شرح مقدمة التفسير لابن قاسم
برنامج دليل 1446هـ
المجلس الثالث
الحمد لله ... أما بعد:
فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:
(عامُّ القُرآنِ وخاصُّهُ)
العام لغة: الشامل.
واصطلاحاً: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.
مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ﴾ يعم جميع الأبرار.
فخرج بـ: «المستغرق لجميع أفراده»؛ ما لا يتناول إلا واحداً كالعَلَم والنكرة في سياق الإثبات؛ كقوله تعالى: ﴿فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ﴾ [المجادلة: 3] لأنها لا تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول، وإنما تتناول واحداً غير معيَّن.
وخرج بـ: «بلا حصر»؛ ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد: مائة وألف ونحوهما.
وللعام ألفاظ منها: كل، الذي، التي، أي، ما، متى، حيثما، والنكرة في سياق النفي والنهي والشرط.
والخاص لغة: ضد العام.
واصطلاحاً: اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد، كأسماء الأعلام والإشارة والعدد.
(العامُّ أَقْسامٌ: مِنهُ الباقِي على عُمُومِهِ، كَــ "حُرِّمَت عليكُم أُمَّهاتُكُم")
العام ثلاثة أقسام:
الأول: العام الباقي على عمومه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡٔٗا﴾ وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ﴾، فهذه النصوص العامة باقية على عمومها لم يرد عليها تخصيص.
(والعامُّ المُرادُ بهِ الخُصوصُ، كَــ "الذينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ")
أي والقسم الثاني من أقسام العام: العام المراد به الخصوص، وليس عمومه مرادا، ومنه قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ والقائل واحد.
وقال تعالى: ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ أي رسول الله ﷺ.
وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ﴾ وليس المراد عموم الناس.
وقال تعالى: ﴿فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ﴾ والمراد جبريل عليه السلام.
(والثالث: العامُّ الْمَخصوصُ، وهُو كَثيرٌ، إِذْ ما مِن عامٍّ إِلاَّ وَقَدْ خُصَّ)
أي القسم الثالث من أقسام العام، العام المخصوص، وهو مرادٌ عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، وتناوله للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله لها بلا تخصيص.
وهذا القسم كثير، فما من لفظ عام في القرآن الكريم إلا وقد خص بالقرآن أو بالسنة أو بالقياس.
والفرق بين العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص:
أن العام الذي أريد به الخصوص لم يكن عمومه مرادا من أول الأمر، أما العام المخصوص فكان عمومه مرادا من أول الأمر لجميع أفراده فيحتاج إلى مخصص لإخراج بعض الأفراد.
(الْمُخَصِّصُ: إِمَّا مُتَّصلٌ، وهُو خَمسَهٌ، أحدها: الاسْتِثناءُ)
والمخصِّص - بكسر الصاد -: فاعل التخصيص وهو الشارع، ويطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص، وهو المراد هنا.
والمخصص إما متصل أو منفصل، والمتصل خمسة أنواع:
النوع الأول: الاستثناء: وتعريفه في الاصطلاح: إخراج بعض أفراد العام بإلا أو إحدى أخواتها. كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ﴾ [العصر:2] ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾ [العصر:3]
فخرج بـ «بإلا أو إحدى أخواتها»؛ التخصيص بالشرط وغيره.
النوع الثاني: الشرط، والمراد به هنا: تعليق شيء بشيء وجوداً، أو عدماً بإن الشرطية أو إحدى أخواتها.
والشرط مخصص سواء تقدم أم تأخر.
مثال المتقدم قوله تعالى في المشركين: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ [التوبة: من الآية 5]
ومثال المتأخر قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗا﴾ [النور: من الآية 33].
النوع الثالث: الصفة وهي: ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام.
مثاله قوله تعالى: ﴿فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [النساء: من الآية 25]
وقوله تعالى: ﴿وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ﴾
والرابع: الغاية، نحو ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ﴾ الآية.
والخامس بدل البعض من الكل نحو ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗا﴾.
(والمُنفَصِل: كَآيَةٍ أُخرى، أَو حديثٍ، أَو إجماعٍ)
أي والتخصيص المنفصل يكون بآية أخرى أو بحديث أو بأجماع يخصص الآية العامة.
مثال تخصيص القرآن بالقرآن: قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖ﴾ [لبقرة: من الآية 228]. خص بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: من الآية 49]). المطلقات: يعم المطلقة بعد الدخول بها، وقبل الدخول بها، فيجب عليها العدة ثلاثة قروء، لكن خُص هذا العموم بالآية الأخرى، والتي تدل على أن من طلق المرأة قبل أن يمسها أي قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها، فبمجرد طلاقه لها يحل لها أن تنكح من شاءت.
ومثال تخصيص القرآن بالسنة: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ﴾ [النساء: من الآية 11] أولادكم: يعم الذكر والأنثى والمسلم والكافر فإنه يرث بناء على هذا العموم، لكنه مخصوص بقوله ﷺ: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» متفق عليه، فأخرج بعض أفراد العام من الحكم، فلا توارث بين المسلم والكافر.
ومثال تخصيص القرآن بالإجماع: مثل له بعض الأصوليين([1]) بقوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ﴾ خص بالإجماع على أن المراد الأخ لأم والأخت لأم.
(وَمِن خاصِّ القُرآنِ: ما كانَ مُخَصِّصاً لِعُمومِ السُّنَّةِ، كَــ "حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ"، خُصَّ بِقَولِهِ ﷺ: «أُمِرتُ أَن أُقاتِلُ النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ»).
ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: ﴿وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا﴾ الآية خَص عموم قوله: «ما أبين من حي فهو كميتته».
وقوله: ﴿وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ﴾ خَص عموم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
وقوله: ﴿فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي﴾ خَص عموم قوله: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار».
(الناسخ والمنسوخ)
(يَرِدُ النَّسخُ بِمَعنَى الإِزالةِ، ومِنهُ "فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيطانُ")
النسخ في اللغة بمعنى الإزالة، تقول العرب: نسخت الشمس الظل إذا أزالته.
ونسخت الريح الأثر، بمعنى أزالته.
ومنه قوله تعالى: ﴿فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ﴾ فالنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الله، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ، وقد يكون في فهمه قال تعالى: ﴿ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ﴾ وإحكامه: رفع ما يتوهم فيه من المعنى، الذي ليس بمراد.
ويأتي بمعنى النقل، ومنه نسخت ما في الكتاب. إذا نقلت ما فيه.
(وبِمَعنَى التَّبديلِ "وإذا بَدَّلنا آيةً مكانَ آيَةٍ")
أي يأتي النسخ بمعنى التبديل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ﴾ أي إذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم أخرى ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ أي والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه، فيما يبدله ويغير من أحكامه.
لكن هذه الآية ليس فيها ذكر النسخ، والأولى أن تذكر الآية الأخرى وهي قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآ﴾ فإن النسخ هنا بمعنى التبديل ([2]).
وهذه الآية ذكرها المؤلف في الحاشية. والمعنى ما ننسخ من حكم آية فنبدله ونغيره.
والنسخ في الشرع: رفع الحكم الشرعي الثابت بخطاب متقدم بواسطة خطاب متراخ عنه.
ومن أمثلة النسخ: آية المصابرة، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ﴾ ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ..﴾.
ولا يجوز لأحد أن يفسر القرآن إلا بعد أن يعرف منه الناسخ من المنسوخ.
الحكمة من النسخ:
للنسخ حِكَمٌ متعددة منها:
1 - مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم بحسب أحوالهم، فقد يكون الحكم في وقت أو حال أصلح للعباد، ثم يكون غيره من الأحكام أصلح في وقت أو حال أخرى.
2 - التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال، فالصلاة أول ما فرضت ركعتان، وبعد الهجرة زيد في صلاة الحضر.
3 - اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك، ولذا قال الله تعالى في آية تحويل القبلة: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ﴾.
4 - اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف، ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل الأخبار
شروط النسخ:
مثال ما علم تأخره بالنص: قوله ﷺ: «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة».
ومثال ما علم بخبر الصحابي: قول عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات.
ومثال ما علم بالتاريخ: قوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ﴾ الآية؛ فقوله: «الآن» يدل على تأخر هذا الحكم. وكذا لو ذكر أن النبي ﷺ حكم بشيء قبل الهجرة، ثم حكم بعدها بما يخالفه، فالثاني ناسخ.
(وهُو ثَلاثَةٌ: ما نُسِخَ تِلاوَتُهُ وحُكمُهُ، كَعَشرِ رَضَعاتٍ)
أي النسخ ثلاثة أقسام:
الأول: ما نسخ تلاوته وحكمه، ومثاله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " رواه مسلم 1452.
قال النووي في شرح مسلم 10/29: (وقولها (فتوفي رسول الله ﷺ وهن فيما يقرأ) هو بضم الياء من يقرأ ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى إنه ﷺ توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى).
والحكمة في نسخ الحكم واللفظ أن يعلم الناس تدرج الأحكام الشرعية.
(أو تِلاوَتُهُ دُون حُكمُهُ، كَآيَةِ الرَّجمِ)
القسم الثاني: ما نسخت تلاوته دون حكمه، ومن أمثلته آية الرجم.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ، إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ قَرَأْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ «رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ» رواه ابن ماجه 2553، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 2913. وقال: وقد أخرجه البخاري ومسلم إلا أنهما لم يقولا: "وقد قرأتها ..." إلخ.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: لَقَدْ أَقَرَأَنَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ آيَةَ الرَّجْمِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ» رواه النسائي في السنن الكبرى 7108، وقال ابن كثير في تحفة الطالب ص330: بإسناد جيد.
وعن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ قال: قال لِي أُبَىُّ بنُ كَعبٍ رضي الله عنه: كأيِّن تَعُدُّ أو كأيِّن تَقرأُ سورَةَ "الأحزابِ"؟ قُلتُ: ثَلاثًا وسَبعينَ آيَةً. قال: أقَطُّ! لَقَد رأيتُها وإِنَّها لَتَعدِلُ سورَةَ "البَقَرَةِ"، وإِنَّ فيها: (الشيخُ والشَّيخَةُ إذا زَنَيا فارجُموهُما البَتَّةَ نكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ) رواه البيهقي في السنن الكبرى 16994.
قال البيهقي في السنن الكبرى 17/150 ت: التركي: (في هذا وما قَبلَه دَلالَةٌ على أن آيَةَ الرَّجمِ حُكمُها ثابِتٌ وتِلاوَتُها مَنسوخَةٌ، وهَذا ممّا لا أعلمُ فيه خِلافًا).
وحِكمة نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن، وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى، عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة.
(أو حُكمُهُ دُون تِلاوَتُهُ)
القسم الثالث: ما نسخ حكمه، ولم تنسخ تلاوته، وهو الأكثر، ومن أمثلته: قوله تعالى ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖ﴾ نُسخت بقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗا﴾
وعن ابْن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قال: قُلْتُ: لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا﴾ [البقرة: 234] قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ» رواه البخاري 4530.
وآية المصابرة، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ﴾ ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ ..﴾
وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗ﴾
قال ابن كثير في تفسيره 8/49: (يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله ﷺ ، أي: يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: ﴿ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُ﴾ ثم قال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ﴾ أي: إلا من عجز عن ذلك لفقده ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ فما أمر بها إلا من قدر عليها. ثم قال: ﴿ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖ﴾ أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، ﴿فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ فنسخ وجوب ذلك عنهم. وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه).
وحِكمة نسخ الحكم دون اللفظ، بقاء ثواب التلاوة، وتذكير الأمة بحكمة النسخ.
وينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أربعة أقسام:
الأول: نسخ القرآن بالقرآن؛ ومثاله آيتا المصابرة.
الثاني: نسخ القرآن بالسنّة؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الأصول من علم الأصول: (ولم أجد له مثالاً سليماً).
الثالث: نسخ السنة بالقرآن: ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة، باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ﴾.
الرابع: نسخ السنة بالسنة، ومثاله قوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكراً».
(وصُنِّفَت فيه الكُتُب، وهُوَ قليلٌ)
أي وصنفت الكتب الكثيرة فيما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، كأبي عبيد وأبي داود وأبي جعفر النحاس وابن الأنباري وابن العربي والبن الجوزي وغيرهم.
وهو قليل، وإن كان بعضهم أكثر من تعديد الآيات التي قيل فيها بالنسخ، ولكنه من حيث الواقع قليل، فأكثر آيات القرآن الكريم محكمة، حكمها باق، وتلاوتها باقية.
إلا أن بعض السلف قد اصطلحوا على تسمية كل رفع نسخا.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين 1/29: (مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر).
(وَلا يَقَعُ إِلاَّ في الأَمرِ والنَّهيِ، ولَو بِلَفظِ الخَبَرِ)
أي لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، سواء أكان الأمر والنهي صريحا، أم كان بصيغة الخبر، ومثال الأمر الذي بصيغة الخبر آية المصابرة كما تقدم، ومثال النهي الذي بصيغة الخبر قوله تعالى: ﴿ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ ..﴾
أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلم يدخله النسخ، فإن النسخ إنما يكون فيما يَتعبد اللهُ به عباده، لأن الله يتعبدهم بالأوامر والنواهي بما شاء، إلى الوقت الذي يشاء، ثم إن شاء نسخ ذلك، وتعبدهم بغيره.
فالخبر لا يقع فيه النسخ، لأنه يلزم من نسخ الخبر الأول بالخبر الثاني أن يكون الخبر الأول كذبا، وكلام الله تعالى منزه عن ذلك.
ولا يقع النسخ في الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان: كالتوحيد، وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف، والكرم والشجاعة، ونحو ذلك؛ فلا يمكن نسخ الأمر بها، وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.
طرق معرفة الناسخ من المنسوخ:
إما بدلالة النص الشرعي، كما تقدم في آية المصابرة، وآية الصدقة، وقوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».
وإما أن ينعقد إجماع العلماء على أن هذا النص ناسخ للنص الآخر.
وبناء على هذا فمن ادعى النسخ لنص من نصوص الكتاب والسنة فعليه أن يقيم الدليل على النسخ، إما بدلالة النص أو الإجماع، فلا يقبل فيه مجرد الاجتهاد.
(المحكم والمتشابه)
وصف الله عز وجل القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.
فالأول، وهو أن القرآن كله محكم، كما في قوله تعالى: ﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ﴾ [لقمان: 2] والمراد بالإحكام هنا: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان والفصاحة والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني وأجلها وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار، وكمال الرشد والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا﴾ [الأنعام: 115].
والثاني، وهو أن القرآن كله متشابه، كما في قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا﴾ [الزمر: 23].
والمراد بالتشابه هنا: هو تشابه القرآن في الكمال والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار، كما قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 82].
ووصفُ القرآن جميعه بالإحكام، ووصفُه جميعه بالتشابه لا يتعارضان، فهو كلام محكم متقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق، فلا يتناقض في أحكامه، ولا كذب في أخباره.
والثالث، وهو أن بعضه محكم وبعضه متشابه، كقوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞ﴾ [آل عمران: 7].
والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو: الوضوح والظهور بحيث يكون معناه واضحاً بيناً لا يشتبه على أحد، وهذا كثير في الأخبار والأحكام.
مثاله في الأخبار قوله تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ [البقرة: 185]. فكل أحد يعرف شهر رمضان، وكل أحد يعرف القرآن.
ومثاله في الأحكام قوله تعالى: ﴿وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا﴾ [الإسراء: 23]. فكل أحد يعرف والديه، وكل أحد يعرف الإحسان.
وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.
وهذا القسم وهو أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه اختلف الناس فيه على قسمين:
فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالاً أو تناقضاً، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام.
وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك فضلوا وأضلوا، وتوهموا بهذا المتشابه ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله.
مثال ما لا يليق بالله عز وجل: قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ [يس: 12]. وقوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [الحجر: 9]... ونحوهما مما أضاف الله فيه الشيء إلى نفسه بصيغة الجمع.
فاتَّبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد، كقوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ ﴿إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ﴾.
وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، فكلمة (إنا) و (نحن) تأتي في اللغة للواحد المعظم نفسه، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى: ﴿وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: 163] ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت - بما وقع لك من الاشتباه - قد كفرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ﴾ [المائدة: 73] ؛ أي كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة.
ومثال ما لا يليق بالقرآن: قوله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ﴾ [القصص: 56]. وقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [الشورى: 52].
ففي الآيتين موهم تعارض فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضاً وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض.
وأما الراسخون في العلم؛ فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره. والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة، وهذه تكون من الله تعالى ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين.
ومثال الثالث ما لا يليق برسول الله ﷺ: قوله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسَۡٔلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ﴾ [يونس: 94].
ففي الآية ما يوهم وقوع الشك من النبي ﷺ مما أنزل إليه فيتبعه من في قلبه زيغ فيدعي أن النبي ﷺ وقع منه ذلك فيطعن في رسول الله ﷺ.
وأما الراسخون في العلم؛ فيقولون: إن النبي ﷺ لم يقع منه شك ولا امتراء فيما أنزل إليه، كيف وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦ﴾ [البقرة: 285]. وقوله: ﴿فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [لأعراف: 158] ؟!
ويقولون: إن مثل هذا التعبير - ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ﴾ [يونس: 94] - لا يلزم منه وقوع الشرط، بل ولا إمكانه كقوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ﴾ [الزخرف: 81]؛ فإن وجود الولد لله عز وجل ممتنع غاية الامتناع كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ [مريم: 91]. فكذلك الشك والامتراء من رسول الله ﷺ فيما أنزل إليه ممتنع غاية الامتناع، ولكن جاءت العبارة بهذه الصيغة الشرطية لتأكيد امتناع الشك والامتراء من رسول الله ﷺ فيما أنزل إليه من الله عز وجل.
التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي ونسبي:
- فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا - وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار - لا نعلم حقائقها وكنهها كما قال الله تعالى عن نفسه: ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا﴾ [طه: 110]. وقال: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَ﴾ [الأنعام: 103]. وقال عما في اليوم الآخر: ﴿فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]. وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي ﷺ أن الله قال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير ... ونحو ذلك.
ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات ليس مماثلاً في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله.
كما نعلم أن في الجنة لحماً، ولبناً، وعسلاً، وماء، وخمراً ... ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.
وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه.
- وأما النسبي؛ فهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم.
وهذا النوع يُسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه، إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، كيف وقد قال الله عز وجل: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ﴾ [النحل: 89]. وقال: ﴿هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 138]. وقال: ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ 19﴾ [القيامة: 18-19]. وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء: 174]. وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ﴾ [البقرة: 185].
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(الْمُحْكَمُ: يُمَيِّزُ الحَقيقَةَ الْمَقصُودَةَ)
المحكم يميز الحقيقة المقصودة من غيرها، حتى لا تشتبه بغيرها.
فالمحكم هو الواضح الدلالة.
(والْمُتشَابِهُ: يُشبِهُ هذا ويُشبِهُ هذا)
والمتشابه هو الذي فيه اشتباه على كثير من الناس.
(والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ "ابتغاء الفتنة" لِيَفتِنُوا النَّاسَ؛ إِذْا وَضَعُوهُ عَلَى غيرِ مَواضِعِهِ)
الذين في قلوبهم زيع: أي عدول عن الحق، فإنهم يتركون المحكم الذي لا اشتباه فيه، ويتبعون المتشابه، الذي يشبه هذا ويشبه هذا، ومن أمثلة ذلك - وقد تقدم -: المحكم في قوله تعالى: ﴿وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ﴾ وقوله سبحانه: ﴿إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ فيتركون هذا المحكم الدال على وحدانية الله، وأنه الإله وحده، ويتبعون المتشابه في قوله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ على اعتبار أن كلمة (إنَّا) و (نحن) للجمع، فيتأولها النصارى بأن الآلهة ثلاثة؛ لأن (إنا) و (نحن) كل منهما ضمير جمع.
ومن المعلوم أن (إنا) و (نحن) تأتي في اللغة للجمع، وللواحد المعظم نفسه، فهي من التشابه، والمتشابه يرد إلى المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۗ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ» رواه البخاري4547، ومسلم 2665.
ومعنى ﴿مُّحۡكَمَٰتٌ﴾ مبينات مفصلات أحكمت عبارتها ووضحت وحفظت من احتمال التأويل والاشتباه. ﴿أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ أصل الكتاب والعمدة منه ﴿مُتَشَٰبِهَٰتٞ﴾ محتملات في معانيهن للتأويل. ﴿ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ﴾ أي يريدون أن يفتنوا الناس عن دينهم ويوقعوهم في الشك. ﴿وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦ﴾ أي تفسيره حسبما يشتهون (الذين سمى الله) أي ذكرهم في كتابه بأنهم في قلوبهم زيغ.
ولما جاء صبيغ بن عِسْل إلى عمر رضي الله عنه، فسأله عن متشابه القرآن، فسأله عن ﴿الذَّٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا﴾ أمر عمر رضي الله عنه بجلده عدة مرات، ثم جلاه إلى أبي موسى رضي الله عنه، وأمر ألا يجالسه الناس، حتى تاب وأظهر توبته. وقصة صيبغ ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في ترجمة صبيغ في الإصابة، وحكم على إسنادها بالصحة.
("وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ" وهُو الحَقيقَةُ التي أَخبَرَ عَنْها، كالقِيامَةِ وَأَشرَاطِها، "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ" وقته، وصفته "إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" وَلَم يَنفِ عَنهُم عِلمَ مَعناهُ، بل قال: "لِيَدَّبَّروا آياتِهِ")
في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۗ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران: 7] قولان للسلف في الوقف في هذه الآية:
أحدهما: الوقف عند قوله: ﴿إِلَّا ٱللَّهَ﴾ وهو قول جمهور السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ [آل عمران: 7] الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، لا التفسير الذي هو بيان المعنى. فتأويل آيات الصفات - على هذا - هو حقيقة تلك الصفات وكنهها، وهذا من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل ولم يرد بها السمع فلا يعلمها إلا الله.
الثاني: الوصل فلا يقفون على قوله: ﴿إِلَّا ٱللَّهَ﴾ وهو قول جماعة من السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ﴾ [آل عمران: 7] التفسير الذي هو بيان المعنى. وهذا معلوم للراسخين في العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله". وقال مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها؟ ".
وبهذا تبين أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم معناه إلا الله تعالى، وإنما تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل([3]).
(قال شَيخُ الإِسلامِ: "وثَبَتَ أَنَّ اتِّباعَ الْمُتشابِهِ ليسَ في خُصوصِ الصِّفاتِ)
هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد قال كما في مجموع الفتاوى 13/311: (قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات؛ بل في صحيح البخاري «أن النبي ﷺ قال لعائشة يا عائشة إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذريهم» وهذا عام. وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن ﴿الذَّٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا﴾ فقال: ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ فقال: وأنا عبد الله عمر وضربه الضرب الشديد. وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ. وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه» وكما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ﴾ فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد).
(ولا أَعلَمُ أنَّ أحداً مِنَ السَّلفِ جَعَلَها مِنَ الْمُتَشابِهِ الدَّاخِلِ في هِذهِ الآيَةِ") أي أنه لا يعلم أحدا من سلف الأمة المتقدمين جعل آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه، فمعانيها معلومة لنا، ويحملونها على ظاهرها وحقيقتها، ولكن كيفيتها لا نعلهما.
(وعِندَهُم قِراءَتُها: تَفسيرُها، وتُمَرُّ كَما جاءَت، دَالَّةٌ على ما فِيها مِنْ الْمَعانِي، لا تُحَرَّف وَلا يُلْحَدُ فِيها) وتفسيرها هو المعنى الذي دلت عليها بظاهرها، وتمر كما جاءت بلا تأويل، ولا تحريف، بل نثبت المعنى الذي دلت عليه.
وفيه الرد على المفوضة لمعاني صفات الله عز وجل.
(وَكُلُّ ظاهِرٍ: تُرِكَ لِمُعارِضٍ رَاجِحٍ، كَتَخصيصِ العامِّ، وتَقييدِ الْمُطلَقِ، فَإنَّهُ مُتشابِهٌ لاحتِمالِهِ مَعنَيَينِ، وكذا الْمُجمَلُ)
الظاهر هو اللفظ الدال على معنيين فأكثر، هو في أحدهما أظهر. فهو متشابه لاحتماله لأكثر من معنى، فمثلا العام الأصل فيه أن يُحمل على عمومه، وقد يخص منه بعض أفراده، فالظاهر هو حمله على جميع أفراده حتى يقوم الدليل على التخصيص.
وكذا يقال في تقييد المطلق.
(وإحكامُهُ: رَفعُ ما يُتَوَهَّمُ فيهِ مِن المعنَى الذي ليسَ بِمرادٍ)
أي إحكام المتشابه يكون بإبطال المعنى المرجوح، وبيان أنه غير مراد كما تقدم في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ﴾.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(التَّأْويلُ)([4])
التأويل مصدر أوّل يؤول تأويلا، وآل يؤول أي عاد إلى كذا ورجع إليه.
وفي الاصطلاح: ردُّ الكلام إلى الغاية المرادة منه بشرح معناه أو حصول مقتضاه.
ويطلق على ثلاث معان:
الأول: التفسير: وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓ﴾ [يوسف: 36] أي بتفسيره، وقوله: ﴿وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِيلِ ٱلۡأَحۡلَٰمِ بِعَٰلِمِينَ﴾ أي بتفسير الأحلام.
وقول النبي ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين "تأويل قوله تعالى" أي: تفسيره.
والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم.
المعنى الثاني: مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبراً فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه - وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره - وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب.
مثال الخبر: قوله تعالى: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥ﴾ [الأعراف: 53] أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗا﴾ [يوسف: 100] فتأويل رؤياه هو وقوعها وتحققها.
ومثال الطلب: قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن؛ أي: يمتثل ما أمره الله به في قوله: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ 1 وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا 2 فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا 3﴾ [النصر: 1-3].
والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعاً.
فأما قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]. فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل.
فعلى قراءة الوقف عند قوله: ﴿إِلَّا ٱللَّهَ﴾؛ يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته؛ لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله عز وجل.
وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير، لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم فلا يختص علمه بالله تعالى.
فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها، وهذا هو التأويل المجهول لنا.
وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ونحو ذلك.
ونعلم أن الحياة ليس هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة، وأن القدرة ليس هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر ... وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله عز وجل.
وهذا المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب والسنة وكلام السلف.
* المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه. وإن شئت فقل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه.
وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل هو حق أو باطل؟
والتحقيق: أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير؛ لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره، أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم.
مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ﴾ [النحل: 1]. فإن الله تعالى يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله: ﴿فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ﴾.
ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98] ؛ فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة، والمراد إذا أردت أن تقرأ؛ لأن النبي ﷺ كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ لا إذا فرغ من القراءة.
وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلاً مذموماً، وجديراً بأن يسمى تحريفاً لا تأويلاً.
مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾ [طه: 5]. فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علواً يليق بالله عز وجل، وهذا هو المراد، فتأويله إلى أن معناه "استولى" تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(التَّأويلُ فِي القُرآنِ: نَفسُ وُقوعِ الْمُخبَرِ بِهِ)
هذا هو المعنى الثاني للتأول، كما تقدم.
(وَعِندَ السَّلَفِ: تَفسيرُ الكلامِ وَبيانُ مَعناهُ) وهذا هو المعنى الأول المتقدم.
(وَعِندَ الْمُتَأَخِّرينَ مِن الْمُتَكَلِّمَةِ والْمُتَفَقِّهَةِ ونَحوِهِم، هُوَ: صَرفُ اللفظِ عَنِ الْمَعنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعنَى الْمَرْجوحِ، لِدليلٍ يَقتَرِنُ بِهِ، أَوْ حَمْلُ ظاهِرٍ عَلى مُحتَمَلٍ مَرجوحٍ)
وهذا هو المعنى الثالث للتأويل كما تقدم.
(وما تَأَوَّلَهُ القَرامِطَةُ والباطِنِيَّةُ لِلأَخبارِ والأَوامِرِ، والفَلاسِفَةُ للإخبارِ عَنِ اللهِ واليومِ الآخرِ، والجَهمِيَّةُ والْمُعتَزِلَةُ وغَيرُهُم في بَعضِ ما جاء في اليوم الآخِرِ، وَفي آياتِ القَدَرِ، وآياتِ الصِّفاتِ، هُوَ مِن تَحريفِ الكَلِمِ عَن مَواضِعِهِ)
القرامطة والباطنية يدَّعون أن للقرآن باطنا يخالف الظاهر، فيقولون مثلا: الصلاة المأمور بها، ليست هذه الصلاة المعروفة، هذه يؤمر بها عامة الناس، أما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا.
ويقولون في الأخبار الغيبية كالجنة والنار إنه لا يراد بها حقيقتها، بل المراد بالنار تخويف الناس ليجتنبوا المعصية، والمراد بالجنة الترغيب ليعملوا بالطاعة، وإلا فليس هناك جنة ولا نار، وهذا منهم تأويل حيث صرفوا اللفظ عن ظاهره إلى غير الظاهر بلا دليل فيكون باطلا.
ومثلهم كذلك الفلاسفة والجهمية والمعتزلة في تأويل بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات الصفات، فيقولون هي على غير حقيقتها، ويؤولونها بلا دليل، فهو تأويل باطل، ومن تحريف الكلام عن مواضعه.
(قَالَ الشَّيخُ: وَطَوائِفُ مِن السَّلَفِ أَخطَؤا في مَعنَى التَّأويلِ الْمَنفِيِّ؛ وَفي مَعنَى التَّأويلِ الذي أَثْبَتُوهُ)
المراد بالشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والخطأ الواقع في معنى التأويل المنفي يعني في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ ما هو التأويل المنفي في الآية؟ قال بعضهم هو التفسير، أي وما يعلم تفسيره إلا الله. وهذا معناه أن في القرآن ما لا يعلم تفسيره أحد من العلماء، وهذا خطأ، لأن الله عز وجل خاطبنا بما نعلم، وأمرنا بتدبر القرآن، فليس منه شيء لا يعلم أحد من أهل العلم معناه، والصواب أن معنى التأويل المنفي هو حقيقة المخبر به([5]).
والخطأ في معنى التأويل الذي أثبتوه قال عنه المؤلف في حاشيته: كتأويل اليد بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء، ونحو ذلك.
(والتَّأويلُ الْمَردودُ: هُوَ صَرفُ الكَلِمِ عَن ظاهِرِهِ إِلَى ما يُخالِفُ ظاهِرَهُ)
وهذا هو المعنى الثالث للتأويل، وهو التأويل الذي لا دليل عليه، وهو مردود كما تقدم.
بل نقل المؤلف في حاشيته أنه قد حكى غير واحد إجماع السلف على عدم القول به.
(قال: وَلَم يَقُل أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ: ظاهِرُ هذا غَيرُ مُرادٍ. وَلا قالَ: هَذهِ الآيَةُ أَو هَذا الحديثُ مَصروفٌ عَن ظاهِرِهِ. مَعَ أنَّهُم قَد قَالُوا مِثلَ ذلكَ في آياتِ الأَحكامِ الْمَصروفَةِ عَن عُمُومِها وظَواهِرِها، وتَكَلَّمُوا فِيما يُسْتَشْكَلُ مِمَّا قَد يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُتَناقِضٌ)
أي لم يقل أحد من السلف في نصوص الصفات: ظاهر هذا النص غير مراد، أو هو مصروف عن ظاهره، مع أنهم كانوا يقولون ذلك في نصوص الأحكام، فقالوا هذا النص العام مخصوص بنص آخر، كما تقدم معنا ذكر أمثلة ذلك، وقالوا في بعض نصوص الأحكام إنها على غير ظاهرها، مع بيان الدليل على أنها على غير الظاهر، وبينوا ما يستشكل من النصوص، فمثلا قوله ﷺ: «إن الميت يعذب ببكاء أهله» فهذا يشكل عليه، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ فتكلموا على الحديث بأن المراد به اليهود، كما جاء عن بعض السلف، وقيل يعذب بمعنى يتألم، كما جاء في الحديث «السفر قطعة من عذاب» والمقصود أنهم تكلموا في هذه النصوص، أما نصوص الصفات فلم يتعرضوا لها بتأويل بل سلموا بها وآمنوا.
والحمد لله رب العالمين.
([1]) ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ص356.
([2]) ينظر: شرح الشيخ سعد الشثري.
([3]) ينظر: تقريب التدمرية للشيخ ابن عثيمين ص71.
([4]) ينظر: تقريب التدمرية للشيخ ابن عثيمين ص75.
([5]) ينظر: مجموع الفتاوى 13/284، و 17/400.