المجلس السادس من الحديث 61- 75
برنامج دليل 1447هـ
إن الحمد لله . . أما بعد:
فيقول المؤلف A:
بَابُ الأذَان
الأذان- لغة: الإعلام، قال الله تعالى: ﴿وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ﴾ أي إعلام منهما.
وشرعاً: الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بألفاظ مخصوصة.
وهو- على اختصاره - مشتمل على مسائل العقيدة، لأن التكبير يتضمن وجود الله وإثبات صفات الجلال والعظمة له، والشهادتان تثبتان التوحيد الخالص، ورسالة ، محمد ﷺ، وتنفيان الشرك، والدعاء إلى الفلاح يشير إلى المعاد والجزاء.
وذكر العلماء له حِكَماً عظيمة، منها إظهار شعار الإسلام، وإظهار كلمة التوحيد، وإثبات الرسالة، والإعلام بدخول وقت الصلاة، والدعوة إلى صلاة الجماعة.
وفي القيام به فضل عظيم لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة I أن رسول الله ﷺ قال : «لو يَعْلَمُ الناسُ مَا في النّدَاءِ والصف الأوٌل ثم لَمْ يَجدُوا إِلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا»
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ L أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» رواه ابن ماجه (728) وصححه الألباني.
الحديث الحادي والستون
عَنْ أنس بْنِ مَالِك I قَالَ: أُمِر بلال أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوترَ الإقَامَةَ.
بلال هو ابن رباح I مولى الصديق I، سكن دمشق وكان ممن عُذِّب في الله تعالى، وأول من أذَّن في الإسلام، مات سنة 20هـ وله بضع وستون سنة.
غريب الحديث
أُمِر بلال: مبنى للمجهول. والظاهر أن الآمر هو النبي ﷺ فله حكم المرفوع.
أن يشفع الآذان: يعني، يأتي بألفاظه شفعاً. أي مثنى، بأن يأتي بكل جملة مرتين. والمراد غالب ألفاظه.
ويوتر الإقامة: أي يأتي بألفاظها وتراً، وهو نقيض الشفع. يعني غالب ألفاظها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الاهتمام بالأذان أكثر من الإقامة، لكونه نداء للبعيد.
2-المراد بشفع الأذان ماعدا التكبيرات الأربع في أوله، وكلمة التوحيد في آخره، فإنها مخصصة بأدلة أخرى.
3-المراد بوتر الإقامة ماعدا التكبيرتين في أولها وق د قامت الصلاة، فإنهما مشفوعتان لتخصيصهما بأدلة أخر.
الحديث الثاني والستون
عَنْ أبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ الله السُوَائي قالَ: أتيتُ النَّبيَ ﷺ وهوَ في قُبّةٍ لَه حَمرَاءَ مِنْ أدَم، قَالَ: فخَرَج بِلالٌ بوَضُوءٍ ، فَمِنْ نَاضِح وَنائِل فَخَرَجَ النَّبيُّ ﷺ وَعَلَيهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأنّي أنْظرُ إلَى بياضِ سَاقَيهِ، قَالَ: فَتوَضأ وَأذّنَ بِلال. قال: فَجَعَلْتُ أتَتَبَّع فَاهُ ههُنَا ههُنَا، يَقُولُ يَميناً وشِمَالاً. حَي عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح. ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَة فَتَقَدَّم وَصَلّى الظهْرَ رَكعَتَينِ. ثُم لم يزَل يُصلي رَكْعَتَين حَتَّى رَجَعَ إلَى المَدِينَةِ.
وهب بن عبد الله السُّوائي: صحابي قيل مات النبي ﷺ ولم يبلغ الحلم، وجعله علي I على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، مات سنة أربع وسبعين. I.
أتيت النبي ﷺ: كان ذلك في حجة الوداع، وهو نازل بالأبطح بمكة.
في قبة له حمراء من أدَم: القبة: الخيمة. والأدم، الجلد المدبوغ.
فخرج بلال بوَضوء: الماء الذي يتوضأ به.
فمن ناضح ونائل: الناضح من أخذ قليلا من ماء الوضوء لينضحه على أعضائه.
والنائل من أخذ كثيرا من الماء ليغسل به أعضاء وضوئه.
والمعنى أن من الناس من أخذ كثيرا ومنهم من أخذ قليلا.
حُلَّة: لا تكون إلا من ثوبين، إزار ورداء أو غيرهما وتكون ثوبا له بطانة.
أتتبع فاه ههنا ههنا: المراد يلتفت جهة اليمين وجهة الشمال ليبلِّغ مَن حوله.
عَنَزَة: حربة صغيرة.
ما يؤخذ من الحديث:
1-مشروعية التفات المؤذن يميناً وشمالا عند قوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) والحكمة في هذا تبليغ الناس ليأتوا إلى الصلاة.
وكيفية ذلك: يقول حي على الصلاة مرتين عن يمينه ثم يقول حي على الفلاح مرتين عن شماله.
2- مشروعية قصر الرباعية إلى ركعتين في السفر.
3- مشروعية السترة أمام المصلي.
4- شدة محبة الصحابة M للنبي ﷺ وتبركهم بآثاره، وهذا التبرك خاص به ﷺ، ولا يقاس عليه غيره من الصالحين، فلا يجوز التبرك بآثارهم، لأن الصحابة M لم يتبركوا بآثار خيارهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي M، فمن دونهم من الصالحين من باب أولى.
5- في هذا الحديث دليل على جواز لبس الأحمر، وهو قول أكثر أهل العلم، ذهبوا إلى الجواز بلا كراهة، وهو اختيار الموفق بن قدامة A، واستدلوا بعدة أدلة فيها أن النبي ﷺ لبس الأحمر.
منها هذا الحديث.
وَفِي الصحيحين عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ L أَنَّهُ قَالَ «مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لُمَّةٍ وَحُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»
وروى أبو داود (4073) عَنْ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ I قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمِنًى يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ، وَعَلِيٌّ I أَمَامَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ» وصححه الألباني.
ومحل الخلاف في الأحمر الخالص، الذي لم يخالط لون آخر، فهذا محل الخلاف، والأكثر على جوازه كما تقدم، خلافا للحنابلة الذين يروه الكراهة.
وأما الأحمر المصبوغ بالعصفر فقد ورد النهي عن لبسه للرجال.
6-فيه دليل على تقصير الثياب، لقوله: (كأني أنظر إلى بياض ساقيه)
7-فيه أن ساق الرجل ليس بعورة، وهو إجماع، لكن إن نظر إليه بشهوة فهو حرام إجماعا كسائر ما ينظر إليه من المحرمات.
8-وفيه تواضع النبي ﷺ، حيث كان مقامه في تلك القبة من الجلد.
الحديث الثالث والستون
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ L عَنْ رَسُولِ الله ﷺ قَالَ: «إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ. فَكُلُوا حَتى يُؤَذن ابْنُ أم مَكْتُوم».
يؤذن بليل: أي في ليل، قبل طلوع الفجر بقليل.
ابن أم مكتوم: الأكثرون على أن اسمه عمرو بن قيس، وقيل: عبد الله. أسلم قديما بمكة، وهاجر إلى المدينة، وكان رجلا أعمى، ويؤذن لرسول الله ﷺ مع بلال، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة، شهد فتح القادسية، وقتل شهيدا بها.
المعنى الإجمالي :
كان للنبي ﷺ مؤذنان، بلال بن رباح، وعبد الله بن أم مكتوم وكان ضريراً.
فكان بلال يؤذن لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر، لأنها تقع في وقت نوم، ويحتاج الناس إلى الاستعداد لها قبل دخول وقتها.
فكان ﷺ ينبه أصحابه إلى أن بلالا يؤذن بليل، فيأمرهم بالأكل والشرب حتى يطلع الفجر، ويؤذن المؤذن الثاني وهو ابن أم مكتوم لأنه كان يؤذن مع طلوع الفجر الثاني، وذلك لمن أراد الصيام، فحينئذ يكف عن الطعام والشراب ويدخل وقت الصلاة.
ما يؤخذ من الحديث من أحكام:
1- مشروعية الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها أي قبل طلوع الفجر الصادق، في رمضان وفي غيره.
2- جواز اتخاذ مؤذنين لمسجد واحد، ويكون لأذان كل منهما وقت معلوم، أحدهما قبل دخول وقت الفجر، والآخر عند دخول الوقت.
3- جواز اتخاذ المؤذن الأعمى، وجواز تقليده؛ لأن ابن أم مكتوم رجل أعمى.
4- وفيه استحباب تنبيه أهل البلد على إرادة الأذان قبل طلوع الفجر حتى يكونوا على بصيرة.
5-وفيه أن لمن أراد الصيام الأكل والشرب حتى يتحقق طلوع الفجر، وألا يمسك قبل ذلك لقوله: فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم.
6-فيه جواز العمل بخبر الواحد إذا كان ثقة معروفا.
7-جواز نسبة الرجل إلى أمه، إذا اشتهر بذلك، ولم يحصل به أذية عليه، أو على أمه وأبيه.
إشكال:
ورد في رواية: (ولم يكن بين أذانيهما إلا قدر أن ينزل هذا ويرقى هذا) وظاهره أن الوقت بين الأذانين يسير.
فالجواب: ما قاله النووي في شرح مسلم ((لم يكن بين أذانيهما إلا قدر أن ينزل هذا ويرقى هذا) قال العلماء معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فتأهب ثم يرقى ويسرع الأذان مع أول طلوع الفجر)
وليس فيما بين الأذانين من الوقت تحديد، لكن يكون قريبا من طلوع الفجر الصادق، قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ A 2/126: (فإذا كان نصف ساعة أو ثلث كان أنفع فيما أظن).
الحديث الرابع والستون
عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدرِي I قَالَ: قَالَ رَسولُ الله ﷺ : «إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُولُ».
ما يؤخذ من الحديث من الأحكام:
1- مشروعية إجابة المؤذن بمثل ما يقول. وذلك بإجماع العلماء.
وليست الإجابة بواجبة، والصارف للأمر عن الوجوب، ما روى مسلم أن النبي ﷺ سمع مؤذنا فلما كبر، قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: خرج من النار.
2- أن تكون إجابة المجيب بعد انتهاء المؤذن من الجملة لقوله: (فقولوا). لأن الفاء للترتيب.
3- أن يجيب المؤذن في كل أحواله ، إن لم يكن في خلاء أو على حاجته.
4- ظاهر الحديث أن السامع يجيب المؤذن بمثل ما يقول في كل جمل الأذان.
والذي عليه جمهور العلماء أن المجيب يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» عند قول المؤذن: «حي على الصلاة» و«حي على الفلاح» كما ورد في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب ومنه «ثم قال: حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله».
ولأن الحيعلة لا تناسب السامع: إنما الذي يناسبه الحوقلة فحينما دعاهم المؤذن أجابوه بقولهم: «لا حول ولا قوة إلا بالله» أي بمعونته وتأييده يكون مجيئنا للصلاة وقيامنا بها.
وكذا إذا قال: الصلاة خير من النوم. قال مثله، خلافا لمن قال: إنه يقول: صدقت وبررت. لضعف هذا القول.
فائدة: يشرع بعد الأذان أن يقول ما روى البخاري في صحيحه، عن جابر بن عبد الله L: أن رسول الله ﷺ قال: من قال حين يسمع النداء: «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة».
بَاب استقبال القبْلَة
استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، لا تصح بدونه إلا عند العجز أو للنافلة على الدابة، كما سيأتي في هذه الأحاديث، إن شاء الله تعالى.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة يستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً على المشهور.
فلما هاجر إلى المدينة وفيها اليهود، اقتصر على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يتشوق إلى استقبال الكعبة، فصرفت القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية للهجرة.
الحديث الخامس والستون
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ L: أنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْث كَانَ وجْهُهُ، يومئ برأسه، وَكَانَ ابن عُمَرَ يَفعَلُهُ.
وفي رواية: كَانَ يُوتِرُ عَلى بَعِيرِهِ. ولـ «مسلم»: غَيْر أنّهُ لا يُصَلى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. وللبخاري «إلا الْفَرَائِضَ».
غريب الحديث:
يسبح على ظهر راحلته: التسبيح هنا، يراد به صلاة النافلة، من تسمية الكل باسم البعض. وقد خصت النافلة باسم التسبيح.
يومئ برأسه: أي يخفضه عند الركوع والسجود.
وكان ابن عمر يفعله: أي يصلي النافلة حيث كان وجهه في السفر. وفائدة هذه الجملة من الراوي عن ابن عمر L أن يبين أن الحكم باق لم ينسخ.
المعنى الإجمالي:
الغالب أن صلاة الفريضة وصلاة النافلة تشتركان في الأحكام، وهذا هو الأصل فيهما. فما ورد في إحداهما من حكم، فهو لهما سواء.
ولكنه يوجد بعض الأدلة التي تخص إحداهما بحكم دون الأخرى.
والغالب على هذه الفروق بينهما تخفيف الأحكام في النافلة دون الفريضة، ومن ذلك، هذا الحديث الذي معنا.
فإنه لما كان المطلوب تكثير نوافل الصلاة والاشتغال بها خفف فيها.
من أحكام الحديث:
1- جواز صلاة النافلة في السفر على الراحلة ويتأيد هذا بفعل ابن عمر L.
2- عدم جواز الفريضة على الراحلة بلا ضرورة، أما عند الضرورة من خوف أو سَيْل فيصح.
3-أن الإيماء هنا، يقوم مقام الركوع والسجود.
4-أن قبلة المتنفل على الراحلة هي الوجهة التي هو متوجه إليها.
5-أن الوتر ليس بواجب، حيث صلاه عليه الصلاة والسلام على الراحلة.
6-سماحة هذه الشريعة، وترغيب العباد في الازدياد من الطاعات، وتسهيل سبلها.
ليس في هذا الحديث أن الإيماء في السجود أكثر من الركوع، وإنما ذلك في حديث جابر I قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَاجَةٍ، قَالَ: «فَجِئْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ» رواه أبو داود (1227) وصححه الألباني.
الحديث السادس والستون
عَبْد الله بْنِ عُمَرَ L قالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بقُبَاءَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُم آتٍ فقَالَ: إنَّ النّبِيّ ﷺ قدْ أنْزلَ عَلَيْهِ اللَّيلَة قُرْآنٌ، وقدْ أمر أنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبةِ» فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
غريب الحديث:
بقباء: مكان جنوب المدينة يبعد عنها ثلاثة كيلومترات تقريبا.
أُنزل عليه: وكان ذلك في النصف من رجب من السنة الثانية من الهجرة.
الليلة قرآن: يعني قوله تعالى: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ ...﴾
أحكام الحديث:
1- أن القبلة أول الهجرة كانت إلى بيت المقدس، ثم صرفت إلى الكعبة.
2- أن استقبال الكعبة لا بد منه في الصلاة. فالواجب استقبال عينها عند مشاهدتها، واستقبال جهتها عند البعد عنها؛ لقوله ﷺ: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) رواه الترمذي.
3- أن أفضل البقاع، هو بيت الله، لأن القبلة أُقرت عليه، ولا يُقَر هذا النبي العظيم ﷺ وهذه الأمة المختارة إلا على أفضل الأشياء.
4- جواز النسخ في الشريعة، والنسخ هو رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل آخر متراخ عنه.
5- أن من استقبل جهة في الصلاة، ثم تبين له الخطأ أثناء الصلاة، استدار إلى القبلة ولم يقطعها، وما مضى من صلاته صحيح.
6- أن الحكم لا يلزم المكلف إلا بعد بلوغه، فإن القبلة حُولت، فبعد التحويل وقبل أن يبلغ أهل «قباء» الخبر، صلوا إلى بيت المقدس، فلم يعيدوا صلاتهم.
7- أن خبر الواحد الثقة -إذا حفتْ به قرائن القبول- يصدق ويعمل به، وإن أبطل ما هو متقرر بطريق العلم.
8- وفيه أن العمل ولو كثيراً في الصلاة، إذا كان لمصلحتها، فإنه لا يبطلها، بل مشروع حينئذ.
الحديث السابع والستون
عَنْ أنس بْنِ سِيرينَ قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أنَساً I حِين قَدِمَ مِن الشامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التمْرِ، فَرَأيتهُ يُصَلى عَلَى حِمَار وَوَجْهُهُ مِنْ ذا الجَانِبِ- يَعْنى عن يسار القبلة- فَقلْتُ: رأيتك تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَاَلَ: لَوْلا أني رَأيْتُ رسول الله ﷺ فعَلُه مَا فَعَلتُهُ.
غريب الحديث:
أنس بن سيرين: أخو الإمام والتابعي محمد بن سيرين A، توفي سنة 118هـ.
استقبلْنا أنسا: أي خرجوا لمقابلته، وكان خروجهم من البصرة.
عين التمر: بلدة على حدود العراق الغربية، مما يلي الشام، يكثر فيها التمر.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الحديث لم يبين صلاة أنس I هذه، أفرض هي، أم نفل؟.
ومن المعلوم أنها نفل، لأنه هو المعهود من فعل النبي ﷺ الذي رآه أنس I وغيره.
2- أن قبلة المصلي نفلا على الراحلة، حيث توجهت به راحلته.
3- جواز صلاة النافلة على الراحلة، في السفر، ولو على الحمار.
4-أن استقبال القادم من السفر كان من عمل السلف.
5-فيه المباحثة في العلم عند السلف، والسؤال عن الدليل، وتأدبهم في ذلك.
بَابُ الصّفُوف
أي الصفوف في صلاة الجماعة.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة I أن النبي ﷺ قال: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء).
وبين النبي ﷺ كيف كانت صفوف الملائكة عند ربها، فقال ﷺ للصحابة M: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف) رواه مسلم.
الحديث الثامن والستون
عن أنَس بْنِ مَالِكٍ I قَالَْ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: « سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإنَ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تمام الصلاة «.
سووا صفوفكم: أي اجعلوها متساوية، بحيث لا يتقدم بعضكم على بعض، ولا يتأخر عنه.
من تمام الصلاة: من: تبعيضية، أي أن تسوية الصفوف بعض كمال الصلاة وحسنها.
المعنى الإجمالي:
يرشد النبي ﷺ أمته إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
فهو هنا يأمرهم بأن يسووا صفوفهم، بحيث يكون سمَتهم نحو القبلة واحداً، ويسد خلل الصفوف، حتى لا يكون للشياطين سبيل إلى العبث بصلاتهم.
وأرشدهم ﷺ إلى بعض الفوائد التي ينالونها من تعديل الصف.
وذلك أن تعديلها علامة على تمام الصلاة وكمالها.
وأن اعوجاج الصف خلل ونقص فيها.
الأحكام المستنبطة من الحديث:
1- مشروعية تعديل الصفوف في الصلاة، باعتدال القائمين بها على سمت واحد، من غير تقديم ولا تأخير.
2- أن تسوية الصف سبب في تمام الصلاة فيكون ذلك مستحباً، كما هو مذهب الجمهور، وقيل بوجوبه لحديث «لتسونَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم».
3- أن ترك تسوية الصفوف نقص في الصلاة.
4-فضل صلاة الجماعة، وذلك لأن الأجر الحاصل من تعديل الصف ناشيء عن صلاة الجماعة.
5-فيه حكمة النبي ﷺ في التعليم حيث قرن الحكم بعلته، لتتبين حكمة التشريع وتنشط النفوس على الامتثال.
الحديث التاسع والستون
عَنِ النُعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ I، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُول: «لتسونَّ صُفُوفَكُم أوْ ليخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجُوهِكُم». متفق عليه
ولمسلم: «كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يُسَوي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأنَّمَا يسَوِّى بِهَا القِدَاحَ. حَتَّى رَأىَ أن قَد عَقَلنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْماً فَقَامَ حَتَى. كَادَ أن يكَبّرَ، فَرَأىَ رَجُلا بَادِياً صَدْرُه، فقالَ: «عِبَادَ الله، لتسَوُّنَ صُفُوفَكُم، أوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَينَ وُجُوهِكُم».
غريب الحديث:
عقَلنا: بفتح القاف، أي فهمنا ما أمرنا به من التسوية.
لتُسَوُنَّ: اللام لام القسم، والتقدير: والله لتسون. والنون نون التوكيد الثقيلة للتأكيد.
أو: للتقسيم، أي أن أحد الأمرين لازم، فلا يخلو الحال من أحدهما.
ليُخالِفنَّ: اللام للقسم أيضا، والتقدير: والله ليخالفن الله ... أي ليُوقِعنَّ الخلاف.
بين وجوهكم: أي وجهات نظركم، فيحصل بينكم الاختلاف والتفرق.
وفي رواية أبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم.
ووجه ذلك: أنه حينما يتقدم بعضهم على بعض في الصف، فربما أن المتقدم يصيبه الكبر والعجب، ثم يقابله المتأخر، على كبره بالعداوة والبغضاء، فتختلف القلوب، ويتبعها اختلاف الوجوه، من شدة العداوة، وبهذا تحصل القطيعة والتفرقة.
وقوله: (كان رسول الله ﷺ يسوي صفوفنا): أي يقوم بتسويتها، وكيفية ذلك ما روى مسلم عن ابن مسعود I قال: كان رسول الله ﷺ يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم.
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ I قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ» رواه أبو داود (664) وصححه الألباني.
حتى كأنما يسوى بها القِداح: «القداح» سهام الخشب حين تنحت وتُبْرَى، ويبالغ في تسويتها وتعديلها، وكانوا يعتنون بتسويتها بدقة تامة حتى لا تخطئ الرمية.
يعنى أنه كان ﷺ يعتني بتسوية صفوفهم بما يشبه تسوية القداح. بحيث يكونون- في اعتدالهم واستوائهم- على نسق واحد.
حتى إذا رأى أن قد عقلنا عنه: أي حتى ظن أو علم أننا فهمنا عنه ذلك. وجواب إذا محذوف تقديره: ترك ذلك.
عباد الله: ناداهم بوصف العبودية المستلزم للامتثال والانقياد.
الأحكام المأخوذة من الحديث:
1- ظاهر الحديث، وجوب تعديل الصفوف، وتحريم تعويجها، للوعيد الشديد.
2- شدة اهتمامه ﷺ بإقامة الصفوف، فقد كان يتولى تعديلها بيده الكريمة وهذا يدل على أن تسوية الصفوف من وظيفة الإمام، ولا يكبر حتى تستوي الصفوف.
فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ L قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُسَوِّي صُفُوفَنَا إِذَا قُمْنَا لِلصَّلَاةِ فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ» رواه أبو داود (665) وصححه الألباني.
وفي صحيح البخاري (3700) أن عمر I كَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ.
3- أن الجزاء من جنس العمل، فقد توعد بمخالفة وجوههم مقابل مخالفة صفوفهم.
4- غضب النبي ﷺ على اختلاف الصف، فيقتضي الحذر من ذلك.
5- فيه جوازَ كلامَ الإمام فيما بين الإقامة والصلاة لما يعرض من الحاجة.
الحديث السبعون
عن أنَس بنِ مَالِكٍ I أن جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله ﷺ لِطَعَام صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأكَلَ مِنْهُ، ثم قَالَ: «قُومُوا فَلأصَل بِكُم» قال أنس: فقُمْتُ إِلَى حَصِير لَنَا قَد اسْوَدَّ مِنْ طُولَ مَا لَبِثَ فَنَضَحْتُهُ بِماء، فَقَامَ عَلَيهِ رَسُول الله ﷺ، وَصفَفْتُ أنَا وَالْيَتيمُ وَرَاءهُ، وَالعَجُوزُ مِنْ وَرَاَئِنَا فَصَلى لَنَا رَكْعَتينِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.
ولمسلمِ أنَّ رَسُولَ الله ﷺ صلى بِه وَبِأمهِ فأقامني عن يَمِيِنِه وَأقَامَ الْمَرْأةَ خَلفنَا.
اليتيم: هو ضُمَيْرة جَدُّ حسين بن عبد الله بن ضميرة.
غريب الحديث:
مليكة: هي بنت مالك بن عدي الأنصارية النجارية J.
فنضحته بماء: النضح الرش، وقد يُراد به الغسل. والمقصود أن نضحه لتليينه أو تنظيفه.
حصير: فراش يصنع من سعف النخل.
من طول ما لُبس: أي من كثرة ما استعمل.
اليتيم: من مات أبوه ولم يبلغ.
ما يؤخذ من الحديث:
1- صحة مصافة الذي لم يبلغ في الصلاة، لأن اليتيم يطلق على من مات أبوه ولم يبلغ. وهذا يشمل الفرض والنفل.
2- أن الأفضل في موقف المأمومين، أن يكونوا خلف الإمام.
3- أن موقف المرأة، يكون خلف الرجال.
4- صحة موقف المرأة صفاً واحدا، مادامت واحدة، فإن كن أكثر من ذلك، وجب عليهن إقامة الصف.
5- جواز الاجتماع في النوافل، وإن لم يشرع لها اجتماع، إذا لم يتخذ ذلك عادة مستمرة.
6- جواز الصلاة، لقصد التعليم بها.
7- تواضع النبي ﷺ، وكرم خلقه.
8- استحباب إجابة دعوة الداعي، لاسيما لمن يحصل بإجابته جبر خواطرهم، وتطمين قلوبهم. ما لم تكن وليمة عرس، فعند ذلك تجب إجابة الدعوة بشروطها.
9-مشروعية مكافأة صانع المعروف بما يناسب.
10-جواز الصلاة على الحصير.
11-عناية الشريعة بإبعاد المرأة عن الرجال، وعدم اختلاطها بهم حتى في الصلاة.
الحديث الواحد والسبعون
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عبَّاس L قال: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَبيُّ ﷺ يُصَلى مِنَ الليْل، فَقُمْتُ عن يَسَارهِ فَأخَذ برأسي فأقامني عَنْ يَمِينه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الأفضل للمأموم أن يقف عن يمين الإمام إذا كان واحداً.
2- صحة وقوف المأموم عن يسار الإمام مع خُلُو يمينه، لكون النبي ﷺ، لم يبطل صلاة ابن عباس.
3- أن المأموم الواحد إذا وقف عن يسار الإمام فاستدار إلى يمينه يأتي من الخلف، كما ورد في بعض ألفاظ الحديث في البخاري.
4- أن العمل في الصلاة إذا كان مشروعاً لا يضرها.
5- صحة مصَافَّة الصبي وحده، مع البالغ.
6- مشروعية صلاة الليل جماعة، لكن يكون ذلك أحيانا لا دائما.
7- اجتهاد ابن عباس I، وحرصه على تحصيل العلم وتحقيقه.
8- أنه لا يشترط لصحة الإمامة، أن ينوي الإمام قبل الدخول في الصلاة أنه إمام.
9-جواز الدخول في أثناء الصلاة مع المنفرد لتحصيل الجماعة.
بَابُ الإمَامَة
الإمامة في اللغة من الأَم وهو القصد.
وفي الشرع تطلق على معان متعددة، منها الإمامة العظمى، والإمامة في الدين، والإمامة في الصلاة، وهذا المعنى هو المراد هنا.
والإمامة في الصلاة مرتبة عالية، ولها فضل، ولهذا قام بها النبي ﷺ وخلفاؤه من بعده، ويختص بالتقديم فيها من كان أقرأ لكتاب الله تعالى، وأفقه بسنة رسوله ﷺ.
الحديث الثاني والسبعون:
عَنْ أبي هُريرة I أنَّ النَبيَّ ﷺ قَالَ: «أمَا يَخْشَى الَّذِي يَرفعُ رأسه قَبْلَ الإمام، أنْ يُحَوِّلَ الله رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ. أوْ يَجْعَلَ الله صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟!».
غريب الحديث:
أمَا: مخفف لفظهُ: لفظ استفهام ومعناه: التقرير والتوبيخ، ويسمى حرف استفتاح.
يخشى: يخاف. والمعنى: فليخَفْ، والغرض من الاستفهام هنا الإشعار بالنهي عن رفع الرأس قبل الإمام.
يحوِّل الله رأسه رأس حمار: يعني يصيره رأس حمار، إما حسا أو معنى، أي بأن يقلب رأسه رأس حمار، أو يجعله كرأس الحمار في البلادة.
أو يجعل صورته صورة حمار: هذا شك من الراوي، والفرق بين الجملتين أن هذه الأخيرة عامة في الجسد كله، والأُولى خاصة بالرأس.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم رفع الرأس في الصلاة قبل الإمام والوعيد فيه دليل على منعه، إذ لا وعيد إلا على محرم وقد أوعد عليه بالمسخ وهو من أشد العقوبات.
2- يلحق بذلك مسابقة الإمام في كل تنقلات الصلاة، قياسا على الرفع قبل الإمام.
3- وجوب متابعة المأموم للإمام في الصلاة.
4- أن الجزاء من جنس العمل، فحين كان الرفع في الرأس، جوزِيَ بالوعيد بالمسخ.
5- الوعيد بالمسخ إلى صورة الحمار في هذا الحديث، لما بينه وبين الحمار من المناسبة والشبه في البلادة والغباء، لأن المسابق إذا كان يعلم أنه لن ينصرف من الصلاة قبل إمامه، فإنه لا يستفيد شيئا من المسابقة، فدل على غبائه وضعف عقله.
الحديث الثالث والسبعون
عَنْ أبي هريرة I عَنِ النبي ﷺ قَال: «إِنَّمَا جُعِل الإمام لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فإذا كَبَّرَ فَكَبروا. وإذَا رَكَعَ فَاركعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولوا: رَبَنا لَكَ الحَمْد، وإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإَذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أجْمَعُونَ».
الحديث الرابع والسبعون
عَنْ عَائِشَةَ J قالَتْ: «صَلى رَسُولُ الله ﷺ في بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ فصَلًى جَالِساً، وَصلَّى وَرَاءهُ قَوم قياماً فَأشَار إلَيْهِمْ: أنِ اجْلِسُوا، فلَمَا انصرف قَال: إنَّمَا جُعِلَ الإمَام لِيؤتَمَّ بِهِ، فإذا رَكع فَاركعُوا، وَإِذَا رَفع فَارْفَعُوا، وَإِذَا قال: سمع الله لمن حَمِدَهُ، فقُولُوا: ربَنّاَ وَلَكَ الحمد، وإِذَا صَلى جَالِساً فصَلوا جُلُوساً أجْمَعُونَ».
غريب الحدثين:
(فكبروا) و (فاركعوا) ... إلخ: الفاء للترتيب والتعقيب، ومعنى الترتيب، أن تقع بعده، والتعقيب بأن تليه مباشرة، فلا تُساوِه ولا تتأخر عنه.
ركع فاركعوا: أي إذا وصل الإمام إلى الركوع فاركعوا بعده مباشرة.
ومثله: إذا سجد: أي وصل إلى السجود.
ربنا ولك الحمد: أي ربنا أطَعْنا ولك الحمد.
شاكٍ: أي يشكو المرض. وسبب مرضه أنه سقط من فرسه فانفكت قدمه.
ما يؤخذ من الحديثين:
1- أن الحكمة من جعل الإمام هي الاقتداء به ومتابعته.
2- النهي عن الاختلاف على الإمام، ويكون بواحد من ثلاثة أمور: المسابقة، الموافقة، التأخر عنه كثيرا.
3- أن كمال الائتمام بالإمام أن يتابعه المأموم من غير تأخر.
4- أن الإمام إذا صلى جالسا -لعجزه عن القيام- صلى خلفه المأمومون جلوساً ولو كانوا قادرين على القيام، تحقيقا للمتابعة والاقتداء. وهذا فيما إذا ابتدأ بهم قاعدا على الراجح.
فقد ذهب الإمام أحمد أن الإمام الراتب إذا ابتدأ بهم الصلاة قائماً، ثم اعتلَّ في أثنائها فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً، عملا بحديث صلاة النبي ﷺ بأبي بكر I والناس، حين مرِض مرَض الموت.
وإن ابتدأ بهم الصلاة جالساً صلوا خلفه جلوسا استحبابا، جمعا بين الحديثين.
5- أن المأموم يقول: «ربنا لك الحمد» حينما يقول الإمام: «سمع الله لمن حمده». أما الإمام والمنفرد فيأتيان بالجملتين.
6- جواز الإشارة في الصلاة للحاجة، وأنها لا تبطلها، ولو كانت مفهومة.
7- جواز الجماعة في البيت للعذر.
8- في الحديث دليل على تأكيد متابعة الإمام، وأنها مقدمة على غيرها من أعمال الصلاة، فقد أسقط القيام عن المأمومين القادرين عليه، مع أنه أحد أركان الصلاة، كل ذلك لأجل كمال الاقتداء.
9- ومنه يؤخذ تَحَتمُ طاعة ولاة الأمر بالمعروف ومراعاة النظام، وعدم المخالفة والانشقاق عليهم.
الحديث الخامس والسبعون
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الأنْصارِيّ I قَالَ: حَدَثَني الْبَراءُ بْنُ عَازِبٍ، وَهُوَ غيْرُ كَذُوبٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله ﷺ إِذَا قَالَ: «سمِعَ الله لمَنْ حَمِدَهُ»، لَمْ يَحْنِ أحَدٌ مِنّا ظَهْرَهُ حَتَى يَقَعَ رَسُولُ الله ﷺ سَاجِداً، ثُمَّ نَقَعُ سُجُوداً بَعْدَهُ».
عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري من الأوس، شهد بيعة الرضوان وهو صغير، سكن الكوفة، ثم صار أميرا عليها في عهد ابن الزبير L، ومات بها في زمن ابن الزبير L، واختلف في صحبته، وجزم ابن الملقن بصحبته، أما أبوه فهو صحابي شهد أحدا وما بعدها من المشاهد توفي قبل فتح مكة I.
والراوي عن عبد الله بن يزيد هو أبو إسحاق السبيعي التابعي الكبير.
والبراء بن عازب الأنصاري الأوسي صحابي بن صحابي L، شهد أحدا وما بعدها، ولم يشهد بدرا لصغره، وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان، نزل الكوفة ومات بها سنة 72 هـ.
وهو غير كذوب: اختلف العلماء في الذي نُفي عنه الكذب، فبعضهم يرى أنه « البراء»، قاله فيه عبد الله بن يزيد، تقوية للحديث لا تزكية، فهو صحابي والصحابة M كلهم عدول.
وبعضهم يرى أنه «عبد الله بن يزيد» قاله فيه أبو إسحاق السبيعي تقوية وتزكية.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فيه صفة متابعة الصحابة M للرسول ﷺ في الصلاة، وأنهم لا ينتقلون من القيام إلى السجود حتى يسجد، وإذا كان هذا شأنهم في السجود الذي يكون الناس فيه أشد مسابقة من غيره، فهم في غيره من الأركان أبلغ وأولى.
2- أن المشروع للمأموم ألا ينتقل من الركن حتى يصل إمامه إلى الذي يليه.
3-في الحديث دليل على طول الطمأنينة بعد الركوع من المأمومين.
4-وفيه دليل على طول الطمأنينة من النبي ﷺ في السجود.
قال ابن دقيق: والحديث يدل على تأخر الصحابة في الاقتداء عن فعل رسول الله ﷺ حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه لا حين يشرع في الهوي إليه.
ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك أعني قوله: «فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا». فإنه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعا وسجودا.
ويدل له ما روى ابن أبي شيبة (2618) عن الأسود قال: كان عمر إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده قبل أن يقيم ظهره، وإذا كبر كبر وهو منحط. وصححه فيما صح من آثار الصحابة M ص235.
وقال ابن الملقن: فيه أن السنة للمأموم ألا ينحني للسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض، إلا أن يعلم من حاله أنه لو تأخر إلى هذا الحد لرفع الإمام من السجود قبل سجوده.
والحمد لله رب العالمين.