شرح الأرجوزة المئية في ذكر حال أشرف البرية
لابن أبي العز الحنفي A
برنامج دليل 1447هـ
الدرس الخامس
الحمد لله .. أما بعد:
فيقول الناظم A:
62 - وَكَانَ فِي الرَّابِعَةِ الْغَزْوُ إِلَى *** بَنِي النَّضِيرِ فِي رَبِيعٍ أوَّلا
أي ومن أحداث السنة الرابعة من الهجرة غزوة بني النضير، وهم من يهود المدينة، كانت منازلهم ببطحان والبويرة في عوالي المدينة، وكان غزوهم في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة.
وذكر ابن القيم في زاد المعاد 3/222 أن سبب غزوة بني النضير، أن النبي ﷺ خرج إلى بني النضير ليعينوه في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، لما بين النبي ﷺ وبينهم من الحِلف، فقالوا: نعم، وجلس هو وأبو بكر وعمر وعلي، وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا وقالوا: من رجل يلقي على محمد هذه الرحى فيقتلَه؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جحاش، لعنه الله، ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله يعلمه بما هموا به، فنهض رسول الله ﷺ من وقته راجعا إلى المدينة، ثم تجهز وخرج بنفسه لحربهم، فحاصرهم ست ليال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في ربيع الأولى.
ونزلوا على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح، ويرحلون من ديارهم، فترحل أكابرهم كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وفي هذه الغزوة نزلت سورة الحشر، ثم قال ابن القيم: (هذا الذي ذكرناه هو الصحيح عند أهل المغازي والسير).
63 - وبَعْدُ مَوْتُ زَيْنَبَ الْمُقَدَّمَةْ *** وَبَعْدَهُ نِكَاحُ أُمِّ سَلَمَةْ
أي وبعد ذلك ماتت أم المؤمنين زينب بنت خزيمة J، وهي المقدم ذكرها في الأبيات الماضية.
وبعد ذلك نكح النبي ﷺ أم المؤمنين أم سلمة J، واسمها هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، تزوجها بعد وفاة زوجها أبو سلمة I.
روى مسلم (918) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ J أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ: «أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ».
64 - وَبِنْتِ جَحْشٍ ثُمَّ بَدْرِ الْمَوْعِدِ *** وَبَعْدَهَا الْأَحْزَابُ فَاسْمَعْ وَاعْدُدِ
أي وبعد ذلك تزوج النبي ﷺ زينب بنت جحش الأسدية القرشية J، وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمةُ رسول الله ﷺ.
ثم بعد ذلك وقعت بدر الموعد، التي واعد فيها رسول الله ﷺ أبا سفيان بن حرب قائد قريش اللقاء في بدر من العام التالي لغزوة أحد.
وتسمى بدر الصغرى، تمييزا لها عن بدر الكبرى، وكانت في السنة الرابعة من الهجرة.
ولما وصل المسلمون إلى بدر انتظروا قريشا، لكن المشركين بعدما خرجوا من مكة ترددوا في أمرهم، ثم رأوا الرجوع إلى مكة، ثم عاد المسلمون إلى المدينة بغير قتال.
وبعدها الأحزاب، في السنة الخامسة من الهجرة، وتسمى الخندق، والخندق: أخدود حفره الرسول ﷺ وصحابته M أحاط بشمالي المدينة المنورة من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية، عمقه ثلاثة أمتار، وعرضه أربعة أمتار، وطوله ألفان وثلاثمائة وخمسون مترا، حيث كانت جموع العدو تحاصره، وتسمى الأحزاب لتحزب الكفار على النبي ﷺ.
وسببها أن النبي ﷺ حين أجلى بين النضير خرج نفر منهم إلى مكة شرفها الله تعالى فحرضوا قريشا على قتاله، ثم عادوا إلى غطفان وسليم فحرضوهم أيضا فاجتمع الكل على قتاله فأولئك هم الأحزاب، فلما أقبلوا على المدينة أشار سلمان I بحفر الخندق.
وقد هزمهم الله تعالى، وردهم خائبين بما أرسل عليهم من الريح والجنود بعد أن أقاموا قريبا من الشهر.
وقد تقدم أن غزوة الأحزاب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وأما ما في الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ L قَالَ: «عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي» رواه البخاري 2664، ومسلم 1868.
وقد تقدم أن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة، فعلى هذا الحديث تكون الأحزاب في السنة الرابعة.
قال النووي في شرح مسلم 13/12: (وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة وهو الصحيح وقال جماعة من أهل السير والتواريخ كانت سنة خمس وهذا الحديث يرده لأنهم أجمعوا على أن أحدا كانت سنة ثلاث فيكون الخندق سنة أربع لأنه جعلها في هذا الحديث بعده بسنة).
وأجاب عنه القرطبي في المفهم 3/697: بأنه يمكن (أن يكون ابن عمر في غزوة أحد دخل في أول سنة أربع عشرة من حين مولده، وذلك في شوال في غزوة أحد، ثم كملت له سنة أربع عشرة في شوال من السنة الآتية، ثم دخل في الخامس عشر إلى شوالها الذي كانت فيه غزوة الأحزاب، فأراد: أنه كان في غزوة أحد في أول الرابعة، وفي غزوة الأحزاب في آخر الخامسة).
65- ثُمَّ بَنِي قُرَيْظَةٍ وَفِيهِمَا *** خُلْفٌ وَفِي ذَاتِ الرِّقَاعِ عُلِّمَا
66 - كَيْفَ صَلاَةُ الْخَوْفِ وَالْقَصْرُ نُمِي *** وَآيَةُ الْحِجَابِ وَالتَّيَمُّمِ
67 - قِيلَ: وَرَجْمُهُ الْيَهُودِيَّيْنِ *** وَمَوْلِدُ السِّبْطِ الرِّضَا الْحُسَيْنِ
أي ثم غزا رسول الله ﷺ اليهود من بني قريضة، وكانت منازلهم شرق عوالي المدينة.
وغزوة بني قريضة كانت بإثر الأحزاب، لأن يهود بني قريضة نقضوا العهد مع النبي ﷺ، وناصروا الأحزاب على المسلمين.
وقول الناظم: (وفيهما خُلْفٌ) أي وفي تاريخ غزوة الأحزاب وبني قريضة خلاف بين أهل السيرة، فمن يرى أن الأحزاب كانت في السنة الرابعة فتكون غزوة بني قريضة في الرابعة، ومن يرى أن الأحزاب في الخامسة فتكون غزوة بني قريضة في الخامسة.
وفي غزوة ذات الرقاع شرعت صلاة الخوف، ولهذا قال الناظم: (عُلِّما كيف صلاة الخوف) أي عُلِّم النبي ﷺ كيفية صلاة الخوف.
عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ شَهِدَ « رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَّى صَلاَةَ الخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلاَتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ « رواه البخاري 4129، ومسلم 842.
وفي سبب تسميتها بذات الرقاع، ما روى أبو موسى I، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا، وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الخِرَقَ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا»، وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ. رواه البخاري 4128، ومسلم 1816.
ومعنى (نعتقبه) أي يركبه كل واحد منا نوبة. (فنقبت) أي قرحت من الحفاء.
وقول الناظم: (والقصر نمي)
أي وشرع قصر الصلاة الرباعية في السفر، ومعنى (نمي) أي نقل وأُسند.
وأيضا نزلت آية الحجاب، وهي قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب . . .)
قال ابن كثير في الفصول ص183 عن نزول الحجاب: (ولا خلاف أنه نزل صبيحة دخوله ﷺ بزينب بنت جحش).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ I، قَالَ: «لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا النَّاسَ، طَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ» قَالَ: «فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ وَبَقِيَ ثَلاَثَةٌ، وَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا القَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا» قَالَ: «فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَرْخَى الحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ﴾ [الأحزاب: 53]- إِلَى قَوْلِهِ - ﴿إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 53] رواه البخاري 6271، ومسلم 1428.
ونزلت أيضا آية التيمم في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ...﴾
عَنْ عَائِشَةَ J، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى التِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، وَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ «فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا» فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا العِقْدُ تَحْتَهُ. رواه البخاري 4607.
والدليل على أنها آية المائدة لا النساء، رواية البخاري 4608، وفيها (فَنَزَلَتْ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ﴾).
وقول الناظم: (وقيل: ورجمه اليهوديين)
قيل: صيغة تمريض، تدل على عدم الجزم، أي وقيل إنه في السنة الرابعة من الهجرة أمر النبي ﷺ برجم اليهوديين الزانيين المحصنين.
وفي السنة الرابعة من الهجرة ولد الحسين بن علي L، ابن فاطمة J بنت رسول الله ﷺ، وهو سبط رسول الله ﷺ، أي ابن بنته.
وقوله: (الرضا) أي المرضيّ عند الله تعالى، وعند المؤمنين.
68 - اَلْإِفْكُ فِي غَزْوِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ *** وَكَانَ فِي الْخَامِسَةِ اسْمَعْ وَثِقِ
أي وحادثة الإفك وقعت في غزوة بني المصطلق، كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وبنو المصطلق بطن من بني خزاعة، وتسمى أيضا غزوة المريسيع، وهو ماء لبني خزاعة، وهو موضع الوقعة.
والإفك هو الكذب الفاحش.
ففي السنة الخامسة وقعت حادثة الإفك المشهورة، والتي رُميتْ فيها أم المؤمنين عائشة J وأرضاها بما برأها الله منه، وأنزل الآيات من سورة النور في براءتها.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره عند تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾: (هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -خرج مخرج الغالب -المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق، L، وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي).
69 - وَدُومَةُ الْجَنْدَلِ قَبلُ وَحَصَلْ *** عَقْدُ ابْنَةِ الْحَارِثِ بَعْدُ وَاتَّصَلْ
أي وغزوة دُومة الجندل كانت قبل غزوة بني المصطلق.
يقال دُومة الجندل، بضم الدال وفتحها، وهي بلد تقع شمال المدينة النبوية، تبعد عنها ما يقارب الثمانمائة كيلو متر.
خرج إليهم رسول الله ﷺ والمسلمون، فلما وصلوهم هربوا خوفا وفزعا، فغنم المسلمون منهم، ورجوا بغير قتال.
وقوله: (وحصل) أي ثبت عقد النبي ﷺ على أم المؤمنين جويرية بنت الحارث J، وقوله: (بعدُ واتصل) أي أن زواجه ﷺ منها كان بعد غزو بني المصطلق، متصلا بهذه الغزوة، وكانت من سبي غزوة بني المصطلق.
عَنْ عَائِشَةَ J، قَالَتْ: وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، أَوِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ فَكَاتَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً مَلَّاحَةً تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، قَالَتْ: عَائِشَةُ J فَجَاءَتْ تَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي كِتَابَتِهَا فَلَمَّا قَامَتْ عَلَى الْبَابِ فَرَأَيْتُهَا كَرِهْتُ مَكَانَهَا وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ وَإِنِّي وَقَعْتُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَإِنِّي كَاتَبْتُ عَلَى نَفْسِي فَجِئْتُكَ أَسْأَلُكَ فِي كِتَابَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَهَلْ لَكِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟» قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُؤَدِّي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ» قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَتْ: فَتَسَامَعَ - تَعْنِي النَّاسَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ، فَأَرْسَلُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ، فَأَعْتَقُوهُمْ، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا، أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «هَذَا حُجَّةٌ فِي أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ يُزَوِّجُ نَفْسَهُ» رواه أبو داود 3931، وحسنه الألباني.
70 - وَعَقْدُ رَيْحَانَةَ فِي ذِي الْخَامِسَةْ *** ثُمَّ بَنُو لِحْيَانَ بَدْءُ السَّادِسَةْ
أي وعقد النبي ﷺ على ريحانة بنت شمعون بن زيد، من بني قريضة، في السنة الخامسة من الهجرة، وكانت من سبي يهود بني قريضة الذين غزاهم النبي ﷺ كما تقدم، وهذا على القول بأنها زوجة حرة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها أمة من سراريه ﷺ، وليست زوجة له.
ثم تلا ذلك غزوة بني لحيان، ولحيان بكسر اللام وفتحها لغتان، قبيلة من هذيل، كانت مساكنهم شمال مكة، على بعد أربعة وستين كيلا منها، وكان غزوهم في بدء السنة السادسة من الهجرة.
71 - وَبَعْدَه اسْتِسْقَاؤُهُ وَذُو قَرَدْ *** وَصُدَّ عَنْ عُمْرتِهِ لَمَّا قَصَدْ
أي وبعد تلك الأحداث مشروعية صلاة الاستسقاء في السنة السادسة من الهجرة، صلاها ﷺ في المصلى.
ومن أحداث تلك السنة السادسة غزوة ذي قَرَد، وهو موضع شرق المدينة النبوية، يبعد ما يقارب خمسة وثلاثين كيلا، وكانت لمطاردة عيينة بن حصن وجماعة من غطفان لإعادة إبل المسلمين التي انتهبها المشركون.
وفي تلك السنة السادسة صد المشركون رسول الله ﷺ عن العمرة لما جاء هو وأصحابه M قاصدين البيت الحرام، وهي أول عُمَره ﷺ، وفيها وقع صلح الحديبيَة المشهور، ثم اعتمر بعدها ثلاث عُمَر.
والحديبية تقع غرب مكة، تبعد عنها ما يقارب الاثنين وعشرين كيلا، وتسمى الآن الشميسي، وكان صلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.
72 - وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بعدُ وَبَنَى *** فِيهَا بِرَيْحَانَةَ هَذَا بَيِّنَا
أي وبيعة الرضوان كانت بعد أن أصر كفار قريش على صد رسول الله ﷺ وأصحابه M، وبعدما شاع الخبر أن المشركين قتلوا عثمان I، وكان قد أرسله النبي ﷺ للتفاوض مع المشركين، فحينئذ بايع النبي ﷺ أصحابه M على ألا يفروا، وضرب رسول الله ﷺ بإحدى يديه على الأخرى، وقال: (هذه لعثمان)، وسميت بيعة الرضوان؛ لقول الله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)
وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ L، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ» وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ، وَلَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ اليَوْمَ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ. رواه البخاري 4154، ومسلم 1856.
وعَنْ جَابِرٍ I قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةً، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ: «بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ[1]» رواه مسلم 1856
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «كَانَ أَبِي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عِنْدَ الشَّجَرَةِ»، قَالَ: «فَانْطَلَقْنَا فِي قَابِلٍ حَاجِّينَ، فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَبَيَّنَتْ لَكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ» رواه مسلم 1859، وفي رواية لمسلم: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَامَ الشَّجَرَةِ»، قَالَ: «فَنَسُوهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ»
(في قابل) أي في عام قابل، أي قادم (فخفي علينا مكانها) وسبب خفائها ألا يفتتن الناس بها لما جرى تحتها من الخير ونزول الرضوان والسكينة وغير ذلك، فلو بقيتْ ظاهرة معلومة لخِيْفَ تعظيم الأعراب والجهال إياها وعبادتهم لها، فكان خفاؤها رحمة من الله تعالى.
وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ L قال: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ، يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» قَالَتْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم: 71] فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا﴾ [مريم: 72] رواه مسلم 2496.
فأهل بيعة الرضوان من أهل الجنة، وأنهم أفضل الصحابة M بعد أهل بدر.
وفي تلك السنة دخل رسول الله ﷺ بريحانة القرظية، وهذا على القول بأنها من أزواجه، كما ذهب إليه الناظم A.
73 - وَفُرِضَ الْحَجُّ بِخُلْفٍ فَاسْمَعَهْ *** وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرٍ فِي السَّابِعَةْ
ومن أحداث السنة السادسة فرض الحج فيها على خلاف بين أهل العلم في السنة التي فرض فيها الحج، والقول الثاني أنه عام تسع من الهجرة، لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ...﴾ والتي نزلت عام الوفود سنة تسع.
وفي السنة السابعة من الهجرة فتحت خيبر، وهي تقع شمال المدينة النبوية على بعد يقارب المائة والستين كيلا، وكان فيها حصون ومزارع ونخيل لليهود.
74 - وَحَظْرُ لَحْمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّه *** فِيهَا وَمُتْعَةِ النِّسَا الرَّدِيَّه
ومن أحداث السنة السابعة أن حرم النبي ﷺ لحوم الحمر الأهلية، أي الإنسية، بخلاف الحمر الوحشية فإنها حلال أكلها.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ I قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ جَاءَ جَاءٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» أَوْ «نَجِسٌ»، قَالَ: فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا. رواه البخاري 5528، ومسلم 1940.
وفي السنة السابعة أيضا حرم النبي ﷺ متعة النساء، أي نكاح المتعة، وهو أن يتزوج المرأة إلى أجل معلوم، كشهر ونحوه، فإذا انقضى الأجل حصلت الفرقة بينهما بغير طلاق.
وقوله: (الرَّديَّه) أي المنكرة الفاسدة.
وفي زمن تحريم متعة النساء خلاف، ذهب الناظم إلى أنه في السنة السابعة لما في الصحيحين عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ I، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ» رواه البخاري 4216، ومسلم 1407.
والحمد لله رب العالمين.
[1] البيعة على أن لا نفر: معناه الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت، أي نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت، لا أن الموت مقصود في نفسه.