شرح الأرجوزة المئية في ذكر حال أشرف البرية
لابن أبي العز الحنفي A
برنامج دليل 1447هـ
الدرس الثاني
إن الحمد لله .. أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى:
11- ثُمَّ أَبُو طَالِبٍ الْعَمُّ كَفَلْ *** خِدْمَتَهُ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ رَحَلْ
أي ثم بعد وفاة عبد المطلب جد النبي ﷺ، كفله عمه أبو طالب، وكان أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي ﷺ، وقيل: إن عبد المطلب أوصى ابنَه أبا طالب بكفالة النبي ﷺ ورعايته وتربيته بعد موته.
ثم سافر به عمه أبو طالب إلى الشام، وكان هذا السفر بعد اثني عشر سنة من ولادة النبي ﷺ، ولذا قال الناظم:
12- به، وَذَاكَ بَعْدَ عَامِ اثني عَشَرْ *** وَكَانَ مِنْ أَمْرِ (بَحِيرَا) مَا اشْتَهَرْ
وكان في ذلك السفر من خبر بحيرا ما اشتهر عند أهل السيرة.
وبحيرا: بفتح الباء وكسر الحاء وسكون الياء، وقيل: بضم الباء وفتح الحاء، والألف في آخره مقصورة.
عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ h قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ». قَالَ: « فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ «، فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ القَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فَقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ وَالزَّيْتِ» رواه الترمذي 3620، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ»
قال الذهبي في السيرة النبوية من تاريخ الإسلام 1/503: (وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله ﷺ بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد ...)
لكن ذهب جماعة من أهل العلم إلى ثبوت هذه الحادثة، مع استنكار بعض ألفاظها.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح 8/716 عند كلامه على دلائل النبوة: (أول ذلك مطلقا ما سمعه من بحيرا الراهب وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى).
وقال أيضاً في الإصابة 1/476: (وقد وردت هذه القصة بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي موسى الأشعريّ أخرجها التّرمذيّ وغيره، ولم يسم فيها الراهب، وزاد فيها لفظة منكرة، وهي قوله: وأتبعه أبو بكر بلالا، وسبب نكارتها أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهّلا، ولا اشترى يومئذ بلالا. إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر أدرجت في هذا الحديث. وفي الجملة هي وهم من أحد رواته).
وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح، لكن ذكر بلال فيه منكر.
13- وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ أَشْرَفُ الْوَرَى *** فِي عَامِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ اذْكُرَا
14- لِأُمِّنَــا خَـــــدِيجَةٍ مُتَّــجِرَا *** وَعَادَ فِيهِ رَابِحًا مُسْتَبْشِرَا
أي ولما بلغ النبي ﷺ الخامسة والعشرين من عمره سافر إلى الشام في تجارة لخديجة i، على وجه المضاربة، فالمال من خديجة i والعمل من النبي ﷺ، وعاد في ذلك العام من تجارته رابحا مستبشرا.
وقوله (أشرف الورى) أي أشرف الخلق، وأفضلهم.
وقوله: (اذكرا) أي اذكر هذه الحادثة، والألف في آخر الكلمة للإطلاق.
وقوله: (لأمنا خديجة) هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، فتلتقي في النسب مع النبي ﷺ في قصي بن كلاب، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.
ونَوَّنَ (خديجةٍ) لضرورة الشعر، وإلا فهو اسم ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
15- فَكَانَ فِيهِ عَقْدُهُ عَلَيْهَا *** وَبَعْدَهُ إِفْضَاؤُهُ إِلَيْهَا
أي فكان في ذلك العام الذي رجع فيه النبي ﷺ من تجارته لخديجة i، عقد النكاح عليها، وكان عمره خمسةً وعشرين سنة، (وبعده) ثم بعد ذلك (إفضاؤه إليها) أي دخوله بها.
وقال البلاذُري في أنساب الأشراف 1/98: (وتزوج رسول الله ﷺ خديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ابنة أربعين سنة. وذلك الثبت عند العلماء. ويقال إنه تزوجها وهي ابنة ست وأربعين سنة، وهو ابن خمس وعشرين سنة. ويقال: تزوجها وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهي ابنة ثمان وعشرين سنة).
16- وَوُلْدُهُ مِنْهَا خَلاَ إِبْرَاهِيمْ *** فَالْأَوَّلُ الْقَاسِمُ حَازَ التَّكْرِيمْ
17- وَزَيْنَبٌ رُقَيَّةٌ وَفَاطِمَةْ *** وَأُمُّ كُلْثُومٍ لَهُنَّ خَاتِمَةْ
18- وَالطَّيِّبُ الطاهرُ عَبْدُ اللهِ *** وَقِيلَ كُلُّ اسْمٍ لِفَرْدٍ زَاهِي
19- وَالْكُلُّ فِي حَيَاتِهِ ذَاقُوا الْحِمَامْ *** وَبَعْدَهُ فَاطِمَةٌ بِنِصْفِ عَامْ
في هذه الأبيات ذكر الناظم أولاد النبي ﷺ، وكلهم من أم المؤمنين خديجة i سوى إبراهيم فإنه من سُرِّيته ماريَّة القبطية i.
وهذا بالإجماع، فقد حكى أبو السعادات ابن الأثير في جامع الأصول 12/107 إجماع العلماء على أن جميع أولاده ﷺ من خديجة i غير إبراهيم فإنه من مارية i.
روى البخاري 3818 عَنْ عَائِشَةَ i، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ»
ومعنى (كانت وكانت) أي يذكر صفاتها وفضائلها i.
وقوله: (ووُلْدُه) الوَلَد اسْم يجمع الواحِد وَالْكثير وَالذكر والأُنثى، وَوَلَدُ الرجلِ ووُلْدُهُ بمعنى واحد، وقد يكون الوُلْد جمع الوَلَد، مثل أُسْد جمع أَسَد[1].
وأولاده سبعة ﷺ، ثلاثة أبناء، وأربع بنات، وهم كما ذكرهم الناظم:
1- القاسم، وهو أول أبنائه، قال الناظم (فالأول القاسم حاز التكريم) وذلك بأن تكنى به النبي ﷺ، فهو أبو القاسم عليه الصلاة والسلام.
قال القرطبي في المفهم 6/313: (وأجمعوا أنها - أي خديجة i - ولدت له ابنًا يُسمَّى: القاسم، وبه كان يكنى ... ومات القاسم بمكة صغيرًا. قيل: إنه بلغ إلى أن مشى، وقيل: لم يعش إلا أيامًا يسيرة).
2- زينب i، وهي أكبر بناته ﷺ، تزوجها أبو العاص بن الربيع h.
3- رُقيَّة، تزوجها عثمان h.
4- فاطمة، تزوجها علي h.
5- أم كلثوم، تزوجها عثمان بعد وفاة رقية i.
قال القرطبي في المفهم 6/313: (وأجمع أهل النقل: أنها ولدت له أربع بنات كلهن أدركن الإسلام، وأسلمن، وهاجرن: زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. وأجمعوا أنها ولدت له ابنًا يُسمَّى: القاسم، وبه كان يكنى)
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب 4/1893: (والذي تسكن إليه النفس عَلَى مَا تواترت به الأخبار فِي ترتيب بنات رَسُول اللَّهِ ﷺ أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء).
6- عبد الله، ويسمى الطيب والطاهر، اسمان لعبد الله، وقيل: كل اسم من هذه الثلاثة وهي عبد الله والطيب والطاهر (لفرد) أي اسم لولد، فيكونون ثلاثة أولاد، (زاهي) أي حسن المنظر.
7- إبراهيم: وهو أصغرهم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ h قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» رواه مسلم 2315.
وتوفي صغيرا، ولما مات قال النبي ﷺ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» رواه مسلم 2315.
وعن البَرَاءَ h، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ» رواه البخاري 1382.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ h قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ»، قَالَ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ» قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ» رواه مسلم 2316.
(وإنه مات في الثدي) معناه مات وهو في سن رضاع الثدي أو في حال تغذيه بلبن الثدي (وإن له لظئرين) الظئر هي المرضعة ولد غيرها، ومعنى (تكملان رضاعه في الجنة) أي تتمانه سنتين فإنه توفي وله ستة عشر شهرا أو سبعة عشر فترضعانه بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن[2].
ثم قال الناظم: (والكل في حياته ذاقوا الحِمَام) أي كلهم ماتوا في حياة النبي ﷺ، إلا فاطمة i، والحِمام: قَدَرُ الموْت[3].
وبعد وفاة النبي ﷺ بنصف عام أي ستة أشهر توفيت ابنته فاطمة i، في السنة الحادية عشرة من الهجرة.
فعن عائشة i أنها أخبرت أن فاطمة i (عَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سِتَّةَ أَشْهُرٍ)، رواه البخاري 3093، ومسلم 1759.
فائدة:
روى ابن السني في عمل اليوم والليلة 417 عَنْ عَائِشَةَ i قَالَتْ: «أَسْقَطْتُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَنَّانِي بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ».
قال عنه ابن الجوزي في الموضوعات 2/9: (هَذَا حَدِيث مَوْضُوع).
وقال ابن القيم في تحفة المودود ص134: (وَأذِن النَّبِي ﷺ لعَائِشَة أَن تُكْنَى بِأم عبد الله، وَهُوَ عبد الله بن الزبير، وَهُوَ ابْن أُخْتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، لَا الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ أَنَّهَا أسقطت من النَّبِي ﷺ سقطا فَسَماهُ عبد الله وكناها بِهِ، فَإِنَّهُ حَدِيث لَا يَصح).
20 - وَبَعْدَ خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ حَضَرْ *** بُنْيَانَ بَيْتِ اللهِ لَمَّا أَنْ دَثَرْ
أي وبعد خمس وثلاثين سنة من ميلاده ﷺ حضر عليه الصلاة والسلام بنيان الكعبة المشرفة بعد أن انهدمت، ومعنى (دَثَر) أي دَرَس.
21 - وَحَكَّمُوهُ وَرَضُوا بِمَا حَكَمْ *** فِي وَضْعِ ذَاكَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَمْ
فحكمته قريش في مَن يضع الحجَر الأسود في مكانه المعروف، ورضوا بحكمه في ذلك.
وقوله: (ثَمَّ) ظرف مكان، أي هناك، في مكانه الموجود فيه الآن.
ويدل لهذه الحادثة عدة أحاديث، منها:
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ k، قَالَ: لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ، ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الحِجَارَةَ، فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنَ الحِجَارَةِ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ» رواه البخاري 3829، ومسلم 340.
(طمحت) ارتفعت (إزاري إزاري) أعطوني إياه.
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ h قال: كُنْتُ فِيمَنْ بَنَى الْبَيْتَ ... وَإِنَّ قُرَيْشًا اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالسُّيُوفِ، فَقَالَ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأَمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَضِينَا بِكَ، فَدَعَا بِثَوْبٍ فَبَسَطَهُ وَوَضَعَ الْحَجَرَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِهَذَا الْبَطْنِ، وَلِهَذَا الْبَطْنِ -غَيْرَ أَنَّهُ سَمَّى بُطُونًا-: لِيَأْخُذْ كُلُّ بَطْنٍ مِنْكُمْ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ رَفَعُوهُ، وَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَوَضَعَهُ بِيَدِهِ. رواه الإمام أحمد 15504، والحاكم 1683، واللفظ له، وقال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِ»، وقال محققو المسند: إسناده صحيح. وذكره الألباني في صحيح السيرة النبوية ص45.
وروى عبد الرزاق 9106 في المصنف عن أبي الطفيل في قصة بناء قريش الكعبة قال: (وَكَانَ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ)، وقال الذهبي في تاريخ الإسلام 1/514: هذا حديث صحيح.
22 - وَبَعْدَ عَامِ أَرْبَعِينَ أُرْسِلاَ *** فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ يَقِينًا فَانْقُلاَ
23 - فِي رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ *** وَسُورةُ اقْرَأْ أَوَّلُ الْمُنَزَّلِ
أي وبعد مضي أربعين عاما من مولد النبي ﷺ أرسله الله عز وجل إلى الناس كافة، والألف في «أرسلا» للإطلاق.
فعن أنس h في وصفه النبي ﷺ قال: (أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ([4]) يُنْزَلُ عَلَيْهِ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ) رواه البخاري 3547، ومسلم 2347، ولفظ مسلم: (بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً).
وكان مبعثه في يوم الاثنين، فقد روى مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، h أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: «فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ»، وفي لفظ له: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ-».
وقد حكى ابن كثير أنه لا خلاف بين العلماء في أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين([5]).
وكانت بعثته ﷺ في شهر رمضان، أو في شهر ربيع الأول، على قولين لأهل السيرة.
وذكر ابن كثير([6]) أن المشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، واستدل لهذا القول بقول الله تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ﴾
واستدل للقول الثاني بما روى ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس k قالا: ولد رسول الله ﷺ عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. لكن قال ابن كثير 2/93 بعده: فيه انقطاع.
قال الحافظ في الفتح 9/4: (فيمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر وهو أنه بعث على رأس الأربعين، فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان).
وأول ما أَنزل الله تعالى عليه الخمس الآيات الأولى من سورة اقرأ، قال الله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
فعن عَائِشَةَ i قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: أَقْرَأْ، فَقُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ 2 ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ 3 ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ 4 عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ 5﴾ ... رواه البخاري 6982، ومسلم 160.
وأما ما رواه عن أبي سَلَمَةَ قال: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ؟ فَقَالَ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ﴾ ... رواه البخاري 4924، ومسلم 161.
فأجيب عنه بأن سورة المدثر هي أول ما نزل على النبي ﷺ بعد فترة الوحي، ويدل لذلك ما جاء في روايةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ k، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: « فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ﴾ إِلَى ﴿وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ﴾. رواه البخاري 4925، ومسلم 161، زاد مسلم (ثم تتابع الوحي).
(فجئثت) أي فزعت ورعبت.
ويمكن أن يحمل قول جابر k على أن ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ﴾ هي أول ما نزل للرسالة، أما أول ما نزل للنبوة فهي ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ﴾.
24 - ثُمَّ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ عَلَّمَهْ *** جِبْرِيلُ وَهْيَ رَكْعَتَانِ مُحْكَمَةْ
أي ثم بعد نزول الوحي عليه علم جبريلُ عليه السلام النبيَّ ﷺ الوضوء والصلاة.
قال ابن بطال في شرحه على البخاري 1/469: (معلوم عند جميع أهل السير أن الصلاة فرضت بمكة، والغسل من الجنابة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة، ونزلت آية الوضوء، ليكون فرضها التقدم متلواً في التنزيل).
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ k عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاهُ فِي أَوَّلِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ» رواه الإمام أحمد 17480، وانظر الصحيحة 841.
وعن ابن عباس k قال: إِن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجْر، فتعاقدوا باللات والعُزَّى ومناةَ الثالثة الأخرى ونائلةَ وإساف: لو قَدْ رأيَنا محمداً لقد قمنا إِليه قيامَ رجلٍ واحد فَلم نفارقْه حتى نقتلَه، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي، حتى دخلت على رسول الله ﷺ، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوْكَ لقد قاموا إِليك فقتلوكَ، فليس منهم رجل إِلاَّ قد عَرَف نصيبَه من دمك، فقال: «يا بُنَيَّة، أَرِيني وَضُوءاً»، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخَفَضوا أبصارَهم، وسقطت أذقانهُم في صدورهم، وعَقِرُوا في مجالسهم، فلم يرفعوا إِليه بصراً، ولم يَقمْ إِليه منهم رجل، فأقبل رسول الله ﷺ حتِىِ قام على رؤوسهم، فأخذ قبضةً من التراب، فقال: «شاهَتِ الوجوه»، ثم حصبَهم بها، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاةٌ إلا قتِل يومَ بدرٍ كافراً. رواه الإمام أحمد 2762، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
قال ابن رجب في فتح الباري 2/304: (والأحاديث الدالة على أن النبي ﷺ كان يصلي بمكة قبل الإسراء كثيرة).
وأول ما أنزل عليه سورة: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾ وفي آخرها: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ﴾ إلى قوله: ﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾.
وقد نزلت هذه الآيات بسبب قول أبي جهل: لئن رأيت محمدا ساجدا عند البيت لأطأن على عنقه.
فصلاته ﷺ قبل الإسراء ثابتة، لكن اختلف أهل العلم في صفة الصلاة قبل الإسراء، فقيل: ركعتان ركعتان، وقيل غير ذلك.
ثم فرضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج.
والحمد لله رب العالمين.