عليه؟

ولو صح الدليل، وكانت دلالته على الحكم مسلَّمة فقد يرِد الاشتباه أيضا في محل الحكم، من جهة هل هذه المسألة الواقعة بعينها داخلة فيما دل عليه هذا الدليل أو لا؟ فكل هذا داخل في المشتبه.

وهذه المشتبهات لا بد أن يوجد في الأمة من أهل العلم من يعلم حكمها؛ لأن هذه المشتبهات لو كان لا يعلمها أحد لم يكن القرآن تبيانا لك شيء، ولبقي شيء من الشريعة مجهولا لكل الناس، وهذا ممتنع شرعا.

وقوله: (لا يعلمهن كثير من الناس) إما لقلة علمهم، وإما لقلة فهمهم، وإما لتقصيرهم في البحث والنظر، وإما لسوء قصدهم، فهذه أربعة أسباب لاشتباه المسائل.

والحكمة – والله أعلم – من وجود المسائل المشتبهة.

أن يتبين طالب العلم الجاد في البحث عن الحق، ولو كلفه ذلك الجهد والتعب، فيعظم أجره، ويزداد علمه.

ولأجل أن يتميز أهل الورع من غيرهم، فأهل الورع يتركون المشتبهات، وغيرهم لا يبالي بالوقوع فيها.

(فمن اتقى الشبهات) أي تجنبها.

(فقد استبرأ لدينه) أي طلب البراءة والسلامة لدينه فيما بينه وبين الله تعالى.

(وعرضه) فيما بينه وبين الناس، فإن الناس إذا رأوا من يقع في المشتبه ربما كانوا يعتقدونه حراما فيقعون في عرض من فعله، بأنه يفعل الحرام، فتركُ المشتبه فيه البراءة لعرضه وسلامته من كلام الناس فيه.

وينبغي أن يُتنبه إلى أن الأمر بترك المشتبهات مشروط بأن يقوم الدليل على وجود الشبهة، أما إذا لم يقم دليل على وجود الشبهة فإنه لا تتقى، لأنه من التعمق في الدين المنهي عنه. بل قد يفتح باب الوساوس على المرء.

مثال ذلك: أن الأصل فيما ذبحه المسلم أنه يحل أكله، ولا يقال إنه يحتمل أن يكون قد تَرَك التسمية عليها، فيكون مشتبها فيترُك أكله.

بل يقال: ترك أكله في مثل هذا الحال من التنطع، والتعمق المنهي عنه، ويدل لهذا:

ما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنه أن قوما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سموا أنتم وكلوا) قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.

ومن أمثلة المشتبه: أن يقع على ثوب الإنسان أثر ولا يدري أنجاسة هو أم لا؟

يُنظر: إذا كان هناك احتمال أن تكون نجاسة فإنه يتجنبه، وكلما قوي الاحتمال قوي طلب الاجتناب، وكلما ضعف احتمال كونها نجاسة ضعف طلب الاجتناب، وإذا لم يكن هنا احتمال النجاسة فلا يلتفت إليها.

فالقاعدة: أنه إذا وجد احتمال الاشتباه فهنا إن قوي قوي تركه، وإن ضعف ضعف تركه، ومتى لم يوجد احتمال أصلا فإن تركه من التعمق في الدين المنهي عنه.

(ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام) المعنى: أن فعل ما هو مشتبه من الأحكام ذريعة إلى فعل الحرام، وليس المراد أن من فعل المشتبه فقد فعل حراما؛ بدليل المثال الذي ذكره النبي r وهو قوله:

(كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)

أي كالراعي للإبل والغنم الذي يَرعى حول الحمى، وهو المكان المحمي الذي يُمنع الناسُ من الرعي فيه، كما لو حُمي موضع لإبل الصدقة، فالراعي حول هذا الحمى يوشك أن يقع فيه، لأن البهائم إذا رأت هذه الأرض المحمية وما فيها من العشب فسوف تدخل في الحمى، ويصعب منعها، فكذلك المشتبهات إذا فعلها العبد فقد قارب الحرام، فيوشك أن يقع في الحرام البين، لأنه يصعب عليه أن يكف نفسه عنه حينئذ.

وفيه دليل لقاعدة: سد الذرائع، أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم يجب أن تسد؛ لئلا يقع في المحرم.

وقاعدة سد الذرائع دلت عليها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قول الله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)

فنهى عن سب آلهة المشركين لأنها ذريعة إلى سب الله تعالى، مع أن سب آلهة المشركين سب بحق.

وفي الحديث حُسْنُ تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بضرب المثَل الحسي لتقريب المعنى، كما هي طريقة القرآن الكريم، قال الله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)

(ألا وإن لكل ملك حمى) ألا: أداة استفتاح، تفيد التنبيه، و (إنّ) تفيد التوكيد.

والمراد بيان الواقع، وأن كل ملك يكون له موضع يحميه، وليس المقصود بيان الحكم الشرعي؛ لأن الحمى قد يكون بحق فيكون جائزا، وقد يكون بباطل فيكون حراماً.

(ألا وإن حمى الله محارمه)

أي أن حمى الله ما حرم الله عليك، فلا تقربها؛ لأن محارم الله كالأرض المحمية للملِك لا يدخلها أحد.

(ألا وإن في الجسد مضغة) أي: في جسد الإنسان مضغة، وهي قطعة صغيرة من اللحم، بقدر ما يمضغه الإنسان عند الأكل.

(إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)

أي أن القلب إذا صلح صلح الجسد كله؛ لأن القلب هو الذي يأمر الجوارح، فإذا صلح لم يأمرها إلا بالصلاح، وإذا فسد القلب فسد الجسد؛ لأن القلب يأمره بالفساد.

وفيه الرد على العصاة الذين إذا نُهوا عن المعاصي احتجوا بحديث: (التقوى هاهنا) وأشار إلى القلب.

فيُردُّ عليهم بهذا الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة . . .) أي إذا اتقى ما هاهنا وهو القلب اتقت الجوارح بالعمل بالطاعة وترك المعصية.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ

عَنْ أبي رقية تَمِيمٍ بن أوس الداري t أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أخرجه مسلم (55) بهذا اللفظ.

أما زيادة (ثلاثا) فقد جاءت عند الإمام أحمد 16942 بلفظ: (إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ثَلَاثًا).

وعند أبي داود 4944 بلفظ: (إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . . .) وصححه الألباني.

 

هذا الحديث وُصف بأنه أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه، ووُصف بأنه أحد أرباع الدين.

(الدين النصيحة) الدين: مبتدأ. والنصيحة خبر، وكلٌ من المبتدأ والخبر معرفة. وهذا يعد من طرق الحصر عند علماء البلاغة.

فقوله: الدين النصيحة مثل قوله: ما الدين إلا النصيحة.

وأبهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكون النصيحة من أجل أن يستفهم الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، لأن وقوع الشيء مجملا ثم مفصلا من أسباب رسوخ العلم، لأنه إذا أتى مجملا تطلعت النفس إلى بيان هذا المجمل، فيرسخ في الذهن أكثر مما لو جاء البيان من أول مرة.

ومعنى النصيحة: قال ابن الأثير في النهاية مادة (نصح): (النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ، هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ).

(الدِّينَ النَّصِيحَةُ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا.

(قلنا: لمن يا رسول الله؟): اللام في (لمن) هي لام الاستحقاق، أي من يستحقها؟ فجاء الجواب أن النصيحة مستحقة لله ولكتابه . . . إلخ

فَمَعْنَى النَّصِيحَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ: إخلاص العبادة له جل وعلا، وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ومحبته واتباع أمره واجتناب نهيه.

والنصيحة لله عز وجل منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، فالواجب كما تقدم، والمستحب اتباع أمر الله تعالى في المستحبات، واجتناب ما نهى الله عنه من المكروهات، فهو من النصيحة المستحبة لله عز وجل.

وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ، واعتقاد أنه كلام الله تعالى، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وتصديق أخباره، وردُّ الشبه المثارة حوله وتحريفِ أهل الباطل فيه، ونحو ذلك مما يدخل في النصيحة الواجبة لكتابه الله تعالى.

ومن النصيحة المستحبة لكتابه الله عز وجل أن يكثر من تلاوته مع التدبر والتفكر في آياته ونحو ذلك من الحق المستحب للقرآن الكريم.

وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ r: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وطاعته فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَاجتناب ما نَهَى عَنْهُ، وتعظيمُ سنته والدفاع عنها، وبيان صحيحها من سقيمها، وتقديم محبته على ما يحبه العبد.

وهي منقسمه أيضا كما تقدم إلى نصيحة واجبة ومستحبة.

وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحُبُّ صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَنشرُ محاسنهم، لما يُرجى من تأليف القلوب عليهم، والكفُ عن سبهم أو نشرِ معايبهم، لما يخشى من تأليب الناس عليهم.

وامتثال طاعة ولاة الأمر عبادة، وليست مجرد سياسة، بدليل أن الله تعالى أمر بها فقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وما أمر الله تعالى به فهو عبادة.

ويتعلق بالنصيحة لولاة أمور المسلمين عدة أمور، منها:

أولاً: أن تكون النصيحة لهم في السر لا علانية، لأن الأصل في النصيحة لكل مسلم أنها تكون سرا، قال بعض السلف: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَهِيَ نَصِيحَةٌ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَإِنَّمَا وَبَّخَهُ.

وَقَالَ الْفُضَيْلُ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.

ويتأكد هذا في حق ولي الأمر؛ لورود السنة والآثار بأن نصحه يكون سرا لا علنا.

فعن عياض بن غنم t أن النبي r قال: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ)([2]).

وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما – لما قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمَه. فقال: أَتُرَون أني لا أكلمه إلا أُسْمِعُكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه([3]).

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في شرح هذا الأثر في إكمال المعلم: (وفيه التلطف مع الأمراء، وعَرض ما يُنكَر عليهم سراً، وكذلك يلزم مع غيرهم من المسلمين ما أمكن ذلك، فإنه أولى بالقبول وأجدر بالنفع، وأبعد لهتك الستر وتحريك الأَنَفة)([4]).  

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَلَت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: آمُرُ إمامي بِالْمَعْرُوفِ؟ قَالَ: إِنْ خشيت أَنْ يَقْتُلَك فَلاَ، فَإِنْ كُنْتَ ولاَ بُدَّ فَاعِلاً فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وزاد أبو عوانة: ولا تَغْتَبْ إمامك([5]). أخرجه سعيد بن منصور في سننه.

ويدخل في وجوب النصيحة سرا نواب ولي الأمر؛ لما يلي:

  1. أن الصحابي عياض بن غنم رضي الله عنه راوي حديث: (من أراد أن ينصح . . .) فَهِم منه أنه لا يختص بالوالي الأعظم، بل يدخل فيه من دونه من أصحاب الوِلايات؛ لأنه استدل بهذا الحديث على هشام بن حكيم رضي الله عنه في عدم إخفاء النصيحة له، مع كون عياض رضي الله عنه حينذاك كان نائبا عن الوالي، ولم يكن الإمام الأعظم.

2-أن الإنكار العلني على أمراء الإمام الأعظم ونوابه، يؤول إلى الطعن فيهم، ومن ثَمَّ إلى الطعن في الإمام الأعظم؛ لأنه هو الذي ولاهم وارتضاهم، والطعن في ولاة الأمر من أعظم أسباب الخروج عليهم بالسلاح.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (ثم إن قَتْل عثمان كان أشدُّ أسبابه الطعنَ على أُمرائه، ثم عليه؛ بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق)([6]).

وسئل سماحة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى: ما رأي فضيلتكم فيمن يُرَوِّج أن الإنكار على الحاكم إنما يمتنع فقط عن الإمام الأعظم دون نوابه، فنجده في المجالس يسترسل في غيبة ونقد الحكومة، بناءً على أنه لا ينتقد الملك وإنما الحكومة، وهو يوغر الصدور بذلك؟

 فأجاب: (هذا كلام لا يجوز، وهذا باطل، فإن نواب الإمام إنما لهم حرمتهم ومكانتهم، ويجب توقيرهم ومناصحتهم، لا نقول إنهم معصومون، فإذا كان عليهم ملاحظة حصل منهم خطأ فإنهم يناصحون سراً لا علانية وفي المجالس، إنما يناصحون سراً، ويبين لهم الخطأ الذي حصل، فإن قبلوا فالحمد لله، وإلا يكون أدى ما عليه مَن نَصَحهم، فلهم حكم الإمام؛ لأنهم نوابه، السمع والطاعة واحترامهم ومراعاة حرمتهم، وعدم الوقوع في أعراضهم)([7]).

ثانياً: مما يراعى في نصيحة ولي الأمر أنه ينبغي لمن نصح ولي الأمر ألا يتحدث بذلك عند الناس، وعلى هذا جرى العمل عند كثير من العلماء العاملين بعدم إشاعة ما يدور بينهم وبين ولاة الأمر عند نصيحتهم في السر، وذلك لأمرين:

1-خشية الناصح لولي الأمر من أن يداخله الرياء.

2-أن الناس إذا علموا أن ولي الأمر قد ناصحه العلماء، فلم يقبل نصحهم، وبلغهم ما دار بينهم وبينه من كلام، فإنهم سيزدادون بغضاً له، ويحصل بسبب ذلك إيغارٌ لصدورهم عليه، وهذه مفسدة قد تجُرُّ إلى ما هو أكبر منها([8]).

قال الشيخ حمد بن علي بن عتيق رحمه الله تعالى لمن اتهمه بعدم الإنكار على الوالي: (نفيك لإنكارنا رجم بالغيب، فإنه ليس من شرط الإنكار اطلاعك عليه)([9]).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (وعلى من رأى منهم - يعني الولاة - ما لا يحل أن ينبههم سرًا لا علنًا، بلطف وبعبارة تليق بالمقام، ويحصل بها المقصود، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمور، فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص.

واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أُخر معروفة)([10]).

 

وَأما النَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: فأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَحْزَنَ لِحُزْنِهِمْ، وَيَفْرَحَ لِفَرَحِهِمْ، وَيُحِبُّ صَلَاحَهُمْ وَإِلْفَتَهُمْ وَدَوَامَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ.

 

وبهذا يتبين أن هذا الحديث على اختصاره جامع لمصالح الدين والدنيا.

 

وَمِنْ أَنْوَاعِ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ - وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ – الرد على المخالفين من أنواع الكفار وأهل البدع والضلال، بالحجة والبيان، بأدلة الكتاب والسنة، وهو من أعظم أنواع الجهاد باللسان والقلم.

وكذا رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ضعفها.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

 

 

 

([1]) الفتاوى المتعلقة بالطب ص284.

([2]) أخرجه أحمد (24/49) برقم (15333) والبخاري في التأريخ الكبير (7/18، 19) وابن أبي عاصم في السنة برقم (1096) و (1097) و (1098) وغيرهم، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: (5/413) تحت باب النصيحة للأئمة وكيفيتها، ثم قال: (رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعا وإن كان تابعيا). ثم ذكر نحوه عن جبير بن نفير أن عياض بن غنم فذكره ثم قال: (ورجاله ثقات وإسناده متصل). وقال الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة ص523 بعدما تكلم على طرقه: (فالحديث صحيح بمجموع طرقه) واحتج به الشوكاني في السيل الجرار (4/527) وكذا احتج به سماحة الشيخ ابن باز كما في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (8/211) وصححه الشيخ عبد المحسن العباد كما في ردِّه على الرفاعي والبوطي ص22، وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الأربعين النووية ص471: (إسناده قوي، ولم يُصِب من ضعَّف إسناده، وله شواهد كثيرة) وانظر: معاملة الحكام ص143- 151 فقد أطال في الكلام على أسانيده، كما يشهد لهذا الحديث ما ثبت من آثار الصحابة y.

([3]) أخرجه البخاري برقم (7098) ومسلم برقم (2989) واللفظ لمسلم.

([4]) إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم (8/538) وبنحوه قال الأُبِّي في إكمال إكمال المعلم (7/298).

([5]) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (4/1657) برقم (846) وابن أبي شيبة (7/470) برقم (37296) والبيهقي في شعب الإيمان (10/73) برقم (7186) واللفظ لسعيد بن منصور، وقال محقق سنن سعيد بن منصور: سنده حسن لذاته.

([6]) فتح الباري (13/16).

([7]) لقاء مفتوح مع فضيلته بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتاريخ 11/7/1439ه، ينظر اللقاء بموقع الشيخ على الرابط: http://www.alfawzan.af.org.sa/ar/node/17724  الدقيقة (26).

([8]) سمعت معنى ذلك من الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى.

([9]) الدرر السنية (9/48).

([10]) الرياض الناضرة، ضمن مجموع مؤلفات الشيخ السعدي (22/98/ 99).

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله