شرح الأرجوزة المئية في ذكر حال أشرف البرية
لابن أبي العز الحنفي A [1]
برنامج دليل 1447هـ
الدرس الأول
إن الحمد لله . . أما بعد:
فأقدم بين يدي هذه الأرجوزة بثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: التعريف بالناظم[2]:
هو صدر الدين علي بن علي بن محمد بن محمد بن أبي العز الأذرعي الحنفي.
ولد فِي ثاني عشر ذي الحجة سنة 731هـ.
من شيوخه عماد الدين إسماعيل بن كثير الشافعي A، تصدى للتدريس والفتوى وولي القضاء بالشام ثم بمصر، ومن مؤلفاته: شرح العقيدة الطحاوية، والقصيدة اللامية في تاريخ الخلفاء، وهذه المنظومة في السيرة، توفي سنة 792هـ، A.
المقدمة الثانية: التعريف بالأرجوزة المئية في ذكر حال أشرف البرية:
هي أرجوزة من بحر «الرَّجَز» أحد بحور الشعر، نظمها ابن أبي العز A في مائة بيت، موجزة في سيرة الرسول ﷺ من ولادته إلى وفاته.
وهي منظومة عذبة سهلة، تناسب المبتدئ في طلب العلم، مشتملة على أصول أحداث السيرة النبوية.
واسمها الأرجوزة المئية في ذكر حال أشرف البرية؛ لأن الناظم ذكر ذلك في آخرها، فقال:
وَتَمَّتِ الْأُرْجُوزَةُ الْمِئِيَّةْ *** فِي ذِكْرِ حَالِ أَشْرَفِ الْبَرِيَّةْ
شرحها جماعة من المعاصرين، في شروح مطبوعة ومسموعة.
المقدمة الثالثة: أهمية دراسة السيرة النبوية:
يدل على أهمية دراسة السيرة النبوية عدة أمور، منها:
1- أن الأصول الثلاثة التي يُسأل عنها العبد إذا وضع في قبره، معرفة العبد ربه تبارك وتعالى، ودينه، ونبيه ﷺ، ولا بد في معرفة النبي محمد ﷺ من التعرف على شيء من سيرته.
2- أن السيرة النبوية هي دراسة لسيرة أعظم رجل عرفه التاريخ، فهو ﷺ سيد ولد آدم، وخير الخلق عليه الصلاة والسلام، فكان حريا بكل مسلم ومسلمة أن يقرأ سيرته ﷺ، ويستلهم منها العلم والحكمة.
وإنك لتعجب من حال بعض الناس الذين انصرفوا عن قراءة سيرة النبي ﷺ إلى قراءة سير مَن دونه، بل وصل الحال ببعضهم أن يشتغل بقراءة سير أعلام من الكفرة، ومعرفة دقائق تفاصيل حياتهم، بما لا يَعرف مثله عن رسول الله ﷺ، وعن أصحابه j، وهذا من الخذلان عياذا بالله، فإنه ما من خير وهدى وحكمة في سيرة رجل إلا وهي موجودة في سيرة رسولنا محمد ﷺ، وفي سنته العطرة، وفي سيرة أصحابه وآثارهم j.
3- أن فهم بعض آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ﷺ متوقف على معرفة السيرة النبوية، ففي القرآن والسنة مواضع متعلقة بالسيرة النبوية، فمثلا سورة الفيل لها تعلق بسيرة النبي ﷺ في قصة أصحاب الفيل المعروفة.
4- ما تضمنته السيرة النبوية من مسائل عقدية، وأحكام فقهية، وآداب أخلاقية مهمة لطالب العلم، كما سيأتي التمثيل على ذلك عند دراسة هذه الأرجوزة إن شاء الله تعالى.
5- التمكن بدراسة سيرة النبي ﷺ من الذب عنه، والدفاع عن دعوته، ورد الشبهات المثارة حوله ﷺ، وتزييف الباطل، وإحقاق الحق في ذلك.
6- أن دراسة سيرة النبي ﷺ تزيد في محبته عليه الصلاة والسلام، وتحث على اتباعه، والاقتداء به، ولزوم سنته وطاعته.
7- عناية السلف بدراسة السيرة وتعليمها لأولادهم، فعن عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بن علي j قال: «كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ ﷺ وَسَرَايَاهُ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ»[3].
وقال الزُّهْرِيَّ A: «فِي عِلْمِ الْمَغَازِي عِلْمُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا»[4].
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيَعُدُّهَا عَلَيْنَا، وَسَرَايَاهُ وَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا»[5].
قال ابن الجوزي A في صيد الخاطر ص228، 229: (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين ... لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي، وتكثير الأجزاء، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل، وما يُغالَب به الخصم. وكيف يرقُّ القلب مع هذه الأشياء؟! وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سببًا لرقة قلبك).
وأعظم سيرة وأهم سيرة تُطالَع هي سيرة رسول الله ﷺ، ثم سيرة صحابته j.
وقال ابن القيم A في زاد المعاد 1/69: (وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي ﷺ فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
قال الناظم A:
1 - اَلْحَمْدُ للهِ الْقَدِيمِ[6] الْبَارِي *** ثُمَّ صَلاَتُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ
(الحمد) وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما، واللام في (لله) للاستغراق: أي استغراق جميع المحامد لله تعالى.
كما تفيد الاختصاص، فالذي يستحق الحمد المطلق الكامل هو الله سبحانه، أما غيره فإنما يحمد على أشياء خاصة.
الله: لفظ الجلالة علم على ربنا جل وعز، لا يُسمَّى به غيره، وهو أعرف المعارف.
ومعناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
(القديم) ليس من أسماء الله تعالى، لأنه لم يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة، وأسماء الله تعالى توقيفية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية A كما في مجموع الفتاوى 9/300: (وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع كلفظ القديم والذات).
والقديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم. للعتيق، وهذا حديث. للجديد. ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ﴾ [يس: 39]. والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم.
وإدخال القديم في أسماء الله تعالى مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف.
والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم، لأنه يُشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم. والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة[7].
ولو قال الناظم: (القدير) بدل (القديم) لكان أولى.
(الباري) من أسمائه سبحانه، قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُ﴾ ومعناه: الخالق للخلق، وموجدهم بعد العدم.
(ثم صلاته) صلاة الله على نبيه ﷺ: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما في أثر أبي العالية A قال: (صلاة الله D عليه ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه الدعاء)[8]
والصلاة من الآدمي بمعنى الدعاء للنبي ﷺ أن يثني الله عليه في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين.
والأكمل أن يقرن الصلاة بالسلام، لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ ومعنى سلامنا عليه ﷺ: أي ندعوا الله تعالى أن يسلمه من كل نقص وعيب، والسلام عليه ﷺ من الله تعالى أي أن الله سبحانه سلمه من كل نقص وعيب.
(على المختار) أي المصطفى، وهو الذي اختاره الله تعالى واصطفاه على غيره، قال الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾ وروى مسلم (2276) عن وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ h قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ».
وذكر الحافظ ابن حجر أن المصطفى من أسماء النبي ﷺ، قال في فتح الباري 6/558: (ومن أسمائه المشهورة المختار والمصطفى والشفيع المشفَّع والصادق المصدوق وغير ذلك).
2- وَبَعْدُ هَاكَ سِيرَةَ الرَّسُولِ *** مَنْظُومَةً مُوجَزَةَ الْفُصُولِ
(وبعد) قيل هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره. وقيل: هي كلمة يؤتى بها للدخول في الموضوع المراد.
والمعروف في الأحاديث، لفظ: أما بعد، قال البخاري في الصحيح: باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد. ثم ساق عدة أحاديث فيها أن النبي ﷺ قال في خطبه أما بعد.
ومعناها: مهما يكن من شيء بعد.
وقال الحافظ ابن حجر A في الفتح 2/515: لا تختص بالخطب بل تقال أيضا في صدور الرسائل والكتب. ثم قال: وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ: وبعد.
فالأولى أن يأتي بـ (أمَّا) بدل الواو؛ لأنه لم يثبت عنه ﷺ أنه تلفظ بالواو.
ويعتذر للناظم بأنه أتى بـ «وبعد» لضرورة النظم.
(هاك سيرة الرسول) أي خذ سيرة الرسول محمد ﷺ، والسيرة هي: أخبار رسول الله ﷺ وأحواله منذ ولادته إلى وفاته.
والرسول في اللغة: المبعوث، وسمي الرسول بذلك لأنه مبعوث من قبل الله تعالى برسالة إلى الخلق.
والفرق بين النبي والرسول:
قال شيخ الإسلام في النبوات ص281: (فالنبي هو الذي يُنبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأه الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يُرسَل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول).
فكل رسول فهو نبي، وليس كل نبي يكون رسولاً.
(منظومة) النظم: كلام موزون مقفَّى، والنظم خلاف النثر. وهو أيسر حفظا من النثر، وقد اعتنى العلماء بنظم العلوم، تيسيرا على الطلاب، قال السفاريني في الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية:
وصار من عادة أهل العلم *** أن يعتنوا في سبر ذا بالنظم
لأنه يسهل للحفظ كـما *** يروق للسمع ويشفي من ظما
(موجزة) والموجز من الكلام: ما قل لفظه وكثر معناه.
(الفصول) جمع فصل، وهو في الاصطلاح: اسم لطائفة من مسائل الفن مندرجة غالبًا تحت باب أو كتاب.
والناظم A لم يجعل في منظومته فصولا طلبا للاختصار، ولكن رتبها ترتيب الفصول على وفق أحداث السيرة النبوية.
3 - مَوْلِدُهُ فِي عَاشِرِ الْفَضِيلِ *** رَبِيعٍ الأَوَّلِ عَامَ الْفِيلِ
(مولده) أي اليوم الذي ولد فيه النبي ﷺ، هو العاشر من شهر ربيع الأول.
(في عاشر الفضيل) أي المفضل على غيره من الشهور بولادة النبي ﷺ فيه، وهذا لا يعني تخصيصه بشيء من العبادات، أو الاحتفالات، بل هو شهر كغيره من الشهور.
(عام الفيل) سمي بذلك؛ لأن أبرهة الأشرم الحبشي والذي كان واليا على اليمن آنذاك قصد البيت الحرام في ذلك العام ليهدم الكعبة، وكان معه جيش عظيم، وفيل ضخم لم ير مثله، وقيل كان معه عدة أفيال، وسبب ذلك أن أبرهة بنى باليمن كنيسة هائلة بمدينة صنعاء، رفيعة البناء، مزخرفة، وعزم أبرهة على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة، ونادى بذلك في مملكته، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك، وغضبت قريش لذلك غضبا شديدا، حتى قصدها بعضهم، وتوصل إلى أن دخلها ليلا. فأحدث فيها وكرَّ راجعا. فلما رأى السدنة ذلك الحدث، رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة، وقالوا له: إنما صنع هذا بعض قريش غضبا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة، وليخربنه حجرا حجرا.
فسار أبرهة بجيشة العظيم حتى نزل في المغمَّس، وهو موضع قريب من مكة، وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها، فأخذوه. وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت. فجاء حناطة فدل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فاذهب معي إليه. فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجلَّه، وكان عبد المطلب رجلا جميلا حسن المنظر، ونزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على البساط، وقال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال للترجمان: إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني! قال: أنت وذاك.
ورد أبرهة على عبد المطلب إبله، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة، والتحصن في رءوس الجبال، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهم إن المرء يمـ *** نع رحله فامنع حلالك.
لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم غدوا محالك.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، فلما وجهوا الفيل نحو مكة، وضربوه ليقوم أبَى. فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول. ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمَّص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق، وقريش وعرب الحجاز، ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة.
وليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة، بل منهم من هلك سريعا، ومنهم من جعل يتساقط عضوا عضوا وهم هاربون، وكان أبرهة ممن يتساقط عضوا عضوا، حتى مات ببلاد خثعم[9].
4- لَكِنَّمَا الْمَشْهُورُ ثَانِي عَشْرِهِ *** فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ طُلُوعَ فَجْرِهِ
(لكنما المشهور ثاني عشره) هذا استدراك من الناظم، أي لكن القول المشهور في يوم ولادة النبي ﷺ هو الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
(في يوم الاثنين) أي كان يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول هو يوم الاثنين، وقد روى مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، h أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: «فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ».
وفي يوم الإثنين مات النبي ﷺ.
(طلوع فجره) أي طلوع فجر النبوة، والمعنى طلع فجر النبوة يوم الاثنين.
ويحتمل أن يريد فجر يوم الاثنين، أي أن ولادته ﷺ كانت فجر يوم الاثنين، ولكن هذا يحتاج إلى دليل على أن ولادته ﷺ كانت فجر يوم الاثنين.
5- وَوَافَقَ الْعِشْرِينَ مِنْ نَيْسَانَا *** وَقْبَلَه حَيْنُ أَبِيهِ حَانَا
(ووافق العشرين من نيسانا) أي يوم ولادته ﷺ وافق بالتأريخ الميلادي اليوم العشرين من شهر نيسان، وهو الذي يسمى إبريل، الشهر الرابع من الأشهر الميلادية، وكان ذلك عام 570م أو 571م، وهو العام 53 ق. هـ. أي قبل الهجرة بثلاث وخمسين سنة.
(وقبله حَين أبيه حانا) وقبل ولادته توفي أبوه عبد الله، لما كان النبي ﷺ حملاً في بطن أمه.
قال في مختار الصحاح ص86 (ح ي ن): ((الْحَيْنُ) بِالْفَتْحِ الْهَلَاكُ وَقَدْ (حَانَ) الرَّجُلُ أَيْ هَلَكَ).
مسألة: في نسبه ﷺ:
قال العلامة ابن القيم A في زاد المعاد 1/70: (وهو خير أهل الأرض نسبا على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه.
فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
إلى هاهنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين، ولا خلاف فيه البتة، وما فوق « عدنان « مختلف فيه. ولا خلاف بينهم أن «عدنان» من ولد إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل: هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم).
6- وَبَعْدَ عَامَيْنِ غَدَا فَطِيمَا *** جَاءَتْ بِهِ مُرضِعُهُ سَلِيمَا
(وبعد عامين غدا فطيما) أي بعد عامين من ولادة النبي ﷺ صار فطيما، والفطام هو فصل الرضيع عن ثدي أمه.
(جاءت به مرضعه سليما) أي جاءت به مرضعته من ديار بني سعد، سليما: أي سالما في بدنه حسنا في صورته.
7- حَلِيمَةٌ لِأُمِّهِ وَعَادَتْ *** بِهِ لِأَهْلِهَا كَمَا أَرَادَتْ
حليمة هي بنت أبي ذؤيب، وهي من بني سعد.
واسم أبي رسول الله ﷺ من الرضاعة، يعني زوج حليمة: الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن.
ولكن حليمة رغبت في عودته معها وألحت على أمه لما رأت من الخير والبركة في بقائه عندها، فأذنت لها أمه، فعادت به معها.
8- فَبَعْدَ شَهْرَيْنِ انْشِقَاقُ بَطْنِهِ *** وَقِيلَ بَعْدَ أَرْبَعٍ مِنْ سِنِّهِ
أي وبعد مضي شهرين من رجوع حليمة السعدية به إلى أهلها وقعت حادثة شق صدر النبي ﷺ، وقيل: إن هذه الحادثة وقعت بعد أربع سنوات من ولادته عليه الصلاة والسلام.
وحادثة شق الصدر رواها مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ h أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَتَاهُ جِبْرِيلُ ﷺ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: «وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ».
(ثم لأَمَه) أي جمعه وضم بعضه إلى بعض.
(ظئره) أي مرضعته.
(منتقع اللون) أي متغير اللون.
وقول الناظم: (انشقاق بطنه) المراد صدره، وذكر البطن؛ لأنه يقع اسما لجميع الجوف، ومنه الصدر.
ووقع انشقاق الصدر مرة أخرى ليلة الإسراء والمعراج.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ k، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: « بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ، - وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ: قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ - أي مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ - فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ . . . الحديث، متفق عليه، رواه البخاري 3887، ومسلم 164.
قال ابن كثير في السيرة النبوية: (ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين، مرة وهو صغير، ومرة ليلة الإسراء ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى، ولمناجاة الرب D، والمثول بين يديه تبارك وتعالى).
9- وَبَعْدَ سِتٍّ مَعَ شَهْرٍ جَاءِ *** وَفَاةُ أُمِّهِ عَلَى الْأَبْوَاءِ
أي وبعد ست سنين وشهر من ولادته ﷺ توفيت أمه آمنة بنت وهب بموضع يقال له الأبواء، بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمتْ به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
وروى مسلم (976) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ h قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ ﷺ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ».
وروى مسلم (203) عَنْ أَنَسٍ h أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ»، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ».
وبعد موت أمه بالأبواء قدمت به بركة الحبشية التي كانت رفيقة أمه في رحلتها إلى المدينة، فسلمته إلى جده عبد المطلب، والذي قام بكفالته ورعايته والعطف عليه، والاهتمام بشأنه حتى كان يقال له: يا ابن عبد المطلب.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»، قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ... الحديث. رواه أبو داود 487، وحسنه الألباني.
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ لما ثبت في غزوة حنين كان يقول: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» رواه البخاري 2864، ومسلم 1776.
ثم توفي عبد المطلب بعد عامين من وفاة أم النبي ﷺ، ولذا قال الناظم A:
10- وَجَدُّه لِلْأَبِ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ *** بَعْدَ ثَمَانٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ كَذِبْ
أي أن جد النبي ﷺ من جهة أبيه هو عبد المطلب بن هاشم، سيد قومه، والذي كفل النبي ﷺ بعد وفاة أمه، توفي بعد ثمان سنين من ولادة النبي ﷺ، كما هو المشهور عند أهل السيرة، ولهذا قال الناظم: من كذب.
والحمد لله رب العالمين.
[1] تنبيه: هذا الشرح مستفاد من بعض شروح هذه الأرجوزة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.
[2] ينظر في ترجمته: رفع الإصر ص278، وشذرات الذهب 8/557.
[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 2/195.
[4] المرجع السابق 2/195.
[5] المرجع السابق 2/195.
[6] () هذا الذي في النسخ الخطية، وفي بعض النسخ المطبوعة (القدير) بدل (القديم).
[7] ينظر شرح الطحاوية للناظم 1/77، 78.
[8] رواه الجهضمي في فضل الصلاة ص80 وقال الألباني في تحقيقه: إسناده موقوف حسن.
[9] ينظر قصة أصحاب الفيل في أول تفسير ابن كثير لسورة الفيل.