شرح الأربعين النووية([1])
برنامج دليل
المجلس الأول 23/6/1446هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فأقدِّم بين يدي التعليق على الأربعين النووية بمقدمتين:
المقدمة الأولى: التعريف بالمؤلف([2]):
هو أبو زكريا محيي الدين يحيى بنُ شرف النووي الشافعي، الشيخ العلامة الحافظ الفقيه.
محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، ولد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة، ونشأ ببلده نوى، وكان يُتوسم فيه النجابة من صغره، وقرأ بها القرآن،
وَقَالَ شَيْخه الشَّيْخ ياسين بن يُوسُف الزَّرْكَشِيّ: رَأَيْت الشَّيْخ محيي الدّين وَهُوَ ابْن عشر سِنِين بنوى وَالصبيان يُكرهونه على اللّعب مَعَهم، وَهُوَ يهرُب مِنْهُم ويبكي لإكراههم، وَيقْرَأ الْقُرْآن فِي تِلْكَ الْحَال، فَوَقع فِي قلبِي حبه.
وَجعله أَبوهُ فِي دكان فَجعل لَا يشْتَغل بِالْبيعِ وَالشِّرَاء عَن الْقُرْآن قَالَ فَأتيت الَّذِي يقرئه الْقُرْآن فوصيته بِهِ وَقلت لَهُ هَذَا الصَّبِي يُرْجَى أَن يكون أعلم أهل زَمَانه وأزهدَهم وَينْتَفع النَّاس بِهِ فَقَالَ لي منجم أَنْت فَقلت لَا وَإِنَّمَا أنطقني الله بذلك فَذكر ذَلِك لوالده فحرص عَلَيْهِ إِلَى أَن ختم الْقُرْآن وَقد ناهز الِاحْتِلَام.
وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درسا على المشايخ شرحا وتصحيحا درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في أصول الفقه، تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب للرازي، ودرسا في أصول الدين.
قال: وكنت أعلق ما يتعلق بذلك من الفوائد.
أخذ العلم عن جماعة من الشيوخ، وبورك له في وقته رحمه الله.
وله مؤلفات نافعة، بارك الله فيها، وعم الانتفاع بها، منها: المجموع شرح المهذب، ولم يكمله.
ومن ذلك: شرح مسلم، جمع فيه مشروحات من تقدم من المغاربة وغيرهم، وزاد فيه ونقص، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، وكتاب المنهاج في الفقه اختصر فيه المحرر وزاد فيه ونقص، وكتاب الإرشاد، وكتاب التقريب والتيسير، وكتاب التبيان في آداب حملة القرآن، وكتاب المناسك، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وكتاب الأربعين.
وقد كان رحمه الله على جانب كبير من العلم والزهد والتقشف والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه، ولا قبله بدهر طويل.
توفي ليلة أربع وعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة، ودفن بنوى، وصلوا عليه بدمشق يوم الجمعة رحمه الله وإيانا.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى في مقدمة شرح الأربعين: وهو - رحمه الله - مجتهدٌ، والمجتهد يخطئ ويصيب، وقد أخطأ - رحمه الله - في مسائل الأسماء والصفات، فكان يؤول فيها لكنه لا ينكرها، وخطؤه في تأويل بعض نصوص الصفات مغمور بما له من فضائل ومنافع جمّة، ولا نظن أن ما وقع منه إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ - ولو في رأيه - وأرجو أن يكون من الخطأ المغفور، وأن يكون ما قدّمه من الخير والنّفع من السعي المشكور، وأن يصدق عليه قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
فالنووي نشهد له فيما نعلم من حاله بالصلاح، وأنه مجتهد، وأن كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ، إن أخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران. ا. ه. بتصرف يسير.
المقدمة الثانية: التعريف بالكتاب:
أملى الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى مجلسا سماه: الأحاديث الكلية، جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال إن مدار الدين عليها، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا.
ثم إن الحافظ النووي رحمه الله تعالى أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا، وسمى كتابه بالأربعين، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكثر حفظها، ونفع الله بها، ببركة نية جامعها، وحسن قصده رحمه الله تعالى.
ثم جاء الحافظ عبد الرحمن بن رجب رحمه الله تعالى فزاد عليها ثمانية أحاديث، فصارت خمسين حديثاً، شرحها في كتابه العظيم: جامع العلوم والحِكَم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم.
والأربعون النووية، التي جمعها النووي هي ليست أربعين، بل هي اثنان وأربعون، لكن على عادة العرب يحذفون الكسر في الأعداد فيقولون: أربعون. وإن زاد واحداً أو اثنين، أو نقص واحداً أو اثنين.
وأحاديث الأربعين النووية تتعلق بموضوعات متنوعة، فسيأتي معنا أن منها ما هو في العقيدة، ومنها ما هو في الأحكام، ومنها ما هو في السلوك والأخلاق وغير ذلك.
وينبغي لطالب العلم أن يحفظها ويعلم ما فيها من المعاني، بل هي مهمة لكل مسلم.
شروح الأربعين النووية:
مقدمة النووي للأربعين:
(الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، الكريم الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين، المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وآل كل وسائر الصالحين.
أما بعد:
فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات: أن رسول الله ﷺ قال: «من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله تعالى فقيها يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء».
وفي رواية: «بعثه الله تعالى فقيها عالما».
وفي رواية أبي الدرداء: «وكنت له يوم القيامة شافعا وشهيدا».
وفي رواية ابن عمر: «كتب في زمرة العلماء، وحشر في زمرة الشهداء». واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه.
وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، فأول من علمته صنف فيه: عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسوي، وأبو بكر الآجري، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، والحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابويي، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين.
وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثا؛ اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام، وحفاظ الإسلام، وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله ﷺ في الأحاديث الصحيحة: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» وقوله ﷺ: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها».
ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة رضي الله عن قاصديها.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة ومعظمها في "صحيحي البخاري ومسلم"، وأذكرها محذوفة الأسانيد؛ ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها.
وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث؛ لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره.
وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة).
تضمنت مقدمة المؤلف عدة أمور:
فإن الله سبحانه وتعالى قد اختص نبيه ﷺ بجوامع الكلم، كما في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ . . .» رواه البخاري 7013، ومسلم 523.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البخاري بعد هذا الحديث: "وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الكَلِمِ: أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الأُمُورَ الكَثِيرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الكُتُبِ قَبْلَهُ، فِي الأَمْرِ الوَاحِدِ، وَالأَمْرَيْنِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ "
فمعنى جوامع الكلم: أن يأتي بالكلمات القليلة، المشتملة على المعاني الواسعة، لكونها من القواعد الكلية في الشريعة.
وجوامع الكلم التي خُص بها النبي ﷺ نوعان:
أحدهما: ما هو في القرآن كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ قال الحسن رحمه الله تعالى: لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ولا شرا إلا نهت عنه.
والنوع الثاني: ما هو في كلامه ﷺ، وهو كثير في السنن المأثورة عنه ﷺ.
هذا الاتفاق غير مسلَّم؛ لوجود المخالف، فمن أهل العلم من لا يرى العمل بالضعيف مطلقاً،
والنووي -رحمه الله تعالى- على علمه وفضله فقد عُرف عنه التساهل في نقل الإجماع.
لكن العمل بالضعيف في فضائل الأعمال هو قول الجمهور بشروط يشترطونها، ألا يكون الضعف شديداً، وأن يندرج تحت أصل عام، وألا يعتقد عند العمل به ثبوته.
والشرط الأول غير متحقق في هذا الحديث لأن الضعف شديد، فدل على أنه لا يعمل به حتى عند من يرى العمل بالحديث الضعيف بشروط، ولهذا قال النووي رحمه الله تعالى: (ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله ﷺ في الأحاديث الصحيحة: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» وقوله ﷺ: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها»).
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في خاتمة هذه الرسالة بابا في ضبط الألفاظ المشكلة من هذه الأحاديث الأربعين، وبيان شيء من معانيها.
وأكثر طبعات الأربعين وشروحها لم تُذكر فيها هذه الخاتمة، وهي مفيدة، وقد الحقها محقق الفتح المبين بشرح الأربعين للهيتمي في آخر الكتاب.
قال المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث الأول
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الدين، وقد صدر البخاري رحمه الله تعالى كتابه الصحيح بهذا الحديث، وأقامه مقام الخطبة له، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا، ولا في الآخرة.
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: لو صنفت كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، حديث عمر: إنما الأعمال بالنيات، وحديث عائشة: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ، وحديث النعمان بن بشير: الحلال بين والحرام بيّن.
وجعله أبو داود ربع العلم، مع حديث: الحلال بين والحرام بين، وحديث: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وحديث: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وفي رواية عنه: حديث ازهد في الدنيا يحبك الله. بدل حديث: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوِّز المعافري الأندلسي:
عمدة الدين عندنا كلـمــاتٌ @ أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما @ ليس يعنيك واعملنَّ بنية
معنى قوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»:
فيه الحصر، وهو: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن «إنما» تفيد الحصر، وكذلك قوله ﷺ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
«الأعمال» جمع عمل، ويشمل عمل القلب وعمل اللسان، وعمل الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
وعمل اللسان وعمل الجوارح معروفة.
«النيات»: جمع نية وهي: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى الله تعالى.
ومحلها القلب.
وقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» الجملة الأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو الله جل وعلا، يعني هل أردت بعملك وجه الله تعالى أو للرياء والسمعة، وحظ من حظوظ الدنيا؟ ولهذا كان قوله ﷺ: «فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ...» دالاً على أن الجملة الثانية تتعلق بالإخلاص في العمل.
فمعنى قوله r: «إنما الأعمال بالنيات» أي: إنما الأعمال صحة وقبولًا أو فسادًا بسبب النيات، فالباء في قوله «بالنيات» للسببية، وعلى هذا فيكون المراد بالأعمال الأعمال الشرعية التي تفتقر إلى نية، فأما مالا يفتقر إلى نية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها أو مثل رَدّ الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية فيُخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ههنا.
فهذا العموم عموم مراد به الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
«وإنما لكل امرئ ما نوى» أي لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا بحسب ما نواه، فإن أراد وجه الله تعالى أثيب، وإن أراد الرياء أو عرضاً من الدنيا فهو آثم.
«وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
مسألة: النية في كلام العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا وتمييز صيام رمضان من صيام غيره.
أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره؟ وهذه هي النية التي يتكلم فيها علماء الاعتقاد في كتبهم عند كلامهم على الإخلاص وما يتعلق به.
التلفظ بالنية:
النية محلها القلب، ولا يُنْطَقُ بها إطلاقاً، لأن الله تعالى عليم بما في قلوب عباده.
ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها سرّاً.
وأما قول من أراد الحج أو العمرة: اللهم لبيك حجا، أو اللهم لبيك عمرة. فهذا ليس من التلفظ بالنية، لأنه لو أراد التلفظ بالنية لقال: اللهم إني نويت أن أحج، أو نويت أن أعتمر. فهذا تلفظ بالنية لا يجوز؛ لعدم الدليل عليه.
أما لبيك اللهم عمرة أو حجا فهذا ليس تلفظا بالنية، ثم إنه قد دلت السنة عليه، لقوله r: (أتاني آت من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) رواه البخاري.
مسألة: كلام السلف عن النية والإخلاص:
عن يحيى ابن أبي كثير قال: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
وعن زيد الشامي قال: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
وعن سفيان الثوري: قال ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي لأنها تنقلب علي.
وعن يوسف بن أسباط: قال تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وعن ابن المبارك قال: رُبَّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
وقال سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشقَ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتفقد نيته، وأن يجاهد نفسه في الإخلاص لله تعالى، وليحذر من طلب العلم للرياء والسمعة، أو لحظ من حظوظ الدنيا، فإن الوعيد شديد.
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال فما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
وفي الحديث إن معاوية لما بلغه هذا الحديث بكى حتى غشي عليه فلما أفاق قال صدق الله ورسوله قال الله عز وجل ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ «من تعلم علما مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها
وأخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك t عن النبي ﷺ قال: «من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار».
مسألة: شرطا قبول العمل:
أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد».
والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل، كما تضمنه حديث عمر t: «إنما الأعمال بالنيات».
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله تعالى ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ قال أخلصه وأصوبه وقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا قال والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة.
وقد دل على هذا الذي قال الفضيل قوله عز وجل: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
وقوله ﷺ: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
هذا مثال على الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وسائر الأعمال على مثل هذا المثال.
وأصل الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينه النبي ﷺ وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فأخبر ﷺ أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله على الحقيقة.
ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة.
ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه، فالأول تاجر والثاني خاطب وليس بواحد منهما مهاجر.
وفي قوله «إلى ما هاجر إليه» تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يُذكَر بلفظه.
الحديث الثاني
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا قال بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله ﷺ «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال صدقت قال فأخبرني عن الساعة قال «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» قال فأخبرني عن أماراتها قال «أن تلد الأمة ربتها وأن تري الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» ثم انطلق فلبث مليا ثم قال: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت الله ورسوله أعلم قال «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه مسلم.
هذا حديث عظيم الشأن جدا، يشتمل على شرح الدين كله، ولهذا قال النبي ﷺ في آخره: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان فجعل ذلك كله دينا.
ولهذا سماه بعض العلماء بـ (أم السنة) يعني كما أن الفاتحة أمُّ القرآن فهذا الحديث سمي بذلك لأن جميع ما في السنة يعود إليه، من العقيدة والشريعة والغيبيات ونحوها.
وقوله: «إذ طلع علينا رجل» هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، كما سيأتي مصرحاً به آخر الحديث، وكان على صورة دحية الكلبي([3])، كما عند النسائي 4991، وفيه: «إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ».
وقوله: «شديد بياض الثياب» أي ثيابه بيضاء نظيفة.
«شديد سواد الشعر» أي أنه شاب، وليس في شعره غبرة، وليس بأشعث.
«لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ» لأن المسافر في ذلك الوقت يُرى عليه أثر السفر، فيكون أشعث الرأس، مغبرّاً، ثيابه غير ثياب الحضر.
«وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ» أي وليس من أهل المدينة المعروفين، فهو غريب.
ويؤخذ منه مدح من كانت ثيابه شديدة البياض، وفي الحديث: «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم ...» رواه أبو داود.
قوله: «فأسند ركبتيه إلى ركبتيه»:
أي أسند جبريل عليه السلام ركبتيه إلى ركبتي النبي ﷺ، وفيه القُرْب من العالم والمسؤول حتى يكون أبلغ في أداء السؤال والفهم.
قوله: «ووضع كفيه على فخذيه»:
فيه قولان:
1-وضع جبريل عليه السلام كفيه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي ﷺ.
2-وضع جبريل عليه السلام كفيه على فخذي النبي ﷺ؛ لأجل أن تكون الضمائر راجعة على نحو ما رجعت إليه الجملة الأولى، «فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه» لأن توافق رجوع الضمائر أولى من تعارضه بلا قرينة.
ويؤيده ما جاء عند النسائي 4991 من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما، وفيه: «حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».
«وقال: يا محمد» ولم يقل: يا رسول الله ليوهم أنه أعرابي، لأن الأعراب ينادون النبي ﷺ باسمه العَلَم، وأما أهل الحضر فينادونه بوصف النبوة أو الرسالة عليه الصلاة والسلام.
(أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ...»)
الإسلام فسره النبي ﷺ بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل وأول ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهو عمل اللسان ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وهي منقسمة إلى عمل بدني كالصلاة والصوم وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة.
وفي رواية لابن حبان أضاف إلى ذلك: الاعتمار والغُسل من الجنابة وإتمام الوضوء وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام وإنما ذكر ههنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها.
ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي ﷺ أي الإسلام خير؟ قال: «أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».
وقوله: «أن تشهد» فيه الاعتقاد والإخبار، ولا تستقيم الشهادة بأنه لا إله إلا الله مع الكتمان، فمن شهد بقلبه ولم يُظهر هذه الشهادة من غير عذر شرعي فليس له شهادة.
فمعنى (أشهد) أي أقر بقلبي ناطقا بلساني.
كما أن الشاهد عند القاضي لا بد أن ينطق بما يعتقد.
والمنافقون يشهدون ألا إله إلا الله، ولم تقبل منهم؛ لأنهم لم يعتقدوا ما دلت عليه بقلوبهم([4]).
وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا كما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
لكن لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان مصحح له؛ لأن لفظ (أشهد) في اللغة والشرع متعلق بالباطن والظاهر.
وقوله: «أن تشهد ألا إله إلا الله» معناها لا معبود بحق إلا الله.
«وأن محمدا رسول الله» هذه الشهادة تقتضي طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع.
وقوله: «وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» فإن قيل: هذا الشرط في جميع العبادات لقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: الآية16] فلماذا خص الحج؟
الجواب: خص الحج لأن الغالب فيه المشقة والتعب وعدم القدرة، فلذلك نص عليه وإلا فجميع العبادات لابد فيها من الاستطاعة.
قوله: «قال صدقت، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلهُ وَيُصَدِّقُه» ووجه العجب أن السائل عادة يكون جاهلاً، والمصدِّق يكون عالماً، فكيف يسأل جبريل عليه السلام النبي ﷺ ثم يقول صدقت؟ هذا محل العجب.
وأما الإيمان فقد فسره النبي ﷺ في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره»
هذه الأركان الستة للإيمان فيها قدر واجب لا يصح إسلام بدونه، يجب على كل مكلف، فمن لم يأت به فليس بمؤمن، وهناك قدر زائد على هذا يتبع العلم.
يشمل أربعة أشياء:
2-الإيمان بالملائكة له مرتبتان:
3-الإيمان بالكتب على مرتبتين:
ويؤمن بجميع الكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وصحف موسى عليهما الصلاة والسلام، فيؤمن بأن الله أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام، فمن علم شيئاً من تفاصيل الكتب بدليله وجب عليه الإيمان به.
4-الإيمان بالرسل على مرتبتين:
وبهذا الإيمان الإجمالي يكون قد آمن بالرسل جميعاً، ثم يؤمن إيماناً خاصاً بمحمد ﷺ، وأنه خاتمهم، وأن الله تعالى بعثه بدين الإسلام الذي هو آخر الرسالات وخاتمها.
5- الإيمان باليوم الآخر: وهو الإيمان بالموت وما بعده إلى دخول الجنة أو النار، وهو على مرتبتين:
6-الإيمان بالقدر:
والإيمان بالقدر يتضمن عدة أمور: وهي مراتب القدر، أو أركانه:
1-العلم: أي الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلا أزلا وأبدا سواء أكان فيما يتعلق بأفعاله جل وعلا أم بأفعال عباده، فعلمه سبحانه محيط بكل شيء.
قال سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
2-الكتابة: وهي الإيمان بأن الله تعالى كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾
3-المشيئة: وهي تقتضي الإيمان بمشيئة الله تعالى النافذة وقدرته الشاملة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما يكون في هذا الكون من حركة ولا سكون ولا هداية ولا ضلالة إلا بمشيئة الله تعالى.
قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
4-الخلق: وهي تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها وصفاتها وحركاتها، وتقتضي أن ما سوى الله عز وجل فهو مخلوق موجد من العدم.
قال الله عز وجل: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وقال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
وبناء على ما تقدم فإن الإسلام إذا قرن بالإيمان انصرف الإسلام إلى عمل اللسان وعمل الجوارح، والإيمان إلى الاعتقادات الباطنة.
ولا يُتصور أن يوجد إسلام بلا إيمان، ولا أن يوجد إيمان بلا إسلام.
فكل مسلم لا بد أن يكون معه من الإيمان قدرٌ هو الذي يَصحَّ به إسلامه، وهو القدر المجزئ من الإيمان، ولو لم يكن عنده ذلك القدر ما سُمي مسلماً أصلاً.
وكل مؤمن لا بد أن يكون عنده قدر من الإسلام مصحِّح لإيمانه، لأن جنس العمل ركن في الإيمان.
وإذا أُفرد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل.
فقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ يشمل الإيمان، وقوله تعالى: ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ يشمل الإيمان.
كذلك الإيمان إذا ذكر وحده دخل فيه الإسلام، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ...﴾ إلى أن قال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وكان النبي ﷺ يقول في دعائه إذا صلى على الميت: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» لأن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن منه في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب.
وقوله: (فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه . . .)
الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو إيقاع العمل على أحسن الوجوه في الظاهر والباطن، وهذا لا يكون إلا ممن اتصف بالإخلاص لله تعالى.
والإحسان له مرتبتان:
1- أن تعبد الله كأنك تراه: أي أن تؤدي العبادات التي أمرك الله تعالى بها كأنك تراه، يعني مستحضرا أنك تعاين معبودك، ومن المعلوم أن من يعبد الله تعالى على هذه الحال فإنه سيؤدي العبادة على أكمل والوجوه في الظاهر والباطن.
وقد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وفي الحديث أن رجلا قال: يا رسول الله أوصني. قال: «أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحي رجلاً من صالحي قومك» - الصحيحة برقم (741)- وعزاه لأحمد وغيره وسئل النبي ﷺ عن كشف العورة خاليا فقال «الله أحق أن يستحيا منه».
وهذه المرتبة هي من مراتب الكمال، لكنها دون المرتبة الأولى.
فالأولى مرتبة المشاهدة، والثانية مرتبة المراقبة.
فهذا الحديث اشتمل على ذكر مراتب الدين.
ومعنى المراتب: أي الدرجات، وكل واحدة منها أخص من الأخرى، أخصها الإحسان، ثم بعدها الإيمان، ثم الإسلام، وهو أوسعها.
ويُمثِّل لها أهلُ العلم بثلاث دوائر، دائرة صغيرة تمثل الإحسان، ثم دائرة أكبر منها بداخلها الدائرة الصغيرة تمثل الإيمان، ثم دائرة أكبر منهما، بداخلها هاتان الدائرتان وتمثل الإسلام.
فكل محسن فهو مؤمن مسلم، وليس كل مسلم أو مؤمن محسناً.
وكل مؤمن فهو مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، لكن لا بد أن يبقى معه إيمان يصحح إسلامه، وإلا كان كافرا أو منافقا.
قوله: (فأخبرني عن الساعة فقال النبي ﷺ «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»)
يعني أن علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء وهذه إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها.
ولهذا فإن العالم إذا سئل عن شيء لا يعلمه يقول: لا أعلمه. وذلك لا يُنقصه شيئا، بل هو من ورعه ودينه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم.
وقال عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً..﴾ الآية.
ففيه أن الساعة لا يعلمها أحد إلا الله عز وجل، لأن أفضل الرسل من الملائكة سأل أفضل الرسل من البشر عليهما الصلاة والسلام عنها، فقال: «ما المَسْؤولُ عَنْهَا بَأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ».
ويترتب على هذا أنه لو صدَّق أحد من الناس شخصاً ادعى أن الساعة تقوم في الوقت الفلاني، فإنه يكون كافراً، لأنه مكذب للقرآن والسنة.
قوله (فأخبرني عن أماراتها) يعني عن علاماتها وأشراطها التي تدل على اقترابها.
أمارات أو أشراط الساعة قسمها العلماء إلى قسمين: أشراط صغرى، وأشراط كبرى.
والمقصود بالأشراط الصغرى: هي التي تحصل قبل خروج المسيح الدجال، فما كان قبل خروج المسيح الدجال مما أخبر النبي ﷺ أنه من علامات الساعة، فإن هذا من الأشراط الصغرى. ثم ما بعد ذلك من الأشراط الكبرى؛ لأن الأشراط الكبرى تكون عند قرب قيام الساعة.
وقد ذكر النبي ﷺ للساعة علامتين من علامات الساعة الصغرى:
الأولى: أن تلد الأمة ربتها والمراد بربتها سيدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ربها.
وهذه إشارة إلى فتح البلاد وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر السراري وتكثر أولادهن فتكون الأَمة رقيقة لسيدها، وأولادُه منه بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد فيصير ولدُ الأمة بمنزلة ربها وسيدها.
وقد فُسر قوله تلد الأمة ربتها بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها وهي جاهلة بأنها أمها وقد وقع هذا في الإسلام.
والمقصود هنا الإخبار عن كثرة الرقيق، وإلا فإنه موجود في العصور الأولى أن تلد الأمة سيدها أو سيدتها، وهذا غير مقصود به هذا الخبر بأنه من أمارات الساعة، لكن المقصود به: أن يكثر ذلك بحيث يكون ظاهراً فيكون علامة.
والعلامة الثانية: (أن ترى الحفاة العراة العالة) والمراد بالعالة الفقراء كما قال تعالى (ووجدك عائلا فأغنى) وقوله (رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) والمراد أن أسافل الناس الذين ليسوا بأهلٍ للغنى يصيرون رؤساء، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه، وهذا فيه تغير الناس وكثرة المال، وأن يكون المال في أيدي مَن ليس له بأهل.
قال: (ثم انطلق، فلبثت مليًّا) انطلق يعني: جبريل عليه السلام، "فلبثتُ": أي عمر رضي الله عنه (مليًّا) يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) أي مدة طويلة، جاءت في بعض الروايات أنها ثلاثة أيام.
ثم قال النبي ﷺ: (يا عمرُ أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
وعند النسائي 4991: «وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ».
ففيه أن الملائكة عليهم السلام يمكن أن يتشكلوا على صورة الآدميين بأمر الله عز وجل.
وفيه أن السائل عن العلم يكون معلماً لمن سمع الجواب، لأن النبي ﷺ قال: «فإنه جبريل أَتَاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ» مع أن الذي علمهم هو النبي ﷺ، لكن لما كان سؤال جبريل عليه السلام هو السبب جعله هو المعلم.
ويتفرع على هذا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا كان يعلم المسألة وكان من المهم معرفتها أن يسأل عنها وإن كان يعلمها، وإذا سأل عنها وأجيب صار هو المعلم.
الحديث الثالث
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان» رواه البخاري ومسلم.
قوله ﷺ: (بني الإسلام) المراد بالإسلام هنا الإسلام الخاص الذي بُعث به محمد ﷺ.
وذلك أن الإسلام له إطلاقان في النصوص:
الأول: الإسلام بمعناه العام، وهو الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم، قال سبحانه عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا..﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾.
الثاني: الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بُعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي إذا أُطلق الإسلام لم يُعن به إلا هذا على وجه الخصوص.
والإسلام بمعناه العام ومعناه الخاص يتفقان في أصل التوحيد والاعتقاد، وأما من حيث الشرائع ففيها اختلاف فشريعة محمد ﷺ تختلف في بعضها عن شريعة من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال النبي ﷺ: «الأنبياء إخوة لِعَلَّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» متفق عليه.
(على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله) ويجوز في شهادةِ ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بدل بعض من كل، يعني: تقول: على خمسٍ شهادةِ.
ويجوز أن تستأنفها، فتقول: على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله. على القطع، أي على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة، كما قال -جل وعلا -: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ وهذا شائع كثير.
وبناء على هذا فنظائرها يجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.
وقوله: (شهادة أن لا إله إلا الله) يعني: العلم بأنه لا إله إلا الله، والنطق بذلك والإعلام به.
فلا تكون شهادة حتى يجتمع فيها: أن يعتقد، ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ ... يقول بلسانه معلما بها غيره، إذا لم يكن هناك عذر شرعي عن إعلام غيره، كالإكراه.
وقوله: (وأن محمداً رسول الله) يعني: أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً ﷺ أنه رسول من عند الله حقا.
وهذه الشهادة بأن محمدا رسول الله لها مقتضى، وهذا المقتضى: هو طاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -ﷺ.
والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس فهي كالأركان والدعائم لبنيانه، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان.
وإذا فقدت هذه الأركان جميعا فإن الإسلام يزول بفقدها، وكذلك يزول بفقد الشهادتين بالاتفاق.
أما بقية الأركان الأربعة، فمن تركها هل يزول عنه وصف الإسلام، بمعنى هل يكفر أو لا؟ فيها خلاف.
والمرجع في ذلك إلى ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة من أن هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، فلا يتصور أن هناك بيع بلا بائع.
أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني: لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه: مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنه يقال عنه: مسلم، وهكذا في صيام رمضان، وهذا بناء على القول الراجح في عدم تكفير من ترك الزكاة أو الصوم أو الحج.
وأما إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا فالراجح القول بكفره.
ومن الأدلة على كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا:
ما روى الإمام أحمد أن النبي r قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» أي العهد الذي أُخذ على المؤمنين والذي تميزوا به عن غيرهم من المنافقين والكافرين الصلاة.
وعن جابر t قال: قال رسول r: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم.
قال النووي: (الذي يمنع كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل بل دخل فيه)
وعن عبد الله بن شقيق رحمه الله تعالى: (كان أصحاب محمد r لا يرون شيئا من الأعمال تركُه كفر غيرَ الصلاة) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (565).
قال الشوكاني في النيل 1/363: (وَالظَّاهِرُ مِنْ الصِّيغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ " جَمْعٌ مُضَافٌ، وَهُوَ مِنْ الْمُشْعِرَاتِ بِذَلِكَ).
قال ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة 2/924: (ثُمَّ ذَكَرْنَا الْأَخْبَارَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي إِكْفَارِ تَارِكِهَا وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُ مِنَ الْمِلَّةِ وَإِبَاحَةِ قِتَالِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ إِقَامَتِهَا، ثُمَّ جَاءَنَا عَنِ الصَّحَابَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِئْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي إِكْفَارِ تَارِكِهَا وَإِيجَابِ الْقَتْلِ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنَ إِقَامَتِهَا)
وقال أبو عبد الله ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة 2/929: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ، يَقُولُ: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا كَافِرٌ، وَذَهَابُ الْوَقْتِ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ).
وممن حكى إجماع الصحابة y ابن القيم في الصلاة ص54 حيث قال بعد ذكر أثر عمر t: (لا إسلام لمن ترك الصلاة). وفي سياق آخر: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) ... قال: (فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ولا يعلم عن صحابي خلافهم).
وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة» فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه.
والحمد لله رب العالمين.
الحديث الرابع
عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث أصل في باب القدر، والخوف من سوء الخاتمة.
قوله: "وهو الصادق المصدوق": هو الصادق: يعني الذي يأتي بالصدق، وحقيقة الصدق: الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضده وهو الإخبار بما يخالف الواقع.
الصادق أي الصادق فيما أَخبر به. المصدوق فيما أُخبر به، أي أنه مُخبَر بالصدق.
وهذه الجملة (الصادق المصدوق) مؤكدة لقوله: (حدثنا رَسُولُ اللهِ). لأن من اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.
وقول ابن مسعود t هنا "وهو الصادق المصدوق" هذا من التهيئة لما سيأتي بعده، فإن الحديث تضمن الإخبار عن أمور غيبية، وهي أطوار الجنين، والتي لا تدرك بالحس والتجربة في ذلك الزمان، لعدم تقدم الطب، وإنما تدرك بالتسليم بخبر الصادق، بل فيها ما لا يدرك حتى بعلم الطب الحديث، وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد.
ففيه أن العالِم ينبغي له أن يقدم بين يدي كلامه الذي قد يُشكل على المتعلم ما يكون أدعى لقبوله.
(إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة) أي نطفة من المني.
(ثم يكون علقة مثل ذلك) يعني أربعين يوما، والعلقة قطعة من دم. فينتقل من طور النطفة شيئا فشيئا حتى يصل إلى طور العلقة.
(ثم يكون مضغة مثل ذلك) يعني أربعين يوما والمضغة قطعة من لحم، بقدر ما يمضغه الإنسان.
(ثم يُرسَل إليه الملك) أي يرسل الله إلى هذا الجنين بعد تمام مائة وعشرين يوما ملَكا من الملائكة.
(فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)
فهذا الحديث يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوما في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوما منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المائة وعشرين يوما ينفخ فيه الملَك الروح ويكتب له هذه الأربع الكلمات.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ ...﴾ وذكر هذه الأطوار الثلاثة النطفة والعلقة والمضغة.
ويتعلق بهذا الحديث مسائل من الفقه:
منها: أن الجنين إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، بل ذكر بعض الفقهاء أنه تشرع تسميته والعق عنه.
وإن كان سقوطه قبل نفخ الروح فيه فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويدفن في حفرة في المقبرة العامة.
ومنها أن سقوط الجنين إن كان بعد التخليق انتهت به عدة المرأة الحامل، وإن كان غير مخلق فلا تنتهي به العدة.
ومنها أن سقوط الجنين إن كان مخلقا فالدم الذي ينزل مع المرأة يكون دم نفاس يمنعها من الصلاة والصوم والجماع، وإن كان الجنين غير مخلق فالدم الذي ينزل معها ليس نفاسا، بل دم فساد، حكمه حكم الاستحاضة، فلا يمنعها من الصلاة والصوم والجماع.
وهل يجوز إسقاط الجنين (الإجهاض)؟ هذا يختلف فيه الحكم باختلاف الأطوار، وقد صدر بذلك قرار هيئة كبار العلماء، والذي جاء فيه:
(فإن مجلس هيئة كبار العلماء يقرر ما يلي:
1- لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدا.
2- إذا كان الحمل في الطور الأول وهي مدة الأربعين وكان في إسقاطه مصلحة شرعية أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه.
أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولاد أو خوفا من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدى الزوجين من الأولاد فعير جائز.
3- لا يجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه، بأن يخشى عليها الهلاك من استمراره فيجوز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.
4- بعد الطور الثالث وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل لا يحل إسقاطه حتى يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته.
وإنما رخص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعا لأعظم الضررين وجلبا لعظمى المصلحتين.
والمجلس إذ يقرر ما سبق يوصي بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر)([5]).
ومن مسائل هذا الحديث أن عِلْم ما في الأرحام مختص بالله جل وعلا، كما قال سبحانه: (ويعلم ما في الأرحام) وفي هذا الحديث أخبر النبي ﷺ أنه يُرسَل الملَك فيؤمر بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل هذا من العلم الذي اختص الله به.
وأما ما وُجد في الطب الحديث من العلم بنوع الجنين هل هو ذكر أو أنثى، فهذا لا يعارض الآية؛ لأن علم أهل الطب لا يكون ابتداءً، بل لا يتمكنون من ذلك إلا بعد مضي مدة من الحمل، وذلك بتعليم الله تعالى لهم، وما هيأ لهم من الأسباب في ذلك، وعلمهم بذلك ليس قطعيا، ولو كان قطعيا فإنه محدود بكون ذكراً أو أنثى، فإن قوله تعالى: (ويعلم ما في الأرحام) يعم العلم بكونه ذكرا أو أنثى، وبرزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وتفاصيل هذا العلم لا يمكن للمخلوق العلم به.
(فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه ...) إلى آخر الحديث.
أي إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ففي قلبه دسيسة سوء، من حب محمدة على عمله أو طلب رئاسة ونحو ذلك، فأصل عمله ليس بصالح، وإن كان في الظاهر للناس أنه صالح، فآل به الأمر إلى خاتمة السوء عياذا بالله تعالى.
وإلا فإن من استقام على أمر الله تعالى ظاهر وباطنا فإن الله تعالى أكرم من أن يخذل عبده المؤمن، بل يحفظه الله تعالى في آخر عمره، ويحسن خاتمة بلطفه وإحسانه.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد t أن النبي ﷺ الْتَقى هو والمشركون وفي أصحابه رجل لا يدع شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله ﷺ هو من أهل النار فقال رجل من القوم أنا أصاحبه فأتبعه فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله ﷺ فقال أشهد أنك رسول الله وقص عليه القصة فقال رسول الله ﷺ (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) زاد البخاري في رواية: إنما الأعمال بالخواتيم.
وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة.
وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك مكتوب في الكتاب السابق، ومن هنا اشتد خوف السلف من سوء الخاتمة، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا. قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق.
ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ لأن دسائس السوء توجب سوء الخاتمة.
وقد كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقيل له يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا فقال (نعم إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء) خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه.
الحديث الخامس
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
هذا الحديث أخرجه البغوي في شرح السنة 1/211 بإسناده بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو أصل في رد البدع والمحدثات.
وهو مع حديث «إنما الأعمال بالنيات» يدلان على شرطي قبول العمل، فحديث الأعمال بالنيات دليل لإخلاص العمل، وهذا الحديث دليل للمتابعة للشرع.
فكل عمل لا يكون عليه أمر الله تعالى ورسوله r فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل ورسوله r فليس من الدين في شيء، وهذا دل عليه الحديث بمنطوقة.
وفي معنى هذا الحديث من القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾.
ودل هذا الحديث بمفهومه على أن كل عمل عليه أمر الله تعالى فهو مقبول غير مردود.
والمراد بأمره ههنا دينه كما جاء في الرواية الأخرى: «من أحدث في ديننا ...» وكقوله تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
وقوله: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا)
العمل قد يكون عبادة وقد يكون معاملة.
والذي يهمنا في هذا الحديث العمل الذي هو عبادة، أي من عمل عملا يتدين به، سواء أكان فعلا أم قولا أم اعتقادا ليس عليه أمر الله تعالى ورسوله r فهو مردود.
فما كان منها غيرُ مشروع أن يُتعبد به أصلا فهذا لا شك في رده، كمن يتعبد بالغناء والرقص، كما يفعل المبتدعة من أهل التصوف.
ومن العبادات ما هو مشروع في عبادة خاصة دون غيرها، كالقيام، فهو مشروع في الصلاة، وليس مشروعا لمن يستمع إلى الخطبة.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» رواه البخاري 6704.
فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها.
وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقا للشريعة في أمور ستة: سببه، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.
فإذا لم يوافق الشريعة في هذه الأمور الستة فهو باطل مردود، لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه.
أولا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سببا مثل: أن يقرأ سورة الفاتحة عند عقد النكاح، فقراءتها في الأصل عبادة، لكن لما قرنها بسبب لم يجعله الله تعالى سببا - وهو عقد النكاح - صارت بدعة مردودة.
ثانيا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الجنس، فلو تعبد لله بعبادة لم يُشرع جنسها فهي غير مقبولة، مثال ذلك: لو أن أحدا ضحى بفرس، فإن ذلك مردود عليه ولا يقبل منه، لأنه مخالف للشريعة في الجنس، إذ إن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
أما لو ذبح فرسا ليتصدق بلحمها فهذا جائز، لأنه لم يتقرب إلى الله بذبحه وإنما ذبحه ليتصدق بلحمه.
ثالثا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في القدْر: فلو تعبد شخص لله عز وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، ومثال ذلك: رجل توضأ أربع مرات أي غسل كل عضو أربع مرات، فالرابعة لا تقبل، لأنها زائدة على ما جاءت به الشريعة، بل قد جاء في الحديث أن النبي ﷺ توضأ ثلاثا وقال: من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم.
رابعا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الكيفية: فلو عمل شخص عملا، يتعبد به لله وخالف الشريعة في كيفيته، لم يقبل منه، وعمله مردود عليه.
ومثاله: لو أن رجلا صلى وسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة، لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.
وكذلك لو توضأ منكسا بأن بدأ بالرجل ثم الرأس ثم اليد ثم الوجه فوضوؤه باطل، لأنه مخالف للشريعة في الكيفية.
خامسا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الزمان: فلو صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فالصلاة غير مقبولة لأنها في زمن غير ما حدده الشرع.
ولو ضحى قبل أن يصلي صلاة العيد لم تقبل لأنها لم توافق الشرع في الزمان.
سادسا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في المكان: فلو أن أحدا اعتكف في غير المساجد بأن يكون قد اعتكف في البيت، فإن اعتكافه لا يصح لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف، فالاعتكاف محله المساجد.
فهذه أمور ستة ينبغي مراعاتها ليكون العمل مشروعا.
ومما يتعلق بهذا الحديث أيضا أن من فعل عبادة مشروعة في الأصل، والتزم بها عددا أو هيئة أو زمانا أو مكانا مخالفا للسنة صار عمله بدعة، والمقصود أن يلتزم ذلك، لا أن يقع منه ذلك أحيانا، مرة أو مرتين ونحو ذلك، فهذا يقال في حقه خالف السنة، أما من يلتزم فقد ابتدع.
ومن أمثلة ذلك: من يلتزم ذكرا أو دعاء معينا كل يوم صباحا ومساء، مما لم يرد في الشرع أنه من أذكار الصباح والمساء، فهذا الذكر أو الدعاء وإن كان في أصله مشروعا، إلا أن التزام الإتيان به كل يوم في الصباح والمساء يجعله بدعة، لعدم الدليل على هذا التخصيص.
لكن لو أتى به مرة أو مرتين يعني من غير التزام فيقال هذا خلاف السنة، ولا يقال بدعة.
الحديث السادس
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله e يقول: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمي ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» رواه البخاري ومسلم.
هذا من الأحاديث الجوامع.
وتقدم قوله الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث حديث عمر t: إنما الأعمال بالنيات. وحديث عائشة رضي الله عنها: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: الحلال بيّن والحرام بيّن.
وذلك أن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
فقوله r: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)
معناه أن الحلال المحض بيِّن لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض بيِّن لا اشتباه فيه، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك ويعلمون من أي القسمين هي.
فتكون الأحكام في هذا الحديث ثلاثة:
1- الحلال المحض: مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام وشرب الأشربة الطيبة ولباس ما يحتاج إليه من القطن والصوف وغير ذلك، إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع أو بميراث أو هبة.
2- الحرام المحض مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر ولباس الحرير للرجال، ومثل الاكتساب المحرم كالربا والميسر، وأخذ الأموال بسرقة أو غصب ونحو ذلك.
3- المشتبه: وهو ما اشتبه على المرء حكمه، هل هو حلال أو حرام، كما لو اشتبه عليه حكم المال أو العقد هل هو حلال أو حرام، أو اشتبه عليه حكم امرأة هل يحل له نكاحها أو لا؟ كما لو جرى كلام أن بينهما رضاع، ولم يثبت ذلك بوضوح فيكون أمرها مشتبها عليه. فهذا يطلب المرء فيه البراءة لدينة.
ويدخل في المشتبه ما توقف فيه العلماء من المسائل المشكلة كالنوازل مثلا، حتى يكتمل النظر فيها ويظهر الحكم الشرعي لهم، فمدة التوقف تكون فيها المسألة من المشتبه.
ويدخل في المشتبه على أهل العلم، هل صح الدليل في هذه المسألة أو لا؟ وإذا صح فيرِد الاشتباه من جهة هل دل على الحكم أو لا دلالة فيه عليه؟
ولو صح الدليل، وكانت دلالته على الحكم مسلَّمة فقد يرِد الاشتباه أيضا في محل الحكم، من جهة هل هذه المسألة الواقعة بعينها داخلة فيما دل عليه هذا الدليل أو لا؟ فكل هذا داخل في المشتبه.
وهذه المشتبهات لا بد أن يوجد في الأمة من أهل العلم من يعلم حكمها؛ لأن هذه المشتبهات لو كان لا يعلمها أحد لم يكن القرآن تبيانا لك شيء، ولبقي شيء من الشريعة مجهولا لكل الناس، وهذا ممتنع شرعا.
وقوله: (لا يعلمهن كثير من الناس) إما لقلة علمهم، وإما لقلة فهمهم، وإما لتقصيرهم في البحث والنظر، وإما لسوء قصدهم، فهذه أربعة أسباب لاشتباه المسائل.
والحكمة – والله أعلم – من وجود المسائل المشتبهة.
أن يتبين طالب العلم الجاد في البحث عن الحق، ولو كلفه ذلك الجهد والتعب، فيعظم أجره، ويزداد علمه.
ولأجل أن يتميز أهل الورع من غيرهم، فأهل الورع يتركون المشتبهات، وغيرهم لا يبالي بالوقوع فيها.
(فمن اتقى الشبهات) أي تجنبها.
(فقد استبرأ لدينه) أي طلب البراءة والسلامة لدينه فيما بينه وبين الله تعالى.
(وعرضه) فيما بينه وبين الناس، فإن الناس إذا رأوا من يقع في المشتبه ربما كانوا يعتقدونه حراما فيقعون في عرض من فعله، بأنه يفعل الحرام، فتركُ المشتبه فيه البراءة لعرضه وسلامته من كلام الناس فيه.
وينبغي أن يُتنبه إلى أن الأمر بترك المشتبهات مشروط بأن يقوم الدليل على وجود الشبهة، أما إذا لم يقم دليل على وجود الشبهة فإنه لا تتقى، لأنه من التعمق في الدين المنهي عنه. بل قد يفتح باب الوساوس على المرء.
مثال ذلك: أن الأصل فيما ذبحه المسلم أنه يحل أكله، ولا يقال إنه يحتمل أن يكون قد تَرَك التسمية عليها، فيكون مشتبها فيترُك أكله.
بل يقال: ترك أكله في مثل هذا الحال من التنطع، والتعمق المنهي عنه، ويدل لهذا:
ما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنه أن قوما أتوا إلى النبي ﷺ وقالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سموا أنتم وكلوا) قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.
ومن أمثلة المشتبه: أن يقع على ثوب الإنسان أثر ولا يدري أنجاسة هو أم لا؟
يُنظر: إذا كان هناك احتمال أن تكون نجاسة فإنه يتجنبه، وكلما قوي الاحتمال قوي طلب الاجتناب، وكلما ضعف احتمال كونها نجاسة ضعف طلب الاجتناب، وإذا لم يكن هنا احتمال النجاسة فلا يلتفت إليها.
فالقاعدة: أنه إذا وجد احتمال الاشتباه فهنا إن قوي قوي تركه، وإن ضعف ضعف تركه، ومتى لم يوجد احتمال أصلا فإن تركه من التعمق في الدين المنهي عنه.
(ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام) المعنى: أن فعل ما هو مشتبه من الأحكام ذريعة إلى فعل الحرام، وليس المراد أن من فعل المشتبه فقد فعل حراما؛ بدليل المثال الذي ذكره النبي r وهو قوله:
(كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)
أي كالراعي للإبل والغنم الذي يَرعى حول الحمى، وهو المكان المحمي الذي يُمنع الناسُ من الرعي فيه، كما لو حُمي موضع لإبل الصدقة، فالراعي حول هذا الحمى يوشك أن يقع فيه، لأن البهائم إذا رأت هذه الأرض المحمية وما فيها من العشب فسوف تدخل في الحمى، ويصعب منعها، فكذلك المشتبهات إذا فعلها العبد فقد قارب الحرام، فيوشك أن يقع في الحرام البين، لأنه يصعب عليه أن يكف نفسه عنه حينئذ.
وفيه دليل لقاعدة: سد الذرائع، أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم يجب أن تسد؛ لئلا يقع في المحرم.
وقاعدة سد الذرائع دلت عليها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قول الله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)
فنهى عن سب آلهة المشركين لأنها ذريعة إلى سب الله تعالى، مع أن سب آلهة المشركين سب بحق.
وفي الحديث حُسْنُ تعليم النبي ﷺ، وذلك بضرب المثَل الحسي لتقريب المعنى، كما هي طريقة القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ﴾
(ألا وإن لكل ملك حمى) ألا: أداة استفتاح، تفيد التنبيه، و (إنّ) تفيد التوكيد.
والمراد بيان الواقع، وأن كل ملك يكون له موضع يحميه، وليس المقصود بيان الحكم الشرعي؛ لأن الحمى قد يكون بحق فيكون جائزا، وقد يكون بباطل فيكون حراماً.
(ألا وإن حمى الله محارمه)
أي أن حمى الله ما حرم الله عليك، فلا تقربها؛ لأن محارم الله كالأرض المحمية للملِك لا يدخلها أحد.
(ألا وإن في الجسد مضغة) أي: في جسد الإنسان مضغة، وهي قطعة صغيرة من اللحم، بقدر ما يمضغه الإنسان عند الأكل.
(إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)
أي أن القلب إذا صلح صلح الجسد كله؛ لأن القلب هو الذي يأمر الجوارح، فإذا صلح لم يأمرها إلا بالصلاح، وإذا فسد القلب فسد الجسد؛ لأن القلب يأمره بالفساد.
وفيه الرد على العصاة الذين إذا نُهوا عن المعاصي احتجوا بحديث: (التقوى هاهنا) وأشار إلى القلب.
فيُردُّ عليهم بهذا الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة . . .) أي إذا اتقى ما هاهنا وهو القلب اتقت الجوارح بالعمل بالطاعة وترك المعصية.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ
عَنْ أبي رقية تَمِيمٍ بن أوس الداري t أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أخرجه مسلم (55) بهذا اللفظ.
أما زيادة (ثلاثا) فقد جاءت عند الإمام أحمد 16942 بلفظ: (إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ثَلَاثًا).
وعند أبي داود 4944 بلفظ: (إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ...) وصححه الألباني.
هذا الحديث وُصف بأنه أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه، ووُصف بأنه أحد أرباع الدين.
(الدين النصيحة) الدين: مبتدأ. والنصيحة خبر، وكلٌ من المبتدأ والخبر معرفة. وهذا يعد من طرق الحصر عند علماء البلاغة.
فقوله: الدين النصيحة مثل قوله: ما الدين إلا النصيحة.
وأبهم النبي ﷺ لمن تكون النصيحة من أجل أن يستفهم الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، لأن وقوع الشيء مجملا ثم مفصلا من أسباب رسوخ العلم، لأنه إذا أتى مجملا تطلعت النفس إلى بيان هذا المجمل، فيرسخ في الذهن أكثر مما لو جاء البيان من أول مرة.
ومعنى النصيحة: قال ابن الأثير في النهاية مادة (نصح): (النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ، هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ).
(الدِّينَ النَّصِيحَةُ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا.
(قلنا: لمن يا رسول الله؟): اللام في (لمن) هي لام الاستحقاق، أي من يستحقها؟ فجاء الجواب أن النصيحة مستحقة لله ولكتابه . . . إلخ
فَمَعْنَى النَّصِيحَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ: إخلاص العبادة له جل وعلا، وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ومحبته واتباع أمره واجتناب نهيه.
والنصيحة لله عز وجل منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، فالواجب كما تقدم، والمستحب اتباع أمر الله تعالى في المستحبات، واجتناب ما نهى الله عنه من المكروهات، فهو من النصيحة المستحبة لله عز وجل.
وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ، واعتقاد أنه كلام الله تعالى، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وتصديق أخباره، وردُّ الشبه المثارة حوله وتحريفِ أهل الباطل فيه، ونحو ذلك مما يدخل في النصيحة الواجبة لكتابه الله تعالى.
ومن النصيحة المستحبة لكتابه الله عز وجل أن يكثر من تلاوته مع التدبر والتفكر في آياته ونحو ذلك من الحق المستحب للقرآن الكريم.
وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ r: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وطاعته فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَاجتناب ما نَهَى عَنْهُ، وتعظيمُ سنته والدفاع عنها، وبيان صحيحها من سقيمها، وتقديم محبته على ما يحبه العبد.
وهي منقسمه أيضا كما تقدم إلى نصيحة واجبة ومستحبة.
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحُبُّ صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَنشرُ محاسنهم، لما يُرجى من تأليف القلوب عليهم، والكفُ عن سبهم أو نشرِ معايبهم، لما يخشى من تأليب الناس عليهم.
وامتثال طاعة ولاة الأمر عبادة، وليست مجرد سياسة، بدليل أن الله تعالى أمر بها فقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وما أمر الله تعالى به فهو عبادة.
ويتعلق بالنصيحة لولاة أمور المسلمين عدة أمور، منها:
أولاً: أن تكون النصيحة لهم في السر لا علانية، لأن الأصل في النصيحة لكل مسلم أنها تكون سرا، قال بعض السلف: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَهِيَ نَصِيحَةٌ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَإِنَّمَا وَبَّخَهُ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.
ويتأكد هذا في حق ولي الأمر؛ لورود السنة والآثار بأن نصحه يكون سرا لا علنا.
فعن عياض بن غنم t أن النبي r قال: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ)([6]).
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما – لما قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمَه. فقال: أَتُرَون أني لا أكلمه إلا أُسْمِعُكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه([7]).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في شرح هذا الأثر في إكمال المعلم: (وفيه التلطف مع الأمراء، وعَرض ما يُنكَر عليهم سراً، وكذلك يلزم مع غيرهم من المسلمين ما أمكن ذلك، فإنه أولى بالقبول وأجدر بالنفع، وأبعد لهتك الستر وتحريك الأَنَفة)([8]).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَلَت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: آمُرُ إمامي بِالْمَعْرُوفِ؟ قَالَ: إِنْ خشيت أَنْ يَقْتُلَك فَلاَ، فَإِنْ كُنْتَ ولاَ بُدَّ فَاعِلاً فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وزاد أبو عوانة: ولا تَغْتَبْ إمامك([9]). أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
ويدخل في وجوب النصيحة سرا نواب ولي الأمر؛ لما يلي:
2-أن الإنكار العلني على أمراء الإمام الأعظم ونوابه، يؤول إلى الطعن فيهم، ومن ثَمَّ إلى الطعن في الإمام الأعظم؛ لأنه هو الذي ولاهم وارتضاهم، والطعن في ولاة الأمر من أعظم أسباب الخروج عليهم بالسلاح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (ثم إن قَتْل عثمان كان أشدُّ أسبابه الطعنَ على أُمرائه، ثم عليه؛ بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق)([10]).
وسئل سماحة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى: ما رأي فضيلتكم فيمن يُرَوِّج أن الإنكار على الحاكم إنما يمتنع فقط عن الإمام الأعظم دون نوابه، فنجده في المجالس يسترسل في غيبة ونقد الحكومة، بناءً على أنه لا ينتقد الملك وإنما الحكومة، وهو يوغر الصدور بذلك؟
فأجاب: (هذا كلام لا يجوز، وهذا باطل، فإن نواب الإمام إنما لهم حرمتهم ومكانتهم، ويجب توقيرهم ومناصحتهم، لا نقول إنهم معصومون، فإذا كان عليهم ملاحظة حصل منهم خطأ فإنهم يناصحون سراً لا علانية وفي المجالس، إنما يناصحون سراً، ويبين لهم الخطأ الذي حصل، فإن قبلوا فالحمد لله، وإلا يكون أدى ما عليه مَن نَصَحهم، فلهم حكم الإمام؛ لأنهم نوابه، السمع والطاعة واحترامهم ومراعاة حرمتهم، وعدم الوقوع في أعراضهم)([11]).
ثانياً: مما يراعى في نصيحة ولي الأمر أنه ينبغي لمن نصح ولي الأمر ألا يتحدث بذلك عند الناس، وعلى هذا جرى العمل عند كثير من العلماء العاملين بعدم إشاعة ما يدور بينهم وبين ولاة الأمر عند نصيحتهم في السر، وذلك لأمرين:
1-خشية الناصح لولي الأمر من أن يداخله الرياء.
2-أن الناس إذا علموا أن ولي الأمر قد ناصحه العلماء، فلم يقبل نصحهم، وبلغهم ما دار بينهم وبينه من كلام، فإنهم سيزدادون بغضاً له، ويحصل بسبب ذلك إيغارٌ لصدورهم عليه، وهذه مفسدة قد تجُرُّ إلى ما هو أكبر منها([12]).
قال الشيخ حمد بن علي بن عتيق رحمه الله تعالى لمن اتهمه بعدم الإنكار على الوالي: (نفيك لإنكارنا رجم بالغيب، فإنه ليس من شرط الإنكار اطلاعك عليه)([13]).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (وعلى من رأى منهم - يعني الولاة - ما لا يحل أن ينبههم سرًا لا علنًا، بلطف وبعبارة تليق بالمقام، ويحصل بها المقصود، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمور، فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أُخر معروفة)([14]).
وَأما النَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: فأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَحْزَنَ لِحُزْنِهِمْ، وَيَفْرَحَ لِفَرَحِهِمْ، وَيُحِبُّ صَلَاحَهُمْ وَإِلْفَتَهُمْ وَدَوَامَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ.
وبهذا يتبين أن هذا الحديث على اختصاره جامع لمصالح الدين والدنيا.
وَمِنْ أَنْوَاعِ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ - وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ – الرد على المخالفين من أنواع الكفار وأهل البدع والضلال، بالحجة والبيان، بأدلة الكتاب والسنة، وهو من أعظم أنواع الجهاد باللسان والقلم.
وكذا رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ضعفها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
(أمرت أن أقاتل الناس) الآمر له هو الله عز وجل.
والأمر بالقتال إنما يكون بعد الدعوة إلى الإسلام، وبيانه لهؤلاء الكفار.
والمراد بالناس هنا الكفار، والكفار منهم أهل ذمة، وهم اليهود والنصارى والمجوس، ومنهم من ليسوا من أهل الذمة، وهم بقية الكفار.
فأما أهل الذمة فيخيرون بين ثلاثة أمور: إما الإسلام، أو دفع الجزية مع الكف عنهم وبقائهم على دينهم، فإن أبوا الإسلام أو دفع الجزية قوتلوا.
وأما غير أهل الذمة من سائر الكفرة فإما أن يسلموا أو يقاتَلوا.
ولا يخفى أن أمر قتالهم راجع إلى ولي الأمر، وما يرى فيه من المصلحة.
(حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ...) أي حتى يشهدوا بألسنتهم معتقدين بقلوبهم، معلنين بها، فمن شهد بلسانه عُصم دمُه وماله، ونَكِلُ سريرته إلى الله عز وجل، ونكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.
حتى لو قالها وظاهر حاله أنه ما أراد الإسلام فإنه يكف عنه معاملةً له بالظاهر، كما جاء في قصة أسامة رضي الله عنه لما أراد قتل ذلك الكافر فقال: لا إله إلا الله. فظن أنه قالها خوفا من السيف فقتله، فلما أخبر النبي ﷺ بذلك قال: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله. فما زال يكررها عليه حتى قال أسامة رضي الله عنه حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
وقوله ﷺ: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) ظاهره أنه لا تعصم دماؤهم إلا إذا شهدوا الشهادتين وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، ولكن قد انعقد الإجماع على أنه لا يشترط في الكف عن قتال الكافر أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، بل يكفي النطق بالشهادة، كما تقدم في حديث أسامة رضي الله عنه.
فَإِذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَقَامَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَلَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةً قاتلهم الإمام على تركها.
وَأَمَّا قَتْلُ الْوَاحِدِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الصلاة، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَيَدُلُّ لذَلِكَ مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ ﷺ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَقَالَ: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي».
وَأَمَّا قَتْلُ الواحد الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فالجمهور أنه لا يقتل.
(إلا بحق الإسلام) يعني: إلا أن تباح دماؤهم وأموالهم بحق الإسلام، مثل: زنا الثيب، والقصاص وما أشبه ذلك، يعني: إلا بحق يوجبه الإسلام.
«وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " أي أن من نطق بالشهادتين فيعامل بمقتضى الظاهر، فيعصم دمه وماله، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا، أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وفي رواية لمسلم (1337) ذكر سبب هذا الحديث، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ "، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»
قوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أي ابتعدوا عنه، فكونوا في جانب وهو في جانب.
(وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) يعني افعلوا منه ما قدرتم عليه.
والفرق بين المنهيات والمأمورات: أن المنهيات قال فيها: فاجتنبوه ولم يقل ما استطعتم، ووجهه: أن النهي كف وكل إنسان يستطيعه، وأما المأمورات فإنها إيجاد قد يستطاع وقد لا يستطاع، ولهذا قال في الأمر: فأتوا منه ما استطعتم.
(فإنما أهلك من كان قبلكم) يعم جميع الأمم التي قبلهم، كاليهود والنصارى وغيرهم، فالذي أهلكهم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم.
واليهود أشد في كثرة المساءلة، ولذلك لما قال لهم نبيهم موسى عليه السلام: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗ﴾ تعنتوا، وجعلوا يسألون: ما هي؟ وما لونها؟ .. إلخ ما قص الله علينا من خبرهم.
ويدخل في السؤال المنهي عنه السُّؤَالُ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعَبَثِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ ففِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ﴾.
وَمِنْ ذَلِكَ السُّؤَالُ عَمَّا أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِ، كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنِ الرُّوحِ.
وَمن ذلك نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ، كما تقدم في السؤال عَنِ الْحَجِّ: هَلْ يَجِبُ كُلَّ عَامٍ أَمْ لَا؟
وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» لكن هذا قد زال بوفاة النبي ﷺ.
«وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ اللِّعَانِ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى ابْتُلِيَ السَّائِلُ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِذَلِكَ فِي أَهْلِهِ»
«وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ».
ولا يدخل في النهي عن المسائل ما يحتاج الناس إليه، مما يشكل عليهم في أمور دينهم، فإنهم مأمورون بالسؤال، كما في قوله تعالى: ﴿فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾.
وأما عند عدم الحاجة إلى معرفة حكم المسألة، كما لو كانت لم تقع بعد، فلا ينبغي السؤال عنها، ولهذا كره كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم السُّؤَالَ عَنِ الْحَوَادِثِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَكانوا لَا يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ، روي عن بعضهم إِذَا سُئِلَ، عَنِ الشَّيْءِ يَقُولُ: كَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُوهُ حَتَّى يَكُونَ.
وإن كانت مما يتوقع وقوعه فلا حرج من السؤال عنها، ليكون عالما بالحكم إذا وقعت. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ أَحْيَانًا يَسْأَلُونَهُ عَنْ حُكْمِ حَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، لَكِنْ لِلْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، كَمَا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَعَنْ طَاعَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَسَأَلَهُ حُذَيْفَةُ عَنِ الْفِتَنِ، وَمَا يَصْنَعُ فِيهَا.
(واختلافُهم على أنبيائهم) يعني وأهلكهم اختلافهم على أنبيائهم أي بمعارضتهم ومخالفتهم.
ففيه التحذير من مخالفة ما جاء به النبي ﷺ، وأن مخالفته سبب للهلاك في الدنيا والآخرة.
وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان له استطاعة وقدرة، لقوله: (ما استطعتم) ففيه الرد على الجبرية الذين يقولون إن الإنسان لا استطاعة له، لأنه مجبر على عمله.
وفيه أن الإنسان إذا لم يقدر على فعل الواجب كله فيجب عليه أن يفعل منه ما يستطيع، فمثلا: من عجز عن بعض أركان الصلاة وقدر على بعضها الآخر، سقط عنه ما يعجز عنه، ولزمه أن يأتي بما يقدر عليه.
ومن عجز عن غَسل جميع البدن من الجنابة، وقدر على غَسل بعضه لزمه غَسل بعضه، وتيمم عن الباقي، وهكذا.
وفي الحديث حجية سنة النبي ﷺ، كما يحتج بالقرآن الكريم، فإن ما أمر به ﷺ تجب طاعته، وما نهى عنه تحرم مخالفته.
وفيه التحذير من الاختلاف على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه سبب للهلاك، لأن الواجب اتباعهم لا الاختلاف عليهم.
فائدة: قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 249: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، تَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ جَوَابِ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ غَالِبًا، لِأَنَّ أُصُولَهَا تُوجَدُ فِي تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا)
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وقد تقدم أن أبا داود رحمه الله تعالى جعله ربع العلم.
"إن الله تعالى طيب" طيب بمعنى طاهر منزه عن النقائص، لا يعتريه النقص بأي حال من الأحوال، فهو عز وجل طيب في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، وفي كل ما يصدر منه، وليس فيها نقص بأي وجه.
وفيه إثبات اسم الطيب لله عز وجل.
"لا يقبل إلا طيبا" فهو سبحانه وتعالى، لا يقبل إلا الطيب من الأعمال، والعمل الطيب ما تحقق فيه الإخلاص والمتابعة.
وكل ما ليس بطيب فهو مردود عند الله عز وجل، فلا يَقبل الله الشرك؛ لأنه ليس بعمل طيب، ولا يقبل الصدقة من مال حرام؛ لأنها ليست من مال طيب.
ولذا فمن دخل عليه مال حرام فيجب عليه أن يتخلص منه، فيخرجه من ماله ويصرفه في وجوه الخير بنية التخلص من هذا المال الحرام، لا بنية الصدقة، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.
ومن أمثلة ذلك نسبة الحرام في شركات المساهمة المختلطة، فيجب التخلص منها بصرفها في وجوه الخير ولا ينوي بها الصدقة، ولا يحل له أن ينتفع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع.
وإن كان هذا المال الحرام يُعرف مالكه، كالمال المسروق والمغصوب وجب رده إليه إن كان حياً أو لوارثه إن كان ميتا، ولو بطريق غير مباشر، فإن لم يَعرف المالك تصدق به بالنية عنه، فيكون لمالكه الأجر يوم القيامة، ثم إن ظهر مالكه يوما من الدهر خيَّره بين إمضاء الصدقة له، أو ردِّ المال له، فإن رد المال لمالكه صار أجر الصدقة لهذا الذي طهَّر ماله من الحرام.
"وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" فيه رفع لشأن المؤمنين، وأنهم أهل لأن يؤمروا بما أمر به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقال عز وجل في أمر المرسلين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًا﴾ [المؤمنون: الآية51].
فأمر الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يأكلوا من الطيبات، والطيبات هي: التي أحلها الله عز وجل، واكتُسبت من طريق شرعي.
فإن لم يُحلَّها الله كالخنزير فإنه لا يحل أكله لأنه ليس من الطيبات، وإن أحله الله ولكن اكتسب عن طريق محرم كما لو سرق فواكه، فلا يحل أكلها، لأنها ليست من الطيبات.
" واعملوا صالحا " أي اعملوا عملا صالحا، والعمل الصالح ما جمع الإخلاص والمتابعة.
وقال تعالى في أمر المؤمنين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ﴾ [البقرة: الآية172] كما قال للرسل: ﴿كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ﴾ فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.
وقوله تعالى: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ﴾ المراد بالشكر العمل الصالح؛ لقوله تعالى في الآية الأولى: ﴿كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًا﴾ فدل على وجوب شكر النعم بالعمل بطاعة الله تعالى.
"ثم ذكر الرجل يطيل السفر " والسفر من أسباب إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث، وَمَتَى طَالَ السَّفَرُ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِ انْكِسَارِ النَّفْسِ بِطُولِ الْغُرْبَةِ عَنِ الْأَوْطَانِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَالِانْكِسَارِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ.
"أشعث أغبر" يعني أشعث في شعره أغبر من التراب.
وحُصُولُ التَّبَذُّلِ فِي اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ بِالشَّعَثِ وَالِاغْبِرَارِ مِنَ الْمُقْتَضِيَاتِ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي قول النَّبِيِّ ﷺ «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ([15])، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» - صحيح الترغيب 3/252 - «وَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِلِاسْتِسْقَاءِ، خَرَجَ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا»
"يمد يديه إلى السماء" ومد اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» رواه أبو داود.
فرفع اليدين عند الدعاء مستحب، إلا ما ورد في الشرع عدم الرفع فيه.
وذلك أن رفع اليدين في الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما ورد فيه رفع اليدين، كما إذا دعا الخطيب باستسقاء، فإنه يرفع يديه والمأمومون كذلك، لما رواه البخاري في حديث أنس رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي طلب من الرسول ﷺ في خطبة الجمعة أن يستسقي فرفع النبي ﷺ يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون.
ومما جاء في السنة رفع اليدين في القنوت في النوازل. وكذلك رفع اليدين على الصفا وعلى المروة، وفي عرفة، وما أشبه ذلك فالأمر في هذا واضح.
القسم الثاني: ماورد فيه عدم الرفع كالدعاء بغير الاستسقاء حال خطبة الجمعة، فلو دعا الخطيب للمؤمنين والمؤمنات في خطبة الجمعة فإنه لا يرفع يديه، لأنه خلاف السنة.
وكذلك رفع اليدين في دعاء الصلاة كالدعاء بين السجدتين، والدعاء بعد التشهد الأخير، وما أشبه ذلك، هذا أيضا أمره ظاهر.
القسم الثالث: ما لم يرد فيه الرفع ولا عدمه: فالأصل الرفع لأنه من آداب الدعاء ومن أسباب الإجابة، للحديث المتقدم: "إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا".
"يا رب يا رب" توسل في دعائه باسم من أسماء الله تعالى وهو الرب، والتوسل بأسماء الله تعالى في الدعاء من أسباب الإجابة.
ثم كرر ذلك ومن أسباب الإجابة الإلحاح على الله تعالى.
قال ابن رجب: (وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَدْعِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَدَهَا غَالِبًا تُفْتَتَحُ بِاسْمِ الرَّبِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾، ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ).
"ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام([16])" أي طعامه وشرابه ولباسه وغذاؤه كله من الحرام إما لذاته أو لكسبه.
وغذي: ضبطها المؤلف في باب ضبط المشكل في آخر هذه الرسالة، فقال: (هو بضم الغين وكسر الذال المعجمة المخففة).
"فأنى يستجاب لذلك" أنى: اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني يبعد أن يستجاب لهذا، مع تعدد أسباب الإجابة في حقه كما تقدم.
وهذا يدل على خطر تناول الحرام، وأنه سبب لعدم إجابة الدعاء.
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وعند الترمذي وَغَيْرِهِ زِيَادَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ " فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ " وقال في الإرواء: إسناده صحيح تحت رقم 12.
ولفظ ابن حبان: (الخير طمأنينة والشر ريبة) وصححه في الإرواء 7/155.
وقال عمر t: دعوا الربا والريبة. رواه ابن ماجه برقم 2276 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
(عن الحسن بن علي) الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط النبي ﷺ، والسبط: هو ابن البنت، وابن الابن يسمى: حفيدا.
وأما قوله: (وريحانته) الريحانة هي: الزهرة الطيبة الرائحة، وقد وَصف النبي ﷺ الحسن والحسين رضي الله عنهما بأنهما ريحانتاه من الدنيا.
وقوله: "دع ما يريبك" أي اترك ما يلحقك به ريب وشك وقلق "إلى ما لا يريبك" أي إلى شيء لا يلحقك به ريب ولا شك ولا قلق.
وضبطها المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: (بفتح الياء وضمها لغتان، والفتح أفصح وأشهر، معناه: اترك ما شككت فيه واعدل إلى ما لا تشك فيه)
فهذا الحديث من جوامع كلمه ﷺ، وهو نافع للعبد إذا عمل به، فإن العبد يَعرض له في بعض أموره ما يجعله يتردد ويشك، فحينئذ يقال له: دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه. فيحصل له بذلك الاطمئنان والبراءة لدينه.
والْحَلَالَ الْمَحْضَ لَا يَحْصُلُ في قلب المؤمن منه رَيْبٌ، بَلْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَأَمَّا الْمُشْتَبِهَاتُ فَيَحْصُلُ بِهَا لِلْقُلُوبِ الْقَلَقُ وَالِاضْطِرَابُ الْمُوجِبُ لِلشَّكِّ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَرِعًا، تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا شَيْءٌ أَهْوَنُ مِنَ الْوَرَعِ، إِذَا رَابَكَ شَيْءٌ، فَدَعْهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَسْهُلُ عَلَى مِثْلِ حَسَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبَ غُلَامٌ لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ إِلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَازِ: إِنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، فَاشْتَرِ السُّكَّرَ فِيمَا قِبَلَكَ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ، فَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلٌ فَإِذَا فِيمَا اشْتَرَاهُ رِبْحُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، قَالَ: فَأَتَى صَاحِبَ السُّكَّرِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ غُلَامِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ، فَلَمْ أُعْلِمْكَ، فَأَقَلَّنِي فِيمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ، وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ، قَالَ: فَرَجَعَ فَلَمْ يَحْتَمِلْ قَلْبُهُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَأُحِبُّ أَنَّ تَسْتَرِدَّ هَذَا الْبَيْعَ، قَالَ: فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: تَرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فِيمَا لَا تَرَوْنَ بِهِ الْيَوْمَ بَأْسًا.
وإذا دخل على المرء مال مشتبه فإنه يستحب له الصدقة به قاله ابن رجب رحمه الله تعالى.
ومن الأمثلة لما يرتاب فيه الإنسان:
إذا طرأ الشك بعد الفراغ من العبادة فإن الشك يترك، ولا يلتفت إليه، إلا أن يتيقن أنه أخل بالعبادة.
مثاله: من فرغ من صلاته ثم شك هل صلى أربع ركعات أو ثلاث؟ فيترك الشك، ولا يلتفت إليه، والأصل صحة صلاته، إلا أن يتقين أنه صلى ثلاثا فيلزمه الإتمام إن كان الفصل قصيرا، ويسجد للسهو، وإلا أعاد الصلاة.
وهذا ما لم يصل إلى حد الوسواس، فإن وصل إلى حد الوسواس فلا يلتفت إليه.
وعدم الالتفات إلى الوسواس هو ترك لما يريبه إلى ما لا يريبه، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - الشك إذا كثر فلا عبرة به، لأنه يكون وسواسا، وعلامة كثرته: أن الإنسان إذا توضأ لا يكاد يتوضأ إلا شك، وإذا صلى لا يكاد يصلي إلا شك، فهذا وسواس فلا يلتفت إليه، وحينئذ يكون قد ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.
وَينبغي التنبه إلى أَنَّ التَّدْقِيقَ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنِ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ كُلُّهَا، وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَأَمَّا مَنْ يَقَعُ فِي انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقِ الشُّبَهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَسْأَلُونَنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» .
الحديث الثاني عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» حديث حسن، رواه الترمذي وغيره.
هذا الحديث حكم عليه جماعة من الحفاظ بأنه مرسل، كما ذكره ابن رجب.
ولكن حسنه المؤلف رحمه الله تعالى، وحسنه شمس الدين ابن مفلح في الفروع 5/522.
أخرجه الإمام أحمد 1737، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
وأخرجه الترمذي 2318، وقال الألباني: صحيح لغيره.
وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب.
ومعنى الحديث: أن مَن حسُن إسلامه ترك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال؛ ومعنى يعنيه: أي يهمه، وتتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه.
وليس المراد أنه يترك ما لا يعنيه بحكم هواه، وما تميل إليه نفسه، بل بحكم الشرع، ولهذا جعله من حسن الإسلام، فإذا حسن إسلام المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام الكامل يقتضي ترك ما لا يعني المرء في دينه، فيترك المحرمات والمشتبهات والمكروهات بل وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه.
وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: من عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه.
فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله، فيتجاوز فيه، ولا يتحرى.
وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله، فقد كمل حسن إسلامه.
وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسُن إسلامه وأنه تضاعف حسناته، وتكفر سيئاته، ففي " صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل»
فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النية فيه.
ولا يدخل في ترك ما لا يعني الإنسان أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لإخوانه، فإن هذا مما يعنيه لأن الإسلام أمر بذلك.
الحديث الثالث عشر
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» رواه البخاري ومسلم.
ولفظ مسلم برقم: 45: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي لا يتم إيمان أحدكم، فالنفي هنا للكمال والتمام، وليس نفيا لأصل الإيمان.
لأن عدم محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه، لا يخرج به من دائرة الإيمان، ولا يعتبر مرتدا، وإنما هو من باب النصيحة، فيكون النفي هنا نفيا لكمال الإيمان.
يبين ذلك رواية ابن حبان لهذا الحديث، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لنفسه من الخير" رواه ابن حبان 235. وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان 1/304.
فتبين بهذه الرواية أن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته.
وقوله: "حتى يحب لأخيه" (حتى) للغاية، يعني: إلى أن "يحب لأخيه"
وقوله: "لأخيه" أي المؤمن "ما يحب لنفسه" من الخير، ودفع الشر.
والمقصود أن من خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه، فقد نقص إيمانه بذلك.
ودليل وجوب هذه الخصلة أن الإيمان لا يُنفى إلا لفوات واجب فيه أو وجود ما ينافيه.
وقال النبي ﷺ لأبي هريرة رضي الله عنه: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما) أخرجه الترمذي.
ومحبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه لا تكون إلا ممن له قلب سليم لإخوانه المسلمين، لا يحمل لهم غشا ولا حقدا ولا غلا.
وفي الحديث التحذير من الحسد؛ لأن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يتمنى زوال نعمة الله عن أخيه المسلم.
وقد رتب النبي ﷺ دخول الجنة والنجاة من النار على هذه الخصلة؛ ففي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) رواه مسلم 1844.
وقال النبي ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» متفق عليه، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن، ويحزنه ما يحزنه.
ومما ورد عن السلف من محبتهم للناس ما يحبون لأنفسهم:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.
وقال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم، ولم ينسب إلي منه شيء.
الحديث الرابع عشر
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري ومسلم.
"لا يحل دم امرئ مسلم" أي لا يحل قتل المسلم، وكذا لا يحل قتل المرأة المسلمة، لأن الأحكام الشرعية تعم الرجل والمرأة إلا ما قام الدليل على تخصيص أحدهما بالحكم.
وتحريم دم المسلم أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهو من الكبائر العظيمة، قال تعالى: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا﴾ [النساء: 93].
ولهذا أول ما يقضى بين الناس من حقوق العباد في الدماء كما جاء في الحديث.
وأما غير المسلم فإن كان معصوم الدم وهو الذمي والمعاهد والمستأمن، فلا يحل قتله؛ لقوله ﷺ: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة) وإن كان غيرُ المسلم حربيا، وهو من ليس بينه وبين المسلمين ذمة ولا عهد ولا أمان فهو مباح الدم والمال.
"إلا بإحدى ثلاث" استثنى من تحريم قتل المسلم أن يكون واحدا من هؤلاء الثلاثة فيحل قتله.
وفي الحديث حسن تعليم النبي ﷺ، حيث عمد إلى التقسيم في قوله: (بإحدى ثلاث)؛ لأن التقسيم يحصر المسائل ويجمعها وهو أسرع حفظا وأبطأ نسيانا.
"الثيب الزاني" الثيب هو: الذي جامع في نكاح صحيح، فإذا زنا بعد أن أنعم الله عليه بنعمة النكاح الصحيح صار مستحقا للقتل، بأن يرجم حتى الموت بالإجماع.
ومفهوم قوله "الثيب" أن البكر لا يحل دمه إذا زنا، وهو الذي لم يجامع في نكاح صحيح.
وفي صحيح مسلم عن عبادة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
"والنفس بالنفس" المقصود به القصاص، أي أنه إذا قتل إنسان إنسانا عمدا عدوانا قتل به عند توفر الشروط التي يذكرها الفقهاء.
وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ﴾
ويدخل في عموم الآية قتل الرجل بالمرأة والمرأةِ بالرجل؛ لأنها نفس بنفس، وقد صح أنه ﷺ قتل يهوديا قتل جارية.
ويستثنى من عموم قوله: ﴿ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ﴾ صور، منها:
"والتارك لدينه" أي المرتد بأي نوع من أنواع الردة.
"المفارق للجماعة" هذا عطف بيان، يعني أن التارك لدينه مفارقٌ للجماعة خارج عنها.
وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: «من بدل دينه فاقتلوه».
قال ابن رجب: (والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين).
ومن حل دمه في الشرع فليس لكل أحد من الناس أن يقتله، بل ذلك خاص بولي الأمر أو نائبه؛ لقول النبي ﷺ: "وأغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، ولئلا يكون الأمر فوضى.
الحديث الخامس عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» رواه البخاري ومسلم.
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» " يدل على أن هذه الخصال الثلاث المذكورة في الحديث من خصال الإيمان، والأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
فأول هذه الخصال: أن يقول الخير، وأن يصمت عما سواه.
وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) رواه الإمام أحمد 13048، وحسنه الألباني في الصحيحة 2841.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» رواه الترمذي 2501، وصححه الألباني.
وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» .
وقوله ﷺ: (فليقل خيرا أو ليصمت) أمر بقول الخير، وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، بل إما أن يكون خيرا، فيكون مأمورا بقوله، وإما أن يكون ليس بخير، فيكون مأمورا بالصمت عنه.
وقول الخير نوعان:
أما القول الذي ليس بخير لذاته ولا لغيره فهو مأمور بالصمت عنه، فيدخل في ذلك الكلام المحرم والمكروه، ويدخل فيه أيضا المباح الذي لا حاجة إليه في أموره وحوائجه، فالسكوت عن هذا الكلام أفضل من التكلم به؛ لأن الكلام المباح ربما جره إلى الوقوع في الكلام المنهي عنه، كما هو واقع عند كثير من الناس.
ولأن الإكثار من الكلام المباح بلا حاجة يوجب قسوة القلب.
وقد روي في الأثر: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه.
وقد قال الله تعالى: ﴿إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ﴾ ﴿مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ﴾ وقد حكى ابن رجب إجماع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد.
وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان.
وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحِكمة الصمت.
وليس الكلام مأمورا به على الإطلاق، ولا السكوت مأمورا به على الإطلاق، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر.
وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيهما أفضل الصمت أو النطق؟ فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه.
وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصامت على علم كالمتكلم على علم، فقال عمر: إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلَهما يوم القيامة حالا، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق؟ فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا.
الخصلة الثانية المأمور بها في هذا الحديث: إكرام الجار، وفي رواية في البخاري 5185، ومسلم 47: "فلا يؤذي جاره"، وفي رواية في البخاري 6138: (فليصل رحمه) بدل: (فليكرم جاره).
ويدخل في إكرام الجار، إكرامه بالكلام الحسن، والبشاشة عند اللقاء، وإكرامه بالطعام والهدية، وحفظه في ماله وأهله، وعدم أذيته، وما أشبه ذلك مما يعد في العرف إكراما.
وكلما كان الجار أقرب كان حقه أعظم.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الظاهر أنه يشمل حتى جاره في المتجر، كجارك في الدكان مثلا، لكن هو في جار البيت أظهر.
فأما أذى الجار، فمحرم فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، وهو في حق الجار أشد تحريما.
لقول النبي ﷺ: (لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أيسرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ) . . . وقَالَ: (لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرق من بيت جاره) رواه البخاري في الأدب المفرد ص57، وصححه الألباني.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه».
وروى الإمام أحمد 9675، أن رجلا قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ» وصححه الألباني في الصحيحة 190.
وفي " الصحيحين " عن عائشة وابن عمر، عن النبي ﷺ قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» .
وفي الترمذي «عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة، فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي ﷺ يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار ظننت أنه سيورثه» " فإذا كان هذا في حق الجار اليهودي فكيف بالمسلم.
ومن حسن الجوار أن يصبر على أذاه، فعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ . . . - وذَكَر منهم - الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ» رواه الإمام أحمد 21340، وصححه الألباني في صحيح الجامع 3074.
الخصلة الثالثة مما أمر به النبي ﷺ في هذا الحديث: إكرام الضيف، والمراد إحسان ضيافته، ويدخل في ذلك إكرامه بالكلام الحسن والبشاشة، والطعام والشراب وما أشبه ذلك مما يعد إكراما في العرف.
والضيف: المسافر الذي ينزل بك، فهذا ضيف يجب إكرامه.
والوجوب مقيد عند بعض الفقهاء بما إذا كان في القرى أي المدن الصغيرة، أو على أهل الخيام، وأما في الأمصار والمدن الكبيرة فلا يجب، لأن هذه فيها المطاعم والفنادق التي يأوي إليها المسافر، أما القرى الصغيرة التي لا يوجد ذلك فيها فتجب ضيافته.
والواجب في الضيافة يوم وليلة، وتمام ثلاثة أيام مستحب.
ففي " الصحيحين عن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته قالوا: وما جائزته؟ قال: " يوم وليلة " قال: والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك، فهو صدقة».
الحديث السادس عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي ﷺ أوصني، قال: «لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب» رواه البخاري.
هذا جاء بعدة روايات، منها رواية الترمذي أن الرجل قال: يا رسول الله، علِّمني شيئاً ولا تُكثر عليَّ، لَعَلِّي أعيَه، قال: «لا تَغْضَب»، فردد ذلك مراراً، كلُّ ذلك يقول: «لا تغضب» (2020)
وفي رواية للإمام أحمد أن الرجل: سأل النَّبيَّ r: ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل -؟ فقال النبي r: «لا تَغْضَب». وحسنه الألباني في صحيح الترغيب 3/45
وفي رواية للطبراني أن الرجل قال: دلني على عمل يدخلني الجنة؟ فقال النبي r: «لا تغضب، ولك الجنة» قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح. وقال الألباني في صحيح الترغيب 3/46: صحيح لغيره.
فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ r أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها؛ لكثرتها، فوصَّاه النَّبيُّ r أنْ لا يغضب، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً، والنَّبيُّ r يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير.
فإن المرء إذا غضب دعاه غضبه إلى كثير من الأفعال والأقوال المحرمة، كالقتل والضرب والعدوان على غيره، والسب والقذف وفحش القول، بل ربما وصل به الحال أن ينطق بالكفر عياذا بالله.
ويشهد لهذا المعنى أن رجلا من أصحاب النبي r قال: قلتُ: يا رسولَ الله أوصني، قال: «لا تَغْضَبْ» قال الرجل: ففكرتُ حين قال النَّبيُّ r ما قال، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه. رواه الإمام أحمد. – قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب 3/45 –
ودل هذا الحديث برواياته على وصية النبي r وتأكيده بترك الغضب، وأنه مما يباعد العبد عن غضب الله، وأنه سبب لدخول الجنة.
قال جعفر بنُ محمد: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ. وقيل لابنِ المبارك: اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضبِ. وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغضب، والطمع.
ومعنى قوله r: «لا تَغْضَبْ» أي تخلَّق بمحاسن الأخلاق، من الكرم والحِلم والحياء، والتواضع وكف الأذى والصفح والعفو، وغيرها من كريم الخصال، فإن من تخلَّق بها، أوجب له ذلك دفعَ الغضب عند حصول أسبابه، والتحرزَ منه قبل وقوعه.
ويدخل في معنى الحديث، أن من وقع منه الغضب، فليجاهد نفسه في ألا يعمل بما يمليه عليه غضبه، من الانتقام والانتصار للنفس، فإن الغضب إذا مَلَك الإنسان، صار كالآمر الناهي له، فمن جاهد نفسه عند الغضب اندفع عنه شره.
وقد أثنى الله على عباده المؤمنين فقال: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمۡ يَغۡفِرُونَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾.
ومن الأسباب المعينة على دفع الغضب، وتسكينه بعد وقوعه:
وهذا دواء عظيم للغضب؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه، من القول ما يندم عليهِ بعد زوال غضبه، من السِّباب وغيره، فإذا سكت سلم من ذلك كله.
وقد تقدم أن النبي ﷺ قال: «لا تغضب ولك الجنة»
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله r: «ما من جُرعة أعظم أجرا عند الله، من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» رواه ابن ماجه. قال المنذري في الترغيب: ورواته محتج بهم في الصحيح. وقال الألباني في صحيح الترغيب 3/47: صحيح لغيره.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ r عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ» رواه الترمذي (2021) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وقال الألباني في صحيح الترغيب 3/48: حسن لغيره.
وهدي النبي r في الغضب أكملُ الهدي، فكان لا يغضب وينتقِمُ لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله، لم يَقُمْ لِغضبه شيء، وخدمه أنس t عشرَ سنين، فما قال لشيء فعله: ((لم فعلت كذا)) ولا لشيء لم يفعله: «ألا فعلت كذا».
ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ t قَولَ القائل فيه: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه r وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أنْ قال: «قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر» متفق عليه.
وكان r إذا رأى، أو سَمِعَ ما حرمه الله، غَضِبَ لذلك، وقال فيه، ولم يَسْكُتْ، وقد دخل بيتَ عائشة t فرأى ستراً فيه تصاويرُ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه، وقال: «إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذاباً يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ» متفق عليه. ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه، غَضِبَ، واشتد غضبُه، ووَعَظَ النَّاسَ، وأمر بالتَّخفيف. رواه مسلم.
وكان من دعائه r: «أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا» رواه النسائي، وهذا عزيز جداً في الناس، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يبالي يما يقول.
الحديث السابع عشر
عن أبي يعلى شداد بن أوس، عن رسول الله ﷺ قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته». رواه مسلم.
(إن الله كتب الإحسان على كل شيء) كتابة الله تعالى نوعان: كتابة قدرية، وكتابة شرعية.
الكتابة القدرية لابد أن تقع، والكتابة الشرعية قد تقع من بني آدم وقد لا تقع.
مثال الأول: قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ فهذه كتابة قدرية.
ومن الكتابة الشرعية قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ أي كتب شرعا.
فقوله ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» هذا من الكتابة الشرعية، وهي التي يتجه الخطاب فيها للمكلفين، ولهذا مثَّل النبي r في هذا الحديث بمثال يتعلق بالمكلفين، وهو قوله r: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ...».
و(على) في قوله r: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» بمعنى (في).
فيكون معنى الحديث: إن الله تعالى أوجب الإحسان في كل شيء؛ لأن لفظ: كتب. يدل على الوجوب، كما في قوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾.
وقد أمر الله عباده بالإحسان، وحثهم عليه ورغبهم فيه في عدة آيات، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ﴾ وأخبر أن المحسنين ينالون محبته، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾. وقال جل وعلا: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ والمحسنون هم أهل معية الله عز وجل، معيةِ النصر والحفظ والتأييد كما في قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾.
ولذا فقد تَسَمَّى ربنا جل جلاله وتقدست أسماؤه باسم المحسن، فعن أَنَسٍ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ الإِحْسَانَ فَإِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَإذا قلتم أحسنوا» رواه ابن عدي في الكامل 7/307، وقال الألباني في الصحيحة (469): إسناد جيد.
والإحسان المأمور به على مرتبتين: إحسان واجب كالإحسان إلى الوالدين ببرهما، والإحسان إلى الأرحام بصلتهم، وتارة يكون الإحسان مستحبا، كالإحسان إلى الفقير بصدقة التطوع عليه.
والإحسان يكون في كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات: الإتيان بها بتكميل شروطها وأركانها وواجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب.
والإحسان فيما يتعلق بالمحرمات: يكون بالكف عنها، كما قال تعالى: ﴿وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥٓ﴾. فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.
والإحسان في الصبر على ما قدر الله تعالى، فيكون بالصبر عليها من غير تسخط ولا جزع.
والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله.
فيحسن في معاملته صالحي المؤمنين، ويحسن للفساق من هذه الأمة، بل ويحسن للكفار، بأن يعامل الجميع على وفق شريعة الله عز وجل.
والإحسان الواجب في حق من له ولاية على الناس، يكون بالقيام بواجب الولاية من العدل بين الناس وإعطائهم حقوقهم.
والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان مستحب.
ومن الإحسان الإحسان في القول، بأن يتكلم بالكلام الحسن ويُحجم عن الكلام القبيح، لقوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا﴾ بل يتحرى في كلامه أحسن ما يمكنه، لقول الله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾.
والإحسان يكون بما وافق الشرع وإن كان فيه تغليظ، كما في إقامة الحدود الشرعية فإنها إحسان؛ لما يترتب عليها من المصالح العظيمة ودرء المفاسد الكبيرة، وإن كان في إقامة الحد إضرار بالمحدود، وكذا قتل ما أمر الشرع بقتله من آدمي أو حيوان هو في الحقيقة إحسان؛ لما في قتله من المصالح ودرء المفاسد.
وبهذا يتبين أن قوله r في هذا الحديث «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» من جوامع كلمه r، لجمعه المعاني الواسعة في جملة واحدة، وهو قاعدة من قواعد الدين؛ لأن الإحسان المأمور به يعم الإحسان في أمور الدين والدنيا.
(فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة) هذا مثال على الإحسان، وهو الإحسان عند قتل من يستحق القتل من آدمي أو بهيمة، وذلك بأن يُقتل بما يكون أسرعَ في إزهاق روحه، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ إِيلَامٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
والقِتلة والذِّبحة بالكسر، أي الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة القتل، وهيئة الذبح.
والأمر هنا للوجوب، فدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة.
ولهذا المعنى فقد نهى النبي r عن القتل بالنار؛ لما فيه من التعذيب، ففِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» . وقال النَّبِيَّ ﷺ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه البخاري.
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ نهى أن تصبر البهائم. وهو: أن تُحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت، وفيهما أيضا، «عن ابن عمر: أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله ﷺ لعن من فعل هذا» .
وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، وهي الوسيلة الشرعية الأشهر، فغالب من يستحق القتل يكون قتله شرعاً بهذه الوسيلة، حتى قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (القتل إذا أُطلق في لسان الشرع، كان قتلاً بالسيف)([17])
فإن تعذر استعمال السيف ينتقل إلى وسيلة أخرى يتحقق بها إحسان القتل، والمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة من الأطباء.
(وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة) أي عند تذكية البهيمة، فهو مأمور بإحسان الذبح، ولذا قال:
(وليُحِد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) لأن الذَّبْحَ بِالْآلَةِ الْحَادَّةِ يُرِيحُ الذَّبِيحَةَ بِتَعْجِيلِ زُهُوقِ نَفْسِهَا.
ويدل له أيضا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم - أمر بحَدِّ الشِّفار – أي السكاكين - وأن توَارى عن البهائم، "وإذا ذَبح أحدكم فليجْهِزْ". يعني فليسرع الذبح. رواه أحمد (5864) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. ورواه البيهقي في الكبرى برقم (19139) وقال بعده: كَذَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ مَوْصُولًا جَيِّدًا. وصححه الألباني في الصحيحة برقم (3130).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " مَرَّ رسول الله ﷺ على رجل واضعٍ رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: (أفلا قبل هذا، أتريد أن تميتها موتتين) رواه البيهقي في الكبرى، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (24).
والأمر في قوله: (وليحد أحدكم شفرته) للوجوب، لأنه يتحقق به إحسان القتل المأمور به، فإن ذَبَح بسكين كالَّة أي ليست حادة، ولكن قطع ما يجب قطعه فالذبيحة حلال لكنه آثم حيث لم يحد الشفرة.
فائدة: ذكر الخطابي في معالم السنن 4/183 في شرح حديث: (وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء) أن الله تعالى قد ألهم الحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالاستغفار للعلماء مجازاة لهم على حسن صنيعهم، بأن أمرو الناس بما أمر به الشرع من الإحسان إلى الحيوان والرفق به، وعدم إضراره.
الحديث الثامن عشر
عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.
هذا حديث عظيم اشتمل على وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده.
وقد ذكر ﷺ في هذا الحديث ثلاث جمل:
الأولى: (اتق الله حيثما كنت) "اتق الله" أي اتخذ وقاية من عذاب الله عز وجل، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وعرف طلق بن حبيب رحمه الله تعالى التقوى بقوله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وأعلى درجات التقوى أن يفعل المرء الواجبات، ويترك المحرمات والشبهات، ويفعل المندوبات، ويترك المكروهات.
وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام.
وقال ميمون بن مهران: المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ﴾، قال: أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر، فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر.
فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله ﷺ لأمته، وكان ﷺ إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا.
وثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى»
ومن لازم التقوى العلم بما يُتقى، فالجاهل لا يحسن أن يتقي الله تعالى لجهله، فقد يقع في الحرام ويترك الواجب.
" حيثما كنت" حيث: ظرف مكان، أي في أي مكان كنت، سواء أكنت في السر أم في العلانية.
وكان من دعاء النبي ﷺ: «وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة»
والجملة الثانية: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها" أي إذا زلت بك القدم وفعلت سيئة فأتبعها بحسنة، فإنها تمحوها.
فدل هذا الحديث على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن تلك الحسنة هي التوبة، ويدل له أيضا قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِ﴾
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ فَنَزَلَتْ: ﴿أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ﴾ متفق عليه، وهذا يدل على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن الحسنة التوبة.
وهذا من فضل الله تعالى على عباده، أن يسر لهم تكفير السيئات بعدة طرق، فتكفر السيئة بالتوبة منها، وبالحسنات التي تمحوها، وبرحمة الله تعالى، وبغير ذلك.
وظاهر الحديث أنه لا يشترط لكون الحسنة تمحو السيئة أن ينوي بفعل الحسنة محو السيئة التي فعلها، بل بمجرد فعل الحسنة تمحى السيئة، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
الجملة الثالثة: " وخالق الناس بخُلُق حسن" أي عامل الناس بالأخلاق الفاضلة قولا وفعلا.
والخُلُق الحسن عُرِّف بأنه كف الأذى، وبذل الندى، والصبر على الأذى وطلاقة الوجه.
من كف أذاه عن الناس، وبذل لهم العطاء من الخير، وصبر على أذاهم، وقابلهم بوجه طلق، فهو ممن اتصف بحسن الخُلق.
والخلق الحسن من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، فهو داخل في الجملة الأولى: (اتق الله حيثما كنت) وإنما أفرده بالذكر لأجل العناية به، لأنه قد يُظَن أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده، كما أن بعض من يقوم بحق الله تعالى والإقبال عليه والاشتغال بطاعته يقع منه شيء من التقصير في حقوق العباد، ولهذا قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (الجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين).
وقد ورد في فضل حُسن الخلق أحاديث كثيرة، منها قوله ﷺ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا) رواه الترمذي 2018، وصححه الألباني.
ومنها قوله ﷺ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» رواه أبو داود 4798، وصححه الألباني.
ومنها قوله ﷺ: «أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» أخرجه الترمذي.
والخلق الحسن قد يكون جبليا، وقد يكون مكتسبا.
فبعض الأخلاق تكون جبلية في الإنسان، بمعنى أن الله تعالى يخلقه على هذا الخُلق الحسن، كما قال النبي ﷺ لأشج عبد قيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة" قال: يا رسول الله أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: "بل جبلك الله عليهما" قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب.
وقد يكون الخُلق مكتسبا، فيسعى الإنسان ويجاهد نفسه على تحسين خُلقه، كما قال النبي ﷺ: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري 1469، ومسلم 1053.
وقال النبي ﷺ: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) رواه الطبراني في الأوسط 2663، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2328.
الحديث التاسع عشر
«عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي ﷺ فقال لي: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي: «احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» .
هذا الحديث رواة الترمذي 2516 كما قال المؤلف رحمه الله تعالى، ونقل قوله: حديث حسن صحيح.
وقال ابن رجب: عن رواية الترمذي إنها حسنة جيدة.
وصححه الألباني.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً، وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ.
وقد أفرده ابن رجب بالشرح في رسالة بعنوان: نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي ﷺ لابن عباس. وهي مطبوعة.
" يا غلام" لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيرا آنذاك، فكان عند وفاة النبي ﷺ قد ناهز الاحتلام.
وفيه ملاطفة النبي ﷺ للصغار، وعنايته بتعليمهم ما ينفعهم.
"إني أعلمك كلمات" أي جمل، فإن الجملة يطلق عليها كلمة، ولهذا يقال في: لا إله إلا الله. كلمة الإخلاص، كما قال ابن مالك في ألفيته:
وكِلمة بها كلام قد يؤم. أي يقصد.
وفيه حسن تعليم النبي ﷺ، لأنه أتى بكلام مجمل (أعلمك كلمات) ليتشوف المخاطب إلى ما بعده، فيكون أبلغَ في ثبوت العلم.
"احفظ الله يحفظك" أي احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن لازم ذلك أن يكون على علم بما يفعل ويترك، فإذا حفظت الله تعالى فإنه يحفظك؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
وعُلم من هذا أن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه الله عز وجل.
وَحِفْظُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، يَدْخُلُ فِيهِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ، كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّوْا عَنْهُ.
فمَن حفظ الله حفظه الله من كل أذى.
وَمِن حِفظ اللَّهُ تعالى لعبده الصالح أن يحفظه في ذريته بعد موته، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا﴾ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ: لَأَزِيدَنَّ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِكَ، رَجَاءَ أَنْ أُحْفَظَ فِيكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا﴾.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ حفظ الله تعالى لعبده، وهو أعظم من الأول: حِفْظُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ، وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِيمَانِ.
"احفظ الله تجده تجاهك" احفظ الله: تقدم بيان معناها، ومعنى: تجده تجاهك. يعني تجد الله عز وجل أمامك، فهو معك يدلك على كل خير، ويهديك إليه، ويصرف عنك كل شر.
وهذه المعية الخاصة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ﴾ وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة.
أما المعية العامة فهي المذكورة في مثل قوله تعالى: ﴿يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ﴾ وتَقْتَضِي عِلْمَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِمْ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِتَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْهُ.
"إذا سألت فاسأل الله" إذا سألت حاجة فلا تسأل إلا الله عز وجل ولا تسأل المخلوق شيئا.
وفي حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن النبي ﷺ بايع جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ألا يسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ. رواه مسلم 1043.
وإذا قُدِّر أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عز وجل لو شاء لمنعه من إعطائك ما سألته.
أما من كان محتاجا، ولم يجد بداً من سؤال الناس، لفقرة أو عجزه عن الكسب، أو كان كسبه لا يفي بحاجته، جاز له السؤال، لكن لا يأخذ من المال إلا بقدر ما تندفع به حاجته، لما روى قبيصة بنُ مخارق t أن النبي r قال له: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمَّل حَمالة – أي دينا - فحلَّت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قِواما من عيش . . . ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش . . . فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا" رواه مسلم 1044.
ومع جواز السؤال عند الحاجة إلا أن الأولى أن يتعفف المؤمن عن سؤال الناس قدر الإمكان، وأن يستغني بالله تعالى، ويُعظِم رجاءه به وتوكله عليه، وسؤاله وحده، فعنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري 1469 ومسلم 1053.
"وإذا استعنت فاستعن بالله" أي وإذا طلبت العون فلا تطلبه إلا من الله عز وجل، لأنه الذي بيده كل شيء.
وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه فاعتقد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك.
وقوله: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ فَإِنَّ السُّؤَالَ هُوَ دُعَاؤُهُ سبحانه، وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، كما جاء في الحديث.
"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك"
الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله عز وجل ونعلم أن الأمة جميعا لا يجلبون لنا خيرا إلا بإذن الله عز وجل.
"وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" وعلى هذا فإن نالك ضرر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك، فارض بقضاء الله وقدره، وهذا لا يمنع أن يسعى الإنسان في دفع الضرر عن نفسه، والمطالبة بحقه إذا ظُلم.
"رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف" يعني أن ما كتبه الله عز وجل قد فرغ منه منذ زمن بعيد، فالأقلام رفعت والصحف جفت من المداد، ولا تبديل لكلمات الله.
ويدل لذلك حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: " كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " رواه مسلم 2653.
"وفي رواية غير الترمذي: احفظ الله تجده أمامك" وهذا بمعنى "احفظ الله تجده تجاهك" وقد تقدم بيان معناه.
"تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" يعني قم بحق الله عز وجل في حال الرخاء وفي حال الصحة وفي حال الغنى يعرفك في الشدة إذا زالت عنك الصحة وزال عنك الغنى واشتدت حاجتك، عَرَفك بما سبق منك من الطاعة التي تعرَّفتَ بها إلى الله عز وجل فَنَجَّاك مِنَ الشَّدَائِدِ، وَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ.
وَفُسِّر قول الله عز وجل في قصة يونس عليه السلام: ﴿فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ 143 لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ 144﴾، قِيلَ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الرَّخَاءِ. قاله غير واحد من المفسرين، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ([18]).
وعن قتادة ﴿فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ﴾ كان كثير الصلاة في الرخاء، فنجاه الله بذلك([19]).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» رواه الترمذي 3382، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ» وحسنه الألباني.
"واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك" أي واعلم أن ما قدَّر الله تعالى ألا يصيبك فلن يصيبك، وما قدر أن يصيبك فلا بد أن يصيبك، لأن ما قدره الله تعالى لا بد من وقوعه، فالأمر كله بيد الله سبحانه، وهذا فيه التسليم التام لما يقع على العبد من قدر الله عز وجل.
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا﴾
وفيه تسلية للعبد عند وقوع المصيبة، فإن (ما أصابك لم يكن ليخطئك) وتسلية له عند فوات ما يحب، لأن (ما أخطأك لم يكن ليصيبك).
وإذا وقعت المصيبة فإن للمؤمن بالقضاء والقدر درجتين:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْضَى بما قدَّر الله عليه من البلاء، وَهِيَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ جِدًّا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥ﴾ قَالَ عَلْقَمَةُ: هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ، فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ».
وَمِمَّا يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَقْضِ قَضَاءً، إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه الإمام أحمد 12160، وقال محققو المسند: حديث صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع 3985.
فَالرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ.
وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا، فَالرِّضَا مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَفِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ جَزِيلَ الْأَجْرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ﴾ وَقَالَ: ﴿وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ 155 ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ 156 أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ 157﴾ قَالَ الْحَسَنُ: الرِّضَا عَزِيزٌ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ.
"واعلم أن النصر مع الصبر" هذا فيه الحث على الصبر، وأن الصابر موعود بالنصر.
وَهَذَا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، وَهُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ، هُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فَإِنَّ جِهَادَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ».
فَمَنْ صَبَرَ فِيهِمَا، نُصِرَ وَظَفِرَ بِعَدُوِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فِيهِمَا وَجَزِعَ، قُهِرَ وَصَارَ أَسِيرًا لِعَدُوِّهِ أَوْ قَتِيلًا لَهُ.
"واعلم أن الفرج مع الكرب" الفرج: انكشاف الشدة، فكلما اكتربت الأمور فإن الفرج قريب، لأن الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيَۡٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا﴾ وَقَالَ: ﴿حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ﴾
وَقَوْلُهُ ﷺ " «وإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» " هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا﴾
فكل عسر يعقبه يسر، بفضل الله تعالى ورحمته بعباده. قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا 5 إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا 6﴾.
والحمد لله رب العالمين.
الحديث العشرون
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» رواه البخاري.
قوله: "إن مما أدرك الناس" (من) هنا للتبعيض، أي إن بعض الذي أدركه الناس من كلام النبوة الأولى ... الخ.
«إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى» يعني أن هذا الكلام مَأْثُورٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ النَّاسَ تَوَارَثُوهُ عَنْهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
"إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" هذه الكلمة من كلام النبوة الأولى.
والحياء خلُق يَكُفُّ صاحبه عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ، وَيَحُثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ.
وقوله: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" يحتمل معنيين:
المعنى الأول: إذا كان الفعل لا يُستحيى منه فاصنعه ولا تبال. فيكون قوله: (فاصنع) على ظاهره يفيد الأمر.
المعنى الثاني: إذا لم تكن ذا حياء فإنك تصنع ما تشاء، فيكون الأمر في قوله: (فاصنع) بمعنى الخبر، لأنه لا حياء عنده، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل.
فالأول عائد إلى الفعل، والثاني إلى الفاعل.
وقوله: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يقول العلماء: إن ما نقل عن الأمم السابقة لا يخلو من ثلاثة أحوال:
ولكن مع ذلك لا بأس أن يتحدث به الإنسان في المواعظ وشبهها إذا لم يخش أن يفهم المخاطب أنه صحيح. لقوله ﷺ: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)
ثم الحياء نوعان من جهة كونه مكتسبا أو غير مكتسب:
فالأول: مَا كَانَ خُلُقًا وَجِبِلَّةً غَيْرَ مُكْتَسَبٍ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَمْنَحُهَا اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَجْبُلُهُ عَلَيْهَا.
النوع الثاني: مَا كَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةِ عَظَمَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَهَذَا مِنْ أَعْلَى خِصَالِ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ، ولهذا قال النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ: " اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي رَجُلًا مِنْ صَالِحِ عَشِيرَتِكَ ".
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ تَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى؛ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ» رواه الترمذي.
وينبغي أن يُعلَم أن الحياء خلق محمود إلا إذا منع مما يجب، أو أوقع فيما يحرم، فبعض الناس يستحي أن ينكر المنكر الذي يجب عليه إنكاره، فهذا حياء مذموم، ما دام أنه ينكر على الوجه المشروع فلا وجه للحياء هنا.
وكذا من يكون مع قوم يفعلون معصية فيستحي أن يفارقهم، فيوافقهم على فعل هذا الحرام كالنظر إلى الحرام أو سماع الحرام حياءً، فهذا حياء مذموم.
وفي الحديث الرد على الجبرية، لإثبات المشيئة للعبد، في قوله: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت».
الحديث الحادي والعشرون
عن أبي عمرو - وقيل أبي عمرة - سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: «قل آمنت بالله، ثم استقم» رواه مسلم.
سفيان: هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الطائف.
والحديث رواه الترمذي 2410 عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا» وقال الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وصححه الألباني.
(قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك) أي طلب من النبي ﷺ أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره.
فقال له النبي ﷺ: «قل آمنت بالله، ثم استقم» وفي رواية الترمذي: «قل ربي الله، ثم استقم» هذا مأخوذ من قوله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ 13 أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ 14﴾
والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير انحراف عنه، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها.
ولا يلزم ممن سلك طريق الاستقامة ألا يقع منه معصية، بدليل قوله عز وجل: ﴿فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُ﴾ ففيه الإشارة إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة.
وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، كما خرجه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ثوبان، عن النبي ﷺ قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» ،
فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته وتعظيمه استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك، استقامت جنوده.
وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه المعبر عما في القلب، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
الحديث الثاني والعشرون
عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله ﷺ فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: «نعم» رواه مسلم.
ومعنى حرمت الحرام: أي اجتنبته.
ومعنى أحللت الحلال: أي فعلته معتقدا حله، والله أعلم.
هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ (15) وَزَادَ فِي آخِرِهِ بعد قوله ﷺ: (نعم) قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.
وقوله "أرأيت" بمعنى أخبرني.
"إذا صليتُ المكتوبات" أي الصلوات الخمس المفروضة.
" وأحللتُ الحلال" فسره المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: فعلته معتقدا حله.
وهذا يتضمن فعل الحلال، واعتقاد أنه حلال.
والقول الثاني في معنى أحللت الحلال: أي اعتقدت حل كل ما أحل الله تعالى، وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله عز وجل، وإن كان لم يفعل كل ما أحله الله تعالى.
ويَرِد على القول الأول: أن فعل كل حلال أحله الله تعالى ممتنع، لأن الحلال كثيرا جدا.
"وحرمت الحرام" أي اجتنبته كما فسره المؤلف.
والقول الثاني: أن معنى "وحرمت الحرام" أي اجتنبته معتقدا تحريمه؛ لأنه لا بد أن يعتقد أنه حرام، فإن من لم يعتقد حرمة ما تحريمه معلوم من الدين بالضرورة فإنه كافر؛ لتكذيبه الكتاب والسنة.
وفي هذا الحديث إشكال: أن الرجل قال: لم أزد على ذلك شيئا. وقد قال له النبي ﷺ تدخل الجنة، مع أنه نقص من أركان الإسلام الزكاة والحج، والزكاة مفروضة قبل الصيام، يعني فلا يقال: لعل هذا الحديث قبل أن تفرض الزكاة.
الجواب أن يقال: لعل النبي ﷺ علم من حال الرجل أنه ليس ذا مال، وعلم أنه إذا كان ذا مال فسوف يؤدي الزكاة، لأنه قال: "وحرمت الحرام" ومنع الزكاة من الحرام.
أما الحج: لعل هذا الحديث قبل فرض الحج، لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أو العاشرة.
وقد يقال: ذلك داخل في قوله: "حرمت الحرام" لأن ترك الحج حرام على المستطيع.
الحديث الثالث والعشرون
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها» رواه مسلم.
هذا حديث عظيم، من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، اشتمل على ما يرقق القلب، ويحمل على الطاعة.
وقوله: "الطُّهور شطر الإيمان" الطهور بضم الطاء أي الفعل، وبالفتح ما يتطهر به، فالماء طَهور.
والْمُرَادَ بِالطُّهُورِ في هذا الحديث: التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ مِنَ الْإِحْدَاثِ، ويؤيده ما جاء في رواية ابن ماجه 280 بلفظ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الْإِيمَانِ) وصححه الألباني، ورواية الترمذي 3517: (الوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ) وصححه الألباني.
والمراد بشطر الإيمان أي نصفه، ويؤيده رواية الترمذي 3519: (وَالطُّهُورُ نِصْفُ الإِيمَانِ) قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وضعفها الألباني.
وَعَلَى هَذَا فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى كَوْنِ الطُّهُورِ بِالْمَاءِ شَطْرَ الْإِيمَانِ.
فمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا: الصَّلَاةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡ﴾، وَالْمُرَادُ صَلَاتُكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةَ، فَالصَّلَاةُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِطُهُورٍ، فَصَارَ الطُّهُورُ شَطْرَ الصَّلَاةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وهذا المعنى محكي عن بعض السلف.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: خِصَالُ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ كُلُّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ وَتُزَكِّيهِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ، فَهِيَ تَخْتَصُّ بِتَطْهِيرِ الْجَسَدِ وَتَنْظِيفِهِ، فَصَارَتْ خِصَالُ الْإِيمَانِ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُطَهِّرُ الظَّاهِرَ، وَالْآخَرُ يُطَهِّرُ الْبَاطِنَ، فَهُمَا نِصْفَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
"والحمد لله تملأ الميزان" أي قول القائل: الحمد لله. يمتلئ بها ميزان العبد، والمراد الميزان الذي توزن به الأعمال يوم القيامة، فدل هذا الحديث على إثبات الميزان، كما قال الله عز وجل: ﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]
والميزان ميزان حقيقي، له كفتان ولسان، توزن به الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة.
وَهذا من ضَرْبُ المَثَلٍ، وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْحَمْدُ جِسْمًا لَمَلَأَ الْمِيزَانَ.
والحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما.
ومعنى الحمد لله: أي جميع أجناس المحامد كلها مستحقة لله سبحانه.
والله عز وجل يحمد على تفرده في ربوبيته وفي ألوهيته، وعلى ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، ويحمد على ما شرعه لنا من دين الإسلام، ويحمد على بعثة محمد ﷺ لهذه الأمة، ويحمد جل وعلا على خلقه وقدره، وغير ذلك كثير مما يحمد الله تعالى عليه، ويثنى عليه به.
"وسبحان الله، والحمد لله تملآن - أو تملأ – ما بين السماء والأرض"
معنى "سبحان الله" أي تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به.
ومعنى "الحمد لله" الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
فتكون هذه الجملة: "سبحان الله، والحمد لله" فيها: نفي النقص عن الله تعالى، وإثبات الكمال له سبحانه.
"تملآن - أو تملأ - ما بين السماء والأرض" والذي بين السماء والأرض مسافة لا يعلمها إلا الله عز وجل.
(أو) هذه شك من الراوي، يعني هل قال: تملآن ما بين السماء والأرض، أو قال: تملأ ما بين السماء والأرض.
وأيهما أفضل التَّسْبِيحُ أو التَّحْمِيدِ؟
الأفضل التحميد، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّحْمِيدَ إِثْبَاتُ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا لِلَّهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ كُلِّهَا، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، وَالْإِثْبَاتُ أَكْمَلُ مِنَ السَّلْبِ.
"والصلاة نور" أي صلاة الفريضة والنافلة نور، نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور يوم القيامة، لأن الحديث مطلق.
فإذا أدى الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها مقبلا على الله تعالى فيها فإنه يجد انشراحا ونورا في قلبه.
ولهذا قال النبي ﷺ: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)
وجاء في الحديث الذي رواه ابن حبان وغيره لما ذكر النبي ﷺ الصلاة قال: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا نَجَاةٌ وَلَا بُرْهَانٌ».
"والصدقة" الصدقة: بذل المال في وجوه الخير.
"برهان" أي دليل على صدق إيمان المتصدق.
وجه ذلك: أن المال محبوب للنفوس، ولا يبذل المحبوب إلا في طلب ما هو أحب، وهذا يدل على إيمان المتصدق، ولهذا سمى النبي ﷺ الصدقة برهانا.
"والصبر ضياء" الصبر: حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن فعل ما ينافي الصبر.
والصبر أنواع ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
ووصف الصبر بأنه ضياء، ولم يقل: إنه نور، كما قال في الصلاة، لأن الضياء فيه حرارة، كما قال الله عز وجل: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ﴾ وكذا الصبر فيه حرارة؛ لأنه شاق على الإنسان، ولهذا جعل الصلاة نورا، وجعل الصبر ضياء لما يحصل معه من المشقة والمعاناة.
"والقرآن حجة لك أو عليك" القرآن هو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق.
ويكون القرآن حجة لك إذا نصحت له، كما تقدم في شرح حديث: (الدين النصيحة) ويكون حجة عليك إذا لم تنصح له.
مثال ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ [البقرة: الآية43] هنا رجلان: أحدهما لم يقم الصلاة فيكون القرآن حجة عليه، والثاني أقام الصلاة فيكون القرآن حجة له.
ورجل آخر لم يؤت الزكاة فالقرآن حجة عليه، والثاني آتى الزكاة فالقرآن حجة له.
وفيه أن على قارئ القرآن أن يجتهد في العمل بالقرآن ويحاسب نفسه على ذلك، حتى يكون حجة له لا عليه.
قوله: "كل الناس يغدو" أي كل الناس يخرج مبكرا في وقت الغداة أي الصبح. وهذا من باب ضرب المثل.
والغدو هو السير أول النهار، والرواح الرجوع في آخره.
"فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" أي باع نفسه لله عز وجل فلم يُمكِّن منها الهوى والشيطان، بل جعلها تعمل بما يرضي الله تعالى، فهذا الذي أعتقها يوم القيامة من العذاب. كما قال الله عز وجل: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: الآية207] يشري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.
والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة الله عز وجل حيث أمضى عمره خسرانا، فهذا موبق لها أي مهلك لها.
الحديث الرابع والعشرون
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ: أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هذا حديث قدسي عظيم، تضمن حاجة العبد إلى ربه جل وعلا وافتقاره إليه، وبيان ما يجبه الله تعالى من عبده، وما يكرهه.
والحديث أخرجه مسلم 2577، من طريق سَعِيد بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، وفي آخره: قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ.
وقوله: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" أي منَعَ نفسه جل وعلا من الظلم، مع قدرته عليه، لكمال عدله، تفضلا منه وإحسانا إِلَى عِبَادِهِ، كما قال جل وعلا: ﴿وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا﴾ وقال سبحانه: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ﴾
"وجعلته بينكم محرما" أي صيرته بينكم محرما.
"فلا تظالموا" أي لا يظلم بعضكم بعضا.
والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
وَالظلم نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: ظُلْمُ النَّفْسِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ﴾ فَإِنَّ الْمُشْرِكَ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ فِي مَنْزِلَةِ الْخَالِقِ، فَعَبَدَهُ، فَهُوَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ يَلِيهِ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ.
وَالثَّانِي: ظُلْمُ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
"يا عبادي كلكم ضال" أي عن الطريق المستقيم "إلا من هديته" فمن هداه الله لا يكون ضالا، والمراد هداية الدلالة، وهي العلم النافع، وهداية التوفيق وهي العمل الصالح.
"فاستهدوني أهدكم" أي اطلبوا مني الهداية لا من غيري أهدكم.
وهداية التوفيق لا تطلب إلا من الله تعالى؛ لأنه لا يقدر عليها غيره، أما هداية الدلالة فتطلب من الله تعالى، ومن كل قادر على دلالته إلى الخير، كالعلماء والدعاة.
وفي قوله: (كلكم ضال إلا من هديته) أن الأصل في جنس الإنسان الظلم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا﴾ ولذا كان أكثر الناس على ضلال، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ﴾ في عدة آيات.
"يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" لأن الرزق كلَه بيد الله عز وجل، فالناس كلهم محتاجون إليه سبحانه في حصول طعامهم وشرابهم.
"فاستطعموني أطعمْكم" أي اطلبوا مني الإطعام، وإذا طلبتم ذلك ستجدونه.
ولكن لا بد من السعي في طلب الرزق وابتغاء فضل الله عز وجل.
"يا عبادي كلكم عار" لأن كل إنسان خرج من بطن أمه عاريا فكساه الله تعالى.
"إلا من كسوته فاستكسوني أكسِكم"
فهَذَا الحديث يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَقِ مُفْتَقِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمْ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَالرِّزْقِ، فَإِنَّهُ يُحْرَمُهُمَا فِي الدُّنْيَا.
"يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار" أي تعملون الخطيئة، وتجانبون الصواب بالوقوع في الذنوب، إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرم.
وليس المراد بقوله: (تخطئون) الخطأ، الذي لا يكون عند عمد، فإنه معفو عنه، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا﴾
"وأنا أغفر الذنوب جميعا" أي أسترها وأتجاوز عنها، وهذا مقيد بغير الشرك، فإنه لا يغفره الله تعالى إلا لمن تاب، أما ما دون الشرك من المعاصي فإن الله يغفره إذا شاء، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ ...﴾
"فاستغفروني أغفر لكم" أي اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَهُ الْعِبَادُ جَمِيعَ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكُسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَسْأَلُونَهُ الْهِدَايَةَ والمغفرة.
فَإِنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ إِذَا سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ فَقَدْ أَظْهَرَ حَاجَتَهُ فِيهِ، وَافْتِقَارَهُ إِلَى اللَّهِ، وَذَاكَ مما يُحِبُّهُ اللَّهُ تعالى.
"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله عز وجل، والعباد لا يستطيعون هذا، وذلك لكمال غناه عن عباده عز وجل.
كما قال سبحانه: ﴿وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡٔٗا﴾
" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا" وذلك لكمال غناه عن خلقه، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين، وإنما الطائع ينفع نفسه، والعاصي يضر نفسه، ولهذا قال:"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا"
"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته" أي إذا قاموا في أرض واحدة وهم جمع كثير من الأولين والآخرين والإنس والجن، فسألوا الله عز وجل فأعطى كل واحدة ما سأل.
"ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تُنقص البحر شيئا ولا تغيره.
فهو جل وعلا يعطي كل واحد مسألته لأن ملكه واسع، وغناه عظيم، وحاجات العباد مهما بلغت ليست بشيء في جنب ملكوته سبحانه وبحمده.
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «يَمِين اللَّهِ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ ...» رواه البخاري 7419 ومسلم 993.
لا يَغيضُها: أي لا ينقصها.
سحاءُ الليل والنهار: أي كثيرة العطاء في الليل والنهار.
"يا عبادي إنما هي أعمالكم" أي أن المقصود من خلق العباد الابتلاء، والتكليف بالعمل، "أحصيها لكم" أي أضبطها تماما بالعد لا زيادة ولا نقصان، وأحفظها فلا تضيع.
"ثم أوفيكم إياها" يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْصِي أَعْمَالَ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ 7 وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ 8﴾
والجزاء على الأعمال قد يكون في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط.
قد يكون في الدنيا فقط: فإن الكافر يجازى على عمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخر له الثواب في الآخرة، وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلۡأٓخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِي حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾
وقال عز وجل: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الاسراء: الآية18] وقال عز وجل: ﴿وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا﴾ [الاسراء: 19]
إذا فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعا، أو في الآخرة فقط.
" فمن وجد خيرا فليحمد الله" أي من وجد خيرا من أعماله فليحمد الله على الأمرين: على توفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له.
"ومن وجد غير ذلك" أي وجد شرا أو عقوبة "فلا يلومن إلا نفسه" لأن الله تعالى لم يظلمه.
الحديث الخامس والعشرون
عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا «أن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للنبي ﷺ: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» رواه مسلم.
"أن أناسا من أصحاب رسول الله ﷺ" هؤلاء ناس من فقراء الصحابة رضي الله عنهم.
"ذهب أهل الدثور" أي الأموال الكثيرة "بالأجور" أي الثواب عليها.
وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالا يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور.
"يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم" يعني ولا نتصدق لأنه ليس عندنا شيء، فكيف يمكن أن نسبقهم أو نكون مثلهم.
وهذا منهم من باب الرغبة في المنافسة على الخير.
وَقد ظَنُّوا أَنْ لَا صَدَقَةَ إِلَّا بِالْمَالِ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنها، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ صَدَقَةٌ، كما في الصحيح أنه ﷺ قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»
وَالصَّدَقَةُ بِغَيْرِ الْمَالِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ تَعْدِيَةُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، فَيَكُونُ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ، وَهَذَا كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَفٌّ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ النَّفْعِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَإِقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَإِزَالَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالسَّعْيُ فِي جَلْبِ النَّفْعِ لِلنَّاسِ، وَدَفْعُ الْأَذَى عَنْهُمْ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» رواه الترمذي 1956، وصححه الألباني.
وَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ " قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: " تُعِينُ صَانِعًا، وَتَصْنَعُ لِأَخْرَقَ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: " تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» .
وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا»، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْجَرُ فِيهَا إِذَا احْتَسَبَهَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» خَرَّجَاهُ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ».
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَالِيَّةً: مَا نَفْعُهُ قَاصِرٌ عَلَى فَاعِلِهِ، كَأَنْوَاعِ الذِّكْرِ: مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالِاسْتِغْفَارِ.
وَقَدْ دلت نصوص كثيرة على أن ذكر الله عز وجل أفضل من الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ ومن غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» خَرَّجَه التِّرْمِذِيُّ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلِدَ إِسْمَاعِيلَ».
"أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به"
يعني أن لكم أن تتصدقوا بغير بذل المال من أنواع الصدقات، ثم بين لهم ذلك بقوله:
"إن بكل تسبيحة صدقة" أي إذا قلت: سبحان الله فهي صدقة.
"وبكل تكبيرة صدقة" إذا قلت الله أكبر فهذه صدقة.
"وبكل تحميدة صدقة" إذا قلت الحمد لله فهذه صدقة.
" وبكل تهليلة صدقة" إذا قلت لا إله إلا الله فهي صدقة.
" وأمر بالمعروف صدقة" إذا أمرت من رأيته مقصرا في شيء من الطاعات فهي صدقة.
" ونهي عن منكر صدقة" إذا رأيت شخصا على منكر ونهيته فهي صدقة.
فهذه الأنواع من الصدقات يستطيعها الفقير وغيره، لتيسرها وسهولتها، ويمكن أن يفعلها كل يوم، بل ربما عمر يومه بهذه الصدقات، بخلاف الغني الذي يتصدق بماله، فلا يمكن أن يعمر وقته كله بالصدقة بالمال.
وهذه الصدقات منها هو واجب، ومنها ما هو غير واجب، ومنها المتعدي، ومنها القاصر.
فقوله: «إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة» هذا كله قاصر ومنه واجب، ومنه غير واجب.
فالتكبير منه واجب ومنه غير واجب، فتكبير الصلوات واجب، وتكبير أذكار الصلاة بعدها مستحب، وهكذا يقال في التسبيح والتحميد والتهليل.
وقوله: «وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة» هذا من الواجب، لكن الأمر بالمعروف تارة يكون واجبا وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره، وكذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه ولكن هناك من يقوم مقامه، وتارة يكون مستحبا وذلك في الأمر بالمعروف المستحب، والنهي عن المكروه.
"وفي بضع أحدكم صدقة" أي أن الرجل إذا أتى أهله فله بذلك صدقة.
"قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟" أشكل عليهم الأمر، كيف يأتي الإنسان شهوته، ويكون له أجر الصدقة، فبين لهم النبي ﷺ بقوله: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ " والجواب: نعم يكون عليه وزر لو وضعها في حرام.
"فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" فاستغنى عن الحرام فكان مأجورا بهذا.
وفي الحديث دليل لقياس العكس، وهو: إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه.
يعني أن يثبت للفرع نقيض حكم الأصل، فإذا كان الأصل حلالا صار الفرع حراما، وإذا كان الأصل حراما صار الفرع حلالا. بخلاف ما إذا كان حكم الأصل موافقا لحكم الفرع فهو قياس أصل.
فأثبت النبي ﷺ للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه، أثبت للفرع أجراً لأنه وطء حلال، كما أن في الأصل وزراً لأنه وطء حرام.
فالحكم: عليه وزر. والعلة: وضع شهوته في الحرام. ويقابله: أن له أجر، والعلة: وضعها في الحلال.
وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَلِمَةً وَقُلْتُ أَنَا أُخْرَى، قَالَ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ، وَقُلْتُ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»
ويقاس على ذلك ما يشبهه، فمن أكل طعاما حلالا، قلنا: لك أجر؛ لأنك لو أكلت حراما كان عليك وزر.
وظاهر الحديث أنه يؤجر على شهوته بإطلاق، أي وإن لم ينو الانكفاف عن الحرام، فنطلق ما أطلق الرسول r، وفضل الله واسع.
الحديث السادس والعشرون
عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» رواه البخاري ومسلم.
(كل سلامى) السلامى هي المفاصل، وقيل: العظام.
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» رواه مسلم 1007.
وقوله: "كل سلامى من الناس عليه صدقة" أي كل مفصل أو عظم يوجد في الإنسان فعليه صدقة.
وقوله: "كل يوم تطلع فيه الشمس" يعني كل يوم يكون على كل عظم أو مفصل من الإنسان صدقة. أي يجب أن يتصدق ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم؛ لأن قوله: "عليه صدقة" و"على" للوجوب، وهذا من باب الشكر لله عز وجل على نعمة العظام والمفاصل، حيث أصبح سليما معافى فيها.
ولكن من رحمة الله تعالى بعباده أن هذه الصدقات ليست خاصة بصدقة المال، بل كل معروف صدقة، ولذا قال:
"تعدل بين اثنين صدقة" العدل بين اثنين إما بالصلح أو بالحكم يكون صدقة.
ففيه فضيلة العدل بين الناس، وهذا لا يختص بالقضاة، بل كل من يحكم من معلم بين طلابه، أو أب بين أولاده أو محكَّم بين المتخاصمين لديه أو غيرهم يدخل في ذلك.
"وتعين الرجل في دابته" أي بعيره مثلا "فيحمله عليها" إذا كان لا يستطيع أن يركب تحمله أنت وتضعه على الرحل هذا صدقة "أو يرفع له عليها متاعه صدقة" متاعه ما يتمتع به في السفر من طعام وشراب وغيرهما، تحمله على البعير وتربطه، هذا صدقة.
ففيه فضيلة إعانة المسلم لأخيه، وكلما كان محتاجا للإعانة كانت إعانته أفضل.
"والكلمة الطيبة صدقة" أيُّ كلمة طيبة فهي صدقة، سواء أكانت طيبة في حق الله كقراءة القرآن، فكل كلمة في القرآن فهي صدقة، وكذا التسبيح والتكبير والتهليل، أم في حق الناس بالكلام الطيب معهم، كل ذلك صدقة.
"وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة" وإذا كان قد تطهر في بيته وخرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة.
وجاء في الأثر: ولقد رأيتنا نقارب بين الخطا.
"وتميط الأذى عن الطريق صدقة" أي تزيل الأذى وهو ما يؤذي المارة من حجر أو زجاج أو قاذورات فأي شيء يؤذي المارين إذا أميط عن طريقهم فإنه صدقة.
وما ذكر في هذا الحديث من صدقات فهي أمثلة، وإلا فكل معروف صدقة، كما جاء في الحديث.
ويجزئ عن ذلك ركعتان من الضحى.
فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنَ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ، تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِيَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَبُضْعَةُ أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنَ الضُّحَى» رواه أبو داود 1285، وصححه الألباني.
فإذا صليت ركعتين من الضحى صار ما تعمله من الأعمال التي هي صدقة تطوعا.
ويؤخذ من هذه الرواية مشروعية المداومة على ركعتي الضحى، لأنها بدل عن هذه الصدقات، أي بدلا عن ثلاثمائة وستين صدقة.
الحديث السابع والعشرون
عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم، فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» رواه مسلم.
قال المؤلف في باب ضبط المشكل في آخر هذه الرسالة: (سمعان: بكسر السين وفتحها)
وذكر أن معنى حاك: تَردّد.
قال الهيتمي في الفتح المبين ص115: (وذكر في السابع والعشرين حديثين؛ لاجتماعهما على معنى واحد).
قوله (البر) البر كلمة تدل على كثرة الخير.
(حسن الخلق) أي حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع عباد الله.
فأما حسن الخلق مع الله فيكون في أحكامه الشرعية والقدرية:
أما في أحكامه الشرعية فحسن الخلق فيها أن تُتلقى بالقبول والانشراح، وألا يكون في النفس منها حرج، فيتلقى المؤمن أوامر الله ونواهيه بصدر منشرح، فيمتثل أمره، ويجتنب نهيه.
وأما في أحكامه القدرية فحسن الخلق فيها أن تتلقى بالتسليم لقضاء الله وقدره، فيتلقى ما يصيبه من البلاء بالصبر والرضى.
أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه: بذل الندى وكف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه.
فصار هذا الحديث من جوامع كلم النبي ﷺ؛ لما تضمنه من المعاني الكثيرة، بعبارة وجيزة.
وما تقدم هو البر المطلق، وهناك بر مقيد كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان إليهما بكل وجوه الإحسان.
(والإثم) هو ضد البر لأن الله تعالى قال: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾.
وفسره النبي ﷺ بقوله:
(الإثم ما حاك في نفسك) أي تردّد في نفسك، وصرت منه في قلق.
(وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه مما يذم عند الناس، ويعاب به فاعله.
فذكر ﷺ للإثم علامتين:
الأولى: أن يكون في النفس تردد منه.
الثانية: أن يكره أن يطلع الناس عليه.
وهذا إنما يكون في حق من صلح قلبه، واستقام على طاعة الله تعالى، فهذا الذي يكون في نفسه من الإثم تردد، ويكره أن يطلع عليه الناس.
أما من قسى قلبه، وتجرأ على محارم الله عز وجل، فليس داخلا في هذا الحديث، لأنه قد يواقع الإثم، ولا يجد في نفسه تردداً منه، لفساد قلبه، بل ربما جاهر بالمعاصي، فلا يكره أن يطلع عليها الناس.
فقوله: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) خاص بمن كان قلبه طاهرا نقيا؛ لأن النبي ﷺ خاطب بهذا الحديث النواس بن سمعان رضي الله عنه وأمثاله من أصحاب القلوب السليمة.
فصاحب القلب السليم إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قِبَل الشرع يجد في نفسه ترددا منه، ويكره أن يطلع الناس عليه.
وموقف المؤمن إذا حاك في نفسه شيء هل هو إثم أو ليس بإثم أن يتركه حتى يتبين الأمر له؛ لقوله ﷺ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال ﷺ: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه».
وفي الحديث أن المؤمن يكره أن يطلع الناس على معاصيه، لقوله: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أما الفاجر فلا يكره أن يطلع الناس على معاصيه، بل منهم من يجاهر بها عياذا بالله.
ثم ذكر المؤلف حديث وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه، ولفظه بتمامه عند أحمد 18006 قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ ... فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَمْ تَسْأَلُنِي؟ " قُلْتُ: لَا، بَلْ أَخْبِرْنِي، فَقَالَ: " جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ " فَقَلت: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: " يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، " الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ "
وحسنه المؤلف.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد بإسناد حسن.
وقال الألباني في صحيح الترغيب 2/323: حسن لغيره.
وقال ابن رجب: (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبَعْضُ طُرُقِهِ جَيِّدَةٌ).
(جئت تسأل عن البر والإثم. قال: نعم. قال: استفت قلبك) الاستفتاء: طلب الإفتاء، والافتاء: الإخبار عن الحكم الشرعي. فيكون المعنى اسأل قلبه، فأحاله النبي ﷺ على قلبه.
(البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس) أي البر ما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به واطمأنت إليه النفس، ولا يحدث فيها تردد منه.
لكن هذا كما تقدم في حق من كان قلبه سليما نقيا، واستقام في دينه فهذا الذي يطمئن قلبه ونفسه للبر وعمل الخير؛ أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه ولهذا تضيق نفسه بعمل البر، ولا تطمئن نفسه إليه.
(والإثم ما حاك في النفس) أي تردد فيها (وتردد في الصدر) أي في القلب.
(وإن أفتاك الناس) أي فلا ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك ونفسك لم تطمئن لهذا الأمر (وأفتوك) هذا توكيد، يعني حتى وإن أفتاك الناس ثم أفتوك.
ففيه أن قلب المؤمن إذا لم يطمئن إلى شيء ولم تنشرح له نفسه فإنه علامة على أنه إثم فيتوقف فيه، ولا يلتفت إلى ما يفتي به الناس ويشتهر عندهم على خلاف ما في قلبه.
الحديث الثامن والعشرون
عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «وعظنا رسول الله ﷺ موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
قوله: "وعظنا" الوعظ: التذكير بما يُلين القلب سواء كانت الموعظة ترغيبا أو ترهيبا، وكان النبي ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة أحيانا.
وقوله: "وجلت منها القلوب" أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾.
" وذرفت منها العيون" أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء.
" فقلنا يا رسول الله: كأنها" أي هذه الموعظة "موعظة مودع"
وقد جرت العادة أن موعظة المودع تكون بليغة مؤثرة، لأن المودع لن يبقى عند قومه حتى يكرر عليهم الموعظة فيأتي بموعظة مؤثرة يُذكر بها بعد ذلك.
ومن أسباب تأثير الموعظة: موضوعها، وطريقة إلقائها بانفعال من الواعظ، وحال الواعظ.
"فأوصنا" فيه طلب الوصية من العالم، عند وجود المقتضي، كما جاء في هذا الحديث، أنهم طلبوا منه الوصية بعدما وعظهم، وكما لو أراد شخص السفر فقال للعالم: أوصني. وما أشبه ذلك، ولا يشرع أنه كما لقي العالم قال أوصني؛ لأنه خلاف الظاهر من هدي الصحابة رضي الله عنهم مع النبي ﷺ.
" قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل" هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ وتقوى الله: اتباع أمره وترك ما نهى عنه. وقد تقدم الكلام على التقوى في حديث: (اتق الله حيثما كنت).
وفيه أن الوصية بتقوى الله تعالى أهم وأول ما يوصى به العبد.
" والسمع والطاعة" أي لولاة الأمر؛ بدليل قوله: (وإن تأمر عليكم عبد)
والسمع: بأن تسمع إذا تكلم ولي الأمر.
والطاعة: أن تطيع إذا أمر.
والسمع والطاعة لولي الأمر داخل في عموم قوله: (أوصيكم بتقوى الله) فإن السمع والطاعة لولي الأمر من تقوى الله عز وجل، وإنما خُص بالذكر للعناية به وتأكيده؛ لأن المخالفة فيها كثيرة.
والأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر في هذا الحديث مقيد في غير معصية الله تعالى؛ لحديث: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) أي في تلك المعصية التي أمر بها بخصوصها، أما غيرها مما يأمر به وليس بمعصية فيجب امتثال أمره.
وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان فاسقا، يقع منه من الذنوب ما يوجب الفسق، فليس لأحد من الرعية أن يقول: لا نسمع له ولا نطيع ما دام فاسقا، ويدل لهذا ما روى مسلم في الصحيح أن النبي ﷺ قال: "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية، ومع هذا فأمر بالسمع والطاعة له.
" وإن تأمَّر عليكم عبد" أي وإن صار الأمير عليكم عبدا مملوكا، فدل على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر حراً كان أو عبدا، ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل.
وفيه ثبوت إمارة العبد.
"فإنه من يعش منكم" أي تطول به الحياة "فسيرى اختلافا كثيرا"
وقد أدرك هذا الاختلاف جماعة من الصحابة رضي الله عنهم الذي طال بهم العمر، فأدركوا الاختلاف الذي حصل في الاعتقاد والعمل، والاختلاف الذي سببه الفتن التي وقعت.
وهذا من دلائل النبوة، فإنه ﷺ أخبر بأمر فوقع كما أخبر.
ثم أرشدهم النبي ﷺ إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال:
"فعليكم بسنتي" أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها، فلا تبتدعوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، ولا تخرجوا عن شريعته.
" وسنة الخلفاء الراشدين" الخلفاء هم الذين خلفوا رسول الله ﷺ في أمته، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وقوله: "المهديين" صفة مؤكِّدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا يمكن رشد إلا بهداية.
"عضوا عليها" أي على سنته ﷺ وسنة الخلفاء الراشدين "بالنواجذ" وهي أقصى الأضراس.
وهذا كناية عن شدة التمسك بها، كفعل من أمسك الشيء بنواجذه وعض عليه لئلا يُنزع منه، وهذا احتراز من النهش، وهو الأخذ بأطراف الأسنان.
وفي هذا الحديث وجوب التمسك بالسنة عند الاختلاف، وهو واجب في كل حال، إلا أنه عند وجود الاختلاف والفتن متأكد.
ومن لازم التمسك بالسنة العلم بها، فإن من لا يعلم السنة لا يمكنه التمسك بها.
ولما حثهم على التمسك بالسنة حذرهم من البدع فقال:
"وإياكم ومحدثات الأمور" المراد بالأمور هنا أمور الدين، أي احذروا المحدثات في الدين؛ لأنها المنهي عنها، أما المحدثات في أمور الدنيا فما كان منها نافعا فهو مباح، وما كان منها ضارا فهو حرام.
"فإن كل محدثة بدعة" هذا فيه أن عموم المحدثات في الدين تعد من البدع، فليس في الدين بدعة حسنة.
"وكل بدعة ضلالة" أي كل بدعة في دين الله عز وجل فهي ضلالة.
الحديث التاسع والعشرون
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16] حتى بلغ: ﴿يَعۡلَمُونَ﴾ [السجدة: 16 - 17]، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قوله: (يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار) أي أخبرني بعمل يكون سببا في دخولي الجنة ونجاتي من النار.
فالعمل ليس عوضا عن دخول الجنة، وإنما هو سبب، لقوله ﷺ: "لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فالباء هنا للعوض في قوله: (بعمله) وأما في مثل قوله تعالى: ﴿جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ فهي سببية.
فدخول الجنة هو برحمة الله تعالى، والعمل سبب.
(قال: لقد سألت عن عظيم) لأنه سأل عما يحصل به الفوز العظيم، ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَ﴾.
(وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه) لأن دين الإسلام دين اليسر ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ ولكن هذا اليسر ليس لكل أحد، وإنما لمن منَّ الله عليه وأعانه ويسر له ذلك.
(تعبد الله) العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
(لا تشرك به شيئا) أي لا تشرك به لا شركا أصغر ولا أكبر، ولا تشرك به شيئا لا نبينا ولا ملكا ولا وليا ولا شجرا ولا حجرا ولا غير ذلك.
(وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) هذه من أركان الإسلام، وقد تقدم الكلام عليها.
(ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟) والجواب: بلى. وحذف للعلم به.
وهذا من إفادة السائل زيادة على سؤاله، فبعد أن أجابه، أفاده بقوله: ألا أدلك على أبواب الخير . . . إلخ. وهذا يكون عند وجود الحاجة إلى الزيادة في الجواب.
(الصوم جُنة) أي وقاية، إما وقاية من النار؛ لما فيه من الأجر العظيم، وإما وقاية من الذنوب، فإن الصوم يكف صاحبه عن فعل المعاصي.
(والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) الصدقة تعم الكثيرة والقليلة، فإنها تطفئ الخطيئة، كما أن الماء يطفئ النار، وهذا من التشبيه البليغ.
(وصلاة الرجل من جوف الليل) خص الرجل بالذكر لأن السائل رجل، لا للاحتراز عن المرأة؛ لأنها مثله في هذا الحكم.
(ثم تلا: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ ...﴾ حتى بلغ: ﴿يَعۡلَمُونَ﴾ وهذا استشهاد من النبي ﷺ بهذه الآية على فضيلة قيام الليل.
ولم يذكر في الحديث أنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ﴾.
والجواب: أن هذه الآية لا يراد بها التلاوة، وإنما يراد بها الاستدلال، وأما قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ ...﴾ يعني للتلاوة.
(ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام) أي رأس الأمر الذي من أجله خلق، ورأس أمر الدنيا والآخرة هو الإسلامُ.
(وعموده الصلاة) فالصلاة كالعمود للخيمة، وإذا سقط العمود سقطت الخيمة، فكذلك الصلاة إذا ذهبت ذهب الدين، وهذا من أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا([20]).
(وذروة سنامه الجهاد) ذروة: بضم الذال وكسرها، أي أعلاه، وذروة سنام الجمل أعلاه، والجهاد في سبيل الله تعالى أعلى أنواع الطاعات، أي التي يحصل بها علو الإسلام، وظهوره على سائر الأديان، فهو أعلاها بهذا الاعتبار، وإلا فيوجد من الطاعات ما هو أفضل منه.
(ثم قال: ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟) مِلاك: قال المصنف: بكسر الميم، أي مقصوده.
وملاك الشيء ما يملك به، والمعنى ما تملك به كل هذا.
(قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا) أي أخذ النبي ﷺ بلسانه نفسه، وقال: (كف عليك هذا) أي الزم الصمت، ولا تتكلم إلا بخير كما تقدم في حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)
(قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟) الجملة خبرية، لكنها استفهامية والمعنى: أإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني أن معاذا رضي الله عنه تعجب كيف يؤاخذ الإنسان بما يتكلم به.
(فقال: ثكلتك أمك) أي فقدتك، وهذه الكلمة يقولها العرب للإغراء والحث، ولا يقصدون بها المعنى الظاهر، وهو أن تفقده أمه.
(وهل يَكُب الناسَ في النار على وجوههم، أو على مناخرهم) هذا شك من الراوي، وهذا اختلاف لفظ والمعنى واحد؛ لأن المنخر في الوجه (إلا حصائدُ ألسنتهم) أي ما يحصدون بألسنتهم من الأقوال؛ لأن اللسان قد ينطق بالكفر والشرك وأنواع المعاصي.
وفيه أن أهل النار قد يكبون فيها على وجوههم عياذا بالله.
وفيه التحذير من خطر اللسان، وأنه سبب لدخول النار.
الحديث الثلاثون
عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ، قال: «إن الله عز وجل فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.
هذا الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 19725، وقال: هذا موقوف.
وقال ابن عساكر في معجمه 2/965: هذا حديث غريب ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة.
وقال ابن كثير في تفسيره 1/621: (ثَبَتَ في الحديثِ الصحيح) ثم ذكره.
وضعفه الألباني في غاية المرام ص17، وتحقيق رياض الصالحين ص621، لكن قال في تحقيق الإيمان لابن تيمية ص44: حسن بشاهده.
" فرض" أي أوجب قطعا، لأنه من الفرض وهو القطع.
" فرائض" مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغيرها.
" فلا تضيعوها" أي لا تهملوها فتضيع، بل حافظوا عليها.
"وحدَّ حدودا فلا تعتدوها" المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تُتعدى ولا تُتجاوز، والمحرمات حدود لا تُقرب.
قال تعالى في آيات الطلاق: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها) أي شرائعه وواجباته.
ولما ذكر الله تعالى بعض المحرمات، والتي منها تحريم الأكل والشرب والجماع على الصائم قال: (تلك حدود الله فلا تقربوها) أي تلك محرماته.
"وحرم أشياء فلا تنتهكوها" أي فلا تفعلوا ما حرم عليكم.
"وسكت عن أشياء" سكت بمعنى لم يقل فيها شيئا، لا أوجبها ولا حرمها.
وقوله: "رحمة لكم غير نسيان" أي أنه عز وجل لم يتركها ناسيا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا﴾ ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيِّق عليهم.
"فلا تبحثوا عنها" أي لا تسألوا عنها، بل دعوها.
وفي الحديث وصف الله عز وجل بالسكوت، وهذا من تمام كماله عز وجل، أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم.
ويدل له حديث سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ السَّمْنِ وَالجُبْنِ وَالفِرَاءِ، فَقَالَ: «الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» رواه الترمذي 1726، وحسنه الألباني.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا،» فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، ﷺ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ " وَتَلَا ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَة. رواه أبو داود 3800، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 6/179: (فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت؛ لكن السكوت يكون تارة عن التكلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه ...).
وفي الحديث أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم يحرمه فهو مباح، لكن هذا في غير العبادات، أما العبادات فالأصل فيها المنع حتى يقوم دليل المشروعية، فمن شرع للناس عبادة لا دليل عليها فقد فعل محرما، وابتدع في دين الله ما ليس منه، فيدخل في قوله ﷺ: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها)
أما غير العبادات فالأصل فيها الإباحة حتى يقوم دليل التحريم، كالمعاملات المالية، والأطعمة ونحوها.
وفي الحديث انتفاء النسيان عن الله عز وجل، لقوله "غير نسيان" وقد جاء ذلك في القرآن الكريم، فقال الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا﴾ وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى: ﴿قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ [طه: 52]
والمراد بالنسيان المنفي عن الله عز وجل هو الذهول عن شيء معلوم، فهذا لا يوصف الله تعالى به، لأنه صفة نقص.
وأما النسيان الذي بمعنى الترك فيوصف الله تعالى به، كما في قوله تعالى: ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡ﴾ وقوله سبحانه: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوۡمِهِمۡ هَٰذَا﴾ فأثبت جل وعلا لنفسه النسيان.
والمراد أنهم لما تركوا الله أي تركوا دينه عاقبهم بأن تركهم من توفيقه وهدايته ورحمته.
الحديث الحادي والثلاثون
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» حديث حسن، رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
رواه ابن ماجه 4102، وصححه الألباني.
وقد تقدم أن الإمام أبا دواد رحمه الله تعالى جعل هذا الحديث ربع العلم.
"دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس" هذا الرجل طلب الدلالة على عمل يحصل به مقصودان عظيمان: أولهما محبة الله عز وجل، والثاني محبة الناس.
فدله النبي ﷺ على عمل يحصل به مقصوده الأول، وهو محبة الله تعالى، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله" والزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة.
وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر في الآخرة.
فالزاهد يترك ما يضر في الآخرة، ويترك أيضا ما لا ينفعه في الآخرة من المباحات التي لا نفع فيها ولا ضرر، فهو أعلى مرتبة من الورِع؛ لأن الورِع قد يفعل ما لا ينفعه في الآخرة.
ولا يلزم من الزهد التقشف، وترك التنعم بنعم الله تعالى، فلا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، وما أشبه ذلك، بل يتمتع بما أنعم الله عليه، لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإذا تمتع بهذه النعم على هذا الوجه صار قربة إلى الله تعالى، فيكون نافعا له في الآخرة.
ودلَّه أيضاً على عمل يحصل به مقصوده الثاني وهو محبة الناس له، فقال:
"وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" أي ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا يتضمن ترك سؤالهم شيئا من الدنيا، لأنك إذا سألتهم أثقلت عليهم فلم يحبوك.
ويستثنى من ذلك مَن إذا سألته فإنه يسرُّ بسؤالك، كما لو سأل الوالد ولده حاجة، فالأصل في الولد البار بأبيه أن يفرح بسؤال أبيه، فهذا مستثنى من سؤال الناس، لأن هذا السؤال لا يؤثر في محبة المسؤول للسائل.
وفي هذا الحديث وأمثاله علو همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كانت أسئلتهم للنبي ﷺ تدل على رغبتهم فيما عند الله تعالى، كما تقدم في الحديث: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، وهنا قال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. وغيرها كثير.
وفيه إثبات صفة المحبة لله عز وجل، فهو جل وعلا يحب محبة حقيقية، تليق بجلاله وعظمته.
وفيه أنه لا حرج على الإنسان أن يعمل ما يحصل به محبة الناس له.
الحديث الثاني والثلاثون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «لا ضرر ولا ضرار» حديث حسن، رواه ابن ماجه، والدارقطني، وغيرهما مسندا، ورواه مالك رحمه الله تعالى في «الموطأ» عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي ﷺ مرسلا، فأسقط أبا سعيد، وله طرق يَقوى بعضها ببعض.
هذا الحديث حسنه النووي، وقال: وله طرق يَقوى بعضها ببعض. ونقل كلامه الحافظ ابن رجب وقال: وهو كما قال.
والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/66، وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وصححه الألباني في الإرواء 896.
وهذا الحديث يعد قاعدة من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها.
ويدخل في أبواب كثيرة من الفقه، كالمعاملات والأنكحة والوصايا وغيرها.
وفي معناه حديث أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه الترمذي 1940، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وحسنه الألباني.
واختلفوا: هل بين اللفظين - أعني الضرر والضرار - فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد.
والمشهور أن بينهما فرقا.
فقيل: إن الضرر هو الاسم، والضرار الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.
وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به.
وقيل: الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار: أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.
وقيل: الضرر ما كان بغير قصد، والضرار ما كان بقصد.
وأيا كان فإن النبي ﷺ إنما نفى الضرر والضرار بغير حق.
فأما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله، فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعا.
ومن صور الضرر بغير حق:
الإضرار في الوصية، قال الله تعالى: ﴿مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإضرار: في الوصية من الكبائر. ثم تلا هذه الآية.
والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النبي ﷺ: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».
وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث، فتنقص حقوق الورثة، ولهذا قال النبي ﷺ: «الثلث والثلث كثير».
ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث، لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة، إن كانوا جميعا بالغين راشدين، أما إن كان منهم قاصر فيحرم على وليه أن يتنازل عن شيء من ماله.
ومنها: الرجعة في النكاح، قال تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ﴾ وقال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗا﴾ فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة، فإنه آثم بذلك، وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث يطلق الرجل امرأته، ثم يتركها حتى يقارب انقضاء عدتها، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبدا بغير نهاية، فيدع المرأة لا مطلقة ولا ممسكة، فأبطل الله ذلك، وحصر الطلاق في ثلاث مرات.
والقاعدة: متى ثبت الضرر وجب رفعه، ومتى ثبت الإضرار وجب رفعه مع عقوبة قاصد الإضرار.
الحديث الثالث والثلاثون
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر» حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في «الصحيحين».
هذا الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 21201، وقال الألباني في الإرواء 8/266: إسناده صحيح.
وأصله مخرج في الصحيحين دون لفظ: (البينة على المدعي).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» رواه البخاري 4552، ومسلم 1711، واللفظ لمسلم.
قال ابن المنذر في الإجماع ص65: (وأجمعوا على أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه).
وفي المعنى أحاديث كثيرة، ففي الصحيحين عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: شاهداك أو يمينه، قلت: إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله ﷺ: من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترأ هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا ...﴾
وهذا الحديث قاعدة عظيمة في القضاء.
ومعنى قوله ﷺ: (لو يعطى الناس بدعواهم) أي لو أن كل إنسان ادعى شيئا من مال أو دم أو غيره أعطي ما يدعيه بلا بينة ولا إقرار من المدعى عليه (لادعى رجال أموال قوم ودماءهم) أي لادعى من لا يخاف الله تعالى من الرجال أموال غيرهم ودماءهم، وهم لا يستحقونها.
(ولكن البينة على المدعي) فإذا أقام المدعي البينة على دعواه استحق ما يدعيه.
والبينة كل ما أبان الحق، فالشهود العدول بينة، والقرائن القوية بينة؛ لأنها تُبين الحق.
(واليمين على من أنكر) أي فإن لم يكن للمدعي بينة فله طلب يمين المدعى عليه، وإذا حلف برئ من الدعوى، لأن جانب المدعى عليه أقوى من جانب المدعي؛ لأن الأصل براءة ذمته من الدعوى، فالأصل معه، وكل من كان الأصل معه فاليمين تكون في جهته.
وقد اختلف الفقهاء في تفسير المدعي والمدعى عليه.
فمنهم من قال: المدعي: الذي إذا ترك الدعوى تُرك، والمدعى عليه إذا ترك الدعوى لم يترك.
ومنهم من قال: المدعي هو من يطلب خلاف الأصل أو الظاهر، والمدعى عليه من كان الأصل أو الظاهر معه.
الحديث الرابع والثلاثون
عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم.
هذا الحديث أخرجه مسلم (49) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».
(من رأى منكم منكرا) يعم من رأى بعينه أو سمع بأذنه أو بلغه خبر مؤكد بوقوع المنكر فإنه ينكره.
(فليغيره بيده) أي بأن يزيل هذا المنكر.
والمنكر: ما نهى الله عز وجل عنه ورسوله ﷺ.
ولا يجوز إنكار المنكر حتى يعلم المنكِر، أن ما يُنكره هو منكر في الشرع، وأن يعلم أنه منكر في حق الفاعل.
أما إذا لم يكن منكرا في الشرع، فلا وجه لإنكاره، كما أنه قد يكون منكرا في الشرع، لكنه ليس بمنكر في حق الفاعل بخصوصه.
مثال ذلك: الأكل والشرب في نهار رمضان، الأصل أنه منكر، لكن قد لا يكون منكرا في حق رجل بعينه: كأن يكون مريضا يحل له الفطر، أو يكون مسافرا يحل له الفطر.
وإن كان لا ينبغي لمن له عذر بالفطر أن يفعل ذلك أمام الناس، لئلا يظن به السوء.
والمنكر الذي يجب إنكاره ما اتفق العلماء على أنه منكر، أو اتفق المنكِر والمنكَر عليه أنه منكر، أو وُجد فيه خلاف ضعيف، يعني أن القول بأنه ليس بمنكر قول ضعيف، لا وجه له، أما ما كان من مسائل الاجتهاد هل هو منكَر أو لا؟ فإنه لا ينكر على من فعله.
ومن أمثلة مسائل الاجتهاد لو صلى شخص بعد أن أكل لحم إبل ولم يتوضأ، لأنه يرى أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فلا ينكر عليه، لأن المسألة من مسائل الاجتهاد، وهذه المسائل لا إنكار فيها، ولكن لا يمنع من المباحثة، وبيان ما تراه له في هذه المسألة.
ويستثنى من إنكار المنكر ما إذا خاف من الإنكار حصولَ فتنة، فإنه يترك الإنكار؛ لأن الإنكار في مثل هذه الحال يترتب عليه منكر أعظم، والقاعدة أنه إذا اجتمعت مفسدتان ارتكبت أدناهما لدفع أعلاهما.
"فإن لم يستطع" أي إن لم يستطع أن ينكره بيده "فبلسانه" أي فلينكره بلسانه، والأصل أن يكون الإنكار بالرفق والكلام الطيب، وقد يقتضي المقام أن يكون بشيء من الغلظة، إذا كان تتحقق به مصلحة.
ومثل الإنكار باللسان الإنكار بالكتابة، بأن يراسل من فعل المنكر كتابةً، أو يكتب مقالا أو يؤلف كتابا في إنكار منكر من المنكرات، ببيان الأدلة على تحريمه وكلام أهل العلم في ذلك، من غير ذكر من فعل المنكر.
"فإن لم يستطع فبقلبه" أي فلينكر بقلبه، أي يكرهه ويبغضه ويتمنى أن لم يكن، ويعزم أنه متى قدر على إنكاره بلسانه أو يده فعل.
ومن لازم كراهة القلب لهذا المنكر أن يفارق مكان المنكر إن قدر على ذلك، أما أن يجالس أهل المنكر، ويقول: أنا منكر بقلبي فلا يجوز؛ لأنه لو كان صادقا في إنكاره بقلبه لفارقهم.
" وذلك" أي الإنكار بالقلب "أضعف الإيمان" أي أضعف مراتب الإيمان في هذا الباب أي في تغيير المنكر.
الحديث الخامس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا؛ ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» رواه مسلم.
قوله: "لا تحاسدوا" أي لا يحسد بعضكم بعضا.
والحسد: أن يتمنى المرء زوال نعمة الله عز وجل التي أنعم بها على غيره.
ثم إن الحاسد على قسمين:
من يتمنى زوال النعمة عن أخيه مع حصول مثلها له، كأن يحسد أخاه على الغنى فيتمنى أن يزول عنه، وأن يكون هو غنيا.
والثاني من يتمنى زوال النعمة عن أخيه مع عدم تمني حصولها لنفسه، كالشيخ الكبير الذي يحسد الشاب على شبابه، فهو لا يتمنى حصول نعمة الشباب له لأنها في حقه متعذرة.
والحسد هو أول ذنب عصي الله به، فقد حسد إبليس آدم عليه الصلاة والسلام.
والحسد من خصال اليهود، كما قال الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم﴾.
والحسد يضر صاحبه لأن الحاسد لا يبقى مسرورا لأن نعم الله على العباد متتابعة، وكلما رأى الحاسد نعمة منَّ الله تعالى بها على غيره زاده ذلك غما وهما.
والحسد اعتراض على قدر الله عز وجل، لأنه يتمنى خلاف ما قدَّر، والله تعالى له الحكمة البالغة في أمره وقدره.
والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل.
قال شيخ الإسلام: (وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه وَقد قيل لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ أيحسد الْمُؤمن فَقَالَ مَا أنساك أخوة يُوسُف لَا أَبَا لَك وَلَكِن عَمه فِي صدرك فَإِنَّهُ لَا يَضرك مَا لم تعد بِهِ يدا وَلِسَانًا) -أمراض القلوب وشفاؤها ص21-
وما تقدم هو الحسد المذموم، أما الحسد الممدوح فهو تمني مثل ما لغيره من النعمة، مع عدم تمني زوالها عنه، ويسمى الغبطة.
ومنه ما في الصحيحين عنه ﷺ، قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار».
ومن الناس من إذا وجد في نفسه الحسد، سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرا منه وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وقوله ﷺ: (ولا تناجشوا) النجْش في البيع محرم، وهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما لنفع البائع لزيادة الثمن له، أو لإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، أو لهما معاً.
"ولا تباغضوا" أي لا يبغض بعضكم بعضا، وذلك بالبعد عن الأسباب التي تؤدي إلى البغضاء، وإذا وقع في قلوبكم بغض لإخوانكم فاحرصوا على إزالته من قلوبكم.
والتباغض المنهي عنه ما كان بسبب الهوى، وحظوظ الدنيا، أما البغض في الله تعالى، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلا في النهي.
"ولا تدابروا" أي لا يولي بعضكم بعضا ظهره، ويعرض عنه بوجهه، أي لا تقاطعوا، وهذا في التدابر الحسي، وكذا في التدابر المعنوي، أي لا تدابروا في الرأي وتختلفوا.
وفي " الصحيحين " عن أبي أيوب، عن النبي ﷺ، قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»
وهذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاث، بدليل هجر النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم للثلاثة الذين خُلِّفوا خمسين يوما.
"ولا يبع بعضكم على بيع بعض" مثال ذلك: لو باع رجل على آخر سلعة بعشرة، فجاء آخر إلى المشتري وقال: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيرا منها بعشرة، فهذا بيع على بيع أخيه، وهو حرام.
"وكونوا عباد الله إخوانا" أي صيروا مثل الإخوان، ومعلوم أن الإخوان يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.
وهذه الجملة ذكرها النبي ﷺ كالتعليل لما تقدم، وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، وبيع بعضهم على بعض، كانوا إخوانا.
ثم قال: "المسلم أخو المسلم" أي مثل أخيه في الولاء والمحبة والنصح وغير ذلك.
"لا يظلمه" أي لا يعتدي على أخيه فيأخذ منه ما ليس له، أو يمنع ما يجب عليه بذله له، سواء كان ذلك في الأمور المالية، أو في الدماء، أو في الأعراض، في أي شيء.
وليس تحريم الظلم خاصا بالمسلم، بل هو محرم في حق المسلم والكافر.
" ولا يخذله" أي لا يترك نصره في موضع تنتهك فيه حرمته.
(ولا يكذبه) أي لا يخبره بالكذب.
" ولا يحقره" أي لا يستصغره، ويرى أنه أعلى منه.
ثم قال: "التقوى هاهنا" يعني تقوى الله عز وجل في القلب، وليست في اللسان ولا في الجوارح، وإنما اللسان والجوارح تابعان للقلب.
"ويشير إلى صدره ثلاث مرات" تأكيدا لكون القلب هو المدبر للأعضاء.
ثم قال: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" أي يكفي المرء من الإثم أن يحقر أخاه المسلم، وفيه تعظيم إثم احتقار المسلم لأخيه المسلم.
"كل المسلم على المسلم حرام" ثم فسر هذه الكلية بقوله: "دمه وماله وعرضه" يعني أنه لا يجوز انتهاك دم الإنسان ولا ماله ولا عرضه، كله حرام.
ولذا قال النبي ﷺ في خطبته في حجة الوداع: «إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
والحمد لله رب العالمين.
الحديث السادس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ، قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» رواه مسلم بهذا اللفظ.
قوله: "من نفَّس" أي وسع.
"عن مؤمن كربة" الكربة هي: الشدة والضيق الذي يحصل للإنسان.
"من كُرب الدنيا" أي من الكرب التي تكون في الدنيا، سواء أكانت الكربة مالية أو غيرها.
"نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" الجزاء من جنس العمل من حيث الجنس، فمن يُنفِّس عن المؤمن يُنفِّس الله عنه، لكن من حيث النوع يختلف اختلافا عظيما، فكرب الدنيا لا تساوي شيئا بالنسبة لكرب الآخرة، فإذا نفس الله عن الإنسان كربة من كرب الآخرة كان ثوابه أعظم من عمله.
ففيه الحث والترغيب على تنفيس كرب المؤمنين.
والجزاء من جنس العمل، قاعدة مطردة في الشريعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى: ﴿جَزَآءٗ وِفَاقًا﴾ أي وفق أعمالهم). تهذيب السنن 12/176.
قال تعالى: ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى﴾ وقال سبحانه: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ وقال عز وجل: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ﴾.
ولما ذكر الله نعيم أهل الجنة في سورة الرحمن، قال: ﴿هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ﴾.
وفي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» متفق عليه
وتنفيس الكربة تخفيفها عمن وقعت عليه، وأما تفريج الكربة فهو أعظم؛ وهو أن يزيل عنه الكربة حتى تنفرج ويزولَ همُّه وغمه، ومثال ذلك: لو كان أخوك المسلمُ في كربة، ويحتاج إلى عشرة آلاف ريال لتفريج كربته، فإن أعطيته خمسة آلاف فقد نفست عنه، وخففت كربته، لكنك لم تفرجها، وإن أعطيته عشرة آلاف فقد فرجت كربته، وأزلت همه وغمه، فجزاء التنفيس عن أخيك في الدنيا أن ينفس الله عنك في الآخرة، وجزاء التفريج في الدنيا التفريج عنك في الآخرة جزاء وفاقا.
"ومن يسَّر على معسر" أي سهَّل عليه، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ﴾.
"يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة" ويشمل هذا التيسير تيسير المال، وتيسير الأعمال، وتيسير التعليم وغير ذلك، فيشمل كل نوع من أنواع التيسير.
"ومن ستر مسلما" ستر: أي أخفى وغطى، والمقصود ستر مسلما ارتكب ما يعاب. إما في المروءة والخلق، وإما في الدين والعمل، وثوابه: "ستره الله في الدنيا والآخرة"
لكن يستثنى من ستر المسلم من كان معروفا بالشر والفساد، وفي الستر عليه ضرر، وهو أن يتمادى في شره وفساده، وربما أذية الناس، فهذا لا يُستر عليه، بل يُرفع أمره إلى من يؤدِّبه.
"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" يعني أنك إذا أعنت أخاك كان الله
في عونك كما كنت تعين أخاك.
وهذا مقيد بعونه على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾.
"ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" المراد بالعلم هنا علم الشريعة، وما يحتاج إليه من علوم الآلة كاللغة العربية وما أشبهها.
فمن وفقه الله تعالى لسلوك طريق العلم الشرعي وأعانه الله تعالى على الانتفاع به والعمل به كان ذلك سببا للوصول إلى الجنة.
"وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله" أي في المساجد، فإن المساجد هي بيوت الله عز وجل، كما قال الله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ 36 رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ 37﴾.
"يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم" أي يقرؤونه لفظا ويفهمون معناه، ويدرس بعضهم على بعض هذا القرآن الكريم.
"إلا نزلت عليهم السكينة" أي الوقار والطمأنينة.
"وغشيتهم الرحمة" أي تغشاهم رحمة الله عز وجل.
"وحفتهم الملائكة" أي أحاطت بهم إكراما لهم.
"وذكَرهم الله فيمن عنده" أي أن هؤلاء القوم الذين اجتمعوا في المسجد يتدارسون كلام الله عز وجل يذكرهم الله فيمن عنده، وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» فإذا ذكرتَ الله في ملأ بقراءة القرآن أو غيره فإن الله تعالى يذكرك عند ملأ خير من الملأ الذي أنت فيهم.
«ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» بطأ: بمعنى أخَّر، والمعنى: من أخره العمل لم ينفعه النسب، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ﴾.
الحديث السابع والثلاثون
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
قوله ﷺ: «إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات» أي كتب وقوعها وكتب ثوابها، فهي واقعة بقضاء الله وقدره المكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب ثوابها بما دل عليه الشرع.
«ثم بين ذلك» أي بين ما يتعلق بالحسنات والسيئات مفصلا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.
وفيه الإجمال ثم التفصيل والبيان، وهذا من البلاغة؛ ليقع البيان موقعه في النفس.
وتضمَّن هذا الحديث والأحاديث الواردة في معناه كتابة الحسنات، والسيئات، والهم بالحسنة والسيئة، فهذه أربعة أنواع:
النوع الأول: عمل الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دل عليه قوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا﴾.
وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له، فدل عليه قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود t قال: «جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة».
وقوله في حديث أبي هريرة t: «إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله عز وجل لأنه أفضل أنواع الصبر، و﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ﴾.
ومضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام، وتكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه، وبحسب الحاجة إليه.
النوع الثاني: عمل السيئات، فتكتب السيئة بمثلها، من غير مضاعفة، كما قال تعالى: ﴿وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ ولقوله r في هذا الحديث: «كتبها الله سيئة واحدة».
لكن السيئة تعظم أحيانا بشرف الزمان أو المكان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: ﴿فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡ﴾: في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حُرُما، وعظَّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك.
وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته بالله، وقربه منه، ولهذا توعَّد الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها، ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡٔٗا قَلِيلًا 74 إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ﴾. وقال تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا 30 ۞ وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ﴾.
النوع الثالث: الهمُّ بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة، وإن لم يعملها، لقوله ﷺ في هذا الحديث: «فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة» لأن الهمَّ نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فتكتب له حسنة كاملة.
والظاهر أن المراد بالهم هنا هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرد الخطرة التي تخطر، ثم تذهب من غير عزم ولا تصميم. قال أبو الدرداء: من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى يصبح، كتب له ما نوى.
النوع الرابع: الهمُّ بالسيئات من غير عمل لها، ففي هذا الحديث أنها تُكتب حسنةٌ كاملة، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إنما تركها من جرَّايَ» يعني: من أجلي. وهذا يدل على أن المراد من قَدِر على ما همَّ به من المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة؛ لأن تركه المعصية بهذا القصد عمل صالح.
فأما إن هم بمعصية، ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين، أو مراءاة لهم، فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية، لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم. وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا ترك المعصية لأجل ذلك، عوقب على هذا الترك.
وأما إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثم حيل بينه وبينها، فقد ذكر جماعة من أهل العلم أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
والحاصل أن هذا الحديث حديث عظيم يدل على عظيم رحمة الله تعالى بعباده، بمضاعفة حسناتهم التي عملوها، وعلى مجازاتهم على الهم بالحسنة حسنة وإن لم يعملوها، ومجازاتهم على السيئة بمثلها، بل لو هم بسيئة فتركها خوفا من الله تعالى لأثابه عليها حسنة، وحينئذ فلا يهلك على الله عز وجل يوم القيامة إلا هالك، ولا ترجح سيئات أحد على حسناته إلا هالك خاسر، قد سعى في السيئات، وفرط في حصول الحسنات، والله المستعان.
الحديث الثامن والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله تعالى قال من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه» رواه البخاري.
قيل: إن هذا الحديث أشرف حديث رُوي في ذكر الأولياء.
قوله عز وجل: «من عادى لي وليا» أي اتخذه عدوا له، وهذا معناه أنه أبغض الولي، وهذا فيه تفصيل: إن عادى الولي وأبغضه لما هو عليه من الدين فهذا ظاهر في أنه داخل في هذا الحديث وأن الله يؤذنه بالحرب.
أما إن حصلت بينه وبين ولي من أولياء الله تعالى خصومه على الدنيا، فإن صار مع الخصومة بغضاء له وكراهية فيخشى عليه أن يدخل في هذا الحديث، وإن كانت الخصومة بدون بغضاء فلا يدخل في الحديث، ولا يكون ممن آذنه الله تعالى بالحرب.
وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم حصلت بين بعضهم خصومات، وترافعٌ إلى القاضي، وهم سادات الأولياء من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، فوقوع الخصومة بلا بغضاء لا يدخل في هذا الحديث.
وولي الله عز وجل بيَّنه سبحانه في القرآن، فقال: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ 62 ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ 63﴾ فمن كان مؤمنا تقيا كان لله ولياً.
وهناك فرق بَيْنَ «الْوَلَايَةِ» بِالْفَتْحِ وَ «الْوِلَايَةِ» بِالْكَسْرِ، فَالْوَلَايَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَهُ فِي هَذِا الحديث، والْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ الَّتِي هِيَ الْإِمَارَةُ([21]).
ووَلاية الله عز وجل نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: وَلايته على الخلق كلهم تدبيرا وقياما بشؤونهم، وهذا عام لكل أحد، للمؤمن والكافر، ومنه قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ 61 ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّ﴾.
ووَلاية خاصة: وهي ولاية الله عز وجل للمتقين، قال الله عز وجل: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾ فهذه وَلاية خاصة وقال الله عز وجل: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ 62 ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ 63﴾.
«فقد آذنته بالحرب» يعني: فقد أعلمته وأنذرته بأني محارب له، فحرب الله للعبد إيصال عذابه ونكاله إليه.
وفي الحديث الدلالة على أن معاداة أولياء الله من كبائر الذنوب، لقوله: «فقد آذنته بالحرب» وهذه عقوبة خاصة على عمل خاص، فيكون هذا العمل من كبائر الذنوب.
وقوله: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»
هذا فيه وصف أولياء الله تعالى الذين تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، فقسم أولياءه المقربين إلى درجتين:
الأولى: درجة المقتصدين، وهم من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.
الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله، كما قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» فمن أحبه الله، رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره، فأوجب له ذلك القرب منه سبحانه وبحمده.
ودل هذا الحديث على أن جنس الفرائض أحبُ إلى الله من جنس النوافل.
ودل أيضا على إثبات صفة المحبة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنها تتفاضل، لقوله: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه».
ودل على الحث على الإكثار من النوافل، وأنها سبب لمحبة الله تعالى لعبده.
قوله: «فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
قوله: «كنت سمعه ...» من المعلوم أن الحديث ليس على ظاهره، لأن سمع المخلوق حادث ومخلوق وبائن عن الله عز وجل، فما معناه إذن؟
المعنى أن الله تعالى إذا أحب عبدا سدده في سمعه وبصره ويده ورجله، أي: أن يُوفَّق في جوارحه، بحيث لا يسمع إلا ما يرضي الله عز وجل، وإذا سمع انتفع، ولا يبصر إلا ما يرضي الله تعالى، وإذا أبصر انتفع، وهكذا في بقية الجوارح([22]).
وهذا ليس من التأويل؛ لأن المقطوع به في النصوص الشرعية أنه تعالى وتقدس لا يكون بذاته سمعا ولا بصرا ولا يدا ولا رجلا، فدل على أنه يوفَّق في سمعه وبصره ... فلا يسمع إلا ما يحب الله، ولا يبصر إلا ما يحب الله ...
قوله: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»
«ولئن» اللام واقعة في جواب القسم المقدر.
والاستعاذة هي الاعتصام والالتجاء.
يعني أن هذا الولي المحبوب إلى الله تعالى، له عند الله منزلة عالية تقتضي أنه إذا سأل الله شيئا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله عز وجل.
فذكر السؤال الذي به حصول المطلوب، والاستعاذة التي بها النجاة من المرهوب.
وقد كان كثير من السلف الصالح معروفا بإجابة الدعوة، منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقد كان مجابَ الدعوة.
ونازعت امرأة سعيد بن زيد رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة - في أرض له، فادعت أنه أخذ منها أرضها، فقال: اللهم إن كانت كاذبة، فأعم بصرها واقتلها في أرضها، فعميت، وبينا هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت.
الحديث التاسع والثلاثون
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول ﷺ قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» حديث حسن، رواه ابن ماجه، والبيهقي، وغيرهما.
هذا الحديث يشهد لمعناه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾، وقال ﴿مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾.
وفي صحيح مسلم 126 لما نزلت: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا﴾ قَالَ الله عز وجل: «قَدْ فَعَلْتُ».
فقوله: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان» إلى آخره.
تقديره: إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ، أو ترك ذلك عنهم.
واللام في قوله ﷺ: (لي) للتعليل، أي تجاوز من أجلي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ففيه سعة رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده حيث رفع عنهم الإثم عند وقوع المخالفة حال النسيان والخطأ والإكراه.
ويفهم من قوله «إن الله تجاوز لي» أن هذا من خصائص هذه الأمة، فقد رفع الله عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلها من الأمم.
وقوله: «الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه».
فأما الخطأ والنسيان، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما، قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا﴾ وفي الخطأ قال الله تعالى: ﴿وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡ﴾ وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه سمع النبي ﷺ يقول: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر»
وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه، قال تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ﴾.
والمراد بالخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئا، فيقع منه غير ما قصده.
مثل أن يقصد قتل كافر، فيقتل مسلما.
والنسيان: أن يكون ذاكرا لشيء، فينساه عند الفعل.
وكلاً من الخطأ والنسيان معفو عنه، بمعنى أنه لا إثم فيه.
ولكن رفع الإثم لا يعني ألا يترتب عليه حكم.
فمثلا من نسي الوضوء، وصلى ظانا أنه متطهر، فلا إثم عليه، لكن متى ما تذكر أنه صلى بغير طهارة لزمه أن يعيد الصلاة بطهارة.
ولو ترك الصلاة نسيانا ثم ذكر، فإن عليه القضاء، كما قال ﷺ: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾».
ولو صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيا، فلا إثم عليه، وصلاته صحيحة على القول الراجح.
ولو أكل في صومه الواجب ناسيا، فلا إثم عليه، ولا يبطل صيامه، عملا بقوله ﷺ: «من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه، فإنما أطمعه الله وسقاه»
والضابط في هذا: أن ما كان من باب التروك يعذر فيه بالجهل والنسيان، وما كان من باب الأوامر لا يعذر فيه بالجهل والنسيان.
ولو قتل مؤمنا خطأ، فإن عليه الكفارة والدية، وكذا لو أتلف مال غيره خطأ يظنه أنه مال نفسه فعليه الضمان.
والضابط فيه: أن ما كان من إتلاف في حقوق الآدميين فلا يسقط بالجهل والنسيان؛ لأن حقوقهم مبنية على المشاحة، فلا بد من الضمان، ولكن يسقط الإثم؛ لعدم القصد.
فمن جهة الحكم التكليفي لا يؤاخذ، وأما من جهة الحكم الوضعي فيؤاخذ، فيلزمه الضمان.
ومن المسائل المتعلقة بهذا الحديث: أن من ارتكب الحرام عالما بالحكم، لكن لا يعلم ما يترتب على الحكم كالحد والكفارة، فإنه لا يسقط عنه الحد ولا الكفارة؛ لأنه غير معذور، ويدل لذلك إيجاب النبي ﷺ الكفارة على المجامع في نهار رمضان، لأنه عالم بالتحريم، وإن كان لا يعلم ما يترتب على جماعه.
فالقاعدة: أن الجهل بما يترتب على الفعل ليس بعذر، وإنما العذر الجهل بالحكم.
أما المكره فهو نوعان:
أحدهما: من لا اختيار له بالكلية، ولا قدرة له على الامتناع، كمن حُمِل كرها وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله، أو حُمل كرها، وضُرب به غيره حتى مات ذلك الغير، ولا قدرة له على الامتناع، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق، ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء.
والنوع الثاني: من أُكره على الفعل بالتهديد بالقتل ونحوه، فهذا معذور، بشرط أن يكون المكرِه قادرا على تنفيذ ما أَكره به، أما إذا كان غير قادر فلا يعد إكراها.
واتفق العلماء على أنه لو أُكره على قتل معصوم لم يُبَح له أن يقتله، فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل، فإذا قتله في هذه الحال، فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود: المكرِه والمكرَه؟ لاشتراكهما في القتل.
وأما الإكراه على الأقوال، فاتفق العلماء على مَن أُكره على قول محرم إكراها معتبرا أنه لا إثم عليه، وقد دل عليه قول الله تعالى: ﴿إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ﴾، وقال النبي ﷺ لعمار: «وإن عادوا فعد» وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدونه من الكفر، ففعل.
فرفع الله عز وجل حكم الكفر عن المكرَه، فما دون الكفر من المعاصي من باب أولى.
وسائر الأقوال يُتصور عليها الإكراه، فإذا أُكره بغير حق على قول من الأقوال، لم يترتب عليه حكم من الأحكام، وكان لغوا، فإن كلام المكره صدر منه وهو غير راض به، فلذلك عفي عنه، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة. وبهذا فارق الناسي والجاهل، وسواء في ذلك العقود: كالبيع والنكاح، أو الفسوخ: كالخلع والطلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنذور.
وأما الإكراه بحق، فهو غير مانع من لزوم ما أُكره عليه، فلو أَكره الحاكم أحدا على بيع ماله ليوفي دينه صح البيع؛ لأنه إكراه بحق.
الحديث الأربعون
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري.
هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل.
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ﴾ [غافر: 39].
وقال النبي ﷺ: «ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها».
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنا، فينبغي أن يكون حاله فيها على أحد حالين: وهما ما أوصى به النبي ﷺ ابن عمر رضي الله عنهما.
فأحدهما: أن يكون في الدنيا كأنه غريب، والغريب إذا نزل في بلد الغربة لا يتعلق قلبه بها، بل قلبه متعلق بوطنه، ويعد العدة للرجوع إليه، فكذلك فليكن المؤمن في هذه الدنيا، وحينئذ فلا يكون له هم في الدنيا إلا التزود بما ينفعه من الأعمال الصالحة، ولا ينافس أهل البلد فيما يتنافسون فيه من الدنيا.
الحال الثاني: أن يُنزِّل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة المسافر غير المقيم، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمَّته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا.
وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما، (إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) المعنى: اعمل العمل قبل أن تصبح ولا تقل غدا أفعله، لأن منتظر الصباح إذا أمسى يؤخر العمل إلى الصباح، وهذا غلط، فلا تؤخر عمل اليوم لغد.
وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء أي اعمل وتجهز، وهذا أحد المعنيين في الأثر.
أو المعنى: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح لأنك قد تموت قبل أن تصبح. وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء لأنك قد تموت قبل أن تمسي.
قال المروزي: قلت لأبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي.
قوله: «وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك» يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت.
وقد قيل في حماد بن سلمة رحمه الله تعالى: لو قيل له: إنك تموت غدا، ما قدر أن يزيد في العمل شيئا.
وقد جاء معنى هذه الوصية عن النبي ﷺ ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» رواه الحاكم في المستدرك 7846، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب 3/311.
الحديث الحادي والأربعون
عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» حديث صحيح، ورويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح.
هذا الحديث صرح النووي رحمه الله تعالى بصحته، وقال: رويناه في كتاب «الحجة» بإسناد صحيح. يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي، وكتابه هذا هو كتاب «الحجة على تارك المحجة» يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة.
قال ابن رجب: تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه، ثم ذكرها.
لكن قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عليهم جميعا رحمة الله تعالى بعد أن نقل تصحيح النووي للحديث، واستبعاد ابن رجب صحته، وأن بعض أهل العلم تعقب ابن رجب: (قلت: ومعناه صحيح قطعًا وإن لم يصح إسناده. وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾ وقوله: ﴿فَإِن لَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهۡوَآءَهُمۡ﴾ وغير ذلك من الآيات، فلا يضر عدم صحة إسناده).
وأما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول ﷺ من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه. وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع. قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾. وذم سبحانه من كره ما أحبه الله، أو أحب ما كرهه الله، قال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَٰلَهُمۡ﴾، وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسۡخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضۡوَٰنَهُۥ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَٰلَهُمۡ﴾.
فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت المحبة، حتى أتى بما ندب إليه منه، كان ذلك فضلا، وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها، كان ذلك فضلا.
وقد ثبت في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين» فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يقدِّم محبة الرسول ﷺ على محبة جميع الخلق، ومحبة الرسول ﷺ تابعة لمحبة مرسِله وهو الله عز وجل.
والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنه الميل إلى خلاف الحق، كما في قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾، وقال: ﴿وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ 40 فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ 41﴾.
وقد يُطلَق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقا، فيدخل فيه الميل إلى الحق وغيره.
وربما استعمل بمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه، وسئل صفوان بن عسال رضي الله عنه هل سمعت النبي ﷺ يذكر الهوى؟ فقال: سأله أعرابي عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم، قال: «المرء مع من أحب» ولما نزل قوله عز وجل: ﴿تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُ﴾، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي ﷺ: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقال عمر في قصة المشاورة في أُسارى بدر: فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فهذا الحديث مما جاء في استعمال الهوى بمعنى المحبة المحمودة.
الحديث الثاني والأربعون
عن أنس بن مالك رضي عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله تعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة» رواه الترمذي رحمه الله وقال: حديث حسن.
هذا الحديث أخرجه الترمذي في جامعة (3540) وقال: هذا حديث حسن غريب. وصححه الألباني.
قال ابن رجب: هذا الحديث تفرد به الترمذي ... وإسناده لا بأس به.
فقد تضمن حديث أنس رضي الله عنه أن هذه الأسباب الثلاثة - الدعاء والاستغفار وعدم الشرك - يحصل بها المغفرة:
أحدها: الدعاء مع الرجاء، «إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ﴾
لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد تتخلف إجابته، لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، كما في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه» وفي الحديث القدسي: قال الله عز وجل: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ». رواه الإمام أحمد 9076، وصححه الألباني في الصحيحة 1663.
فما دام العبد يُلِحّ في الدعاء، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب، يوشك أن يُفتح له.
وقوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» يعني: مهما كثرت ذنوب العبد فإن الله تعالى بعفوه ورحمته يغفرها، ولا يتعاظمها ولا يستكثرها.
السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء، وهو السحاب.
والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها.
وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة يؤمر به، كقوله تعالى: ﴿وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾، وقوله: ﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ﴾.
وتارة يمدح أهله، كقوله: ﴿وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ﴾، وقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾.
وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾.
وكثيرا ما يُقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح.
السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها - خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة.
لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة.
أو يقال: إن من لقي الله تعالى مخلصا له الدين لا يشرك به شيئا، بأي نوع من أنواع الشرك، لا شركا أكبر ولا أصغر ولا خفي ولا جلي، فليس في قلبه رغب إلا إلى الله تعالى وحده، ولا رجاء إلا بالله وحده فحسنة هذا التوحيد العظيم تكون سببا لمغفرة ذنوبه وإن عظمت، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، وفيه الدليل على فضل التوحيد.
وبهذا انتهت الأربعون النووية.
أما زيادات ابن رجب فهي ثمانية أحاديث زادها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى على الإثنين والأربعين حديثا التي جمعها النووي رحمه الله تعالى، فصارت خمسين حديثا في جوامع كلم النبي ﷺ، وشرحها في كلها في كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، فأجاد في شرحها وأفاد، جزاه الله خيرا.
وأكثر شروح الأربعين النووية التي وقفت عليها والتي أُلفت بعد الحافظ ابن رجب لم تشرح فيها هذه الثمانية أحاديث، ولم يشرحها إلا القليل من أهل العلم، منهم: فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى (ت: 1417هـ) في التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية، وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد في فتح القوي المبين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك في الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
الفرائض: أي الأنصباء المقررة في كتاب الله تعالى، وهي: النصف، والربع، الثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
بأهلها: من يستحقها بنص القرآن.
فما أبقت الفرائض: بعد أخذ كل ذي فرض فرضه.
فلأولى رجل: أقرب رجل في النسب إلى المورث.
ذكر: هذا الوصف للتنبيه على سبب استحقاقه، وهو الذكورة التي هي سبب العصوبة، وسبب الترجيح في الإرث، ولذلك جعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيوف، والأرقاء والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، ونحو ذلك.
هذا الحديث مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها.
وهو أصل في باب الفرائض، ومن جوامع كلم النبي ﷺ.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قسمة المواريث في ثلاث آيات في سورة النساء:
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (فهذا الحديث مبين لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ومبين لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة مما لم يصرح به القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبين أيضا لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضم هذا الحديث إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كله معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات).
وقد دل هذا الحديث:
إشكال:
لماذا أتى بقوله: «ذكر» بعد قوله: «فلأولى رجل» مع أن الرجل لا يكون إلا ذكراً؟
الجواب: أنه أتى به ليفيد أن المراد بالرجل كل ذكر، ولو لم يكن بالغاً؛ لأن الرجل أصالة هو الذكر البالغ من بني آدم، وليس هذا المعنى مراداً في الحديث، فأتى بلفظ «ذكر» ليعم البالغ وغيره.
وأُجيب أيضا بأن إطلاق لفظ «الرجل» قد يُراد به الشخص، أي ما يعم الرجل والمرأة، ولهذا جاء تأكيد الرجل بالذكر؛ لإخراج المرأة، ومن شواهد ذلك قوله ﷺ: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس ...» فإن هذا الحكم يعم الرجل والمرأة.
الحديث الرابع والأربعون
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» خرجه البخاري ومسلم.
هذا الحديث أصل في باب الرضاع، وجاء في الصحيحين بلفظ: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» رواه البخاري 2645 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم 1445 من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفيهما بلفظ: «إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» رواه البخاري 5099، ومسلم 1444، من حديث عائشة رضي الله عنها.
قال ابن رجب: (وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة، وأن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب).
والتحريم بالرضاع تحريم مؤبد.
وقد جاء في القرآن الكريم تحريم الأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ﴾
وجاء في السنة هذا الحديث وما في معناه أن كل من حرم بالنسب حرم مثله بالرضاعة.
والمحرمات بالنسب أي القرابة سبع ذكرهن الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ ...﴾
والمحرمات بالمصاهرة أربع، ذكرهن الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ...﴾ وقوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ﴾.
فإذا أرضعت امرأة طفلا في الحولين خمس رضعات فأكثر صارت أماً له من الرضاع كما تحرم أمه من النسب، وصار أبو المرضعة وأجدادها آباء وأجدادا له من الرضاعة، وصارت أمها وجداتها أمهات وجدات له من الرضاعة، وصار إخوانها أخوالا له من الرضاعة، وأخواتها خالات له من الرضاعة، وأولاد المرضعة سواء من الزوج صاحب اللبن أو من غيره إخوة له من الرضاعة، وصار زوج المرضعة صاحب اللبن أباً له من الرضاعة، وأبو الزوج وأجداده أجداداً للمرتضع من الرضاعة، وأم الزوج وجداتها جدات للمرتضع من الرضاعة، وإخوان الزوج وأخواته أعماماً وعمات له من الرضاعة، وأولاد الزوج من المرضعة أو من غيرها إخوة له من الرضاعة، والزوجات الأخريات لزوج المرضعة زوجات أب المرتضع من الرضاعة، وهكذا.
والذي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ما يتعلق بتحريم النكاح، والجمع بين قريبتين وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في حِلِّ نحو نظر وخلوة وسفر، لا في باقي الأحكام، كتوارث ووجوب الإنفاق ونحو ذلك.
التحريم المذكور في هذا الحديث بالنظر إلى المرضعة وزوجها صاحب اللبن فإن أقاربهما أقارب للرضيع، وأما أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا ينتشر فيهم التحريم، ولا يثبت لهم شيء من أحكام الرضاع.
الحديث الخامس والأربعون
عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي ﷺ عام الفتح وهو بمكة يقول: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله حرم عليهم الشحوم، فأجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه» خرجه البخاري ومسلم.
عام الفتح: فتح مكة، وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة.
حرَّم: بإفراد الضمير، وإن كان المقام يقتضي التثنية، إشارة إلى أن أمر النبي ﷺ ناشئ عن أمر الله تعالى، وهو نحو قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرۡضُوهُ﴾.
والخمر: كل ما خامر العقل، أي غطاه على وجه اللذة والطرب.
وكل مسكر من أي شيء كان فهو خمر، سواء من العنب أو التمر أو البر أو من أي نوع كان، فما أسكر فهو خمر.
ولأجل مضرته العقلية والاجتماعية حرمه الشارع، فبيعه حرام لا يستثنى منه شيء حتى في حال إباحة تناول الخمر لضرورة، فيباح شرب الخمر لدفع لقمة غص بها ولا حضره غيره، بل يجب عليه أن يشرب الخمر لدفع الغصة؛ لئلا يهلك، فلا يجوز بيع الخمر حتى في حال إباحتها؛ لأن إباحتها على وجه نادر، والعبرة بالغالب.
الميتة: هي كل ما لم يمت بذكاة شرعية. هذا الضابط، فشمل ما مات بغير ذكاة، وشمل ما مات بذكاة غير شرعية، إما لعدم أهلية المذكِّي أو لخلل في الذكاة، وشمل ما لا تبيحه الذكاة كالحمار، فلو ذبح شخص حمارا وقطع البلعوم والمريء والودجين فإنه ميتة، لأنه لا تبيحه الذكاة.
فالميتة يحرم بيعها مطلقا.
وهل الميتة هنا على العموم؟ لا، المراد بالميتة: الميتة المحرمة احترازا من الميتة الحلال كميتة السمك والجراد هذه يجوز بيعها؛ لأنها حلال تؤكل بكل حال وبدون ضرورة.
والخنزير: وهو حيوان معروف خبيث يأكل الأنتان والعذرة، معروف بعدم الغيرة، ثم هو نفسه خبيث لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ﴾ [الأنعام: 145]. فلا يحل بيعه مطلقا.
والأصنام: وهي جمع صنم، وهو ما عبد من دون الله كالشجرة والحجر وغير ذلك وهي ليست لذاتها، ولكن لما يراد بها من الشرك، والشرك أعظم الذنوب، فلا يجوز أن يشتري الأصنام أبدا، اللهم إلا إذا لم تتوصل إلى إتلافه إلا بذلك فهذا جائز، لكنه بيع صوري؛ لأنه لا ثمن له شرعا.
هذه أربعة أشياء: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، والحكمة من ذلك: أما الخمر فلأنها مفسدة للعقل مفسدة للمجتمع، وأما الميتة والخنزير فلأنهما طعام خبيث لا ينال المرء منهما إلا المضرة والمرض، وأما الأصنام فلأنها مفسدة للأديان، فصارت الحكمة من تحريم بيع هذه الأشياء حماية العقول والأبدان والأديان.
أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن: أي: المراكب البحرية تدهن بالشحم، من أجل ألا يتشرب الخشب الماء؛ لأن الخشب إذا تشرب الماء ثقل وغرقت السفينة.
وتدهن بها الجلود: أي الجلود التي تدبغ؛ لأن الدهن يلينها.
ويستصبح بها الناس: أي يوقدون بها المصابيح.
فقال النبي ﷺ: «لا» يعني: لا يحل البيع؛ لأن السياق في البيع. وليس الذي لا يحل هو الانتفاع بشحوم الميتة في طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح به.
ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: «قاتل الله اليهود»، «قاتل» بمعنى: أهلك، وقيل بمعنى: لعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
واليهود معروفون بالمكر والخداع، كما فعلوا في الحيتان حين حرم عليهم صيد السمك في يوم السبت فابتلاهم الله عز وجل وصارت الحيتان تأتي يوم السبت على ظاهر الماء شُرَّعا وفي غير السبت لا تأتيهم، فتحيلوا ووضعوا الشباك في يوم الجمعة، فتأتي الحيتان يوم السبت وتدخل في الشباك، ثم إذا كان يوم الأحد جاءوا وأخذوها وقالوا: نحن ما صدنا يوم السبت، فعاقبهم الله تعالى بأن جعلهم قردة.
ومن المعلوم أن الله عز وجل حرم عليهم الشحوم: ﴿وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ شُحُومَهُمَآ﴾ [الأنعام: 146] حرم الله عليهم شحوم البقر والغنم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا (أي الأمعاء) أو ما اختلط بعظم، لكنهم كما قال النبي ﷺ في هذا الحديث: «إن الله حرم عليهم الشحوم، فجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه»، جملوه، أي: أذابوه، ثم باعوه واشتروا بثمنه ما يأكلونه، وقالوا نحن لم نأكل الشحم، فهذه حيلة على ما حرَّم الله عز وجل، ودعا عليهم النبي ﷺ بان الله يقاتلهم تحذيرا من فعلهم وتنفيرا عنه؛ لأن من فعل كفعلهم استحق ما يستحقون.
الحديث السادس والأربعون
عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: وما هي؟ قال: البتع والمزر، فقيل لأبي بردة: وما البتع؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير، فقال: «كل مسكر حرام» خرجه البخاري.
وخرَّجه مسلم، ولفظه قال: بعثني رسول الله ﷺ أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشراب يقال له: البتع من العسل، فقال: «كل مسكر حرام».
وفي رواية لمسلم: فقال: «كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام»
وفي رواية له قال: وكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال: «أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة».
فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات، المغطية للعقل.
وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43] ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ 90 إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ 91﴾ [المائدة: 90 - 91] .
فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار، وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء، فإن من سكر اختل عقله، فربما تسلط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم، وربما بلغ إلى القتل.
ومن قامر فربما قُهر، وأُخذ ماله قهرا، فلم يبق له شيء، فيشتد حقده على من أخذ ماله، وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراما.
وأخبر سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن السكران يزول عقله أو يختل، فلا يستطيع أن يذكر الله، ولا أن يصلي، فما أدى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته، كان محرما.
وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه.
وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما خرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه من حديث جابر عن النبي ﷺ، قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وخرج أبو داود، والترمذي، وحسنه من حديث عائشة، عن النبي ﷺ، قال: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق، فملء الكف منه حرام».
حكم تعاطي الأدوية المشتملة على الكحول:
يحرم التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات؛ فعن طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ رضي الله عنه أنه سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ - أَوْ كَرِهَ - أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ»([23])، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ»([24]).
ولا يجوز خلط الأدوية بالكحول المسكرة، لكن لو خُلطت بالكحول جاز استعمالها إن كانت نسبة الكحول قليلة لم يظهر أثرها في لون الدواء ولا طعمه ولا ريحه، فإن ظهر لها أثر في الدواء حَرُم استعماله.
استخدام المخدرات والمفترات والمنشطات:
يُقصد بالمخدِّرات ما يُغَطِّي العقل والفكر، ويصيب متعاطيها بالكسل، والثقل، والفتور، من الأفيون والحشيش والكوكايين والمورفين، والشَّبُو والقَات ونحوها.
والمخدِّرات حرام كيفما كان تعاطيها؛ لأنها من الخبائث، وقد قال الله تعالى في وصف نبيه محمد ﷺ: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ﴾ ولحديث عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله ﷺ قال: «كل شراب أسكر فهو حرام»، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله ﷺ قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام...» الحديث، وعن أُم سلمة رضي الله عنها قالت: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ»([25])، ولعظم خطر هذه الموادّ المخدِّرة، وشدَّة إفسادها، وفتكها بشباب الأمة، ورجالها، وشغلهم عن طاعة ربّهم، وجهاد أعدائهم، ومعالي الأمور، حرّمها الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكل ما يُغيِّب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تَغَيُّب العقل حرام بإجماع المسلمين) ([26]).
حكم الاتّجار بالمواد المخدِّرة: ورد تحريم بيع الخمر عن رسول الله ﷺ، ففي حديث جابر رضي الله عنه عن النَّبيّ أنه قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنـزير والأصنام» ولقوله ﷺ: «إن الله إذا حَرَّم شيئاً حَرَّم ثمنه».
ولذا قال العلماء: إنّ ما حرَّم الله الانتفاع به يحرم بيعه، وأكل ثمنه.
ولمّا كانت المخدِّرات يتناولها اسم الخمر، فإنَّ النهي عن بيع الخمر يتناول هذه المخدِّرات شرعاً، فلا يجوز بيعها إذن، ويكون المال المكتسب من الاتِّجار بها حراماً.
عقوبة تعاطي المخدِّرات: مَن تعاطى المخدِّرات أكلاً أو شرباً أو حقناً ونحو ذلك، فإن هذا المخدِّر له حالتان:
الأولى: أن يكون مُؤثِّراً في العقل على وجه اللّذّة، وهذا حقيقة السُّكْر، فيكون مسكراً يجب فيه حدّ الخمر على متعاطيه، ومِن أمثلة ذلك: الحشيش.
الثّانية: أن يُغيِّب العقل على غير لذّة، فهذا لا يُعدّ مُسْكِراً، لكن تجب فيه عقوبة تعزيريّة.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً» أَيْ ظَرْفًا «شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» صِفَةُ وِعَاءٍ جَعَلَ الْبَطْنَ أَوَّلًا وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا لِحَوَائِجِ الْبَيْتِ تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا هِيَ لَهُ وَالْبَطْنُ خُلِقَ لِأَنْ يَتَقَوَّمَ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ شَرًّا مِنْهَا.
«بحسب بن آدَمَ أُكُلَاتٌ» بِضَمَّتَيْنِ خَبَرُهُ نَحْوُ قَوْلِهِ بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ وَالْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ أَيْ يَكْفِي ابن آدم لقيمات، يحصل بها سَدِّ الرَّمَقِ وَإِمْسَاكِ الْقُوَّةِ «يُقِمْنَ صُلْبَهُ» أَيْ ظَهْرَهُ.
«فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ» أَيْ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ التَّجَاوُزِ عَمَّا ذَكَرَ فَلْتَكُنْ أَثْلَاثًا «فَثُلُثٌ» يَجْعَلُهُ «لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ» يَجْعَلُهُ «لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ» يَدَعُهُ «لِنَفَسِهِ» أَيْ يُبْقِي مِنْ مِلْئِهِ قَدْرَ الثُّلُثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّنَفُّسِ وَيَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ صَفَاءٍ وَرِقَّةٍ.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الطِّبِّ كُلِّهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَاسَوَيْهِ الطَّبِيبَ لَمَّا قَرَأَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي «كِتَابِ» أَبِي خَيْثَمَةَ، قَالَ: لَوِ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، سَلِمُوا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَتَعَطَّلَتِ الْمَارِسْتَانَاتُ وَدَكَاكِينُ الصَّيَادِلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ التُّخَمُ، ...
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةِ طَبِيبُ الْعَرَبِ: الحِمية رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَالْبِطْنَةُ رَأْسُ الدَّاءِ.
فَهَذَا بَعْضُ مَنَافِعِ تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَتَرْكِ التَّمَلِّي مِنَ الطَّعَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاحِ الْبَدَنِ وَصِحَّتِهِ.
وَأَمَّا مَنَافِعُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَلْبِ وَصَلَاحِهِ، فَإِنَّ قِلَّةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقُوَّةَ الْفَهْمِ، وَانْكِسَارَ النَّفْسِ، وَضَعْفَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ، وَكَثْرَةُ الْغِذَاءِ تُوجِبُ ضِدَّ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَرْوَذِيُّ: جَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي أَحْمَدَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْجَرُ، وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؟ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً وَهُوَ يَشْبَعُ؟ قَالَ: مَا أَرَى.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ، وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ مَلَكَ بَطْنَهُ، مَلَكَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا، وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مِعْدَةً مَلْأَى.
وقال الْحَسَنِ لَمَّا عَرَضَ الطَّعَامَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَكَلْتُ حَتَّى لَا أَسْتَطِيعَ أَنْ آكُلَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَيَأْكُلُ الْمُسْلِمُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ يَأْكُلَ؟!
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَصِحَّ جِسْمُكَ، وَيَقِلَّ نَوْمُكَ، فَأَقِلَّ مِنَ الْأَكْلِ.
وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى التَّقَلُّلِ مِنَ الْأَكْلِ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ، وَقَالَ: «حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ».
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ».
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ شَبَابٌ يَتَعَبَّدُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ فِطْرِهِمْ، قَامَ عَلَيْهِمْ قَائِمٌ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَنَامُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ كَانَتْ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
هذا الحديث خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ».
والنفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يُظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي ﷺ، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.
والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يُظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك. وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمسة:
أحدها: أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له.
والثاني: إذا وعد أخلف، وهو على نوعين:
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟» قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ» رواه أبو داود 4991، وحسنه الألباني.
والثالث: إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا، وهذا مما يدعو إليه الكذب، كما قال ﷺ: «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار».
فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة - سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات، ومن أخبث خصال النفاق.
ويدخل في ذلك إقامة الدعوى الكيدية لدى القاضي، والدعوى الكيدية: هي دعوى يقيمها المدعي من غير حق، فيطالب بأمر لا حق له فيه؛ لغرض الإضرار بالمدعى عليه، أو يقيمُ الدعوى في قضية لا مصلحة له منها، أو يعيدُ إقامة الدعوى المنتهيةِ شرعا؛ كل ذلك بغرض مضارة المدعى عليه.
وصاحب الدعوى الكيدية متعرض لسخط الله عز وجل؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ومن خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه» رواه أبو داود 3597 وصححه الألباني.
ولذا فيحرم أن يتوكل المحامي أو غيره عن أهل الخصومات والدعاوى الباطلة؛ لئلا يكون شريكا معهم في الإثم، وقد نهى الله عن ذلك في قوله سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا 105 وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا 106﴾ ومعنى الآية: لا تخاصم عمن عرفت خيانته، ممن يدعي ما ليس له، أو ينكر حقا لازما عليه، سواء عَلِم ذلك يقينا، أو غلب على ظنه أنه مبطل في دعواه، فلا يجوز له التوكل نيابة عنه، عملا بقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾.
الرابع: إذا عاهد غدر، ولم يف بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، فقال: ﴿وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسُۡٔولٗا﴾ وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ، قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به»
والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهد كافرا، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: «من قتل نفسا معاهدا بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» خرجه البخاري.
وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئا. وأما عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثما. ومن أعظمها: نقض بعض الرعية ما في أعناقهم من البيعة لولي أمر المسلمين، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ، قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فذكر منهم: ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفَى له، وإلا لم يفِ له» ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها، ويحرم الغدر فيها: جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر الطاعة ونحوه.
الخامس: الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن الرجل أمانة، فالواجب عليه أن يؤديها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾، وقال النبي ﷺ: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» وقال الله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق.
وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل له: إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعد هذا نفاقا.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يخافون النفاق على أنفسهم، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه. ويذكر عن الحسن قال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟
ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقا، كما في «صحيح مسلم» «عن حنظلة الأسيدي أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله ﷺ يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله ﷺ، فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله ﷺ: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».
وفي مسند البزار عن أنس رضي الله عنه قال: «قالوا: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره، قال: كيف أنتم وربكم؟ قالوا: الله ربنا في السر والعلانية، قال: ليس ذاكم النفاق».
الحديث التاسع والأربعون
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه 730، والبيهقي في شعب الإيمان 2/405، وقال بعده: (قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْكَسْبِ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ إِذَا غَدَتْ فَإِنَّمَا تَغْدُو لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - لَوْ تُوَكَّلُوا عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي ذَهَابِهِمْ وَمِجِيئِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَرَأَوْا أَنَّ الْخَيْرَ بِيَدِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَنْصَرِفُوا إِلَّا سَالِمِينَ غَانِمِينَ كَالطَّيْرِ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا، لَكِنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّتَهُمْ وَجَلَدِهِمْ وَيَغِشُّونَ وَيَكْذِبُونَ، وَلَا يَنْصَحُونَ وَهَذَا خِلَافُ التَّوَكُّلِ»).
وروى ابن حبان في صحيحه 3238، عن أَبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أَجله». وقال الألباني في صحيح موارد الظمآن 1/449: صحيح لغيره. وانظر: الصحيحة 952.
وهذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلَب بها الرزق، قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا 2 وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓ﴾.
وحقيقة التوكل على الله تعالى: هو الاعتماد على الله عز وجل في جلب المصالح ودفع المضار، والثقة به سبحانه في ذلك، مع بذل الأسباب المشروعة.
وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، كما قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ﴾، وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾
ومما يدل على الأخذ بالأسباب أن النبي ﷺ دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، وظاهر بين درعين في بعض غزواته، وهو سيد المتوكلين ﷺ.
وأرشد ﷺ إلى الجمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله تعالى بقوله: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله» رواه مسلم.
وفي الحديث أن طلب الرزق وقته النهار، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا﴾ والليل سكن.
وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه، كما في حديث ثوبان عن النبي ﷺ قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه». وفي حديث جابر، عن النبي ﷺ: «إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم».
وعن الفضيل بن عياض أنه قيل له: لو أن رجلا قعد في بيته زعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنه قد وثق به، لم يمنعه شيئا أراده، لكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم، «وكان النبي ﷺ يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر» ولم يقولوا: نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل، وقال الله عز وجل: ﴿وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾، ولابد من طلب المعيشة.
وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل».
الحديث الخمسون
عن عبد الله بن بسر قال: «أتى النبي ﷺ رجل، فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع؟ قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل» خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ.
وأخرجه الترمذي 3375 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ» وصححه الألباني.
(بشيء أتشبث به) أي أتمسك به كما في الرواية التي ذكرها المصنف؛ ليسهل علي أداؤه.
وفيه فضل الصحابة ﷺ لحرصهم على الخير، والسؤال عنه.
والمراد بالشرائع التي كثرت في الحديث أي النوافل، فأراد الصحابي رضي الله عنه بسؤال النبي ﷺ معرفة طريق من طرق الخير يخصه بمزيد عناية، لأجل تحصيل الثواب الجزيل من الله تعالى، وأما الفرائض فإنها مطلوبة كلها، يجب على المسلم التمسك لها جميعا.
وقوله ﷺ: «من ذكر الله عز وجل» الذكر يكون عاما وخاصا:
أما العام فيدخل فيه الصلاة وقراءة القرآن الكريم وتعليم العلم والذكر الذي هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحوه، والدعاء وغير ذلك مما يذكر الله تعالى به.
وأما الذكر الخاص فهو الثناء على الله تعالى بتحميده وتكبيره وتسبيحه وتهليله ونحوه، وهو الذي يقرن كثيرا بالدعاء، فيقال: الذكر والدعاء.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟، قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» رواه ابن حبان في صحيحه 818، وقال الألباني في صحيح موارد الظمآن 2/314: حسن صحيح.
وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بأنْ يذكروه ذكراً كثيراً، ومَدَحَ من ذكره كذلك؛ قالَ تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا 41 وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا 42﴾، وقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا﴾.
وقال كعب: من أكثر ذكر الله، برئ من النفاق.
ويشهد لهذا المعنى أنَّ الله تعالى وصف المنافقين بأنَّهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، فمن أكثر ذكرَ الله، فقد بايَنَهُم في أوصافهم، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله، وأنْ لا يُلهي المؤمنَ عن ذلك مالٌ ولا ولدٌ، وأنَّ من ألهاه ذلك عن ذكر الله، فهو من الخاسرين.
قال الربيعُ بنُ أنس، عن بعض أصحابه: علامةُ حبِّ الله كثرةُ ذكره، فإنَّك لنْ تحبَّ شيئاً إلا أكثرت ذكره.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النَّبيُّ ﷺ يذكر الله على كلِّ أحيانه.
والمعنى: في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه، وسواء كان على طهارةٍ أو على حدث.
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في آخر شرحه لهذا الحديث: (ذكرنا في أوَّل الكتاب أنَّ النَّبيَّ ﷺ بُعِثَ بجوامع الكلم، فكان ﷺ يُعجِبُه جوامع الذكر، ويختاره على غيره من الذكر، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس، عن جُويرية بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ ﷺ خرج من عندها بُكرةً حين صلَّى الصبحَ وهي في مسجدها، ثمَّ رجع بعد أنْ أضحى وهي جالسةٌ، فقال: «مازلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم، فقال النَّبيُّ ﷺ: «لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرات، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزَنتهُنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَةَ عرشه، ومداد كلماته»).
والحمد لله رب العالمين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([1]) تنبيه: هذا الشرح المتواضع مستفاد من عدة شروح لأهل العلم، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.
([2]) ينظر: طبقات الشافعيين لابن كثير 1/909، وطبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي 8/395.
([3]) قال السندي في حاشيته على النسائي 8/103: (ثمَّ قَالَ أَي للنَّاس الْحَالين عِنْده بعد أَن خرج الرجل من الْمجْلس "نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ" قَالَ الْحَافِظُ بن حجر: هَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ دِحْيَةَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ قَالَ عمر مَا يعرفهُ منا أحد. قلت: كَونه فِي صُورَة دحْيَة لَا يَقْتَضِي أَن لَا يمتاز عَنهُ بِشَيْء أصلا سِيمَا الامتياز بالأمور الْخَارِجَة فَيجوز أَنه ظهر لَهُم بِبَعْض الْقَرَائِن الْخَارِجَة بل الدَّاخِلَة الْخفية أَنه غير دحْيَة فَلَا وَجه لتوهيم الروَاة بِمَا ذكر فَلْيتَأَمَّل).
([4]) قال شيخ الإسلام في الفتاوى (7/609): (ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها وجماهير علمائها وذهبت طائفة من المرجئة وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي واتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة).
([5]) الفتاوى المتعلقة بالطب ص284.
([6]) أخرجه أحمد (24/49) برقم (15333) والبخاري في التأريخ الكبير (7/18، 19) وابن أبي عاصم في السنة برقم (1096) و (1097) و (1098) وغيرهم، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: (5/413) تحت باب النصيحة للأئمة وكيفيتها، ثم قال: (رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعا وإن كان تابعيا). ثم ذكر نحوه عن جبير بن نفير أن عياض بن غنم فذكره ثم قال: (ورجاله ثقات وإسناده متصل). وقال الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة ص523 بعدما تكلم على طرقه: (فالحديث صحيح بمجموع طرقه) واحتج به الشوكاني في السيل الجرار (4/527) وكذا احتج به سماحة الشيخ ابن باز كما في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (8/211) وصححه الشيخ عبد المحسن العباد كما في ردِّه على الرفاعي والبوطي ص22، وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الأربعين النووية ص471: (إسناده قوي، ولم يُصِب من ضعَّف إسناده، وله شواهد كثيرة) وانظر: معاملة الحكام ص143- 151 فقد أطال في الكلام على أسانيده، كما يشهد لهذا الحديث ما ثبت من آثار الصحابة y.
([7]) أخرجه البخاري برقم (7098) ومسلم برقم (2989) واللفظ لمسلم.
([8]) إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم (8/538) وبنحوه قال الأُبِّي في إكمال إكمال المعلم (7/298).
([9]) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (4/1657) برقم (846) وابن أبي شيبة (7/470) برقم (37296) والبيهقي في شعب الإيمان (10/73) برقم (7186) واللفظ لسعيد بن منصور، وقال محقق سنن سعيد بن منصور: سنده حسن لذاته.
([10]) فتح الباري (13/16).
([11]) لقاء مفتوح مع فضيلته بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتاريخ 11/7/1439ه، ينظر اللقاء بموقع الشيخ على الرابط:
http://www.alfawzan.af.org.sa/ar/node/17724 الدقيقة (26) .
([12]) سمعت معنى ذلك من الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى.
([13]) الدرر السنية (9/48).
([14]) الرياض الناضرة، ضمن مجموع مؤلفات الشيخ السعدي (22/98/ 99).
([15]) في النهاية (طمر): (الطِّمْر: الثوبُ الخَلَق).
([16]) قال الطيبي في شرح المشكاة 7/2097: (ذكر قوله: ((وغذى بالحرام)) بعد قوله: ((ومطعمه حرام)) إما لأنه لا يلزم من كون المطعم حرامًا التغذية بها، وإما تنبيهًا به علي استواء حاليه، أعني كونه منفقًا في حال كبره، ومنفقًا عليه في حال صغره في وصول الحرام إلي باطنه، فأشار بقوله: ((ومطعمه حرام)) إلي حال كبره، وبقوله: ((وغذى بالحرام)) إلي حال صغره، وهذا دال علي أن لا ترتيب في الواو، وذهب المظهر إلي الوجه الثاني.
أقول: ولعل العكس أولي؛ لأن قوله: ((وغذى)) وقع حالًا، وهو فعل ماض؛ فلابد من تقدير ((قد)) ليقرب التعدية إلى قول المقدر في ((يا رب)) كما سبق. وكذا قوله: ((ومطعمه وملبسه)) حالان منه، وهما جملتان اسميتان تدلان علي الثبوت والاستمرار، كأنه قيل: يقول: يارب! وقد قرب قوله ذاك بتغذيته بالحرام، وكذا حاله أنه دائم الطعم واللبس من الحرام. وخص من الأزمنة المستمرة زمان حال الدعاء، ومن المذكورين الطعم دون اللبس؛ لأن الطعم أبلغ من اللبس، وفي هذا الزمان أشنع، وإنما قلنا: إنه أبلغ؛ لأنه يصير جزء المغتذي؛ ولذلك عدل عن الطعم إلي التغذية).
وفي شرح الأربعين لابن عثيمين ص144: ("ومطعمه حرام" يعني طعامه الذي يأكله حرام، أي حرام لذاته أو لكسبه. "ومشربه حرام" يعني شربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه. "وغذي بالحرام" يعني أنه تغذى بالحرام الحاصل من فعل غيره).
([17]) المغني 9/148.
([18]) تفسير ابن كثير.
([19]) الصحيح المسبور 4/211.
([20]) فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الأربعين ص304: (ويرى بعض أهل العلم من السابقين واللاحقين أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها بلا عذر كفر. ولكن الذي أرى: أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة نهائيا).
([21]) منهاج السنة النبوية 7/28.
([22]) ينظر: القواعد المثلى لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى ص67.
([23]) أخرجه مسلم (1984).
([24]) أخرجه ابن حبان (1391) وقال الألباني في التعليقات الحسان (3/73): حسن لغيره.
([25]) أخرجه أبو داود (3686) وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/44).
([26]) الفتاوى الكبرى (3/423).