التعليق على حلية طالب العلم
برنامج دليل
المجلس الأول 17/5/1446هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليما كثيرا.
أما بعد فإني أحمد الله -عز وجل- وأشكره على ما يسَّر من إتمام المستوى الأول من هذا البرنامج: برنامج دليل للتأصيل العلمي، وبحمد الله -جل وعلا- قد أتمَّ الطلاب والطالبات -وعددهم ثلاثة وأربعون- قد أتموا حفظ ثلاثة متون، وهي القواعد الأربع وثلاثة الأصول وأركان الصلاة وشروطها وواجباتها، كلها للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- واختبروا في هذه المتون الثلاثة، واجتازوا الاختبار بتوفيق الله -جل وعلا-.
واليوم في هذا المستوى الثاني نبتدئ بمدارسة كتاب: حلية طالب العلم، للشيخ العلامة بكر أبو زيد -رحمه الله تعالى-، وسيكون إن شاء الله تعالى هذا الكتاب في أربعة مجالس، في كل مجلس يُقرَأ ما يُقارِب رُبع هذه الرسالة، مع التعليق المُختصر عليها، وذلك لوضوح كلامه -رحمه الله-.
ثم بعد ذلك نأخذ الكتاب الثاني وهو الأربعون النووية للنووي -رحمه الله- مع زيادات ابن رجب رحمه الله تعالى، فالمجموع خمسون حديثا، ربما ننجزه -إن شاء الله تعالى- في ستة مجالس أو سبعة مجالس، وهذه لا بد لطلاب هذا البرنامج من حفظها، وستكون الطريقة كما كانت في السابق، تراجعون ما يؤخذ في كل أسبوع، وتجيبون على الأسئلة ثم الاختبار في نهاية الفصل.
فأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً وأن يكون هذا العلم زلفى لنا للتقرب إلى ربنا -جل وعلا- وأن يكون سبباً لدخول جنته والنجاة من ناره.
وهذا الكتاب الذي بين أيديكم: حلية طالب العلم للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله-.
الشيخ بكر وُلد سنة ١٣٦٤ للهجرة، وأخذ العلم عن أكابر العلماء في زمانه، ومن أبرز مشايخه الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، المتوفى سنة ١٣٩٣ للهجرة، صاحب كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.
وممن مشايخه أيضا سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-.
والشيخ بكر تولى القضاء، ثم بعد ذلك انتقل إلى وزارة العدل وكيلا لها، وتولى رئاسة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، ثم عُيِّن بعد ذلك عُضوًا في هيئة كبار العلماء وعُضوًا في اللجنة الدائمة للإفتاء، وله المؤلفات النافعة المفيدة.
توفي -رحمه الله- سنة ١٤٢٩ للهجرة.
هذه الرسالة تتعلق بآداب طالب العلم، فهي مهمة لمن يريد أن يسلك الطريق الصحيح في طلب العلم وأن ينتفع بالعلم الذي يأخذه، وكما ذكرت قبل قليل سوف تكون القراءة من هذه الرسالة والتعليق المختصر عليها، وإن ورد إشكال في أثناء هذه الرسالة فيمكن أن يدون وفي آخر الدرس إن شاء الله يفتح المجال للأسئلة.
الطالب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المسلمين.
يقول المؤلف -رحمه الله-:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد، فأقيّد معالم هذه الحلية المباركة عام 1408 هـ، والمسلمون – ولله الحمد – يعايشون يقظة علمية تتهلل لها سبحات الوجوه، ولا تزال تنشط متقدمة إلى الترقي والنضوج في أفئدة شباب الأمة، مدها ودمها المجدد لحياتها، إذ نرى الكتائب الشبابية تترى يتقلبون في أعطاف العلم مثقلين بحمله يعلون منه وينهلون، فلديهم من الطموح، والجامعية، والاطلاع المدهش والغوص على مكنونات المسائل، ما يفرح به المسلمون نصراً، فسبحان من يحيي ويميت قلوباً.
لكن، لا بد لهذه النواة المباركة من السقي والتعهد في مساراتها كافة، نشراً للضمانات التي تكف عنها العثار والتعصب في مثاني الطلب والعمل من تموجات فكرية، وعقدية، وسلوكية، وطائفية، وحزبية...
وقد جعلت طوع أيديهم رسالة في التعالُم تكشف المندسين بينهم خشية أن يردوهم، ويضيعوا عليهم أمرهم، ويبعثروا مسيرتهم في الطلب، فيستلوهم وهم لا يشعرون.
واليوم أخوك يشد عضدك، ويأخذ بيدك، فاجعل طوع بنانك رسالة تحمل " الصفة الكاشفة" لحليتك، فها أنا ذا أجعل سن القلم على القرطاس، فاتل ما أرقم لك أنعم الله بك عينا:
لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلي بمحاسن الأدب، ومكارم الأخلاق، والهدى الحسن، والسمت الصالح: سمة أهل الإسلام، وأن العلم - وهو أثمن درة في تاج الشرع المطهر - لا يصل إليه إلا المتحلي بآدابه، المتخلي عن آفاته، ولهذا عناها العلماء بالبحث والتنبيه، وأفردوها بالتأليف، إما على وجه العموم لكافة العلوم، أو على وجه الخصوص، كآداب حملة القرآن الكريم، وآداب المحدّث، وآداب المفتي، وآداب القاضي، وآداب المحتسب، وهكذا...
والشأن هنا في الآداب العامة لمن يسلك طريق التعلم الشرعي.
وقد كان العلماء السابقون يلقنون الطلاب في حلق العلم آداب الطلب، وأدركت خبر آخر العقد في ذلك في بعض حلقات العلم في المسجد النبوي الشريف، إذ كان بعض المدرسين فيه، يدرس طلابه كتاب الزرنوجي المتوفى سنة 593 للهجرة -رحمه الله تعالى-، المسمى: " تعليم المتعلم طريق التعلم".
فعسى أن يصل أهل العلم هذا الحبل الوثيق الهادي لأقوم طريق، فيدرج تدريس هذه المادة في فواتح دروس المساجد، وفي مواد الدراسة النظامية، وأرجو أن يكون هذا التقييد فاتحة خير في التنبيه على إحياء هذه المادة التي تهذب الطالب، وتسلك به الجادة في آداب الطلب وحمل العلم، وأدبه مع نفسه، ومع مدرسه، ودرسه، وزميله، وكتابه، وثمرة علمه، وهكذا في مراحل حياته.
فإليك حلية تحوي مجموعة آداب، نواقضها مجموعة آفات، فإذا فات أدب منها، اقترف المفرط آفة من آفاته، فمقل ومستكثر، وكما أن هذه الآداب درجات صاعدة إلى السنة فالوجوب، فنواقضها دركات هابطة إلى الكراهة فالتحريم.
ومنها ما يشمل عموم الخلق من كل مكلف، ومنها ما يختص به طالب العلم، ومنها ما يدرك بضرورة الشرع، ومنها ما يعرف بالطبع، ويدل عليه عموم الشرع، من الحمل على محاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، ولم أعن الاستيفاء، لكن سياقتها تجرى على سبيل ضرب المثال، قاصداً الدلالة على المهمات، فإذا وافقت نفساً صالحة لها، تناولت هذا القليل فكثّرَته، وهذا المجمل ففصّلته، ومن أخذ بها، انتفع ونفع، وهي بدورها مأخوذة من أدب مَن بارك الله في علمهم، وصاروا أئمة يهتدى بهم، جمعنا الله بهم في جنته، آمين).
في هذه المقدمة ذكر الشيخ -رحمه الله- أن له كتابا، وهو كتاب التعالُم، وهذا الكتاب يتعلق بمن يدعي أنه من أهل العلم وليس من أهل العلم، فهو كتاب مفيد لطالب العلم يراجَع ويُقرأ ويستفاد منه.
أيضاً ذكر الشيخ -رحمه الله- أن هذه الحلية اشتملت على جملة من الآداب ويقابلها آفات، فمن ترك أدبًا وقع في آفة، وهذه الآداب بعضها يكون مستحبًا وبعضها يكون واجبًا، فإذا ترك المستحب وقع في ما يخالفه وقد يكون مكروهًا، وإذا ترك الواجب وقع فيما هو محرم كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وأيضا هذه الآداب منها ما يعم كل مسلم كما سيذكر إن شاء الله تعالى من أدب الرفق والأناة والتثبت، هذه من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم، ومنها آداب يختص بها طالب العلم، كأدبه مع مشايخه وأقرانه وطريق التدرج في العلم ونحو ذلك.
وذكر الشيخ -رحمه الله- أن هذه الحلية مستفادة من كتب أهل العلم في آداب الطلب.
وذكر في الحاشية جملة من كتب آداب طالب العلم، فما تيسر لك أن تقرأه من هذه الكتب فإنك تستفيد وتبدأ بما كان منها مختصرًا ثم تترقَّى إلى ما هو أوسع، وذكر في المتن كتاب الزرنوجي الحنفي، وهو تعليم المتعلم طريق التعلم، وهو كتاب مطبوع ومفيد.
الطالب:
(الفصل الأول
آداب الطالب في نفسه
العلم عبادة:
أصل الأصول في هذه "الحلية" بل ولكل أمر مطلوب علمك بأن العلم عبادة، قال بعض العلماء: ”العلم صلاة السر، وعبادة القلب”.
وعليه، فإن شرط العبادة إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، لقوله: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ﴾ [البينة: 5] الآية.
وفي الحديث الفرد المشهور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات» الحديث.
فإن فقد العلم إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، ولا شيء يحطم العلم مثل: الرياء؛ رياء شرك، أو رياء إخلاص، ومثل التسميع؛ بأن يقول مسمعاً: علمت وحفظت.
وعليه؛ فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
وللعلماء في هذا أقوال ومواقف بينت طرفاً منها في المبحث الأول من كتاب "التعالم"، ويزاد عليه نهى العلماء عن "الطبوليات"، وهي المسائل التي يراد بها الشهرة.
وقد قيل: "زلة العالم مضروب لها الطبل".
وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال: “كنت أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة، سلبته”.
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون – مع بذل الجهد في الإخلاص – شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.
ويؤثر عن سفيان بن سعيد الثوري -رحمه الله تعالى- قوله: "ما عالجت شيئاً أشد على من نيتي”.
وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده ”يا أبي، مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بنى ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة، وفقك الله لرشدك، آمين).
هذا الأدب الأول، قال: العلم عبادة.
ولا شك أن العلم عبادة؛ لأن الله -عز وجل- أمرنا بالعلم ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أمرنا به أيضا، وإذا كان مأمورا به فقد تقدم معنا أنه محبوب إلى الله، وما كان محبوبا إلى الله فإنه عبادة، فإن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وتكلم الشيخ -رحمه الله- عن إخلاص هذه العبادة لله سبحانه، ولا شك أن هذا أمر عظيم ينبغي أن يعتني به طالب العلم، فإن أول مَن تسعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، ومنهم رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرَفها، قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قيل له كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم سُحب على وجهه فأُلقي في النار.
نعوذ بالله، فهذا أمرٌ عظيم ينبغي أن يعتني به طالب العلم وأن يتابع نيته وأن يخلص عمله لله -عز وجل-.
وقد يقول قائل: كيف يكون الإخلاص لله -عز وجل- في طلب العلم؟
فيقال: إن هذا يكون بأمورٍ ينويها الطالب، أولها: أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن نفسه.
وأن يرفع الجهل عن غيره، لأنه إذا تعلم فهو مأمور بأن يُعلم غيره وأن يدعو غيره إلى هذا العلم،
وينوي امتثال أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإنهما أمرا بالعلم.
وينوي أيضا حفظ الشريعة، فإن الشريعة إنما تُحفظ بالعلم.
وينوي كذلك الذب عن الشريعة والدفاع عنها والرد على المخالفين إذا تأهل لذلك، فإن هذا لا يكون إلا بعلم.
فالمقصود أنه ينوي هذه النية الصالحة وبذلك يكون مخلصا في طلبه للعلم.
ذكر الشيخ -رحمه الله- أيضا نهي العلماء عن الطبوليات.
المراد بالطبوليات المسائل التي يراد بها الشهرة ولفت الأنظار إلى هذا المتكلم، فهذا مما ينهى عنه العلماء.
ذكر أيضا أثر سفيان -رحمه الله- أنه قال: كنت أعطيت فهم القرآن فلما قبلت الصرّة سلبته.
الصرة يريد بها العطية من السلطان، والعطية من السلطان فيها تفصيل، إن كان السلطان يعطي العالم لأجل أن يفتيه بما يريد ولو كان ذلك مخالفاً لشرع الله -عز وجل- فلا يجوز له أن يأخذ شيئاً ولا يجوز له أن يجعل دينه مطيةً للدنيا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَطِيَّةُ السُّلطَانَ لَا لِأَجْلِ ذَلِك فَيُجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، والدليل على هذا ما روى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن عمر، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: أَعْطِهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» قَالَ سَالِمٌ: «فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ» رواه البخاري (7164) ومسلم (1045).
وذَكر الشيخ أيضا الأثر عن عمر بن ذر -رحمه الله- أنه قال لوالده: يا أبي ما لك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بني ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
هذا ونظائره من كلام السلف يُحمل على حث الناس على إخلاص النية لله -عز وجل-، ولا يُظن بالسلف أن الواحد منهم يقوله امتداحا لنفسه أو رياء أو نحو ذلك، فما يأتي عن الصحابة -رضي الله عنهم- وما يأتي عن التابعين وأئمة الدين من ثنائهم على أنفسهم أو إخبارهم ببعض أعمالهم الصالحة يُحمل على أحسن المحامل، ومن المعلوم أن الإخبار بعمل الإنسان العمل الصالح إن كان يترتب عليه مصلحة فإنه سائغ، بل قد يكون مطلوبا، ودليله: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ، وَكَانَ فِي الدَّارِ مَدْخَلٌ، مَنْ دَخَلَهُ سَمِعَ كَلَامَ مَنْ عَلَى الْبَلَاطِ، فَدَخَلَهُ عُثْمَانُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ لَوْنُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونَنِي بِالْقَتْلِ آنِفًا، قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ»، فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا فِي إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «عُثْمَانُ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَرَكَا الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» رواه أبو داود 4502، وصححه الألباني.
فعثمان رضي الله عنه أثنى على نفسه بقوله: والله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام. وقال: ولا قتلت نفسا. فهذا نوع من الثناء من عثمان -رضي الله تعالى عنه- على نفسه، لكن متى؟ عند وجود المقتضي، فثناء الإنسان على نفسه عند وجود المقتضي هذا سائغ.
الطالب:
(الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة: محبة الله تعالى ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتحقيقها بتمحض المتابعة وقفو الأثر للمعصوم، قال الله تعالى ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ﴾ [آل عمران: 31]
وبالجملة فهذا أصل هذه الحلية، ويقعان منها موقع التاج من الحلة، فيا أيها الطلاب ها أنتم هؤلاء تربعتم للدرس، وتعلقتم بأنفس علق، طلب العلم، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، فهي العدة، وهي مهبط الفضائل ومتنزل المحامد وهي مبعث القوة ومعراج السمو والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن، فلا تفرطوا).
هذه الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي محبة الله -جل وعلا- ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لكن ينبغي أن يُعلم أن محبة الله -جل وعلا- ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليست دعوى، وإنما لا بدَّ فيها من ضابط يعرفه المرء، الضابط فيها أن تقدِّم ما يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما تحبه نفسك وما يحبه ولدك وما يحبه أهلك والناس أجمعون، كما جاء هذا في الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"
وذكر أيضا الوصية بتقوى الله عز وجل، ومَن لزم تقوى الله تعالى جعل الله -عز وجل- له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، ولذا قال الله -عز وجل- في أول سورة البقرة ﴿الٓمٓ 1 ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدى لِّلۡمُتَّقِينَ 2﴾ [البقرة: 1-2]
فمن كان من أهل التقوى هداه الله -عز وجل- ووفقه.
ويقول الله -عز وجل- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانا﴾ [الأنفال: 29]
وفي طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/202 قيل للإمام أحمد من نسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب، مثله يوفق لإصابة الحق.
وَفي سير أعلام النبلاء 12/323: قَالَ المَرُّوْذِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ يَقُوْلُ: عَبْدُ الوَهَّابِ الوَرَّاقُ: رَجُلٌ صَالِحٌ، مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لإِصَابَةِ الحَقِّ.
فإذا اجتمع في المرء علم وتقوى حصل له الخير العظيم ووفقه الله -عز وجل- في فتاويه وفي تأليفه وفي تعليمه.
الطالب:
(كن على جادة السلف الصالح:
كن سلفياً على الجادة، طريق السلف الصالح من الصحابة -رضى الله عنهم- فمَن بعدهم ممن قفا أثرهم في جميع أبواب الدين، من التوحيد، والعبادات، ونحوها، متميزاً بالتزام آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال، والمراء، والخوض في علم الكلام، وما يجلب الآثام، ويصد عن الشرع.
قال الذهبي -رحمه الله تعالى-: وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام.
قلت: لم يدخل الرجل أبدا في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً” اهـ.
وهؤلاء هم أهل السنة والجماعة المتبعون آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
“وأهل السنة: نقاوة المسلمين، وهم خير الناس للناس” اهـ.
فالزم السبيل ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾ [الأنعام: 153]).
هذا فيه الحث على لزوم جادة السلف الصالح.
والسلف الصالح هم أصحاب القرون المفضلة، كما جاء في الحديث «خير الناس قرنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
ولزوم طريقة السلف من جهة فهم الكتاب والسنة، فنحن نفهم القرآن الكريم ونفهم سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضوء فهم سلف الأمة، فأي فهم للقرآن أو فهم لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخالِفُ فَهْمَ السَّلَفْ فإنَّهُ مُطّرَح، ولهذا دخلَت البدع عند المتأخرين من هذا الباب، ربما فهموا من الكتاب والسنة شيئاً من العبادات لم تُعرف عند سلف الأمة، ومن أمثلة ذلك: المولد، فقد احتج له بعض المتأخرين بأدلة من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن هل هذا الفهم، من السنة فهِمه السلف؟ نقول لا.
كيف عرفنا أنه لم يفهمه السلف؟ لأن المولد لم يُعرف إلا في منتصف القرن الرابع، إذن لا بد من العناية بفهم سلف الأمة.
وفي كلامه -رحمه الله- حث على اجتناب طريقة أهل البدع وطريقة أهل الكلام ولزوم ما عليه السلف الصالح من العناية بالنصوص الشرعية وتعظيمها وتقديمها على العقل، لأن بعض أهل البدع يغلون في العقل، فإذا تعارض مع النقل قدموا العقل على النقل وهذه جادة باطلة ليس عليها سلف الأمة.
الطالب:
(ملازمة خشية الله تعالى:
التحلي بعمارة الظاهر والباطن بخشية الله تعالى محافظة على شعار الإسلام وإظهار السُنة ونشرها بالعمل بها والدعوة إليها دالا على الله بعلمك وسمتك وعملك، متحليا بالرجولة والمساهلة والسمت الصالح، ومِلاك ذلك: خشية الله تعالى، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: أصل العلم خشية الله تعالى، فالزم خشية الله في السر والعلن، فإن خير البرية من يخشى الله تعالى، وما يخشاه إلا عالم.
ولا يغب عن بالك أن العالم لا يعد عالمًا إلا إذا كان عاملًا، ولا يعمل العالم بعلمه إلا إذا لزمته خشية الله.
وأسند الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- بسند فيه لطيفة إسنادية برواية آباء تسعة فقال:
أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن زيد بن عُكينة بن عبد الله التميمي من حفظه قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل"
ا.هـ كلامه -رضي الله عنه-.
وهذا اللفظ بنحوه مروي عن سفيان الثوري -رحمه الله-).
ملازمة خشية الله -عز وجل- هذا أمر مهم لطالب العلم، ولهذا قال بعض السلف: العلم خشية الله.
فإذا كان العلم لا يدعوك إلى خشية الله والخوف منه والعمل بما تعلمت فراجع نفسك وانتبه قد يوجد عندك أمر خفي من نية فاسدة أو حب محمدة أو نحو ذلك.
فالسلف -رحمهم الله- حثوا على أن يعمل العالم بعلمه، كما في هذا الأثر عن علي -رضي الله عنه- "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل".
وأنت إذا تعلمت العلم ولم تعمل به وأعني بذلك العلم الذي يترتب عليه عمل، مثل ما مر معنا في أركان الصلاة وشروطها وواجباتها، هذا علم يترتب عليه عمل، فإذا لم تعمل به فإنه يذهب ويزول، بخلاف العلم الذي تعمل به، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: ما كتبت حديثا إلا وعملت به، حتى حديث: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى الحجام دينارا" قال: فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارا. فطالب العلم إذا عمل بالحديث ثبت في قلبه، فحريُّ بطالب العلم أن يجتهد أن يتعلم ليعمل.
وإذا كان العلم لا يتعلق به عمل وإنما يتعلق به اعتقاد فكذلك يعتقد ما تعلمه بحيث ينتفع بهذا العلم الذي تعلمه، حتى لا يكون العلم وبالاً عليه ويحاسب عليه يوم القيامة.
الطالب:
(دوام المراقبة:
التحلي بدوام مراقبة لله تعالى في السر والعلن سائرا إلى ربك بين الخوف والرجاء، فإنهما للمسلم كالجناحين للطائر، فأقبل على الله بكليتك وليمتلئ قلبك بمحبته ولسانك بذكره والاستبشار والفرح والسرور بأحكامه وحِكمه سبحانه).
المراقبة يدل لها حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فأجابه -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وعرفنا أن الإحسان له كم مرتبة؟ الإحسان ركن واحد، لكن كم مرتبة؟ له مرتبتان، المرتبة الأولى في قوله في الجملة الأولى: "أن تعبد الله كأنك تراه" هذه تسمى مرتبة المشاهدة، تعبد الله كأنك تراه.
والمرتبة الثانية أقل منها وهي مرتبة المراقبة، وهي في قوله -عليه الصلاة والسلام- «فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
ولا شك أن من يعبد الله على الإحسان يدعوه هذا إلى إحسان العمل ظاهرا وباطنا .
الطالب:
(خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء:
تحلّ بآداب النفس من العفاف والحلم والصبر والتواضع للحق، وسكون الطائر من الوقار والرزانة وخفض الجناح متحملا ذل التعلم لعزة العلم، ذليلا للحق.
وعليه، فاحذر نواقض هذه الآداب فإنها مع الإثم تقيم على نفسك شاهدا على أن في العقل علة، وعلى حرمان من العلم والعمل به، فإياك والخيلاء فإنه نفاق وكبرياء، وقد بلغ من شدة التوقي منه عند السلف مبلغا، ومن دقيقِه ما أسنده الذهبي في ترجمة عمر بن الأسود العنسي المتوفى في خلافة عبد الملك بن مروان -رحمه الله تعالى- أنه كان إذا خرج من المسجد قبض بيمينه على شماله، سئل عن ذلك فقال: مخافة أن تنافق يدي.
قلت: يمسكها خوفا من أن يخطر بيده في مشيته فإن ذلك من الخيلاء.
انتهى كلامه -رحمه الله-.
وهذا العرض عرض للعنسي -رحمه الله-.
واحذر داء الجبابرة، الكبر، فإن الكبر والحرص والحسد أول ذنبٍ عصي الله به، فتطاولك على معلمك كبرياء، واستنكافك عما يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وتقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر وعنوان حرمان.
العلم حربٌ للفتى المتعالي •• كالسيل حربٌ للمكان العالي
فالزم رحمك الله اللصوق إلى الأرض والإزراء على نفسك وهضمها ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له المذهبة لهيبته المطفئة لنوره.
وكلما ازددت علما أو رفعة في ولاية فالزم ذلك تُحرز سعادة عظمى ومقاما يغبطك عليه الناس.
وعن عبد الله ابن الإمام الحجة الرَّاوية في الكتب الستة بكر بن عبد الله المُزني -رحمه الله تعالى- قال: سمعت إنسانا يحدث عن أبي أنه كان واقفا بعرفة فرقّ فقال: لولا أني فيهم لقلت قد غُفر لهم.
خرّجه الذهبي ثم قال: قلت كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها.
انتهى كلامه -رحمه الله-).
خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء هذا داخل في العمل بالعلم كما تقدم، فإنه يتعلم في نصوص الكتاب والسنة ما يدعوه إلى التواضع، وألا يكون متكبرا فإذا عمل بذلك انتفع، وإذا ترك العمل بهذا العلم حصل له ما يناقضه ويقابله، وهو الخيلاء والكبرياء عياذا بالله، وهذه من كبائر الذنوب، يعني الإخلال بالتواضع والوقوع في الكبرياء هذا يوقع طالب العلم في كبيرة من كبائر الذنوب عياذا بالله.
الطالب:
(القناعة والزهادة:
التحلي بالقناعة والزهادة، وحقيقة الزهد: "الزهد بالحرام، والابتعاد عن حماه، بالكف عن المشتبهات وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس”.
ويؤثر عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-:
“لو أوصى إنسان لأعقل الناس، صُرف إلى الزهاد”.
وعن محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله تعالى- لما قيل له: ألا تصنف كتابا في الزهد؟ قال: “قد صنفت كتاباً في البيوع”
يعنى: ”الزاهد من يتحرز عن الشبهات، والمكروهات، في التجارات، وكذلك في سائر المعاملات والحرف” ا هـ.
وعليه، فليكن معتدلاً في معاشه بما لا يشينه، بحيث يصون نفسه ومن يعول، ولا يرد مواطن الذلة والهون.
وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطى المتوفى في /139هـ -رحمه الله تعالى- متقللاً من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة الورقية، وقد شافهني بقوله: “لقد جئت من البلاد – شنقيط – ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد، وهو القناعة، ولو أردت المناصب، لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية”.
فرحمه الله تعالى رحمه واسعة آمين).
القناعة: أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله -عز وجل- وهذه خصلة عظيمة ولهذا جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافَا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتاه".
وقوله: الزهادة، الزهد هو أن يترك ما لا ينفعه في الآخرة، وأما الورع فهو أن يترك ما يضره في الآخرة،
أيهما أعلى مقاما الورع أو الزهد؟
الزهد أعلى مقاما من الورع، فالورع: أن يترك الحرام ويفعل الواجب. أما الزهد فزياد على ذلك يترك بعض الأمور المباحة التي لا ينتفع بها في الآخرة، يعني بعض اللهو المباح وإشغال نفسه في أشياء مباحة، هذه لا تنفعه في الآخرة، فكونه يتركها ويشتغل بشيء ينفع في الآخرة نقول هذا زهد.
الطالب:
(التحلي برونق العلم:
حُسن السمت والهَدي الصالح، من دوام السكينة والوقار والخشوع والتواضع ولزوم المحجة بعمارة الظاهر والباطن والتخلي عن نواقضها.
وعن ابن سرين -رحمه الله تعالى- قال: كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلم.
وعن رجاء بن حيوة -رحمه الله تعالى- أنه قال لرجل: حدثنا ولا تحدثنا عن متماوت ولا طعان.
رواهما الخطيب في الجامع وقال: يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذُّل في المجالس بالسخف والضحك والقهقهة وكثرة التنادر وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفه والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر فإنه مذموم.
وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر ويزيل المروءة.
انتهى كلامه -رحمه الله-.
وقد قيل: من أكثر من شيء عُرف به.
فتجنب هاتيك السقطات في مجالستك ومحادثتك.
وبعض من يجهل يظن أن التبسط في هذا أريحية.
وعن الأحنف بن قيس قال: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه.
وفي كتاب المحدَّث الملهَم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في القضاء: ومن تزين بما ليس فيه: شانه الله.
وانظر شرحه لابن القيم -رحمه الله تعالى-.)
يعني -رحمه الله- أن طالب العلم يتحلى بسمت أهل العلم وهدي أهل العلم، ويتجنب المجالس التي لا تليق بأهل العلم، ومن ذلك ما ذكر من المزاح والضحك والسخف ونحوها.
وهنا اُنبّه إلى أن المزاح ثبت في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- "إني لأمزح ولا أقول إلا حقا".
ولكن العلماء يقولون: إن المزاح يجوز بثلاثة شروط، إذا اختلّ منها شرط أصبح المزاح محرمًا، وهذه الشروط أولها: أن يكون المزاح بحق لا بباطل، كما لو كان المزاح بكذب كما يحصل من كثير من الناس اليوم، ودليل هذا الشرط الحديث المتقدم "إني لأمزح ولا أقول إلا حقا".
وتسمعون بالنكت، يقولون فلان عنده نكتة، ما هي النكتة؟ كلام مختلق أم لا؟ نهم هو كذب، وفي الحديث: "ويل للذي يحدِّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ثم ويل له".
وإذا ورد في الحديث لفظ: ويل له. هذا يدل على أن الفعل من كبائر الذنوب، ففيه وعيد خاص، والناس تساهلوا في هذا.
والشرط الثاني: أن يكون المزاح يسيرا لا كثيرا ويدل له قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب". فإذا تأملت فيما ورد من الأحاديث في مزاحه صلى الله عليه وسلم لوجدتها أحاديث قليلة، فمزاحه -عليه الصلاة والسلام- كان قليلاً، كذلك إذا أردت أن تمزح يا طالب العلم فليكن مزاحك قليلاً.
الشرط الثالث: ألا يغضب الممزوح معه، فإن كان من يُمزح معه يغضب فلا يجوز، لأن أذية المسلم محرمة ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنا وَإِثۡما مُّبِينا﴾ [الأحزاب: 58]
إذا توفرت هذه الشروط الثلاثة جاز المزاح وإن تخلف منها شرط واحد أو أكثر فهو محرم.
الطالب:
(تحلَّ بالمروءة:
التحلِّي بالمروءة وما يحمل إليها من مكارم الأخلاق وطلاقة الوجه وإفشاء السلام وتحمل الناس والأنفة من غير كبرياء والعزة في غير جبروت والشهامة في غير عصبية والحمية في غير جاهلية.
وعليه فتنكّب خوارم المروءة في طبع أو قول أو عمل، من حرفة مهينة أو خلة رديئة كالعجب والرياء والبطر والخيلاء واحتقار الآخرين وغشيان مواطن الريب).
المروءة تعريفها: هي فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه.
وأولى الناس بأن يكونوا من أهل المروءة هم طلاب العلم، وطالب العلم إذا عمل بما تعلمه من العلم في الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- فلا شك أنه سوف يكون من أهل المروءة.
الطالب:
(التمتع بخصال الرجولة:
تمتع بخصال الرجولة من الشجاعة وشدة البأس في الحق ومكارم الأخلاق والبذل في سبيل المعروف حتى تنقطع دونك آمال الرجال.
وعليه، فاحذر نواقضها من ضعف الجأش وقلة الصبر وضعف المكارم، فإنها تهضم العلم وتقطع اللسان عن قولة الحق، وتأخذ بناصيته إلى خصومه في حالة تلفح بسمومها في وجوه الصالحين من عباده).
أنبّه إلى أن هذا الكتاب وأمثاله من كتب آداب طالب العلم يخاطب به الرَّجُلُ والمرأة ممن يطلُب العلم؛ لأن هذا هو الأصل فيما يرد في الشرع أن يُخاطَب به الرَّجُلُ والمرأة على السَّواء، إلا أن يأتي دليلٌ يخص الرَّجُل بحكمٍ دون المرأة أو دليلٌ يخص المرأة بحكمٍ دون الرَّجُل، وإلا فالأصل تساوى الرِّجال والنِّساء في الأحكام.
الطالب:
(هجر الترفّه:
لا تسترسل في التنَعُّم والرفاهية، فإن البذاذة من الإيمان، وخذ بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في كتابه المشهور، وفيه: وإياكم التنعم وزيّ العجم وتمَعدَدوا واخشوشنوا.
وعليه، فازورَّ عن زيف الحضارة فإنه يؤنِّث الطِّباع ويرخي الأعصاب ويقيُّدك بخيط الأوهام، ويصل المُجدُّون لغاياتهم وأنت لم تبرح مكانك مشغولٌ بالتأنُّق في ملبسك، وإن كان منها شياتٌ ليست محرما ولا مكروها، لكن ليست سمتًا صالحًا.
والحلية في ظاهر اللباس عنوانٌ على انتماء الشخص، بل تحديدٌ له، وهل اللباس إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الذات فكن حذرًا في لباسك لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء والتكوين والذوق، ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن.
والناس يُصنِّفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من الرصانة والتعقل، أو التمشيخ والرهبنة، أو التصابي وحب الظهور، فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالا لقائل ولا لمزا للامز، وإذا تلاقى ملبسك وكيفية لبسك بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم الشرعي: كان أدعى لتعظيمك والانتفاع بعلمك، بل بحُسن نيتك يكون قربة، إنه وسيلة إلى هداية الخلق للحق.
وفي المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أحب إليّ أن أنظر القارئ أبيض الثياب ليعظم في نفوس الناس فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.
والناس كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
فإياك ثم إياك من لباس التصابي.
أما اللباس الإفرنجي فغير خاف عليك حكمه.
وليس معنى هذا أن تأتي بلباس مشوّه، لكنه الاقتصاد في اللباس برسم الشرع، تحفّه بالسمت الصالح والهدي الحسن، تطلب دلائل ذلك في كتب السنة والرقاق، ولا سيما في الجامع للخطيب، ولا تستنكر هذه الإشارة، فما زال أهل العلم ينبهون على هذا في كتب الرقاق والآداب واللباس، والله أعلم).
قوله -رحمه الله-: هجر الترفُّه، ذكر تحته حديث "البذاذة من الإيمان".
هذا الحديث خرجه أبو داود في سننه، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَسْمَعُونَ، أَلَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الْإِيمَانِ، إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الْإِيمَانِ» يَعْنِي التَّقَحُّلَ. رواه أبو داود 4161، وصححه الألباني.
ومعنى الحديث "إن البذاذة من الإيمان" المراد ترك المبالغة في التأنق في الملبس ونحوه، وليس المقصود بالحديث أن الإنسان يلبس ثياباً متسخة أو بهيئة معيبة أو نحو ذلك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذَرَّةٍ من كِبرٍ» فقال رجلٌ يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة فقال -عليه الصلاة والسلام- «إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبرُ بطرُ الحق - يعني رد الحق - وغمطُ الناس - أي احتقارهم -».
فاللباس الحسن ليس مقصودا بكلام الشيخ هنا ولا بالحديث الذي تقدم، إذن المقصود بالحديث "إن البذاذة من الإيمان" أي ترك المبالغة في التأنق في اللباس كما يحصل من بعض الناس، هذا ما يليق بالمؤمن ولا يليق بطالب العلم أيضا، وإنما يلبس كما قال الشيخ لباسا حسنا لا يعاب به، لكن من غير تكلف ومن غير تأنق زائد عن المعتاد.
ثم إن الشيخ -رحمه الله- ذكر ما يتعلق باللباس الإفرنجي يريد بذلك لباس الكفار، وهذه مسألة تتعلق بالتشبه، وقد روى الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «من تشبه بقوم فهو منهم»
وهذا حديث إسناده جيد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
وقوله: (بقوم) كلمة (قوم) نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم، فالحديث يعم الكفار والمشركين والمبتدعة والفساق من المسلمين، كل هؤلاء أنت منهي عن التشبه بهم.
والتشبه بالكفار في اللباس فيه تفصيل، إن كان لباس الكفار يختص بهم ولا يلبسه المسلمون فيحرم على المسلمين أن يلبسوا لباس الكفار هذا، ويكون هذا داخلا في التشبه.
وأما إذا كان لباس الكفار لا يختص بهم بل يلبسه الكفار ويلبسه المسلمون فهذا لا يكون من لبسه متشبها بالكفار.
من أمثلة ذلك الآن: لبس البنطال، في أزمنة ماضية ما كان يلبسه المسلمون، المسلمون يعرفون السراويل لا يعرفون البنطال، لكن انتشر الآن البنطال يلبسه المسلمون والكفار، فأصبح ليس خاصا بهم، فإذا لبس المسلم بنطالا لا يقال في حقه إنه قد تشبه، ولكن قد يأتي التحريم من وجه آخر من جهة كونه ضيقا أو كونه من حرير أو كونه مثلا يكشف شيئا من العورة أو كونه فيه إسبال أو نحو ذلك من المحرمات المعروفة الأخرى، لكن لا يرد عليه أن يكون تشبها.
الطالب:
(الإعراض عن مجالس اللغو:
لا تطأ بساطة من يغشون في ناديهم المنكر ويهتكون أستار الأدب متغابيا عن ذلك، فإن فعلت ذلك فإن جنايتك على العلم وأهله عظيمة).
اللغو على قسمين:
لغو ليس محرما، يعني ليس فيه نفع ولا ضر، هذا لغو ينبغي أن يتنزه عن طالب العلم.
ولغو محرم، كأن يكون فيه سباب ونحو ذلك من المحرمات فيحرم على طالب العلم أن يجلس هذه المجالس، قال الله -عز وجل- ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ [القصص: 55]
فلا يليق بطالب العلم أن يجلس في مكان فيه لغو أو فيه منكر، إن كان فيه منكر فحينئذ إن أمكنه أن ينكر المنكر وأن ينصح بالأسلوب المناسب ويزول المنكر فيبقى ويكون قد أدى الواجب في إنكار هذا المنكر وحينئذ لا حرج أن يبقى في هذا المجلس، أما إذا كان لا يمكنه إزالة المنكر، أو أنكر فلم يُسمع منه: فالواجب عليه أن يفارق المكان؛ لقول الله عز وجل:
﴿وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ﴾ [النساء: 140]
فالجلوس في مكان فيه منكر لا يجوز، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر".
وهذا محرم على كل مسلم، ويتأكد في حق طالب العلم؛ لأنه إذا جلس مع أهل المنكر يقولون: جلس معنا الشيخ فلان أو طالب العلم فلان وما أنكر علينا، فيحتجون على باطلهم بعدم إنكار أهل الخير عليهم، فلا يجوز أن يبقى إلا في حال ضرورة أو تعارض مصالح، وهذا قد يكون في أحوال ضيقة، لكن الأصل أن لا يبقى في هذا المكان.
الطالب:
(الإعراض عن الهيشات:
تصوّن من اللغط والهيشات؛ فإن الغلط تحت اللغط، وهذا ينافي أدب الطلب.
ومن لطيف ما يُستحضر هنا ما ذكره صاحب الوسيط في أدباء شنقيط، وعنه في معجم المعاجم:
أنه وقع نزاع بين قبيلتين، فسعت بينهما قبيلة أخرى في الصلح، فتراضوا بحكم الشرع، وحكموا عالما، فاستظهر قتل أربعة من قبيلة بأربعة قتلوا من القبيلة الأخرى، فقال الشيخ باب بن أحمد: مثل هذا لا قصاص فيه، فقال القاضي: إن هذا لا يوجد في كتاب.
فقال: بل لم يخلُ منه كتاب.
فقال القاضي: هذا القاموس، يعني أنه يدخل في عموم كتاب.
فتناول صاحب الترجمة القاموس، وأول ما وقع نظره عليه: والهيشة الفتنة وأمّ حُبين، وليس في الهيشات قوَد، أي في القتيل في الفتنة لا يُدرى قاتله.
فتعجب الناس من مثل هذا الاستحضار في ذلك الموقف الحرج.
انتهى ملخصا).
الهيشات هي رفع الأصوات وكثرة المنازعات والخصومات، وهذا مما لا يليق بطالب العلم.
ثم ذكر الشيخ -رحمه الله- قصة ذكرت في معجم المعاجم، وهو أنه قد وقع نزاع بين قبيلتين وحصل في هذا النزاع قتل، ومن المعلوم أن القتل الذي يحصل في الفتنة ليس فيه قَوَد، أي ليس فيه قصاص.
فحكَّموا عالما بينهم فظهر له أن يُقتل أربعة من قبيلة بأربعة قُتِلوا من قبيلة، فلما بلغ ذلك أحد المشايخ وهو الشيخ باب بن أحمد قال: مثل هذا لا قِصاص فيه.
وهذا هو الحق الذي يذكره العلماء، أن القتال في الفتنة ليس فيه قِصاص.
فقال القاضي: إن هذا الحكم الذي حكمت به أنه لا قصاص هذا لا يوجد في كتاب، فأجابه ذلك العالم فقال: بل هو في كل كتاب، و (كل) من ألفاظ العموم، فأي كتاب كان يوجد فيه هذا الحكم.
فقال له يريد أن يفحمه: هذا القاموس.
القاموس للفيرزآبادي، وهو كتاب في اللغة، كيف يوجد فيه حكم فقهي في هذه المسألة التي تتعلق بالجنايات؟ قد يُستبعد، قال بل فيه، ففتح الكتاب ووجد الكلام على معنى الهيشة في اللغة، فقال: وليس في الهيشات قود. وذلك أن علماء اللغة قد يذكرون بعض الأحكام الفقهية في أثناء كلامهم على بعض المسائل، وهذا موجود في مثل لسان العرب، تجده أحيانا يذكر بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بهذه المفردة التي يتكلم عنها.
الطالب:
(التحلي بالرفق:
التزم الرفق في القول، مجتنبا الكلمة الجافية، فإن الخطاب اللين يتألف النفوس الناشزة، وأدلة الكتاب والسنة في هذا متكاثرة).
التحلي بالرفق هذا دلت عليه عدة نصوص قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه".
وقال -عليه الصلاة والسلام- لعائشة: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله".
فينبغي لطالب العلم أن يتحلى بالرفق وأن يتحلى بالتأنّي ولا يكون عجِلا يستخفه الناس.
الطالب:
(التأمل:
التحلي بالتأمل، فإنما مَن تأمّل أدرك، وقيل: تأمل تُدرك، وعليه فتأمل عند التكلم بماذا تتكلم وما هي عائدته، وتحرّز في العبارة والأداء دون تعنّت أو تحذلُق، وتأمل عند المذاكرة كيف تختار القالب المناسب للمعنى المراد، وتأمل عند سؤال السائل كيف تتفهم السؤال على وجهه حتى لا يحتمل وجهين، وهكذا).
التأمل يعني التأني قبل أن تتكلم وقبل أن تتصرّف في أي شيء، لا تكن عجلا، وكم من كلمة تكلّم بها المرء ثم ندم، أو تصرف تصرفا ثم ندم.
والتأمل كما ذكر الشيخ -رحمه الله- يكون قبل أن يتكلم، إذا كان مؤهلا للفتوى فيتأمل في السؤال ويتأمل أيضا في الجواب قبل أن يجيب حتى يصيب الصواب في جوابه وفي فهمه.
ومما ينبه عليه أيضا هنا أن طالب العلم يُقِل من الكلام، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
والإمام أحمد -رحمه الله- مما أُثِر عنه أنه كان لا يخُوض فيما يخُوض فيه الناس من الكلام، فإذا ذكر العلم نطق.
وهكذا ينبغي لطالب العلم إذا جلس مع الناس في مجلس وخاضوا فيما يخوضون فيه لا يخوض معهم فيما يخوضون، وإنما يتكلم بعلم وبما ينفع الناس من توجيه أو نصح أو تذكير ونحو ذلك.
الطالب:
(الثبات والتثبت:
تحلّ بالثبات والتثبت، لا سيما في الملمات والمهمات، ومنه الصبر والثبات في التلقي وطيّ الساعات في الطلب على الأشياخ، فإن من ثبت نبت).
هذا مهم جدا لطالب العلم أن يثبت في طريق الطلب وأن يصبر وأن يجاهد نفسه حتى يحصل ما كتب الله -عز وجل- له أن يحصل من هذا العلم، وذلك أن بعض طلاب العلم يمكن أن نسميه ذواقا، يحضر اليوم في هذا الدرس أو غيره أياما معينة ثم يكل ويمل فينتقل إلى درس آخر ويحضر أسبوعين ثلاثة أو شهر أو نحوه ثم يمل وينتقل إلى درس ثالث، هذا ما يستفيد، أيضا في قراءة الكتب أو في حفظ المتون يبدأ بحفظ متن وربما يصل إلى ربعه أو نصفه ثم يكل ويتركه، ما يثبت، أو يقرأ كتابا قرأ منه مائة صفحة ثم يمل ويتركه ويفتح كتابا آخر ويبدأ يقرأ فيه ثم يتركه، وهكذا، إذا نظرت إلى حاله وجدته لم ينتهِ من كتاب ولم ينتهِ من متن ولم ينتهِ من درس، هذا ما ينتفع ولا يستفيد، ولهذا ذكر الشيخ هذه الكلمة العظيمة المفيدة، قال: من ثبَت نبَت.
قبل أن تُقدم لا بد أن تسأل ما المناسب لك من المتون، ومن هو الشيخ الذي تأخذ عنه، فإذا وجدت أنه مناسب بدأت في الأخذ عنه وقرأت هذا المتن أو حفظته ثم تستمر، لا تنقطع وتتنقل من هنا وهنا فإنك لا تستفيد.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
المجلس الثاني
24/5/1446هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا..
أما بعد فهذا المجلس الثاني من التعليق على كتاب حِلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله تعالى-.
الطالب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول المؤلف -رحمه الله-:
(الفصل الثاني: كيفية الطلب والتلقي:
كيفية الطلب ومراتبه.
من لم يُتقن الأصول حُرم الوصول، ومَن رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وقيل أيضا: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، وعليه فلا بد من التأصيل والتأسيس لكل فن تطلبه، لضبط أصله ومختصره على شيخ مُتقن، لا بالتحصيل الذاتي وحده، وآخذًا الطلب بالتدرج، قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: 106]
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32]
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121]
فأمامك أمور لا بد من مراعاتها في كل فن تطلبه:
-حفظ مختصر فيه، وضبطه على شيخ مُتقن.
-عدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله.
-لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، فهذا من باب الضجر.
-اقتناص الفوائد والضوابط العلمية.
-جمع النفس للطلب والترقي فيه، والاهتمام والتحرق للتحصيل والبلوغ إلى ما فوقه، حتى تفيض للمطولات بسابلة موثقة.
وكان من رأي ابن العربي المالكي ألّا يخلط الطالب في التعليم بين علمين، ويقدم تعليم العربية والشعر والحساب ثم ينتقل منه الى القرآن، لكن تعقبه ابن خلدون بأن العوائد لا تساعد على هذا، وأن المقدَّم هو دراسة القرآن الكريم وحفظه؛ لأن الولد ما دام في الحجر ينقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ صعُب جبره، أما الخلط في التعليم بين علمين فأكثر فهذا يختلف باختلاف المتعلمين في الفهم والنشاط).
ذكر الشيخ -رحمه الله- في هذا الفصل كيفية الطلب والتلقي.
وبيّن -رحمه الله تعالى- أنه لا بد من إتقان الأصول، وذكر العبارة المشهورة: من لم يتقن الأصول حُرِمَ الوصول، يعني إذا لم تتقن أصول العلم ستُحرم من الوصول إلى الغاية التي يريدها طلاب العلم، وهي أن يكون الطالب عالمًا ينفع الله -عز وجل- به الأمة.
وقال أيضًا: من رام العلم جملةً ذهب عنه جُملة.
ما يمكن أن تحصّل العلم مرة واحدة، لا بد من التدرج، ويرجى أن يكون في هذا البرنامج -برنامج دليل- ما يعين طالب العلم على التدرج في الطلب، فأنتم كما ترون وسترون إن شاء الله تعالى أن هذا البرنامج قد رُتب على المتون المختصرة في عدة فنون من فنون العلم تكون كالأساس وتكون كالأصول لطالب العلم ليترقى بعدها إلى ما هو أوسع في العلم.
وذكر أيضاً: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم.
وذلك أن الطالب المبتدئ يحتاج إلى أن يُترفق معه في العلم فلا يعطى العلم مرة واحدة ولا يعطى المسائل الكبيرة قبل المسائل الصغيرة التي هي أساس لتلك المسائل، فهذا مما يؤدي إلى مضلة الفهم عنده.
واستدل لذلك بقول الله -عز وجل- ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: 106] وأيضا الآية التي بعدها في معناها.
فإذا كان الله -عز وجل- ينزل على نبيه -صلى الله عليه وسلم- القرآن بحسب الحوادث والوقائع والمناسبات، وهو المؤيد بالوحي -عليه الصلاة والسلام- ما أنزل عليه القرآن جملة واحدة، فكذلك طالب العلم لا يأخذ العلم جملة واحدة لا بد من التدرج فيه.
وذكر أيضا قول الله تعالى ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121] ووجه الاستدلال بالآية أن من معاني هذه الآية أن القرآن يُقرأ بتُؤدة وتدبر وتأنٍّ، فكذلك العلم يؤخذ بالتأني والتدرج.
وذكر الشيخ أيضا أن كل علم تريد أن تطلبه لا بد لك من حفظ مختصر فيه، وهذا فيه التأكيد على الحفظ.
والأمر الثاني أن يُضبط على شيخ متقن، يعني متقن لهذا المختصر أو لهذا الفن، ويضاف أيضا: أن يكون هذا الشيخ أمينا، ولا بد من هذا، أن يتقن الفن الذي يُعلّمه وأن يكون أمينا في التعليم، وذلك أن الطالب المبتدئ يتلقى كل ما يقول الشيخ، فإذا لم يكن الشيخ أمينا على العلم ربما علمه شيئا مخالفا للحق، يعني لو جاء طالب مبتدئ وقال له الشيخ: هذا الحديث رواه البخاري. وهو لم يروه البخاري، هل يستطيع الطالب المبتدئ أن يعرف هذا الأمر؟ ما يعرف، فلهذا ينتبه، لا بد أن يجتمع في الشيخ الذي يعلّم أن يكون متقنا لهذا الكتاب الذي يدرّسه وأن يكون أمينا على العلم فلا يبلّغ إلا ما تثبت وتحقق منه.
والأمر الثالث، قال: عدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله.
مثلا طالب علم مبتدئ في الفقه يقول مباشرة أقرأ في المغني، وكتاب المغني يذكر فيه الموفق رحمه الله تعالى الخلاف العالي بين المذاهب، بل يذكر -رحمه الله- أقوال الصحابة والتابعين والأئمة وأدلة كل قول والمناقشات، هل يمكن لهذا الطالب أن يفهم علم الفقه بهذه الطريقة؟ نقول: لا يمكنه ذلك؛ لأن هذه الطريقة غير صحيحة.
فلا بد أولا أن يضبط متنا من متون الفقه عند الحنابلة مثلا، ثم يترقى حتى يصل إلى مرتبة يتمكن معها فهم كتاب المغني إذا قرأه.
ذكر أيضا: لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، فهذا من باب الضجر.
هذا مر معنا في آخر جملة ذكرها الشيخ في الدرس الماضي، قال: مَن ثبَت نبَت.
وذكرت لكم أن بعض الناس يمكن أن نسميه: ذوّاقا، اليوم يبدأ في متن يحفظ فيه، ثم بعدما يحفظ ربع المتن أو ثلثه يضجر ويتركه، ويذهب إلى متن آخر، وكذا في قراءة الكتب، وفي حضور الدروس، فهذا ما يحصّل، يمضي عليه الزمان هكذا مُتقطعا.
ويقول الشيخ: لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، أولا قبل أن تحفظ في هذا المختصر أو تدرس هذا الكتاب لا بد أن يكون عن مشاورة لأهل العلم، ولهذا فالطالب المبتدئ ليس هو الذي يختار، لا، يذهب إلى شيخه ويقول: أنا أريد أن أطلب العلم، أريد أن أطلب فن العقيدة أو الفقه أو الحديث، ما هو الكتاب المناسب لحالي؟ يقول له الشيخ: اقرأ الكتاب الفلاني.
فهذا جاء عن مشورة، وإذا كان عن مشورة من شيخه الذي يثق به فهذا لا ينبغي له أن يتنقل، والشيخ ينبغي أن يختار له من المتون ما هو الأفضل، لأن المتون كثيرة، يعني مثلا في الفقه هل أبدأ بحفظ عمدة الفقه للموفّق، أم أخصر المختصرات لابن بلبان، أم زاد المستقنع للحجاوي، أم دليل الطالب لمرعي الكرمي؟
كلها مختصرات مفيدة، لكن أيها الأفضل؟ أيها الأحسن؟ هذا محل اختلاف في وجهات النظر.
فإذا قال لك الشيخ: احفظ هذا المتن وادرس هذا المتن تلتزم به حتى تحصّل، وأنت بإذن الله إذا استمررت سواء في هذا المتن أو في هذا المتن إلى أن تفرغ منه هو أولى من أن تبدأ بمتن أفضل لكن لا تستمر، فخُذ بوصية شيخك واعمل بما يوجهك إليه واستمر في الطلب حتى لا تتقطع في طلبك للعلم.
ذكر أيضا: اقتناص الفوائد والضوابط العلمية.
اقتناص الفوائد وتقييدها إما أن يكون من قراءتك للكتب وإما أن يكون بما تسمعه من المشايخ الذين تدرسُ عليهم.
فمثلاً إذا كنت تقرأ كتاباً، إذا مرت بك فائدة في غير مظنتها، أما الفائدة التي في مظنتها فلا حاجة لتقييدها.
فمثلاً أقسام المياه، ينقسم الماء إلى ثلاثة أقسام، هل تحتاج أن تقيّدها؟ معروفة ومباشرة، تفتح كتاب الطهارة، باب المياه: تجد هذه المعلومة.
لكن لو مرت بك مسألة عقدية في كتاب فقهي، هل هذه مظنة لها؟ مسألة عقدية مباشرة ينتقل ذهنك إلى كتب العقيدة، هذه الفائدة جاءت في غير مظنتها، في كتاب من كتب الفقه، هنا تأخذها وتضعها في موضعها من كتب العقيدة، مثال ذلك: لو مرت بك مسألة في الاستسقاء بالنجوم والأنواء، يذكرها الفقهاء في آخر باب الاستسقاء، باب الاستسقاء في الفقه، في آخره يذكرون مسألة تتعلق بالاستسقاء بالنجوم، لو قال: مُطرنا بنوء كذا، يذكرها الفقهاء، هذه في غير مظنتها، خذ هذه الفائدة واذهب إلى كتاب التوحيد، باب ما جاء في الاستسقاء بالنجوم وقيّد هذه الفائدة، وقس على هذا بقية الفوائد.
مع مضي الزمن، بعد خمس سنوات أو عشر سنوات أو أكثر ستجد بعض الفوائد قُيّدت أنت لا تذكر متى قيدتها، ولو تركتها في حينها لذهبت عليك، قل مثل ذلك لو قرأت في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية تمر بك فوائد، في كتب ابن القيم تمر بك فوائد، وغيرهما من أهل العلم، إذا مرت الفائدة في غير موضعها وغير مظنتها خذها وضعها في مكانها.
أيضا من باب تقييد الفوائد، بعضهم -وهذا يعني كان في السابق قبل الحاسب الآلي- يضع طالب العلم عنده دفاتر خاصة، هذا الدفتر يُقيد فيه فوائد العقيدة وهذا الدفتر يُقيد فيه فوائد الحديث وهذا فوائد الفقه، إلى آخره، كلما مرت به فائدة يكتبها بيده في الدفتر الخاص بها.
أنتم اليوم يسر الله لكم، تدخل على الشاملة وتقص وتلزق وتضع الجزء والصفحة فالأمور ميسرة، لكن لا شك أن من يعاني في العلم أكثر يثبت العلم في قلبه أكثر، فإمكانك الآن أن تجعل لك مجلدا في الجهاز وتقسّم هذا المجلد إلى ملفات، والفوائد التي تمر بك في الفقه تضعها في الفقه، وفي الحديث في الحديث، وهكذا في بقية الفوائد، مع الزمن ستجد أنه قد اجتمعت عندك فوائد كثيرة جدا.
من الطرق أيضا تقييد الفوائد على الكتاب نفسه، الكتاب هذا حلية طالب العلم، أليس الشيخ سيأتينا يتكلم عن المبتدعة والتحذير منهم، هل يرِد في ذهنك أن كتابا في آداب طالب العلم يُذكر فيه كلام وفوائد ونقول في التحذير من المبتدعة؟ الأصل أنك إذا أردت البحث عن البدع والكلام عليها سينصرف الذهن الى كتب العقيدة والكتب الخاصة في البدع، لا يرد في الذهن أن تبحث في كتب آداب طلب العلم.
الفائدة إذا جاءتك في غير مظنتها، خذها وقيدها على غلاف الكتاب من الداخل، وتكتب رقم الصفحة التي وردت فيها الفائدة، وقس على هذا بقية الكتب التي تقرؤها، فإذا لم تقيد الفوائد فإنها تذهب ولا يحتاج أن تقيد الفائدة كلها لأن المكان ضيق، وإذا كانت الفائدة طويلة ضع لها عنوانا تستنبطه أنت من الكلام، مثلا أن تقول: حكم كذا وكذا، لأن الشيخ تكلم عليها مثلا في خمسة أسطر أو في صفحة أو صفحتين، لكنك عرفت كيف تصل إلى هذه الفائدة، هذه أمور مهمة جدا، ولذلك أحيانا تجد بعض طلبة العلم إذا تكلم في محاضرة أو في موضوع علمي تجده يأتيك بفوائد ونفائس تتعجب منها، أليس كذلك؟
تقول كيف؟ لو حضّر، لو جلس أسبوعا أو أسبوعين وحضّر لهذه المحاضرة لا يمكن أن يأتي بهذه النفائس، هذه ما جاءت في يوم وليلة، هذه من التراكم في القراءة وجرد المطولات -طبعاً إذا تأهل لجرد المطولات- والفوائد التي يسمعها من أشياخه يقيدها، إذا جاءت الحاجة إليها وجدها قد قريبة، وسهل الوصول إليها، وإلا أحياناً قد تترك بعض الفوائد من غير تقييد، ثم تذكر أنك قد مرت بك فائدة، أين مرت بك؟ لا تدري، لأن الحفظ يخون الإنسان، ولهذا لا بد من العناية بالتقييد.
قال بعد ذلك: جمع النفس للطلب والترقي فيه.
يعني لا بد أن تكون الهمّة عالية في طلب العلم، تكون همتك أن تكون إماما ينفع الله -عز وجل- بك أمة الإسلام، لا لأجل الدنيا ولا لأجل أن تُصدّر ويقال الشيخ فلان، لا، وإنما لأجل أن تكون من حماة الشريعة والذب عنها، ولأجل أن تعمل بالشريعة، وأن تعلّم الناس دينهم، لترفع ما بهم من جهالة عظيمة، لا بد من هذا، تكون الهمة عالية لأجل أن تترقى في مراتب العلم.
ثم ذكر المؤلف مسألة تتعلق بـ هل يبدأ طالب العلم بفن واحد حتى يتقنه ثم ينتقل إلى فن ثانٍ حتى يتقنه، وهكذا؟ أو يدرس أكثر من علم في آن واحد؟
الذي عليه العمل الآن هو أنه يبدأ بعدة علوم، في المدارس والمعاهد والجامعات والمساجد، أنه يبدأ بعدة علوم لكن يبدأ متدرجا في كل علم.
الطالب:
(وكان من أهل العلم من يدرّس الفقه الحنبلي في زاد المستقنع للمبتدئين، والمقنع لمن بعدهم للخلاف المذهبي، ثم المُغني للخلاف العالي، ولا يسمح للطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية، وهكذا، دفعا للتشويش.
واعلم أن ذكر المختصرات في المطولات التي يؤسس عليها الطالب والتلقي لدى المشايخ تختلف غالبا من قطر إلى قطر، باختلاف المذاهب وما نشأ عليه علماء ذلك القطر من إتقان هذا المخصر والتمرس فيه دون غيره.
والحال هنا تختلف من طالبٍ إلى آخر باختلاف القرائح والفُهوم، وقوة الاستعداد وضعفه، وبرودة الذهن وتوقُّده، وقد كان الطلب في قطرنا بعد مرحلة الكتاتيب والأخذ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ في دروس المساجد، للمبتدئين ثم المتوسطين ثم المتمكنين).
ذكر -رحمه الله- أن من أهل العلم من كان يدرّس في الفقه الحنبلي كتاب زاد المستقنع، للحجاوي -رحمه الله- المتوفى سنة ٩٦٨ للهجرة، وذكر أيضا كتاب المُقنع، وهو للموفق ابن قدامة، يذكر الروايتين والوجهين والقولين في بعض المسائل، لكن لا يذكر الأدلة، وقد ألَّف الموفق ابن قدامة -رحمه الله- أربعة كتب هي مرتبة بحسب مستوى الطلاب:
-الكتاب الأول: عمدة الفقه، وهذا اقتصر فيه على قول واحد، ولا يذكر الاستدلال لكل مسألة، إلا أنه يذكر في كل باب دليلا من القرآن أو من السنة، والغالب أن يذكر من السنة لكن أحيانا يذكر من القرآن، ليعوّد الطالب على الاستدلال، لكنه لا يستدل لكل مسألة، وهذا الكتاب يصلح للمبتدئ.
ثم كتاب المقنع، وهو أعلى مرتبة من العمدة، يذكر كما ذكرت قبل قليل في بعض المسائل الروايتين والوجهين ليعود الطالب على الخلاف، لكنه لا يذكر أدلّة.
ثم كتاب الكافي، وهو أعلى مرتبة من المقنع، يذكر فيه الخلاف في مذهب الحنابلة فقط، ويستدل للأقوال في المذهب، لكن لا يذكر الخلاف العالي.
ثم كتاب المُغني في شرح مختصر الخِرَقي، وهو أعلى المراتب، وهو في الخلاف العالي، يذكر أقوال الفقهاء في المسألة من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين والأئمة الأربعة، ويذكر ربما رأي الظاهرية، ثم يذكر أدلة المخالفين، هكذا طريقته، فإذا فرغ من أدلة المخالفين قال: ولنا. يعني أدلتنا نحن الحنابلة، فيستدل لرأي الحنابلة، فإذا فرغ من أدلة الحنابلة يعود إلى أدلة المخالفين التي ذكرها أولا ثم يناقشها ويجيب عنها، وهذه طريقة حسنة في عرض المسألة الخلافية، فكتاب (المغني) هو لمن وصل في العلم مرتبة متقدمة، وأحياناً -رحمه الله- قد يخالف مذهب الحنابلة فيقول: والصحيح مذهب مالك، وأحياناً يقول: وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق بالاتباع، وهذا يدلك على أنه لا يتعصب لمذهبه، فنحن ندرس الفقه ونعتني بكتب الفقه لكن يكون بين عينيك اتباع الدليل، وهذا لا يتأتى للمبتدئ، ولهذا لا بد -كما سيأتي في كلام الشيخ -رحمه الله- أن تأخذ العلم عن الأشياخ، ربما أني استرسلت في هذا، الفقه في كل مذهب تجد فيه مسائل مرجوحة من حيث الدليل، هذه لا يعرفها الطالب المبتدئ، ومسائل أحيانا ليس عليها عمل، والفتوى في بلدك على خلافها.
أعطيك مثالا لهذا.
عند الحنابلة رواية هي المذهب عندهم كما في الإنصاف أن النجاسة إذا أصابت الثوب مثلاً لا بد من غسلها سبع مرات، لا يطهر إلا بسبع غسلات، حتى لو أن هذا الثوب الذي أصابه بول -أجلكم الله- غسلناه مرة أو مرتين فطهُر، فلا يوجد للبول أثرٌ فيه، ومع ذلك يرى الحنابلة أنه لا بد من سبع غسلات، هذا قول، واجتهدوا في هذا -رحمهم الله- لكن هل هذا عليه الفتوى؟ لا، هل نلزم الناس بهذا؟ لا، إذن هذا من يعرفه؟
هذا لا يمكن أن يعرفه الطالب المبتدئ، لا بد من أخذه عن شيخ يقول لك هذه المسألة صورتها كذا ودليلها عند الحنابلة كذا، ولكن هذا القول مرجوح في الدليل والذي عليه العمل هو كذا وكذا، هذا تستفيده أنت في عملك، في اتباعك، كيف تعمل في هذه المسائل وأنت لا تدري هل هي راجحة دليلا أو ليست براجحة.
ذكر الشيخ بعد ذلك المختصرات والمطولات التي يؤسس عليها الطالب في التلقي، قال إنها تختلف من قُطر إلى قُطر، وفيما يتعلق بالفقه فينبغي لطالب العلم أن يتفقه على المذهب السائد في بلده، فلو جاءنا شخص من المغرب وقال: أبدأ الفقه بأي متن؟ قلنا: ارجع إلى مشايخك المالكية؛ لأنهم مالكية في المغرب، وانظر الى متن يرشحونه لك وتبدأ بحفظه ودراسته على الشيخ.
ولو جاءنا طالب من الباكستان، عندهم مشتهر أي مذهب؟ الحنفي، نقول: خذ لك متنا من متون الحنفية تحفظه وتدرسه على الشيخ.
جاءنا شخص شافعي في إندونيسيا أو ماليزيا، هناك ينتشر المذهب الشافعي، نقول: خذ متنا من متون الشافعية يرشحه لك شيخك؛ لأن المتون كثيرة كما عرفتم، وتدرسه على الشيخ وتحفظه.
وعندنا مذهب الحنابلة، هذا لا إشكال فيه، وليس هذا من التعصب في شيء أبدا، بل هذا الطريق نوع من التمذهب المجمع عليه بين أهل العلم، لكن الإشكال أن هناك من الناس من يربط بين التمذهب والتعصب.
لا إشكال أن يكون الإنسان متمذهبا، لو قلت لكم: أنا حنبلي، وأنتم حنابلة، فيه إشكال؟ ما فيه إشكال.
الإشكال في ماذا؟ أن تتعصب للحنابلة وتأتيك أقوال عندهم مخالفة للدليل الواضح البيّن وتقول لا أنا أبقى على المذهب لا أخرج عنه، هذا باطل ولا يحل شرعا، لكن أتمذهب بمعنى أنني أتفقه على هذا المذهب وأعرف أصول المسائل، ثم إذا ظهر لي أن قول المذهب مرجوح -سواء كنت متأهلا للترجيح أو بواسطة شيخي- أترك القول المرجوح في المذهب وآخذ قولا في مذهب آخر يدل عليه الدليل.
ينبغي أن لا نربط بين التمذهب والتعصب، لكن لما أن كثيرا من المتمذهبين لمذاهبهم صاروا يتعصبون جاء من يذم التمذهب ذما مطلقا، وإلا فكبار أئمة الإسلام كانوا ينتسبون الى مذاهب ولا يرون في ذلك غضاضة، يعني مثلا عندك شيخ الإسلام ابن تيمية، ما رأيكم؟ متمذهب أو غير متمذهب؟ متمذهب، ويعد من علماء الحنابلة، وإذا قال: قال الأصحاب، ماذا يعني إذا قال الفقيه الأصحاب؟ ماذا يريد؟ يعني الحنابلة، فهم أصحابه.
ابن القيم -رحمه الله- يقول: قال أصحابنا، ابن عبد البر المالكي -رحمه الله- ألف متنًا في الفقه المالكي، وهو كتاب الكافي في فقه أهل المدينة، كتاب فقهي مجرد على مذهب الإمام مالك، مع أن ابن عبد البر يخرج عن المذهب في مسائل، وابن تيمية يخرج عن المذهب.
النووي -رحمه الله- فقيه محدث عالم معروف ألفَ في الفقه الشافعي كتاب منهاج الطالبين، متن فقهي مجرد مثل زاد المستقنع عندنا وغيره، ومع ذلك كان يخرج عن المذهب في مسائل، وهذا يُعرف من شروحه -رحمه الله-.
المقصود أن كل قُطر يناسبه كتب معينة، وهذا كله بعد الرجوع إلى المشايخ.
الطالب:
(في التوحيد ثلاثة الأصول وأدلتها، والقواعد الأربع، ثم كشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد، أربعتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، هذا في توحيد العبادة، وفي توحيد الأسماء والصفات: العقيدة الواسطية ثم الحموية والتدمرية، ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فالطحاوية مع شرحها).
هذا الكلام يتعلق بالمتون التي يبتدئ بها الطالب في العقيدة، وهذا واضح بيّن، لكن هناك رأي لبعض مشايخنا وهو أن كشف الشبهات يكون بعد كتاب التوحيد، لماذا؟
الشبهات إذا عرضت على الطالب فإذا لم يكن متأصلا في علم التوحيد فيخشى عليه أن يتأثر بها، لأن الشُّبه خطافة، وقد يَفهم الشُّبَهة ولا يفهم الجواب أحيانا إذا لم يكن متأصلا في هذا العلم، فحينئذ قال بعض مشايخنا: يبدأ بكتاب التوحيد؛ لأنه كالتأصيل لهذا العلم، ثم يدرس كتاب كشف الشبهات، بل كان بعضهم يتحرج أن يدرس كشف الشبهات لطلاب لم يتدرجوا بالقواعد الأربع وثلاثة الأصول وكتاب التوحيد.
الطالب:
(وفي النحو: الآجرومية ثم مُلحة الإعراب للحريري ثم قطر الندى لابن هشام وألفية ابن مالك مع شرحها لابن عقيل)
شيخنا الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يقول: ينتقل من الآجرومية إلى الألفية مباشرة، يرى أن هذا اختصار للطالب، ولو اتسع وقته للسير على ما ذكر الشيخ بكر رحمه الله تعالى فهذا أيضا مفيد.
وفي الحديث: الأربعين للنووي ثم عمدة الأحكام للمقدسي ثم بلوغ المرام لابن حجر والمنتقى للمجد ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فالدخول في قراءة الأمات الست وغيرها.
الدخول في قراءة الأمات، يقال الأمات لغير العقلاء، والأمهات للعقلاء، فمقصود الشيخ -رحمه الله- أنه في الحديث يتدرج، الأربعين النووية وعمدة الأحكام -وهذه إن شاء الله تأخذونها في هذا البرنامج بحمد الله- وإن شاء الله تعالى بعدها بلوغ المرام، ثم المنتقى للمجد ابن تيمية، طويل، والمجد ابن تيمية من علماء الحنابلة، ثم بعد ذلك تدخل في المطولات، في الصحيحين والسنن الأربع ومسند أحمد ونحوها، فينتبه طالب العلم، لا يأخذه الحماس فينتقل لحفظ الصحيحين مثلا أو جرد المطولات وهو لم يمر على هذه الكتب.
الطالب:
(وفي المصطلح نخبة الفكَر لابن حجر ثم ألفية العراقي -رحمه الله تعالى-، وفي الفقه مثلا آداب المشي إلى الصلاة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم زاد المستقنع للحجاوي -رحمه الله تعالى- أو عمدة الفقه، ثم المقنع للخلاف المذهبي والمغني للخلاف العالي، ثلاثتها لابن قدامة -رحمه الله-)
لكن لو قيل ما هو الأفضل من مختصرات الحنابلة أن يبدأ به الطالب؟
فيقال: الأقرب زاد المستقنع للحجاوي -رحمه الله-؛ وذلك أن كتاب زاد المستقنع عناية العلماء به كبيرة جدا جدا، سواء العناية به أو العناية بأصله، فهو زاد المستقنع في اختصار المقنع.
والمقنع للموفق كما تقدم، فإن نظرنا إلى أصله وهو المقنع تجد العناية الكبيرة من العلماء به، بل يقول الحنابلة: أول ما ألف الخِرَقي مختصره المشهور -وهو أول مختصر في فقه الحنابلة- عكف عليه العلماء وشُرح بشروح كثيره جدا، فلما جاء الموفق -رحمه الله-، المتوفى سنة ستمائة وعشرين وألف مختصر المقنع: عكف من جاء بعده على المقنع وتركوا الخِرَقي.
فالعناية به كبيرة جدا، تجد مثلا الشرح الكبير لابن أخيه، ابن أبي عمر، شرحه في شرح نفيس جدا، استمد مادته أو أكثرها من المغني.
وبرهان الدين ابن مفلح، شرح المقنع في المبدع شرحا نفيسا.
وابن المنجّى، شرحه في كتاب الممتع في شرح المقنع، ولا تخلط بينه وبين الشرح الممتع لشيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-، ذاك الشرح الممتع وهذا الممتع، ومن فوائده ومن مزايا هذا الكتاب لابن المنجّى -رحمه الله- أنه نص في مقدمته على الاستدلال لكل مسألة يذكرها، سواء الاستدلال النصي من القرآن والسنة والأثر، أو الاستدلال العقلي، هذه ميزة لهذا الكتاب.
أيضا كتاب الإنصاف، للمرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، ماذا يريد بالخلاف هنا؟ الخلاف المذهبي، أحيانا تريد أن تعرف ما هو المشهور من المذهب، ما هو الصحيح من المذهب، يعني ما هو مذهب الحنابلة في المسألة، تجد عدة أقوال، عدة روايات عن الإمام أحمد -رحمه الله-، جاء المرداوي -رحمه الله- المتوفى في القرن التاسع وألف هذا الكتاب الذي تعب عليه في تحرير مذهب الحنابلة، فهذا الكتاب هو عمل على المقنع، كل مسألة يذكرها صاحب المقنع فإنه يحرر فيها الكلام ويبين هل هو المذهب أو ليس هو المذهب، فالكتاب نفيس وينقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، يعني شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له أثر كبير فيمن جاء بعده من الحنابلة، فينقلون كلامه كثيرا.
الشاهد من هذا أن زاد المستقنع معتنى به من جهة نفس الكتاب ومن جهة أصله وهو المقنع، يعني إذا نظرنا إلى زاد المستقنع تجد عليه عدة شروح وحواشي من أشهرها: الروض المربع، الكتاب المشهور الذي يُدرس في الجامعات الآن، الروض المربع في شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع.
وجاء الشيخ عبد الرحمن بن قاسم المتوفى ١٣٩٢ هـ ووضع عليه الحاشية النفيسة التي طبعت في سبعة مجلدات، الحاشية المشهورة هذه، وهي الأشبه بالشرح، لا يكاد يترك جملة إلا ويحشّي عليها، وكحّله وجمّله بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم، وربما كلام أئمة الدعوة النجدية، فهذه عناية كبيرة بالكتاب.
أيضا حشّى عليه الشيخ عبد الله أبابطين مفتي الديار السعودية في زمانه، والشيخ عبد الله العنقري أيضا، والآن تجدون شروحا كثيرة، طبعا شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- شرح الزاد في الشرح الممتع، وهناك حواشي وهناك عناية وهناك تخريج للأحاديث، والآن كثرت العناية به، فكتاب بهذه القيمة لا شك أنه يفيدك يا طالب العلم، أنت إذا حفظت الزاد إن شاء الله سوف ترتبط به إلى أن تموت، لأنك لا بد أن تراجعه لتضبطه، مثلما أنك ترتبط بالقرآن إلى أن تلقى الله -عز وجل-، لو تركت القرآن لتفلت، فهذا الكتاب زاد المستقنع إذا أشكلت عليك فيه عبارة لو كان هذا المتن ليس مخدوما، ما تجد له شروحا إلا شرحا أو شرحين، ولا يوجد عليه حواشي، تبقى عندك إشكالات كثيرة، بخلاف ما إذا كان الكتاب مخدوما من قِبل أهل العلم، كيف والكتاب هو مخدوم وأصله مخدوم أيضا وهو المقنع، فلا شك أن هذا من المرجحات لهذا الكتاب على غيره.
ولذلك إذا أشكلت عليك مسألة ممكن أن ترجع لشروح المقنع، وهذا قد يخفى على الطالب، قد يرجع إلى شروح الزاد، وقد لا يجد بغيته، فيرجع حينئذ إلى مظنتها في شروح المقنع، إذا أردت أن تعرف الصحيح من المذهب في عبارة ذكرها صاحب الزاد، لأن ترتيب الزاد على ترتيب المقنع في الغالب، فترجع إلى مظنتها بيسر وسهولة وتجد بُغيتك.
الطالب:
(وفي أصول الفقه ورقات الجويني -رحمه الله تعالى- ثم روضة الناظر لابن قدامة -رحمه الله تعالى-، وفي الفرائض الرحبية مع شروحها، والفوائد الجلية...)
في الفرائض الرحبية مع شروحها، الرحبي متوفى في القرن السادس، ولهذا اعتنى بها العلماء، هو شافعي المذهب ولكن شُرحت هذه المنظومة من الشافعية ومن غير الشافعية أيضا، وهناك منظومة مؤلفها متوفى في أول القرن الثالث عشر، وهو البرهاني، تسمى منظومة القلائد البرهانية، وتتميز على الرحبية بأنها أخصر منها في الأبيات، تنقص خمسين بيتا تقريبا، ومع كونها أقل أبياتا فهي أتم منها في الموضوعات، وهذا من العجب، لأن الرحبية فيها ما يسمونه بالحشو، لكنه كما يقال حشو جميل، قال:
والثلثان وهما التمامُ •• فاحفظ فكل حافظٍ إمامُ
قوله فاحفظ فكل حافظ إمام ما علاقته بالفرائض؟ حشو، ما يفيدني شيئا في الفرائض، لكن يفيدني في الحث على الحفظ، أليس كذلك؟ فهو حشو جميل.
فإذا أردنا الأخصر فهي البرهانية، والبرهانية العناية بها أقل، توجد لها شروح لكنها قليلة، لكن الرحبية لا شك أن العناية بها كبيرة جدا، وذكر المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الفوائد الجلية هذا لشيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله تعالى-، وهو كتاب منثور نافع.
الطالب:
(وفي التفسير: تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى-، وفي أصول التفسير: المقدمة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وفي السيرة النبوية مختصرها للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأصلها لابن هشام، وفي زاد المعاد لابن القيم -رحمه الله تعالى-.
وفي لسان العرب العناية بأشعارها كالمعلقات السبع والقراءة في القاموس للفيروزآبادي -رحمه الله تعالى-، وهكذا من مراحل الطلب في الفنون.
وكانوا مع ذلك يأخذون بجرد المطولات مثل تاريخ ابن جرير وابن كثير وتفسيرهما، ويركزون على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وكتب أئمة الدعوة وفتاويهم ومحرراتهم في الاعتقاد).
أنبه إلى أن زاد المعاد قد يفهم الطالب أنه من كتب السيرة، وهو أوسع من هذا، نعم في المجلد الأول ذكر شيئا من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن بعد ذلك ذكر هديَه -عليه الصلاة والسلام- في أبواب العلم، فعنوان الكتاب: زاد المعاد في هَدي خير العباد، ذكر هديه في الطهارة وهديه في الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك، إلى آخر الأبواب التي هي من تقسيم الفقهاء، إلى أن ختمه في المجلد الأخير وذكر فيه ما يتعلق بالأنكحة والطلاق والمعاملات ونحوها، فهو كتاب من أنفَس الكتب، ومشايخنا يعتنون به، قُرئ على الشيخ ابن باز -رحمه الله- في المسجد والشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- جمع فوائده وطبع في كتاب لطيف.
الطالب:
(وهكذا كانت الأوقات معمورة في الطلب ومجالس العلم بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الضحى، ثم تكون القيلولة قبيل صلاة الظهر، وفي أعقاب جميع الصوات الخمس تعقد الدروس، وكانوا في أدب جم وتقدير بعزة نفس من الطرفين على منهج السلف الصالح -رحمهم الله تعالى-، ولذا أدركوا وصار منهم في عداد الأئمة في العلم جمع غفير، والحمد لله رب العالمين.
فهل من عودة إلى أصالة الطلب في دراسة المختصرات المعتمدة، لا على المذكرات، وفي حفظها لا على الاعتماد على الفهم فحسب، حتى ضاع الطلاب فلا حفظ ولا فهم، وفي خلوّ التلقين من الزغل والشوائب والكدر سيرٌ على منهاج السلف، والله المستعان)
نعم ذكر أن دروس العلماء في ذلك الزمان كانت عامرة، فذكر أن بعد الفجر دروسا إلى ارتفاع الضحى، ثم بعد كل فرض تكون دروس، طبعا لم يكن هناك تعليم نظامي، لم تكن هناك مدارس ولا جامعات إلا في آخر الزمان لما فتحت المعاهد العلمية ثم بعد ذلك الكُليات الشرعية، لكن قبل ذلك، الجيل الذي كان فيه الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- ما أدركوا التعليم النظامي، درسوا كغيرهم في أثناء الصغر في الكتاتيب ثم بعد ذلك التحقوا بالدراسة عند المشايخ فكانت المجالس عامرة ،حتى ذُكر أن الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- كل سبع سنوات يخرّج دفعة، إذا جلس عنده الطالب سبع سنوات تأهل للقضاء والتعليم والفتوى، ولذلك الشيخ عبد العزيز ابن باز-رحمه الله- لما بدأ يدرس على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى من عام ١٣٥٠ هـ تقريباً إلى عام ١٣٥٧ هـ عين الشيخ قاضيا في الدلم، في سبع سنوات حصّلوا، لكن كانت الأوقات عامرة.
النووي -رحمه الله- يقول: كنت أحضر في اليوم اثني عشر درسا، وقد بارك الله في وقتي.
يحضر اثني عشر درسا مع التحضير لها وضبطها ومراجعتها، وقد يكون فيها حفظ للمتون، اثنا عشر درسا في اليوم، يعني كم في الأسبوع؟
اليوم لو كان عندنا طالب علم يحضر اثني عشر درسا في الأسبوع قلنا هذا ما شاء الله!
فينبغي أن تكون الهمة عالية، العلم لا يحصّل إلا بصبر وبتعب، تعب في تحصيله وتعب في تبليغه، ولهذا يوطن طالب العلم نفسه على التعب، لكن هذا التعب إذا أخلص النية فيه سيحصّل به أجراً عظيماً عند الله -عز وجل-، وهو تعب مشوب بلذة، وهذه اللذة هي التي تدعو إلى الاستمرار، يعني تُشكل عليك مسألة أحياناً وتبحث وتبحث ربما ساعتين أو ثلاثا، تقلب في الكتب، ما هي فرحتك إذا وجدت بُغيتك؟ أعظم من فرح أهل الدنيا بأموالهم، ما تقارَن، فأنت يا طالب العلم يحصل لك فرحة ولذة وأجر، ماذا تريد أكثر من هذا؟
الطالب:
(وقال الحافظ عُثمان بن خرّزاد، المتوفى سنة ٢٨٢ هـ -رحمه الله تعالى-: يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإن عُدمت واحدة فهي نقص، يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط، وحذاقة بالصناعة، مع أمانة تعرف منه.
قلت -أي الذهبي- : الأمانة جزء من الدين، والضبط داخل في الحذق، فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقيا ذكيا نحويا لغويا زكيا حييا سلفيا، يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمسمائة مجلد، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات، بنيّة خالصة وتواضع، وإلا فلا يتعنّ).
لا يتعنّ: يعني لا يتعب نفسه.
وهذا لا شك أنه منه -رحمه الله- حث على الهمة العالية، لكن أنبه إلى ما ذكره الشيخ في المقطع السابق، ما ذكر من المذكرات، يعني طالب العلم لا ينبغي له أن يدرس العلم على مذكرات، وإنما يدرس من كتب أهل العلم، ومن الخطأ الموجود الآن عند طلاب الجامعات أو المعاهد أو حتى في المدارس أن يُترك الكتاب الرئيس ويؤتى بملخصات أو بمذكرات، طيب هذه المذكرة الآن هل ما فيها من العلم مضبوط مراجع ومدقق؟ الغالب أنه غير مراجع، هب أنه مراجع من الأستاذ، هل أنا الآن أربط الطالب بمذكرة؟ إذا أراد الإنسان أن يتكلم في العلم، هل يصلح أن يقول: قال فلان في المذكرة؟ ما يصلح، ثم تبقى من كلام المعاصرين، في مسائل تكلم فيها المتقدمون، والأصل في أخذ العلم أن يؤخذ عن المتقدمين
طبعا كلام المعاصرين فيه تفصيل وكتب المعاصرين فيها تفصيل، إن كانت المعلومة عند المتقدمين فلا أعزوها إلى المعاصرين، مثال ذلك لو أردت أن أحرر مذهب الحنابلة من أين أحرره؟ من كتب الحنابلة المتقدمين أو من اعتنوا بهذا وإن كانوا من متأخري الحنابلة، لا أحرر مذهب الحنابلة من عالم معاصر، هذا هو الأصل.
جاءتني مسألة نازلة، الميت الدماغي هل هو ميت حقيقة أو ليس ميتا؟ التأمين ما حكمه؟ وغير ذلك من النوازل، هذه نرجع فيها إلى المعاصرين، لا إشكال.
فالمقصود بهذا أن المعلومة إن وجدت عند المتقدمين فخذها من المتقدمين، إذا لم تجدها عندهم لا مانع أن تأخذها من المعاصرين.
ذكر أيضا: وفي خلو التلقين من الزغل، ما معنى الزغل؟ هو الذي لا يحتاج له كثيرا، ولهذا قال الشيخ: وفي خلو التلقين من الزغل والشوائب والكدَر كل هذه لا تحتاج إليها، أحيانا تكدر عليك وتعطلك، قال: سير على منهج السلف، معناه أن منهج السلف هو الإعراض عن هذه الأمور.
الطالب:
(تلقي العلم عن الأشياخ.
الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ والمثافنة للأشياخ والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب، والأول من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق، وهو المعلم، أما الثاني عن الكتاب فهو جماد فأنّى له اتصال النسب؟ وقد قيل: من دخل في العلم وحده خرج وحده، أي من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم، إذ العلم صنعة، وكل صنعة تحتاج إلى صانع، فلا بد إذن من تعلمها من معلمها الحاذق.
وهذا يكاد يكون محل إجماع كلمة من أهل العلم، إلا مَن شذّ مثل علي بن رضوان المصري الطبيب المتوفى سنة ٤٥٣ هـ وقد رد عليه علماء عصره ومن بعدهم.
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمته له: ولم يكن له شيخ بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنف كتابا في تحصيل الصناعة من الكتب وأنها أوفق من المعلمين، وهذا غلط، وقد بسط الصفدي في الوافي الرد عليه، وعنه الزَّبيدي في شرح الإحياء عن عدد من العلماء، معللين له بعدة علل، منها ما قاله ابن بطلان في الرد عليه، السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم، وهي معدومة عند المعلم، وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط بزوَغان البصر، وقلة الخبرة بالإعراب أو فساد الموجود منه، وإصلاح الكتاب وكتابة ما لا يقرأ، وقراءة ما لا يُكتَب، ومذهب صاحب الكتاب وسقم النسخ ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة، وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة، كالنورس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح المتعلم من تكلفها عند قراءته على المعلم.
وإذا كان الأمر على هذه الصورة فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه، وهو ما أوردنا بيانه.
قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذوا العلم من صحفي ولا من مصحفي، يعني لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف، والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ، ومستقل من ذلك ومستكثر، وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف، كما في العزّاب من الأسفار لراقمه.
وكان أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، المتوفى سنة ٧٤٥ هـ إذا ذكر عنده ابن مالك يقول: أين شيوخه؟
وقال الوليد: كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريما يتلقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله.
وروى مثله ابن المبارك عن الأوزاعي.
ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعدُ نقط ولا شكل، فتُصحف الكلمة بما يُحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم بخلاف الرواية من كتاب محرّر.
ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا كما في المقدمة له، ولبعضهم:
من لم يشافه عالما بأصوله •• يقيناتُهُ في المشكلات ظنونُ
وكان أبو حيان كثيرا ما ينشد:
يظن الغمر أن الكتبَ تهدي •• أخا فهمٍ لإدراك العلومِ
وما يدري الجهول بأن فيها •• غوامضَ حيرت عقل الفهيمِ
إذا رُمت العلوم بغير شيخٍ •• ضللت عن الصراط المستقيمِ
وتلتبس الأمور عليك حتى •• تصير أضل من تومَا الحكيمِ)
ذكر الشيخ -رحمه الله- أصلا مهمًا في طلب العلم، وهو أن يُتلقى العلم عن أهله وهم الأشياخ، كما مر معنا، أن يدرس الكتاب على عالم متقن، وعرفنا أنه لا بد أن يكون أمينا.
وكون الإنسان يحصل العلم بنفسه يرجع للكتب حتى لو كان ذكيا وحافظته قوية فإنه لا بد أن تشكل عليه بعض المسائل، ولهذا أورد الشيخ -رحمه الله- الرأي الغريب الذي تبناه علي بن رضوان في أن أخذ العلم عن الكتب يقدَّم على أخذه عن الأشياخ، رد عليه العلماء بردود واضحة بيّنة تبين بطلان هذا الرأي.
ومما يدل على ذلك ما تقدم من ضرب المثال في الفقه، تمر بك مسائل مرجوحة ليس عليها عمل ولا فتوى، كيف ستعرف هذا وأنت مبتدئ إلا عن طريق الشيخ الذي يعلمك.
أيضا تصور المسائل، وهذه مسألة مهمة، سواء المسائل العقدية أو المسائل الفقهية أو غيرها، كونك تتصور المسألة التصور الصحيح هذا قد يكون مشكلا عند بعض الطلاب فيفهم المسألة فهما آخر، غير المسألة المرادة، وهذا يترتب عليه إشكال؛ لأن الدليل إنما هو للمسألة على الفهم الصحيح وليس على الفهم الخطأ، وهذا لا يمكن إلا أن يكون عن طريق الأشياخ.
أيضا مصطلحات تمر بك في أثناء هذا الكتاب وأنت مبتدئ، لا يمكن أن تعرف معنى هذا المصطلح، ولا تتمكن من معرفة الكتب التي تبين معاني هذه المصطلحات، فتحتاج إلى شيخ يبيّن لك معنى هذا المصطلح، وقس على هذا.
إذن نخلُص من هذا من كلام الشيخ -رحمه الله- أنه لا بد أن يؤخذ العلم عن أهله.
بعض العلوم قد يكون الأمر فيها سهلا، مثل السيرة، فتؤخذ بالقراءة، وإن كان مع ذلك قد يمر بك مواضع فيها إشكال، لكنه أهون، كذلك كتب التاريخ يمكن لطالب العلم أن يقرأ فيها بدون شيخ، وكذا كتب الأدب، الأدب النافع المفيد، يقرأ فيه الطالب، هذا كله في الغالب تمشي الأمور بالقراءة، وهذا عليه عمل أهل العلم، لكن فنون العلم التي هي أصول العلم كالعقيدة والحديث والفقه ونحوها هذه لا أبد أن يأخذها عن الأشياخ.
ذكر بعض الأبيات المتعلقة بهذا وذكر في آخر بيت: وتلتبس الْأُمُورُ عَلَيْكَ حَتَّى •• تَصِيرَ أَضَلَّ مِنْ تُومَا الْحَكِيمِ
"توما" هذا يضرب به المثل في الجهل المركب، وذلك أن الجهل على قسمين:
جهل بسيط وجهل مركب، الجهل البسيط أن يكون الإنسان جاهلا ويعلم أنه جاهل، كما لو سئل الشخص، متى فُتحت مكة؟ فقال: لا أدري.
هذا جاهل بسيط، هو لا يدري متى فتحت مكة ويعلم أنه جاهل.
الثاني: الجاهل المركب، وهو الذي يجهل ويجهل أنه يجهل، فيُسأل مثلا: متى فتحت مكة؟ يقول في السنة العاشرة من هجرة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
هذا جاهل، لأنها في السنة الثامنة، ويجهل أنه جاهل، لأنه يظن أن عنده علم أنها السنة العاشرة، والأمر على خلاف ذلك، فهذا مثل يضرب بتوما الحكيم.
الطالب:
)الفصل الثالث: أدب الطالب مع شيخه:
رعاية حرمة الشيخ.
بما أن العلم لا يؤخذ ابتداء من الكتب بل لا بد من شيخ تتقن عليه مفاتيح الطلب، لتأمن من العثار والزلل: فعليك إذن بالتحلي برعاية حرمته، فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطُّف، وخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه والتحدث إليه وحسن السؤال والاستماع وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه، ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك أو إلحاح عليه في جواب، وتجنب الإكثار من السؤال لا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل.
ولا تُنادِه باسمه مجردا أو مع لقبه في قولك: يا شيخ فلان، بل قل: يا شيخي أو يا شيخنا، فلا تسمّه؛ فإنه أرفعه في الأدب، ولا تُنادِه بتاء الخطاب أو تناديه من بعد من غير اضطرار، وانظر ما ذكره الله تعالى من الدلالة على الأدب مع معلم الناس الخير -صلى الله عليه وسلم- في قوله ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63] الآية.)
طبعا الكلام هنا واضح إن شاء الله، لكن الاستدلال بالآية في قوله تعالى ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63]
فُسرت هذه الآية: لا تنادوه باسمه -عليه الصلاة والسلام- كما ينادي بعضكم بعضا.
وإذا كان هذا في الأدب مع النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو معلم البشرية العلم والخير فكذلك كل من يعلم العلم والخير فإنه ينبغي أن يُتأدب معه ولا ينادَى باسمه المجرد.
الطالب:
(وكما لا يليق أن تقول لوالدك ذي الأبوة الطينية: يا فلان أو يا والدي فلان، فلا يجمُل بك مع شيخك.
والتزم توقير المجلس وإظهار السرور من الدرس والإفادة به، وإذا بدا لك خطأ من الشيخ أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سببٌ لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالما).
هذه مسألة، إذا أخطأ الشيخ، هل ثَمّ أحد سالم من الخطأ؟ لا أحد يسلم من الخطأ، كونه أخطأ لا تقُل هذا الشيخ كيف يخطئ هذا ما يُحسن، ثم تترك طلب العلم عليه، طيب هل ستجد شيخا لا يخطئ؟ لا يمكن هذا.
طيب كيف تنبه الشيخ على الخطأ؟
الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يقول: إذا كان الدرس مسجلا وتكلم الشيخ بكلمة واتضح عندك أنه أخطأ…
طبعا هذا متى؟ إذا كان هناك يقين أنه أخطأ، وإلا فقد يظن الطالب أن الشيخ أخطأ والصواب مع الشيخ وليس مع الطالب، وهذا هو الأصل طبعا.
لكن لنفرض أنه تيقن خطأه، وهذا يحصل أحيانا بسبق لسان، الإنسان بشر، قد يريد الشيخ أن يقول: لا يجوز كذا فيقول: يجوز كذا، ولم ينتبه ويمشي في الكلام، أنت الآن دورك أنك تنبه، كيف تنبه؟ بطرق:
يمكن أن تسأله في آخر الدرس نفس المسألة، قل: ما حكم كذا وكذا يا شيخ؟ فيجيب عليها بالجواب الصحيح، فإذا أجاب بالجواب الصحيح معناها أن الكلام الأول كان سبق لسان.
ويمكن أن يقال: سمعنا منك أنك قلت كذا... سيقول: هذا سبق لسان.
هنا عالجنا الموضوع بأدب مع أهل العلم، كل هذا في تأدّبنا مع مشايخنا.
الطالب:
(واحذر أن تعامله بما يُضجره، ومنه ما يسميه المولدون: حرب الأعصاب، بمعنى امتحان الشيخ على القدرة العلمية والتحمل)
ما معنى الكلام المولَّد؟ أي الذي أصيلاً في لغة العرب.
هذا يحصل من بعض الناس أنه يريد أن يمتحن الشيخ، يقول: أسأله هل يعرف أو لا يعرف؟ يمتحنه في قوته العلمية، هذا لا يجوز، هذا من سوء الأدب، أنت تسأل لتتعلم وتستفيد، ولا تسأل لتمتحن الشيخ.
ولهذا إذا ظهر للشيخ بالقرائن أن هذا الشخص يسأل لهذا الغرض السيئ فحقه أن لا يجاب على سؤاله أو أن يُزجر أحيانا لأجل أن يتأدّب ويرتدع غيره.
الطالب:
(وإذا بدا لك الانتقال إلى شيخ آخر فاستأذنه بذلك فإنه أدعى لحُرمته وأملك لقلبه في محبتك والعطف عليك، إلى آخر جملة من الآداب يعرفها بالطبع كل موفق مبارك، وفاء لحق شيخه، في أبوته الدينية، أو ما تسميه بعض القوانين باسم الرضاع الأدبي، وتسمية بعض العلماء له بالأبوة الدينية أليَق، وتركه أنسب.
واعلم بأنه بقدر رعاية حُرمته يكون النجاح والفلاح، وبقدر الفوت يكون من علامات الإخفاق.
تنبيه مهم: أعيذك بالله من صنيع الأعاجم والطرقية والمبتدعة الخلَفية من الخضوع الخارج عن آداب الشرع، من لحس الأيدي وتقبيل الأكتاف والقبض على اليمين باليمين والشمال عند السلام كحال تودد الكبار للأطفال، والانحناء عند السلام، واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة، سيدي مولاي، ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد، وانظر ما يقوله العلامة السلفي محمد البشير الإبراهيمي الجزائري المتوفى سنة ١٣٨٠ هـ -رحمه الله تعالى- في البصائر، فإنه فائق السياق)
نعم، قصده -رحمه الله- بهذا أن توقير الشيخ يكون من غير غلوّ، وقد جرت العادة في بلادنا في توقير المشايخ أننا نسلم عليهم ونقبل رؤوسهم، هذا هو الذي جرى عليه العمل، وأما تقبيل اليد فلو اعتاده الناس فلا بأس به فإنه ثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم- قبلوا يد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والصوفية يحصل منهم أشياء مخالفة للشرع مع أشياخهم من التبرك بهم بل ربما أنهم يتبركون ببصاقهم وعرقهم ونحو ذلك أجلَّكم الله، وكل هذا من التبرك الممنوع في الشرع.
فالمقصود من كلام الشيخ -رحمه الله- أن الشيخ يُوقر ولكن التوقير اللائق به من غير غلو.
الطالب:
(رأس مالك أيها الطالب من شيخك القدوة بصالح أخلاقه وكريم شمائله، أما التلقي والتلقين فهو ربح زائد، لكن لا يأخذك الاندفاع في محبة شيخك فتقع في الشناعة من حيث لا تدري وكل من ينظر اليك يدري، فلا تقلده بصوت ونغمة ولا مشي وحركة وهيئة، فإنه إنما صار شيخا جليلا بتلك، فلا تسقط أنت بالتبعية له في هذا).
التعلم من الشيخ بأخذ العلم عنه وأيضا بأخذ السمت والهَدي والخُلق ونحو ذلك، يعني ما يؤخذ العلم فقط، ولهذا لا بد أن تجتمع هذه الأمور في الشيخ، ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- يحضر حلقته عدد كبير، الذين معهم المحبرة هم عدد قليل، هم الذين يقيدون العلم، طلاب علم، أما البقية فيستفيدون من سمته ومن هديه ومن كريم خُلقه ،ولهذا فإن الملازمة لأهل العلم مهمة جداً لطالب العلم، يعني فضلاً عن كونه يأخذ العلم بتأصيل وبطريق صحيح أيضاً يأخذ منهم رجاحة العقل وحسن التصرف في المواقف، كالفتن مثلاً، ويستفيد منهم الهدي ويستفيد منهم العمل بالعلم وغير ذلك مما هو معلوم، بخلاف من يأخذ العلم من الكتب أو من يأخذ العلم من السماع للدروس.
وفي زمان طلبنا للعلم -ولا نزال نطلب العلم- كنا نطلب عن طريق الأشرطة إذا لم يتهيّأ لنا الحضور، وهذا إذا تعذّر الحضور نعم فهو فيه خير، لكن إذا أمكن الحضور عند الشيخ لا شك أن هذا هو الأولى، نعم بعض الناس يكون في بلاد نائية بعيد عن العلماء هذا بحمد الله فُتح له باب أن يستمع إلى الدروس عن طريق هذه الوسائل الحديثة، ولكن أنبه إلى أن سماع الدروس إذا احتجت إليه لا يكون بأن تسمع وأنت في السيارة، هذا ما تحصل لك به إلا فائدة قليلة، إذا أردت أن تستمع للشرح يكون الكتاب بين يديك ومعك القلم وتستمع للشيخ، فكلما مرت بك فائدة تقيد الفائدة حتى ينتهي الدرس، وهذه الطريقة وإن كان يفوت فيها الحضور وسؤال الشيخ عما يشكل مثلا والاستفادة من سمته لكنها لها فائدة من جهة الإسراع في الإنجاز، لو كنت في كل يوم تستمع إلى درس أو عندك وقت تستمع درسين بإمكانك تنهي الآجرومية في ثلاثة أيام أو أربعة أيام، انظر الإنجاز السريع، هذا فتح من الله -عز وجل-، وتكون من طلاب الشيخ ابن عثيمين وإن لم تدركه، هذا ما كان عند السلف، يعني ولدت بعد أن توفي الشيخ أو بعد الشيخ ابن باز ومع ذلك طلبت عليهم العلم وحضرت دروسهم لأجل هذا التسجيل وهذا الفتح من الله -عز وجل- فهذه فرص أنا أقول يعني الطالب يوازن، دروس تُحضر في المساجد ودروس أخرى يستفاد منها بالسماع، فتجمع بين هذا وهذا وتشغل وقتك إذا جاءت الإجازات يا إخوة ليست سفريات وروحات واستراحات، وسيأتيكم الآن الربيع والرحلات في البر، طالب العلم إن سافر يكون شيئا محدودا، لكن غالب الوقت في أي شيء؟ في الطلب.
طيب في الإجازة ولنفرض ما ثمّة دروس، توقفت الدروس، قل أنا أرجع إلى الأشرطة أو إلى السماع وأنجز لي متنين أو ثلاثة، ولا يمنع بعد ما أنتهي منها لو عقدت فيها دروس أحضرها مع المشايخ لكن يكون عندي حصيلة علمية.
المقصود أن طالب العلم يشغل وقته فيما ينفعه.
الطالب:
(نشاط الشيخ في درسه يكون على قدر مدارك الطالب في استماعه وجمع نفسه وتفاعل أحاسيسه مع شيخه في درسه، ولهذا فاحذر أن تكون وسيلة قطع لعلمه بالكسل والفتور والاتكاء وانصراف الذهن وفتوره.
قال الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-:
حق الفائدة ألا تساق إلا إلى مبتغيها ولا تُعرض إلا على الراغب فيها، فإذا رأى المحدّث بعض الفتور من المستمع فليسكت فإن بعض الأدباء قال: نشاط القائل على قدر فهم المستمع.
ثم ساق بإسناده عن زيد بن وهب قال: عبد الله، حدث القوم ما رمقوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فانزع).
الشيخ ينشط في الدرس إذا وجد من الطلاب التفاعل والاهتمام والحرص، أما إذا وجد الطلاب غير مهتمين ويتململون فالشيخ يضعُف؛ لأن الشيخ بشر، وهذا يُلحظ في الدراسة النظامية، ربما المساجد بحمد الله تعالى ما يأتي للدراسة فيها إلا راغب، لكن في الدراسة النظامية أحيانا تجد الطلاب يتململون، كل لحظة ينظر في الساعة ومتى تنتهي المحاضرة، وحينئذ تجد في نفسك أيها المعلم الضعف، فتعطيهم القدر الأدنى من الواجب في تعليمهم، وإذا وجد المعلمُ الطلابَ حريصين على العلم، يسألون عن ما أشكل عليهم، نشط حينئذ، وأعطاهم قدرا زائد عما يجب لهم من العلم.
الطالب:
(الكتابة مع الشيخ حالة الدرس والمذاكرة.
وهي تختلف من شيخ إلى آخر، فافهم.
ولهذا أدب وشرط: أما الأدب فإنه ينبغي لك أن تُعلم شيخك أنك ستكتب أو كتبتَ ما سمعته مذاكرة.
وأما الشرط فتشيرُ إلى أنك كتبته من سماعه من درسه).
هذه أيضا مسألة مهمة، الكتابة مع الشيخ، يعني بعض المشايخ لا يريد لأحد أن يكتب، وأعتقد هذا يكون قليلا، لماذا لا يريد لأحد أن يكتب معه؟ من باب التورع، يقول: قد أخطئ فيُكتب عني شيء ثم يحمل عني هذا الخطأ، أو أن الطالب قد يفهم خلاف كلامي، ليس كل طالب يفهم كلام الشيخ كما ينبغي، فينهى أن يكتب أحد، يقول: عندكم الشروح ارجعوا إلى كتب العلماء وخذوا منها، أنا أوضح لكم فقط، هذا إذا كان كذلك لا تكتب ما يقول، ما دام لم يأذن لك.
لكن الغالب أن المشايخ يأذنون بأن يكتب الطالب لأنهم يرون الطالب يقيد وهم يتكلمون فلم ينهوه عن ذلك، فهذا إقرار منهم بأنهم يجيزون الكتابة عنهم.
تنتبه أيضا إلى الفرق بين ما كان يُنقل عن الشيخ محررا من قِبله وما كان يلقيه ثم أنت كتبته، الفرق بين هذين، يكون عنده كتاب، مثل الآن ننقل عن الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- قال في كتابه حلية طالب العلم، كتاب محرّر وصدر في حياة الشيخ، مُراجع من قبله، لا إشكال.
لكن لو فرض أننا سمعنا من الشيخ بكر كلاما وقيدناه نحن، هل أقول: قال الشيخ بكر أبو زيد هكذا، لا، أقول: سمعت الشيخ بكر أبو زيد يقول كذا وكذا.
لماذا؟ لأن أهل العلم يفرقون بين ما كان سماعاً، يسمونه تقريرا، وما كان محررا من قبل العالِم.
وإذا رجعتم إلى فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- شيخ مشايخنا مفتي الديار في زمانه تجد أن الشيخ محمد بن قاسم -رحمه الله- الذي جمع هذه الفتاوى أحياناً يكتب في آخر الكلام: تقرير.
ماذا يقصد بالتقرير؟ يقول: هذا سمعته من الشيخ، هذا بحسب فهمي وتقييدي عن الشيخ.
بينما في مواضع أخرى فتاوى محرّرة من الشيخ مراجعة عليه أو خطابات تتضمن أحكاما شرعية، هذه محرّرة من كلام الشيخ ومراجعة، إذن ينبغي لك أن تفرّق بين ما سمعته من الشيخ وبين ما كان من كلام الشيخ محرّرا، إذا كان سماعا لا بد أن تبين أن هذا سماع من الشيخ فلان.
أيضا فيما يتعلق بالأسئلة، بعض الناس قد يتصل على الشيخ ويسأل عن مسألة فيفتيه الشيخ، والسائل يسجل كلام الشيخ، ثم ينشر.
فلا يجوز أن ينشر كلامه إلا بعد استئذانه، لأن بعض المسائل يناسب أن يكون الكلام فيها خاصا لا عاما، وقد يَخص العالم بالعلم شخصا لمناسبة حاله، أما عموم الناس فلا يناسب نشر هذا الكلام بينهم؛ لاحتمال أن كثيرا منهم قد ينزِّل الكلام على غير الحال التي سئل عنها العالم.
إذن لا بد أن تستأذن، أن تقول تأذن لي يا شيخ أن أسجل وأنشر؟ إن قال لك نعم فنعم، وإلا فلا.
نقف على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
المجلس الثالث
2/6/1446هـ
بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.
يقول المؤلف -رحمه الله-:
(التلقي عن المبتدع.
احذر أبا الجهل المبتدع الذي مسّه زيغ العقيدة وغَشيته سحب الخرافة، يحكّم الهوى ويسميه العقل ويعدل عن النص، وهل العقل إلا في النَص؟
ويستمسك بالضعيف ويبعد عن الصحيح، ويُقال لهم أيضا: أهل الشبهات وأهل الأهواء.
ولِذا كان ابن المبارك -رحمه الله- يسمّي المبتدعة: الأصاغر.
وقال الذهبي -رحمه الله تعالى-:
إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والحديث وهاتِ العقل فاعلم أنه أبو جهل، وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل وهاتِ الذوق والوجد فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر، أو قد حل فيه، فإن جبنت منه فاهرب، وإلا فاصرعه وابرُك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه.
وقال أيضا -رحمه الله تعالى- وقرأت بخط الشيخ الموفق قال: سمعنا درسه -أي ابن أبي عصرون- مع أخي أبي عُمر، وانقطعنا، وسمعت أخي يقول: ثم دخلت عليه بعد فقال: لمَ انقطعتم عني؟ قلت إن الناس يقولون: إنك أشعري، فقال: والله ما أنا أشعري، هذا معنى الحكاية.
وعن مالك -رحمه الله تعالى- قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة:
-سفيه يعلن السفَه وإن كان أروى الناس.
-وصاحب بدعة يدعو إلى هواه.
-ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث.
-وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدّث به).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد، كنا قد وقفنا على كلام الشيخ -رحمه الله- فيما يتعلق بالأخذ عن المبتدع، فحذَّر الشيخ -رحمه الله- من أن تطلب العلم على معلم مبتدع، وذلك أن الطالب يتأثر بشيخه فربما أثَّر عليه هذا المبتدع فصار مُعتقِدًا لما يعتقد، ولهذا حذَّر السلف من الأخذ عن أهل البدع، وإذا قرأت في كتب التراجم تجد بعض أهل العلم ممن نشأ على السنة ثم لما أخذ عن أهل البدعة تأثَّر بهم وأصبح على اعتقادهم، وقد ذكرت في أكثر من موضع مثالاً على هذا وهو محمد بن حُميد الحنبلي المتوفَّي سنة 1295 هـ وهو من علماء الحنابلة المتأخرين، أخذ العلم في أول أمره على الشيخ عبد الله أبابطين العالم السلفي المعروف، من علماء الدعوة النجدية، أخذ عنه لما كان الشيخ عبد الله -رحمه الله- قاضيًا في عنيزة ،فأخذ عنه ابن حميد ودرس عليه الفقه، وكان على اعتقاد السلف، ثم رحل في طلب العلم، وأخذ عن أحمد زيني دحلان، وهو من علماء مكة، المعروف بعدائه للدعوة السلفية دعوةِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فتأثَّر ابن حميد بشيخه ومن أخذ عنه من أهل البدع، فانعكس هذا على مؤلَّـفه الذي هو (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) هذا الكتاب ألفه محمد بن حميد ذيلاً على ذيل ابن رجب لطبقات الحنابلة.
الحنابلة -رحمهم الله- عندهم كتب في الطبقات، منها كتاب ابن أبي يَعلى المعروف بطبقات الحنابلة، ثم جاء بعده ابن رجب فألف الذّيل على طبقات الحنابلة، يعني إلى وفاة ابن رجب -رحمه الله- في القرن الثامن، ثم جاء ابن حميد هذا فوضع ذيلا وترجم للحنابلة إلى زمانه.
وابن حميد كما تقدم توفي سنة 1295هـ، إذا تأمّلت في هذه الحقبة الزمنية من ابن رجب إلى ١٢٩٥ هـ ونظرت في علماء الحنابلة: أليس منهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة النجدية كالشيخ عبد الرحمن بن حسن وغيرهم؟ ومع ذلك لم يُترجم لواحد منهم أبداً، وذلك لما في نفسه على هذه الدعوة السلفية، هذا من أين أتى؟ من الأخذ عن أهل البدع، فتأثر بهم وأصبح على طريقتهم، لم يُترجم إلا لعالم واحد من أئمة الدعوة، وهو شيخه الشيخ عبد الله أبابطين -رحمه الله تعالى-
ولكنه أعرض عن الترجمة لبقية أئمة الدعوة مع أنهم حنابلة، وكان ينبغي بمقتضى التأليف والأمانة العلمية أن تذكرهم وحينئذٍ أبدِ ما عندك عليهم إن كنت تجد عليهم شيئا، لكنه أعرض عن الترجمة لهم وكأنهم ليسوا علماء في هذه الحقبة الزمنية.
المقصود هذا مثال، وإلا فهناك عدة أمثلة.
فانتبه يا طالب العلم، لا تأخذ عن مبتدع، لا أشعري ولا معتزلي، واليوم الآن ظهرت عندنا جماعات معاصرة مخالفة للسنة فنقول أيضا: لا تأخذ عن إخواني ولا تأخذ عن تكفيري، انتبه لأن البدع في كل عصر يكون لها لون ويكون لها أتباع، فأنت تنتبه لهذا، لا تأخذ إلا عن أهل السنة الذين عُرِفوا بتعظيم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.
الطالب:
(فيا أيها الطالب إذا كنت في السعة والاختيار فلا تأخذ عن مبتدع رافضي أو خارجي أو مرجئ أو قدري أو قبوري، وهكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال، صحيح العقد في الدين، متين الاتصال بالله، صحيح النظر، تقفو الأثر: إلا بهجر المبتدعة وبدَعهم.
وكتب السيَر والاعتصام بالسنة حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة ومنابذة المبتدعة والابتعاد عنهم كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعات يطول شرحها، لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس مقيّدة فيها، فقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- يحتسبون الاستخفاف بهم وتحقيرهم ورفض المبتدع وبدعته، ويحذرون من مخالطتهم ومشاورتهم ومؤاكلتهم، فلا تتوارى نار سنيّ ومبتدع.
وكان من السلف من لا يصلي على جنازة مبتدع، فينصرف، وقد شوهد من العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- انصرافه عن الصلاة على مبتدع.
وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم ويَنهى عن حكاية بدعهم؛ لأن القلوب ضعيفة والشُّـبَه خَطّافة).
الصلاة خلف المبتدع فيها تفصيل، يذكره الفقهاء في كتاب الصلاة..
إن كانت بدعته تخرجه من الإسلام كبدعة الرافضة مثلاً فلا تصح الصلاة خلفه بالاتفاق؛ لأن الصلاة خلف الكافر لا تصح.
وإن كانت بدعته لا تخرجه من الإسلام فإنه لا يُجعل إماماً راتباً، ولكن هل تصح الصلاة خلفه أو لا تصح؟ محل خلاف بين الفقهاء، والأقرب أنها تصح ما دامت بدعته لا تخرجه من الإسلام، فالصلاة صحيحة، ولكن لا يجوز أن يُجعل إماما راتبا وأن يُقدَّم ليكون هو الذي يصلي بالناس.
الطالب:
(وكان سهل بن عبد الله التستري لا يرى إباحة الأكل من الميتة لمبتدع عند الاضطرار؛ لأنه باغٍ، لقول الله تعالى ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ﴾ [البقرة: 173] الآية، فهو باغ ببدعته.
وكانوا يطردونهم من مجالسهم، كما في قصة الإمام مالك -رحمه الله تعالى- مع من سأله عن كيفية الاستواء، وفيه بعد جوابه المشهور: أظنك صاحب بدعة، وأمر به فأُخرج).
قصة الإمام مالك رحمه الله تعالى مشهورة مع مَن سأله فقال: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾ [طه: 5] كيف استوى؟
فأطرق الإمام مالك -رحمه الله- حتى علاه الرَّحَضاء -يعني العرق- من شدة هذا السؤال، ثم رفع رأسه فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا، ثم أمر به فأخرج من المسجد.
الطالب:
(وأخبار السلف مُتكاثرة في النفرة من المبتدعة وهَجرهم، حذرا من شرهم وتحجيما لانتشار بِدعهم، وكسرا لنفوسهم لتضعف عن نشر البدع.
وإن في معاشرة المبتدع تزكية له لدى المبتدئ والعامي، والعامي مشتق من العمى، فهو بيَدِ من يقوده غالباً، ونرى في كتب المصطلح وآداب الطلب وأحكام الجرح والتعديل الأخبار في هذا.
فيا أيها الطالب كن سلفيا على الجادة، واحذر المبتدعة يفتنونك، فإنهم يوظفون للاقتناص والمخاتلة سُبلا يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول، وهو عسل مقلوب، وهُطول الدمعة وحسن البزّة والإغراء بالخيالات والإدهاش بالكرامات ولحس الأيدي وتقبيل الأكتاف، وما وراء ذلك إلا وهم البدعة ورهج الفتنة، يغرسها في فؤادك ويعتملك في شِراكه، فوالله لا يصلح الأعمى لقيادة العميان وإرشادهم.
أما الأخذ عن علماء السنة فالعَق العسل ولا تسل، وفقك الله لرشدك لتنهل من ميراث النبوة صافية، وإلا فليبك على الدين من كان باكيا).
يقول رحمه الله تعالى: كن سلفيا على الجادة، على جادة السلف الصالح، حريصا على اتّباع ما كانوا عليه، معتنيا بالآثار، لا تأخذ إلا عن أهل السنة.
وفي مقدمة صحيح مسلم يقول الإمام محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ومن أخبار علماء السلف في ذلك قول الإمام محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ منده رحمه الله تعالى: طفت الشرق والغرب مرتين، ولم أسمع من المبتدعين حديثاً([1]).
وهنا الشيخ -رحمه الله- قال في تحذيره من أهل البدع: يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول، وهو عسل المقلوب
ماذا يريد؟ لو قلبت كلمة عسل ماذا تصير؟ لسعٌ.
يعني كأنهم عقارب يلسعون ويؤذون من يجالسهم.
يقول: وهُطول الدمعة، هذا قد يحصل من بعض المبتدعة، تجد عليه خشوعا وإذا وعظ الناس بكى، فينخدع به عامة الناس وبعض صغار طلبة العلم، ويرون أنه من أهل الخشية لله عز وجل.
وقد جاء كلام للعلامة ابن القيم -رحمه الله-: إن الشيطان ليلقي على المبتدع الخشوع ليصطاد به.
فلا تغتر بشخص يبكي في وعظه أو درسه إذا كان ليس على طريق أهل السنة والجماعة.
أيضًا ذكر الشيخ رحمه الله تعالى حُسن البزّة والإغراء بالخيالات والإدهاش بالكرامات إلى آخر ما ذكره.
أضيف أيضًا أن بعض الناس اليوم صار إذا احتاج إلى مسألة دخل على هذه الوسائل الحديثة ويسمع فتوى فلان أو كلام فلان أو محاضرة فلان وقد يندهش بقوة حافظته، وقد يندهش ببلاغته وفصاحته، وقد يندهش بقوة حُجته، فيغتر به، ويتبعه فيما يقول.
وقوة الحافظة والبلاغة والفصاحة وقوة الحجة لا تكفي ليكون صاحبها متبعا، بل لا بد أن تعرف اعتقاده وأن تعرف ديانته، وقد مر معنا أنه لا يأخذ إلا من معلم متقن وأمين أيضا على العلم؛ لأن العلم أمانة، إذا كان الإنسان ما يُحسن العلم كعامة الناس أو صغار طلبة العلم ربما يُصدق كل شيء يقوله هذا الشيخ.
فينبغي التنبه لهذا، إذن لا تغتر بمثل هذه الأمور التي يغتر بها كثير من الناس حتى تعلم حال الرجل من حيث الاعتقاد ومن حيث الديانة.
الطالب:
(وما ذكرتُ لك هو في حال السّعة والاختيار، أما إن كنت في الدراسة النظامية لا خيار لك: فاحذر منه مع الاستعاذة من شره، ولا تتخاذل عن الطلب، فأخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف، فما عليك إلا أن تتبين أمره وتتقي شره وتكشف سترَه).
قد يُبتلى الإنسان بمعلم مبتدع في دراسة نظامية، والدراسة النظامية ليس لك فيها خيار أن تنتقي الأساتذة.
أنتم بحمد الله في بلاد السنة، الأصل أن لا يدرسك إلا من هو على السنة، لكن قد يبتلى الإنسان في بعض البلاد بمن يدرسه على غير السنة، هو محتاج إلى أن يدرس هذه الدراسة النظامية، فماذا يصنع؟ يقول الشيخ: حينئذ يكون متحرزاً متنبهاً متيقظاً من هذا المعلم المبتدع، ربما يدس عليه شيئا من بدعته.
حتى في غير العلوم الشرعية، وهي العلوم المساعدة كعلم اللغة العربية، فلو تأملت بعض شروح ألفية ابن مالك تجد فيها ما يُخالف عقيدة السلف الصالح، يذكرون بعض الآيات ويُؤوِّلون الصفات فهذا ما ينتبه له الطالب.
إذن الشيخ يقول: إذا ابتُـليت بدراسة نظامية والمعلم ليس لك خيار فيه وتعلم أنه على بدعة فكُن حينئذ حذراً، إن استطعت أن تبلغ المسؤول بحيث يزيل هذا المعلم المبتدع ويضع بدله سنيا وإلا فلا أقل من أن يكون الإنسان حذراً من هؤلاء.
الطالب:
(ومن النُّـتَف الطريفة أن أبا عبد الرحمن المقرئ حدّث عن مُرجئ فقيل له: لماذا تحدث عن مرجئ؟ فقال: أبيعكم اللحم بالعظام.
فالمقرئ -رحمه الله تعالى- حدّث بلا غرَر ولا جهالة إذ بينا فقال: وكان مرجئا.
وما صدرته لك هنا هو من قواعد معتقدك عقيدة أهل السنة والجماعة، ومنه ما في عقيدة السلف لشيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني المتوفى سنة ٤٤٩ هـ، قال -رحمه الله تعالى-:
ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع الأباطيل التي إذا مرت بالآذان وقرَّت في القلوب ضرَّت، وجرَّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرَّت، وفيها أنزل الله -عز وجل- قوله ﴿وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦ﴾ [الأنعام: 68]
وعن سليمان ابن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدمَ المدينة فجعل يسألُ عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر -رضي الله عنه- وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دميَ رأسه، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعى به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فقتلني قتلاً جميلا، فأذِن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري باليمن: لا يُجالسه أحد من المسلمين.
رواه الدارمي.
وقيل كان متهماً برأي الخوارج.
والنووي -رحمه الله تعالى- قال في كتاب الأذكار: باب التبري من أهل البدع والمعاصي.
وذكر حديث أبي موسى -رضي الله عنه- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برئ من الصالقة والحالقة والشاقة" متفق عليه.
وعن ابن عمر براءته من القدرية. رواه مسلم).
ذكر رحمه الله تعالى نقلا عن الصابوني -رحمه الله- من علماء السنة في عقيدة السلف وأصحاب الحديث، وكلامه في هذا واضح، أن أهل السنة يبغضون أهل البدع ولا يجالسونهم ولا يأخذون عنهم ولا يسمعون كلامهم بل ولا يناظرونهم، إذا جاءك المبتدع قال: تعال نتناقش، أعطيك الذي عندي وتعطيني الذي عندك وننظر، ربما يكون الحق معي أو الحق معك.. فأنت لا تناقشه ولا تناظره في هذا أبداً، خاصة مع كون الطالب مبتدئاً في العلم، لا يناقش أهل البدع ولا يجادلهم ولا يناظرهم، لماذا؟ لأنه ربما ألقى عليك شبهة فوقرت هذه الشبهة في قلبك ثم لم تخرج أبداً، وهذا أمر معروف عند أهل البدع، يلقون الشبهة وهي ليست بحُجة، أهل العلم الراسخون في العلم يجيبون عنها بجواب واضح، لكن كون الشخص عاميا أو كونه مبتدئا في الطلب لا يُحسن الجواب عن هذه الشبَه، فلهذا نهى السلف عن مجالستهم وعن سماع كلامهم.
ثم ذكر أثر عمر -رضي الله عنه- مع صبيغ.
صبيغ كان يسأل عمر عن بعض الآيات، ففهم عمر -رضي الله عنه- من سؤاله تعنتا وعنادا، فأمر به فضُرب، كما جاء في هذا الأثر، ثم عاد فضربه، ثم عاد فضربه، ثم جلَّاه إلى أبي موسى -رضي الله تعالى عنه- وأمر الناس ألا يجالسوه.
وقصة صبيغ هذه ذكرها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الإصابة وقال إنها بإسناد صحيح، فهي ثابتة عن عمر، وفيه موقف السلف -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم- الحازم من أهل البدع.
فانظر إلى موقف عمر الشديد مع صبيغ، وقد قيل إنه كان يرى القدر كما في كلام الشيخ هنا.
فالواجب على السلطان والعلماء قمع المبتدعة، ولا تجوز مجالستهم، ويجب التدين ببغضهم؛ لأنهم ليسوا على الطريق الصحيح.
الطالب:
(والأمر في هجر المبتدع ينبني على مراعاة المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، وعلى هذا تتنزل المشروعية من عدمها، كما حرّره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مواضع).
يريد أن يُنبه أن هذا ليس على إطلاقه، قد تقتضي المصلحة أحيانا مجالسة المبتدع لتحقيق مصلحة للمسلمين أو دفع مفسدة عن المسلمين، وهذا من باب الاستثناء والموازنة بين المصالح والمفاسد، لكن الأصل مجانبتهم، فقد ترى أحيانا من أهل العلم من يجالس المبتدع، فلا تُسئ الظن به؛ لأنه قد يكون قد جالسه لتحقيق مصلحة أو لدفع مفسدة عن المسلمين، فهذا وارد، لكن الأصل العام هو مجانبة مجالستهم والحذر منهم والتحذير منهم وبغضهم، هذا هو الأصل العام.
الطالب:
(والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون إذا قل العلم وفشى الجهل، وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال.
فإذا اشتد ساعدك في العلم فاقمع المبتدع وبدعته بلسان الحُجة والبيان، والسلام).
أهل البدع يكثرون إذا قلَّ العلم، ولهذا فالأمصار التي فيها السنة ظاهرة وعلماء السنة فيها كُثُر ما تظهر فيها البدعة، كلما أظهر مبتدع بدعته قمعه أهل السنة، خاصةً إذا كان السلطان مع أهل السنة، وأما في البلدان التي يقلُّ فيها أهل السنة، أو السلطان ليس على السنة ،أو في قرى نائية بعيدة يقل فيها العلم فإن البدع تظهر؛ لأنهم يُلبسون على الناس ويخدعون الناس ويُظهرون الشُّبه، وتجد مثلا الشيعة يشبّهون على الناس بأنهم يوالون آل البيت، وهذه الشبهة تروج على كثير من العامة ،لا شك أننا كلنا نوالي أهل البيت، أهل بيت النبي -عليه الصلاة والسلام- من أهل الإيمان منهم ونحبهم ونجلهم، لكن لا نرفعهم عن منزلتهم التي أنزلهم الله -عز وجل-، فهذا مدخل يدخل منه الشيعة على عموم الناس، وقل مثل ذلك في بقية البدع، تجد أن كل مُبطل لا يكون عنده باطل محض ،ولكن يشوب هذا الباطل بشيء من الحق حتى يَروج.
لو جاء شخص إلى الناس بباطل محض لا حق معه ما قبلوه منه، لكن حتى يروج الباطل يُدخل معه شيئا من الحق، كما ذكرت قبل قليل عن الشيعة، فالشيعة لو قالوا: ندعو غير الله. ما قبل الناس منهم، لكن يقولون نحن نعظم آل البيت ونوقر آل البيت، فدخلوا على الناس من هذا الباب، هو في ذاته حق، توقير أهل البيت حق، وأهل السنة يوقِّرون أهل البيت لكن لا يرفعونهم إلى منزلة أن يكونوا آلهة ويُدعون من دون الله -عز وجل-.
إذن ننتبه لهذا.
ولهذا فالذي ينتبه لكلام أهل البدع ويرد على أهل البدع هم أهل العلم الذين نوّر الله -عز وجل- بصائرهم بالعلم، ولهذا قال الشيخ في آخر كلامه: فإذا اشتدَّ ساعدك. يشتد الساعد بالعلم بالسنة، قال: فاقمع المبتدع. أي تقمعه بالحجة والرد عليهم وكشف الشُّبه التي يثيرها.
وإذا نظرت في أئمة الإسلام كالإمام أحمد ومن بعده وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب إلى علمائنا الآن كالشيخ صالح الفوزان وأمثالهم، قمعوا أهل البدع بالحجة وقمعوهم بالردود العلمية المؤصلة، ولكن ما يتأهل لهذا إلا مَن بلغ في العلم منزلة تُناسب أن يكون رادا على أهل البدع.
الطالب:
(الفصل الرابع: أدب الزمالة.
احذر قرين السوء، كما أن العرق دسّاس فإن أدب السوء دسّاس، إذ الطبيعة نقالة، والطباع سرّاقة، والناس كأسراب القطا مَجبولون على تشبه بعضهم ببعض، فاحذر معاشرة من كان كذلك فإنه العطب، والدفع أسهل من الرفع، وعليه فتخير للزمالة والصداقة من يعينك على مطلبك ويقربك إلى ربك ويوافقك على شريف غرضك ومقصدك.
وخُذ تقسيم الصديق في أدق المعايير:
صديق منفعة، وصديق لذّة، وصديق فضيلة.
فالأولان منقطعان بانقطاع موجبهما، المنفعة في الأول واللذة في الثاني، وأما الثالث فالتعويل عليه، وهو الذي باعِث صداقته تبادل الاعتقاد في رسوخ الفضائل لدى كل منهما.
وصديق الفضيلة هذا عملة صعبة يعزّ الحصول عليها، ومن نفيس كلامه هشام بن عبد الملك المتوفى سنة 125هـ قال: ما بقي من لذات الدنيا شيء إلا أخ أرفع مئونة التحفظ بيني وبينه.
ومن لطيف ما يقيد قول بعضهم:
العزلة من غير عين العلم زَلّة، ومن غير زاي الزُّهد علَّة).
هذا الفصل عقده الشيخ -رحمه الله- في أدب الزمالة، يعني زملاءك في طلب العلم ينبغي أن تتأدَّب معهم.
قال: احذر قرين السوء.
هذه من الآداب في الزملاء، أنك لا تُزامِل من كان سيئًا؛ لأن هذا يُثبِّطك عن طلب العلم، يعني لا تزامل البطال، الذي إذا قلت له تعال نراجع العلم أو نحفظ متنا قال لك: لا، تعال نتمشى، نذهب ونسمر، هذا تبتعد عنه، هذا لا يفيدك، هذا يضيع عليك وقتك وأشد من ذلك من يثبطك عما أمر الله -عز وجل- به، ويزين لك ما نهى الله عنه، فهذا قرين سوء فاحذر منه غاية الحذر.
قال: كما أن العِرق دسّاس فإن أدب السوء دسّاس، يعني بذلك أن العِرق مُتَّصل بك اتصالا وثيقا فكذلك الزميل فهو مصاحب لك مصاحبة وثيقة، فأثره عليك كبير.
وذكر الشيخ -رحمه الله- أن الصديق له معايير، وقال: خذ تقسيم الصديق في أدق المعايير، صديق منفعة، يصاحبك لأجل المنفعة والمصلحة، فإن ذهبَت المصلحة أو رأى أنه لا يمكن أن ينتفع بك تركك.
وصديق لذة، يريد باللذة هنا أي أنه يحصل له منك الاستئناس، كأن تسافر معه تؤانسه أو تطلع معه إلى استراحة أو نحو ذلك، لأن الناس لا يمكن أن يذهبوا لوحدهم، لا بد معه من أشخاص، فهذا أيضا له مصلحة خاصة.
الثالث: صديق فضيلة، وهو الذي يصاحبك لِذاتك ولِما أنت عليه من طاعة لله -عز وجل-، والمحبة بينك وبينه لله -جل وعلا- لا لمصالح دنيوية، هذه المحبة وهذه المُزاملة والمُصادقة هي في حقيقتها قُربة إلى الله -جل وعلا- يتقرب العبد بها إلى ربه، وأنت تنتفع بهذا الصاحب نفعاً عظيماً وهو ينتفع بك نفعاً عظيماً في الدنيا وفي الآخرة، وكل ذلك فيما يُرضي الله -جل وعلا-.
ذكر بعد ذلك أن هذا القسم الثالث من الأصحاب أنه نادر جداً، لأن غالب مصاحبة الناس على الدنيا.
أين تجد الأخ المحب لك في الله -عز وجل- الناصح لك الذي يريد الخير لك ولا يريد منك دنيا؟ هذا قليل في الناس.
ثم قال الشيخ -رحمه الله-: ومن لطيف ما يقيَّد قول بعضهم: -وهذه تحتاج إلى تأمل،- العزلة من غير عين العلم زَلة ،ومن غير زاي الزهد علّة.
هذه من اللطائف، العُزلة من غير عين العلم، لو حذفنا العين من العُزلة ماذا تصير؟ الزلّة.
لعلكم تذكرون ما مر معنا من الكلام على العزلة، هل العزلة محمودة أو غير محمودة؟ هناك تفصيل، إن كان الشخص اعتزل الناس لأنه لا يمكنه أن يصلح أحوالهم ويخشى على نفسه من أن يتأثر بما هم عليه من الباطل: هذه العزلة محمودة.
وإن كان يمكنه أن يصلح ولو شيئا من أحوالهم بدعوتهم إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الخير ولو بالقدر الذي يستطيع وهو آمنٌ على نفسه من أن يتأثر بما هم عليه من مخالفة أمر الله فهذا نقول: العزلة في حقه ليست محمودة، بل ينبغي له أن يخالط الناس، "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" كما ورد في الحديث.
إذن عرفنا هذا فالعزلة إن كانت عن علم فإنها محمودة، وإذا كانت عن غير علم فهي زلّة وخطأ.
قال: ومن غير زاي الزهد علّة. لو حذفنا الزاي من كلمة العزلة صارت: العلّة.
كيف تكون علّة؟ يمكن أن يقال: إن الذي يعتزل الناس سوف تفوته كثير من ملاذ الدنيا، فإن كانت هذه العزلة زهدا فهي محمودة، وإن لم تكن زهدا فهو مصاب بعلة، إما مرض أو غيره اعتزل بسببه عن الناس.
أقول: هذا تفسير اجتهادي، لعله يكون مراد مَن قال هذه العبارة، وإلا فالله أعلم بالمراد بها.
الطالب:
(الفصل الخامس: آداب الطالب في حياته العلمية:
كِـبَرُ الهمة في العلم.
من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة.
مركز السالب والموجب في شخصك الرقيب على جوارحك: كِبَرُ الهمة، يجلب لك بإذن الله خيرا غير مجذوذ لترقى إلى درجات الكمال، فيجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراك الناس واقفا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطا يديك إلا لمهمات الأمور، والتحلي بها يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتثّ منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة، فكبير الهمّة ثابت الجَأش لا تُرهِبُه المواقف، وفاقِدُها جبانٌ رعديد تُغرِقُ فمهُ الفهاهة.
ولا تغلط فتخلط بين كبر الهمة والكِـبْر، فإن بينهما من الفرق كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع.
كِبَرُ الهمة حلية ورثة الأنبياء، والكِبْر داءُ المرضى بعلَّة الجبابرة والبؤساء، فيا طالب العلم، ارسم لنفسك كبر الهمة ولا تنفلِت منه، وقد أومأ الشرع إليها في فقهياتٍ تُلابِس حياتك لتكون دائما على يقظةٍ من اغتنامها، ومنها إباحة التيمم للمُكلَّف عند فقد الماء وعدم إلزامه بقبولِ هبة ثمن ماء الوضوء، لما في ذلك من المنَّة التي تنالُ من الهمة منالا، وعلى هذا فقِس، والله أعلم).
هذا كلام عظيم يتعلق بالهمة العالية في طلب العلم، فينبغي لطالب العلم أن يكون ذا همة عالية.
والهمة العالية بأن يجتهد في طلب العلم ويؤمل أن يحصِّل أعلى درجات العلم في الحفظ وفي الفهم، وهذا مقصده كما تقدم: الإخلاص لله -عز وجل- وأن يريد ببلوغه هذه المرتبة العالية في العلم نصرة دين الله -جل وعلا- ورفع الجهل عن نفسه وعن الناس، وتعليم الناس دين الله -جل وعلا- ونشر الخير بينهم، وهذا لا يتأتى إلى بعلم، وكلما كان الإنسان أكثر علما كان أكثر أثرا في الناس وفي مجتمعه.
فكبَر الهمة أمرٌ مهم لطالب العلم لكن لا يختلط عليك كبَر الهمة بما ذكر الشيخ -رحمه الله- من الكبْر، أنت تريد أن تكون مكانتك عالية في العلم لأجل أن تنفع الناس ولأجل أن تبلغ دين الله -جل وعلا-، لا لأجل أن تتكبر عليهم، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- "الكبْر بطَر الحق وغمط الناس" بطر الحق يعني رد الحق ،وغمط الناس يعني احتقارهم، فطالب العلم يتواضع، كلما ازداد في العلم زاده العلم تواضعا لله -جل وعلا- لأنه يستحضر نعمة الله -عز وجل- عليه، فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي اختصك بهذا العلم ويسّر لك أسبابه وحجب عنك الصوارف التي تحجبك عن العلم، فالفضل لله أولا وآخرا ليس منك، أنت بذلت سببا وجاءك التوفيق من الله -جل وعلا-، وأنت إذا نظرت في أقرانك، يعني إذا تقدم بالإنسان العمر والتفت إلى الخلف ونظر في أقرانه الذين درسوا معه في الابتدائي أو درسوا معه في المتوسط أو في الثانوي، ما حالهم؟ تجد كثيرا منهم لم يطلبوا العلم ولم يصبحوا علماء، بينما هذا الشخص منَّ الله -عز وجل- عليه ويسر له أسباب العلم ورزقه العلم حتى أصبح عالمًا ينفع الله به أمة الإسلام، هذا الفضل لله -جل وعلا- أولًا وأخرًا، هذا يدعوك إلى التواضع وإلى أن تعرف فضل الله -عز وجل- عليك.
ثم إن الشيخ -رحمه الله- ذكر أمرًا يتعلق بعزة النفس في بعض الفقهيات التي يذكرها الفقهاء، وذكر منها ما لو أن الإنسان احتاج إلى التيمم، كما لو لم يجد الماء، فجاءه شخص فقال: أعطيك هذا الماء هبةً لأجل أن تتوضأ به، ما الحكم؟ هل يجب عليه أن يقبل الهبة؟ أو قال: خذ هذا المال لتشتري به ماء تتوضأ به، هل يجب عليه أن يقبل هذا الماء هبةً؟ قالوا: لا يجب عليه، مع أن الوضوء شرط، فالطهارة شرط من شروط صحة الصلاة، فهذا يمكنه قبول الهبة والإتيان بشرط الصلاة وهو الطهارة بالماء، ومع ذلك قال الفقهاء: لا يلزمه ذلك ويعدل إلى التيمم، خشية المنَّة عليه ، فإذا كنت تخشى من هذا الشخص أن يمنّ عليك في المستقبل لم يَلزمك أن تأخذ منه هذا الماء، يقول في المستقبل: أنا أعطيتك، أنا أهديتك، يتكلم بهذا ويمنّ عليك، وهذا لا شك أن فيه كسرا للنفوس الأبيَّة، فهي لا ترضى بهذا، فالشريعة تراعي هذا الأمر، فهذا الشيخ يضرب لك مثالا، وله نظائر في كتب الفقه، حتى إنهم ذكروا في الحج: لو جاءه شخص وقال: خذ هذا المال حُج به، هل يجب عليه أن يقبل الهبة؟ قالوا: لا يجب عليه، لكن يستثنى من ذلك من يبعد أن يمنّ عليك أو له منة عليك عظيمة مثل الأب، لو جاءك أبوك فقال: خذ يا ولدي هذا المال لتحج به. هنا تأخذ المال وتحج، لأن منّة الأب على ولده عظيمة، أعطاه أو لا، أو شخص مثل أخيك أو قريب منك يبعد أن يمنّ عليك حين تأخذ، لا إشكال، لكن من هو غير هؤلاء، فإنك إذا كنت تخشى المنة لا يجب عليك أن تأخذ منه المال.
الطالب:
(النَّهمة في الطلب:
إذا علمت الكلمة المنسوبة للخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (قيمة كل امرئ ما يحسنه) وقد قيل: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها.
فاحذر غلط القائل: (ما ترك الأول للآخر) وصوابُه: (كم ترك الأول للآخر).
فعليك بالاستكثار من ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم فتذكر (كم ترك الأول للآخر).
في ترجمة أحمد بن عبد الجليل من تاريخ بغداد للخطيب، ذكَرَ مِن قصيدة له:
لا يكون السريُّ مثل الدنيِّ •• لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيِّ
قيمة المرء كلما أحسن المَر •• ءُ قضاءً من الإمام عليِّ)
قال: النهمة في الطلب.
وهذا أمر لا بد منه، أن يكون طالب العلم منهوما في الطلب حريصًا على القراءة وعلى حضور مجالس العلم وحريصًا على اقتناء الكتب وحريصاً على الفوائد العلمية، يكون عنده نهَم، كما أن طالب الدنيا عنده نهَم في دنياه فكذلك طالب العلم يكون عنده نهَم وحرص شديد على العلم حتى يحصّل.
ثم ذكر الشيخ الكلمة المشهورة (قيمة كل امرئ ما يحسنه)
إذا نظرت إلى علماء الشريعة ما الذي يحسنون؟
يحسنون علم الكتاب والسنة والأثر ويحسنون الأحكام الشرعية، هذا الذي يحسنونه، إذن فقيمتهم وقدرهم عال جدا.
وإذا نظرت إلى الطبيب ما الذي يحسن؟ علم الطب ولا شك أنه علم شريف من علوم الدنيا، المهندس كذلك يحسن علم الهندسة وهو علم شريف من علوم الدنيا، وقس على هذا، تجد بعض الناس عنده علم لكن بأمور غير نافعة إما أن تكون مباحات أو تكون والعياذ بالله علوما محرمة كعلم السحر أو علم التنجيم الذي فيه مخالفة شرعية.
ثم ذكر أيضا كلمة أخرى: (ما ترك الأول للآخر) صوابه (كم ترك الأول للآخر)
بعضهم يقول: ما ترك الأول للآخر، يعني أنك أنت أيها المتأخر إنما أنت عالة على كلام من تقدم فلا يمكن أن تأتي بشيء جديد، وهذا غير صحيح؛ لأنك إذا نظرت في كل قرن من القرون الماضية لو طبقنا عليه هذه القاعدة ما ترك الأول للآخر لما صنعوا شيئا، أليس كذلك؟ فقط يستفيدون من علم من قبلهم..
أعطيك مثالا، كتاب المغني للموفق ابن قدامة، كتاب لا يستغني عنه طالب علم.
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، كذلك لا يستغني عنه طالب علم.
فلو أخذنا بهذه القاعدة في زمان الموفق، وهو متوفى سنة ٦٢٠ هـ، في أول القرن السابع، وقلنا: ما ترك الأول للآخر. فإن الموفق لن يؤلف كتابه المغني.
وكذا في القرن التاسع الذي توفي فيه الحافظ ابن حجر، نقول: ما ترك الأول للآخر. لو الأمر كذلك لما ألف فتح الباري. فدل على أن هذه العبارة غير مسلَّمة.
ولهذا نرى في هذا العصر المؤلفات الكثيرة النافعة التي لا يغني عنها ما تقدم، ولو لم يكن إلا جمع المتفرق المبثوث في كتب أهل العلم وتيسيره لطالب العلم هذا أقل شيء، فضلا عن النوازل الكثيرة في هذا العصر، ففي الدراسات العليا في العقيدة أو في الحديث أو في الفقه أو غيرها من علوم الشريعة تجد رسائل وتجد في المكتبات كل يوم العشرات، هذه المؤلفات النافعة وبعضها قيم ولا يغني عنها ما تقدم من كلام أهل العلم.
فالمقصود من هذا أن قوله: وصوابه (كم ترك الأول للآخر) لا شك أن هذا يفتح لطالب العلم أبوابا في العلم.
قوله -رحمه الله-: وقد قيل: ليس كلمة أحضّ على طلب العلم منها.
يعني قوله: قيمة كل امرئ ما يحسنه، هذا استدركه الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في شرحه لهذه الرسالة، قال: بل أحض كلمة قول الله تعالى ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]
وقول الله تعالى ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ﴾ [المجادلة: 11] وأيضا بقية الآيات والأحاديث الواردة في فضل العلم.
الطالب:
(الرحلة للطلب:
من لم يكن رُحْلةً لن يكون رُحَلةً، فمن لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ والسياحة في الأخذ عنهم فيبعد تأهله ليُرحل إليه؛ لأن هؤلاء العلماء الذين مضى وقتٌ في تعلمهم وتعليمهم والتلقي عنهم لديهم من التحريرات والضبط والنكات العلمية والتجارب ما يعزُّ الوقوف عليه أو على نظائره في بطون الأسفار، واحذر القعود عن هذا على مسلك المتصوفة البطالين الذين يُفضِّلون علم الخِرَق على علم الوَرق، وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق؟!
وقال آخر: إذا خاطبوني بعلم الورقْ •• برزتُ عليهم بعلم الخرقْ
فاحذر هؤلاء فإنهم لا للإسلام نصروا ولا للكفر كسروا، بل فيهم من كان بأسا وبلاء على الإسلام).
قوله رحمه الله تعالى: من لم يكن رُحْلةً لن يكون رُحَلةً.
مراد الشيخ -رحمه الله- يعني أن من لم يرحل في طلب العلم فإنه لن يُرحل إليه، وهذا فيه الترغيب في الرحلة لأخذ العلم، وقد عرفنا أنه إذا رحل لا يأخذ إلا عن أهل السنة، ولكن جرت عادة العلماء أن طالب العلم لا يرحل لأخذ العلم حتى يأخذ عن علماء بلده، فإذا أخذ عن علماء بلده رحل للتزوّد من العلم عن العلماء الآخرين، وربما كان البلد عامرًا بالعلماء فيغني الطالب عن الرحلة، كالأمصار المشهورة بكثرة العلماء في فنون العلم، فقد لا يحتاج الطالب إلى أن يرحل.
لكن في أزمنة مضت وإلى زماننا فإن الرحلة فيها نفع وفيها فائدة، ليتنوّع عنده الشيوخ فيستفيد من هذا ما لا يستفيده من هذا.
وذكر الشيخ -رحمه الله- طريقة أهل البدع وأنهم إذا قيل لهم ألا ترحل لتسمع من عبد الرزاق قال ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق.
لأنهم يزعمون أنهم يأخذون عن الله -جل وعلا- مباشرة وأنهم يخاطبون الله ويخاطبهم، وهذا من خرافاتهم وضلالاتهم.
الطالب:
(حفظ العلم كتابةً
ابذل الجهد في حفظ العلم حفظ كتاب؛ لأن تقييد العلم بالكتابة أمان من الضياع وقصر لمسافة البحث عند الاحتياج، لا سيما في مسائل العلم التي تكون في غير مظانّها.
ومن أجلّ فوائده أنه عند كبر السن وضعف القوى يكون لديك مادة تتّجِرُ منها مادة تكتب بها بلا عناء في البحث والتقصّي، ولذا فاجعل لك كُنّاشا أو مذكرة لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك فحسن، ثم تنقل ما يجتمع لك بعدُ في مذكرة مرتبا له على الموضوعات مقيدًا رأس المسألة واسم الكتاب ورقم الصفحة والمجلد، ثم اكتب على ما قيّدته: (نقل) حتى لا يختلط بما لم يُنقل، كما تكتب: (بلغ صفحة كذا) فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه قراءة.
وللعلماء مؤلفات عدّة في هذا، منها بدائع الفوائد لابن القيم، وخبايا الزوايا للزركشي، ومنها كتاب الإغفال وبقايا الخبايا وغيرها.
وعليه، فقيّد العلم بالكتاب، لا سيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير مساقها، ودررا منثورة تراها وتسمعها تخشى فواتها، وهكذا، فإن الحفظ يَضعف والنسيان يَعرض، قال الشعبي: (إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في الحائط) رواه خيثمة.
وإذا اجتمع لديك ما شاء الله أن يجتمع فرتّبه في مذكرة أو كُنّاش على الموضوعات، فإنه يسعفك في أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.)
هذا تقدمت الإشارة إليه في الدرس الماضي وكيف يقيد طالب العلم الفوائد، وأن أهل العلم لهم أكثر من طريقة في هذا، إما أن يجعل له دفترًا يقيد فيه الفوائد ولكل فن دفتر مثلا، وأيضًا إذا قرأ كتابًا يعلق على غلاف الكتاب من الداخل في الصفحة الأولى يُقيد الفوائد.
الشيخ هنا يقول أيضًا: إذا انتهيت من الكتاب وقيدت الفوائد على الغلاف ترجع إلى هذه الفوائد ثم تنقلها في الدفتر الخاص بكل فن، كأن توزعها على الفنون، ثم الفن توزعه على الموضوعات، ففي دفتر الفقه مثلا تبدأ بفوائد الطهارة ثم فوائد الصلاة ثم فوائد الزكاة وهكذا تجمع متفرقات المسائل التي هي في غير مظانها.
فإن كانت الفائدة في مظنتها فلا تحتاج إلى تقييد، فمثلا إذا مرت بك فائدة عن التيمم في باب التيمم من أحد كتب الفقه فلا تحتاج أن تقيدها في دفتر الفوائد؛ لأنه إذا أشكلت عليك مسألة في التيمم سترجع إلى مظنتها في باب التيمم من كتب الفقه أو في شروح أحاديث الأحكام
وإنما الكلام على مسألة تأتيك في غير مظنتها، كما لو كنت مثلا تقرأ في التراجم في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ثم تمر بك فائدة عقدية كنقل عن الإمام أحمد، لأنه أكثر من كلام الإمام أحمد في هذا الكتاب، وأنا أوصي به، كتاب قيم، طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، وأيضا الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب، يأتيك بفوائد عقدية، أو نقول نفيسة، فهذه تأخذها وتضعها في مظنّتها من كتب الاعتقاد، وقِس على هذا.
تقرأ في سير أعلام النبلاء للذهبي ثم تمر بك فائدة في نقل ضابط فقهي مثلاً ينقله عن عالم، تأخذ هذا الضابط وتضعه في مظنته، أو قاعدة معينة أو أحيانا حكايات أو أخبار فيها عظة أو مفيدة في آداب طلب العلم لكنها في غير مظنتها، تأخذها وتضعها في موضعها في كتب أهل العلم أو في الدفتر الذي عندك.
أيضا مما يُهم هنا أن تجعل لك كتابا في كل فن تُقيد فيه الفوائد، مثال ذلك حاشية الروض المُرْبِع شرح زاد المُستقنع، الروض شرح للزاد، والحاشية على الروض، في سبعة مجلّدات، لماذا نختار حاشية ابن قاسم -رحمه الله-؟ لأنها فيها مجالا للتعليق، فهي سبعة مجلّدات، تمر بك فائدة في غير مظنّتها تتعلق مثلاً بالكفالة، تأخذها وتفتح باب الكفالة، أو في الضمان، باب الضمان، أو في الحوالة أو في الصلاة، وقيّد هذه الفائدة في مكانها في هذا الباب، سواء ذكرها صاحب الروض أو صاحب الحاشية أو لم يذكرها لكنها تتعلق بالباب، قيد هذه الفائدة.
قد تكون الفائدة ليست فقهية، قد تكون أثرا يتعلق بهذا الباب الفقهي، فتُقيد الأثر وتذكر مرجعه، وانتبه في تقييد الفوائد، لا بد من ذكر المصدر والجزء والصفحة، لماذا؟ لأنه قد تحتاجه في بحث، فتجد الوصول إليه سهلا، قد يشكل عليك النقل أو قد تُخطئ في النقل فتلتبس عليك العبارة؛ لأنك قد تقرأها بعد عشر سنوات أو خمس عشرة سنة إذا أمد الله في العمر تستغرب هذه الفائدة فيها إشكال، ارجع إلى مصدرها، فلا بد من تقييده، ولهذا العلم يُعزى إلى مصدره، احرص دائماً إذا ذكرت الفائدة أن تعزوها إلى من قالها، هذا أثبت للعلم وفيه أيضاً نسبة العلم إلى أهله وبيان فضل أهل العلم علينا، لا نقول: هذه الفائدة من عندنا ابتداءً، لا، هذه أفدناها من الكتاب الفلاني.
في التفسير يُقترح أن يكون تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى هو الأصل عندك، كلما مررت بفائدة تتعلق بآية فتعلقها في تفسير ابن كثير عند الآية التي فسرها ابن كثير، هذا مع الوقت سيجتمع عندك فوائد عظيمة جدا جدا، وقس على هذا في بقية الفنون.
الطالب:
(حِفظ الرعاية.
ابذل الوسع في حفظ العلم حفظ رعاية، بالعمل والاتّباع، قال خطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-: يجب على طالب الحديث أن يُخلص نيته في طلبه ويكون قصده وجه الله سبحانه، وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه، وليتّـقِ المفاخرة والمباهاة به وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه، وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير ورُعاتها قليل، ورُب حاضرٍ كالغائب، وعالمٍ كالجاهل، وحاملٍ للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطّراحه لحُكمه بمنزلة الذاهل عن معرفته وعلمه.
وينبغي لطالب الحديث أن يتميَّز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ﴾ [الأحزاب: 21].)
حفظ العلم كما ذكر الشيخ -رحمه الله- حفظ رواية وحفظ رعاية، حفظ رواية: الذي يحفظ العلم ويرويه لكنه لا يرعى العلم بمعنى أنه لا يعمل بمقتضى هذا العلم الذي تعلمه ولا يظهر للعلم أثر عليه، طالب العلم ينبغي أن يُعرف بسمته وبهديه واتباعه لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولزومه الآثار، وإلا فما فائدة العلم؟ بل قد يكون وبالا عليه، والذين يتعلمون كثر، خاصة اليوم مع وجود الجامعات والمعاهد ونحوها، الذي يتعلم كثير لكن الذي يرعى العلم كما قال الشيخ قليل.
فينبغي أن يُتنبه لهذا، فهناك من يطلب العلم لأجل الرئاسة ومن يطلب العلم لأجل الدنيا، وهذا فيه وعيد شديد، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "من تعلم علما مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" يعني لم يجد ريحها، وهذا وعيد شديد.
العلوم الدنيوية كعلم الطب والهندسة والحاسب وغيرها هذه لو أراد بها الدنيا فلا حرج عليه لأنه علم مباح أراد به شيئا مباحا من الدنيا، لكن طالب العلم كما أن طلبه للعلم عبادة وقربة إلى الله وطريقا يوصله إلى الجنة، إلا أنه إن أراد به الرياء فهو شرك أصغر، أو أراد به أن يحصل شيئاً من الأعراض الدنيوية كالمال أو الوجاهة أو نحوها فهو أيضاً واقع في الشرك الأصغر، إذن الأمر عظيم، فأنت في طريقك للعلم لا بد أن تجاهد نفسك في إصلاح النية، وقد عرَفنا كيف تصلح نيتك في طلب العلم في أول هذه الرسالة.
الطالب:
(تعاهُد المحفوظات:
تعاهَد علمك من وقت إلى آخر، فإن عدم التعاهد عنوان الذهاب للعلم مهما كان.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت" رواه الشيخان ومالك في الموطأ.
قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: (وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يعاهد علمه ذهب عنه أيا مَن كان، لأن علمهم كان في ذلك الوقت القرآن لا غير، وإذا كان القرآن المُيسَّر للذكر يذهب إن لم يُتعاهد فما ظنّك بغيره من العلوم المعهودة!
وخير العلوم ما ضُبط أصله واستُذكِر فرعه وقاد إلى الله تعالى ودلَّ على ما يرضاه)
وقال بعضهم: كلُّ عزٍّ لم يُؤكَّد بعلمٍ فإلى ذُلٍ مصيرُهْ.)
من المهم، أن يتعاهد طالب العلم ما حفظ، وأعظم ما يحفظه هو القرآن الكريم، والقرآن مع أن الله -عز وجل- يسّره كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر﴾ [القمر: 17] فإنه مع ذلك يتفلّت إن لم يتعاهده صاحبُه، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- "إنما مثلُ صاحب القرآن كمثلِ الإبلِ المُعقلة، إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت".
وإذا كان هذا في القرآن فغيره من باب أولى، فأنا أُوصيكم وأُوصي نفسي بأنَّ أيَّ متنٍ نحفظه فلنتعاهده، وقد منَّ الله -عز وجل- عليكم بحفظ ثلاثة متون في الفصل الأول من هذا البرنامج، فينبغي لكم أن تتعاهدوها.
فلا بد من تعاهد الحفظ بين وقت وآخر، لأنه ستزيد معك المتون، إن لم تكن المتون الأولى مضبوطة وإلا سوف تتعب، فتعاهدها ما دمت في أول الطريق حتى تكون حاضرة في قلبك.
وأذكر أن الشيخ الذي حفظت عليه القرآن قبل سنين حدثني عن أبيه -وهو من الباكستان وهو من كبار القراء ووالده أيضا من كبار القراء- فقال لي: إن والدي لمّا حفظ القرآن قال له شيخه تراجع القرآن كل يوم كاملا، مدة ثلاثة أشهر، فكل يوم يقرأ ختمة من القرآن حفظا عن ظهر قلب، لمدة ثلاثة أشهر، يعني كم ختمة؟ تسعون ختمة!
فصادف في هذه الثلاثة أشهُر يوم عيد فجاء إلى شيخه يستأذنه ليكون مع أهله في يوم العيد، فلم يأذن له. حتى يقرأ ختمة كاملة من حفظه، فلما فرغ من تسعين ختمة جاءه شخص فقال له: يا عبد الماجد كيف حفظك للقرآن قال: كحفظك للفاتحة.
هذا كيف أتى؟ أتى بصبر ومجاهدة ومراجعة وتكرار، لا يقول الإنسان أنا حفظي ضعيف، مع التكرار بإذن الله وتوفيقه سوف تحصّل ما تصبو إليه.
الطالب:
(التفقه بتخريج الفروع على الأصول:
ومن وراء الفقه التفقُّه، ومعتمده هو الذي يُعلق الأحكام بمداركها الشرعية، وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها، فرُبّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"
قال ابن خير -رحمه الله تعالى- في فقه هذا الحديث: (وفيه بيان أن الفقه هو الاستنباط والاستدراك في معاني الكلام من طريق التفهم، وفي ضمنه بيان وجوب التفقه والبحث على معاني الحديث واستخراج المكنون من سره).
وللشيخين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية -رحمهما الله تعالى- في ذلك القدح المعلّى، ومن نظر في كتب هذه الإمامين سلك به النظر فيها إلى التفقه طريقة مستقيمة.
ومن مليح كلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قوله في مجلس للتفقه: (أما بعد، فقد كنا في مجلس التفقه في الدين والنظر في مدارك الأحكام المشروعة تصويرا وتقريرا وتأصيلا وتفصيلا، فوقع الكلام فيّ، فأقول: لا حول ولا قوة إلا بالله هذا مبني على أصل وفصلين…)
واعلم أرشدك الله أن بين يدي التفقه التفكر، فإن الله -سبحانه وتعالى- دعا عباده في غير ما آية من كتابه إلى التحرك بإجالة النظر العميق في التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى أن يُمعن المرء النظر في نفسه وما حوله فتحا للقوى العقلية على مصراعيها، وحتى يصل إلى تقوية الإيمان وتعميق الأحكام والانتصار العلمي.
﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة: 242] ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50]
وعليه فإن التفقه أبعد مدى من التفكر، إذ هو حصيلته وإنتاجه، وإلا فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.
لكن هذا التفقه محجوز بالبرهان محجور عن التشهي والهوى، ﴿وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120]
فأيها الطالب تحلّ بالنظر والتفكر والفقه والتفقه.
لعلك تتجاوز من مرحلة الفقيه إلى فقيه النفس كما يقول الفقهاء، وهو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية، أو فقيه البدن كما في اصطلاح المحدثين، فأجِل النظر عند الواردات بتخريج الفروع على الأصول وتمام العناية بالقواعد والضوابط، وأجمِع للنظر في فرع ما بين تتبُّعه وإفراغه في قالب الشريعة العام، من قواعدها وأصولها المطّردة، كقواعد المصالح، ودفع الضرر والمشقة وجلب التيسير، وسد باب الحيل، وسد الذرائع، وهكذا هُديت لرشدك أبدا، فإن هذا يسعفك في مواطن المضايق، وعليك بالتفقه كما أسلفت في نصوص الشرع والتبصر فيما يحفُّ أحوال التشريع، والتأمل في مقاصد الشريعة، فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك فإن وقتك ضائع، وإن اسم الجهل عليك لواقع، وهذه الخُلّة بالذات هي التي تعطيك التمييز الدقيق والمعيار الصحيح لمدى التحصيل والقدرة على التخريج، فالفقيه هو من تَعرض له النازلة لا نَص فيها فيقتبس لها حكما، والبلاغي ليس من يذكر لك أقسامها وتفريعاتها، لكنه من تسري بصيرته البلاغية في كتاب الله مثلا فيخرج من مكنون علومه وجوهها، وإن كتب أو خطب نظم لك عقدها، وهكذا في العلوم كافة).
تخريج الفروع على الأصول يتضح بالمثال، فالفرع الفقهي يُردُّ إلى أصله، مثالُ ذلك: المريض الذي يشُقُّ عليه أن يُصلي قائماً فيرخص له أن يُصلي قاعداً؛ لوجود المشقَّة، لحديث عمران بن حُصين -رضي الله عنهما- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له لما شكى إليه أن به بواسير، قال: «صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب» أخرجه البخاري.
ويمكن أيضًا أن نرد هذه المسألة إلى أصل، يعني إلى قاعدة، المراد بالأصول يعني القواعد الشرعية المعتبرة، وهي قاعدة المشقة تجلب التيسير، فكلما جاءتنا مسألة وصار الإنسان يلحقه بها حرج ومشقّة فإن الشريعة تُيسّر عليه الحكم، فإذا زالت المشقّة رجع الحكم إلى ما كان عليه.
هنا الآن خرَّجنا فرعا على أصل، قس عليه بقية الفروع، كثير من الفروع تُردّ إلى أصول.
الذي لم يجد طعاماً ولا شراباً وهو في الصحراء ويخشى الهلاك ما الحكم؟ يجوز له الأكل من الميتة والأكل من الحيوان المحرم، هذا الفرع يرد إلى أصل، هو أن الضرورات تبيح المحظورات، وقس على هذا.
ثم إن الشيخ -رحمه الله- حث على أن يكون طلاب العلم -وهذا يختص بالفقهاء- أن يكونوا فقهاء نفس وعندهم ملكة فقهية، فليس المقصود أن تحفظ الفروع الفقهية وإذا سُئلت عنها أجبت، فإذا وردت عليك مسألة ليس عندك فيها حكم مما حفظته لم تعرف جوابها. ولهذا قال بعضهم: الفقيه ليس هو من يحفظ الفروع الفقهية، لأن هذا يسمى فروعيا أو ناقل فقه، يحفظ أقسام المياه ومسائل المياه، إذا سُئل عن مسألة في المياه أجاب، إذا سُئل عن مسألة في الصلاة أجاب مما حفظه. أما الفقيه فلا يُطلق إلا على من إذا سُئل عن مسألة ليس عنده فيها علم سابق وليس فيها نص من كتاب ولا من سنة ولا من أثر ولا من كلام للفقهاء المتقدمين ومع ذلك يتمكن من ردها إلى أصول الشريعة ويقول: الحكم فيها كذا وكذا، طبعا ليس بالتشهي ،وإنما يقول: الحكم فيها كذا وكذا لأجل كذا وكذا، يردها إما إلى أصول شرعية كما مر بنا قبل قليل، يردها إلى قاعدة الضرورة أو قاعدة المشقة تجلب التيسير أو قاعدة الأمور بمقاصدها إلى آخره، أو يردها إلى فرع فقهي مذكور عند الفقهاء، يقيسها عليه، هو الذي يسمى بتخريج فرع على فرع آخر ،يقول: هذه المسألة ما نصّ عليها الفقهاء لكن هناك مسألة فقهية نصّوا على حكمها تشبهها، والعلّة هنا هي العلّة هنا، فيخرّج هذه على هذه ثم يتوصل إلى الحكم الشرعي، هذا يحتاج إلى تقدم في العلم وإلى معرفة القواعد والضوابط، وأيضا إلى مراس في النوازل، ولهذا كثير من النوازل التي جدّت في هذا العصر لكمال شريعة الإسلام وجد العلماء لها حكمًا، وهذا يدل على أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
وانظر إلى التقدم التقني العجيب والتسارع في النوازل، ومع ذلك تجد المؤلفات الكثيرة في النوازل والأقسام العلمية خاصة المتخصصة في الفقه فيها رسائل علمية وبحوث علمية كلها في النوازل، وهذه النوازل كما قلت لك: لا يوجد فيها نص لا من كتاب ولا سنة ولا آثار ولا كلام للفقهاء، وإنما جدّت في هذا العصر، ومع ذلك تجد أن أهل العلم في هذا العصر يجدون لها أحكاما، وهذا هو الفقه، نحن نريد أن نُؤهِّل فقهاء إلى هذه المرحلة، أن يكونوا نافعين لأمة الإسلام يستطيعون أن يصلوا إلى بيان الأحكام الشرعية التي تحتاجها الأمة.
أقف على هذا، وأسأل الله -عز وجل- لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المجلس الرابع
16/6/1446هـ
الطالب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين وجميع المسلمين، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
(اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ والتحصيلِ:
لا تَفْزَعْ إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ، فقد تَعاصَتْ بعضُ العُلومِ على بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما يُعْلَمُ من تَرَاجِمِهم، ومنهم: الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ، والرُّهاويُّ المحدِّثُ في الْخَطِّ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ، وأبو مسلِمٍ النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ، والسيوطيُّ في الْحِسابِ، وأبو عُبيدةَ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ، وأبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ، خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ.
فيا أيُّها الطالِب، ضاعِف الرَّغبةَ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْه.
وكانَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ -رحمه الله تعالى-، كثيرًا ما يَقولُ في دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى: اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي.
فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك).
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فهذه الفقرة التي ذكر الشيخ -رحمه الله- اللجوء إلى الله تعالى في الطلب والتحصيل.
من المعلوم أن المسلم يلجأ إلى ربه -عز وجل- في جميع شؤونه، ومن ذلك في طريق تحصيله للعلم، فإنه يلجأ إلى ربه ويتوكل عليه ويستعين به سبحانه في أن ييسّر له طريق الطلب وأن يفهّمه ما يتعلم، وإذا استغلقت عليه مسألة من المسائل يلجأ إلى ربه -جل وعلا- بالدعاء ويُكثر من الاستغفار كما ذكر الشيخ -رحمه الله تعالى- عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا استغلقت عليه مسألة -على جلالة قدره وسعة علمه وذكائه وفهمه- ومع ذلك يلجأ إلى ربه -جل وعلا- ويسأله -سبحانه وتعالى- أن يعلمه وأن يفهّمه، فكذلك طالب العلم ،لا شك أنه تمر عليه مسائل كثيرة مستغلقة، سواء في بداية طلبه للعلم أو حتى بعد ما يبلغ من العلم مبلغا عاليا، الإشكالات ما تنتهي، والمسائل التي تستغلق على العالِم كثيرة، ربما أن العالِم بقي معه الإشكال ما يقارب العشرين سنة ثم ينحل هذا الإشكال، وهذا يدلّك على أن العلم واسع وأنه لا يحيط به واحد من الناس، والمقصود من هذا أنك تلجأ إلى ربك -جل وعلا- عندما يُشكل عليك فهم مسألة من المسائل.
أيضا بعض العلوم قد تستغلق على طالب العلم مثل ما ذكر الشيخ، بعضهم في الحساب استغلق عليه والنحو استغلق على بعضهم، ما يُظن أن هؤلاء العلماء لا يعرفون شيئا في النحو، هذا بعيد، لكن كونه يُفتح عليه في هذا العلم ويفهم هذا العلم ويبرُز فيه هذا قد يستغلق على بعض الناس، وذلك أن الله -عز وجل- يُهيِّئ بعض طلاب العلم لتخصُّصات معينة ويفتح الله -عز وجل- عليه في هذا التخصُّص ويجد من نفسه انشراحا وإقبالا، فيفتح على هذا في الفقه وهذا في الحديث وهذا في التفسير، وهكذا، لكن لا بد لطالب العلم أن يكون عنده تأصيل في مبادئ هذه العلوم ثم إذا تأصل يجد نفسه مقبلا على علم من العلوم فيتبحر فيه ويتوسع فيه، والتخصصات الآن معروفة في الجامعات الشرعية أن هذا يتخصص في الفقه وهذا في الحديث وهذا في العقيدة وكلٌّ إن شاء الله تعالى على خير.
الطالب:
(الأمانةُ العلْمِيَّةُ:
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ، والأداء؛ فإنَّ فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ عُلُومِها، وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ أو يَصِفُونَ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ، فقد مَسَّ العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ.
لا تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من حِكمةٍ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا، فلا يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ، وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ، حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه، فلا تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه، أو رُجحانِ أحدِهما على الآخَرِ، أو احتمالِهما على سواء).
الأمانة العلمية مهمة وواجبة على طالب العلم، ومعنى الأمانة العلمية أنه مؤتمن على العلم، إذا تكلّم في العلم يتكلّم بما قد تثبت منه، فإذا قال لك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكون قد تثبت أن هذا الكلام قد قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أو إذا نقل عن العلماء قال شيخ الإسلام ابن تيمية قال ابن كثير قال الشيخ ابن باز قال الشيخ ابن عثيمين يكون متثبتا وأمينا في النقل عن العلماء، هذه أمانة علمية يجب أن يتحلى بها طالب العلم ولا يجوز له إذا كان عنده تردد أن ينسب إلى عالم قولا، فضلاً أن ينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً، ولهذا جاء في الحديث "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
فالأمر عظيم، ولهذا مرّ معنا أن العالِم الذي يؤخذ عنه العلم يشترط أن يكون متقناً وأن يكون أميناً على العلم، ولهذا أهل الأهواء والبدع لا يؤتمنون على العلم، وكثيراً ما يوجد في كلامهم ما هو كذب أو ما هو اجتزاء لكلام أهل العلم، يأخذ منه جملة ويترك ما قبله وما بعده، ويبني على هذه الجملة أن أهل السنة على باطل، وهذا من اتباعه هواه، وإلا كان الواجب عليه لو كان عنده أمانة لنَقَل الكلام تاما ليتضح مراد العالم من ذلك، فالمقصود أن الأمانة العلمية لا بد منها وواجبة ،وهي من الديانة، ولهذا اليوم مع الأسف نجد في الدراسات في الجامعات قد تكون دراسات عليا أو تكون دراسة في المرحلة الجامعية تقدم بحوثٌ من بعض الطلاب هي عبارة عن سرقات علمية سواء كان البحث كله مسروقا أو كان بعضه مسروقا.
السرقة العلمية أن تأخذ كلام غيرك وتنسبه إلى نفسك ولا توثقه من المرجع الذي أخذته منه، لو أخذت ولو جملة واحدة أو مسألة واحدة وتركت التوثيق لم توثق أنك أخذت هذا الكلام من المرجع الفلاني نقول: هذه سرقة علمية؛ لأن هذا من التشبع بما لم يُعطَ، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "من تشبع بما لم يُعط فهو كلابس ثوبي زور".
يعني يظهر للناس أنه عالم وأنه كتب هذه المسألة وأتقن المسألة وحررها والحقيقة أنه لم يفعل شيئا، مجرد كما يقال: قص ولزق. ثم ينسب الكلام إلى نفسه، هذا يُـخل بالأمانة العلمية، فليحذر منه طالب العلم.
الطالب:
(الصِّدْقُ:
صِدْقُ اللهجةِ: عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ، وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ، فيا خَيْبَةَ مَن فَرَّطَ فيه، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى.
قالَ الأوزاعيُّ -رحمه الله تعالى-: تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ.
وقالَ وَكيعٌ -رحمه الله تعالى-: هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلا صادقٌ.
فتَعَلَّمْ – رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ، والصدْقُ: إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ، فالصدْقُ من طريقٍ واحدٍ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ، يَجْمَعُها ثلاثةٌ:
كَذِبُ الْمُتَمَلِّقِ: وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ، كمن يَتَمَلَّقُ لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ.
وكَذِبُ المنافِقِ: وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ.
وكَذِبُ الغَبِيِّ: بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ.
فالْزَم الْجَادَّةَ الصدْقَ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ، ولا تَضُمَّ شَفَتَيْكَ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ، كالحُبِّ والبُغْضِ، أو إحساسِك في الظاهِرِ، كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ: السمْعُ، البَصَرُ، الشمُّ، الذَّوْقُ، اللمْسُ، فالصادقُ لا يقولُ: أَحْبَبْتُكَ وهو مُبْغِضٌ، ولا يقولُ: سَمِعْتُ وهو لم يَسْمَعْ، وهكذا.
واحْذَرْ أن تَحومَ حولَك الظنونُ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ، فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكاذبينَ، وطريقُ الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه -: أن تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ ودَرَكِه، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ يَنْكَشِفُ.
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ، ولا تَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ.
فيا طالبَ العلْمِ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ فالْكَذِبِ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ الكَذِبُ في العلمِ، لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ.
ومَن تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه، فلْيَعْلَمْ أنَّ في الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً، وأقلامًا ناقدةً، فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ:
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ.
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ.
أن لا تُصَدَّقَ ولو صَدَقْتَ.
وبالجملةِ، فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ، فهو أَخُو الساحرِ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى، واللهُ أَعْلَمُ).
يجب على طالب العلم أن يتحلى بالصدق بل يجب على كل مسلم، وذلك لأن الله -عز وجل- أمر به ونهى عن ما يقابله وهو الكذب.
والصدق أن يوافق الظاهر الباطن، هذا من جهة الأعمال، وأيضا الصدق في القول فلا يتكلم بكلمة إلا وهي مطابقة للواقع.
وذكر الشيخ أمثلة على هذا لا تقل لشخص إني أحبك في الله وأنت في باطنك لا تحبه في الله، هذا كذب، لا تقل إنني قرأت الكتاب الفلاني وأنت ما قرأت الكتاب الفلاني، أو يسألك شخص يقول: تعرف المسألة الفلانية؟ تقول: نعم أعرفها، وأنت ما تعرفها، ما عرفتها إلا منه، لا تكذب، قل: لا أعرفها أنا أول مرة أسمعها منك، جزاك الله خيرا علمتني وأفدتني.
كن صادقا يعني لا تكذب لا في القول ولا في الفعل.
ذكر الشيخ أيضا ما يتعلق بالمعاريض، المعاريض وتسمى أيضا التورية، هذه أن يتكلم الإنسان بكلام له معنى يتبادر إلى ذهن السامع، وله معنى لا يتبادر إلى ذهن السامع ويريده المتكلم.
مثلا لو سألك شخص، من هذا؟ قلت: هذا أخي، يتبادر إلى الذهن أنه أخوك من النسب.
وأنت تريد أنه أخوك في الإسلام، هذه تورية، هذه حصلت في زمان الصحابة وأقرهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقد جاء عن سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ t قَالَ خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْت أَنَّهُ أَخِي، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «صَدَقْت الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» أبو داود 3256 وصححه الألباني.
إذن فالتورية تجوز، لكن يقول العلماء: عند الحاجة، أما من غير حاجة فيرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنها لا تجوز، يعني لا يكون الإنسان دائما يتكلم بالمعاريض والتورية، هذا قد يتهم الإنسان عند الناس بالكذب؛ لأن ظاهر الكلام يفهمونه على غير ما تريد، كثير من الناس ما يفهم التورية.
والتورية كان السلف يتعلمونها؛ لأنه عند الحاجة إليها يتكلمون بالتورية لئلا يقعوا في الكذب.
أعطيك مثالا على هذا، يعني مثلا لو أن ظالما أراد أن يقتل شخصا فجاء هذا الشخص ودخل عندك في البيت، جاء هذا الظالم يريد هذا الشخص لأجل أن يقتله بغير حق، هنا لو كذبت لجاز بل يجب عليك أن تكذب، يجب عليك أن تكذب، لكن إن أمكن أن توري وتَسلم من الكذب فهو أولى، يعني أنا أعطيكم لطيفة مرت عن بعض تلاميذ الإمام أحمد بحضور الإمام أحمد ذكرها ابن الجوزي -رحمه الله- في مناقب الإمام أحمد وهذا كتاب قيم، كتاب ضخم في مناقب الإمام أحمد تجد فيه آثارا عظيمة عن هذا الإمام -رحمه الله رحمة واسعة- يقول أحدهم: كنا في منزل ومعنا الإمام أحمد ومعنا المـرُّوذي ومهنّا الشامي، وهما من تلاميذ الإمام أحمد، فطرق طارق الباب فقال: المـرُّوذي ها هُنا؟
شخص عند الباب يسأل عن المـرُّوذي، المـرُّوذي لا يريد أن يعلم هذا الشخص بأنه في هذا المجلس لأمر ما، فخرج إليه مهنّا، وأشار بأصبعه السبابة في راحة يده، وقال: المـرُّوذي ليس هنا، وما يصنع المـرُّوذي هنا؟ فانصرف الرجل، وقد فهم أنه ليس في البيت، ومُهنا يريد أنه ليس في يدي. فضحك الإمام أحمد ولم يقُل شيئا.
أحيانا تحتاج إلى التورية لأجل أن تدفع عن نفسك شيئا، إما ضرر أو إشغال من قبل بعض الناس لك، لكن لا يجوز أن تستعمل التورية في إبطال حق الناس، كشخص يطالبك بدين وتوري له، لا يجوز هذا، ولهذا جاء في الحديث أنه لا تُقبل التورية عند القاضي حتى لو حلف وهو يوري، لا تُقبل إلا على ما ادّعى به المدعي.
فالمقصود من هذا أنك لا تُكثر من التورية وإنما تأتي بها عند الحاجة، وإذا لم توجد حاجة فالأصل أنك لا تُورِّي.
الطالب:
(جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ:
جُنَّةُ العالِمِ لا أَدْرِي ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها، وقولُه: يُقالُ...
وعليه، فإن كان نِصْفُ العلْمِ لا أَدْرِي، فنِصْفُ الجهْلِ يُقالُ وأَظُنُّ).
هذا مهم جدا لطالب العلم، أن يعلم أن الأصل فيه الجهل، الأصل في كل أحد الجهل ﱩ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﱨ فإذا سئل الإنسان أيًا كان عن شيء لا يعلمه فليقل: الله أعلم.
وهذه سهلة على أهل التقوى، لكن الذين يحبون التَّرؤُّس ويحبون الشهرة يصعب على الواحد منهم أن يقول: لا أدري؛ لأنه يظن أن الناس سوف يستنقصونه، يقول: إذا سألوني فقلت: لا أدري. قالوا هذا جاهل ليس عندن علم، وسينصرفون عني، إذن ليس مقصده وجه الله -عز وجل- بهذا العلم، ولهذا فإن الله -عز وجل- يرفع درجات أولئك العلماء الأتقياء الذين إذا سئلوا عما لا يعلمون قالوا: الله أعلم.
ولنا في الصحابة -رضي الله عنهم- أسوة، عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كما في مقدمة الدارمي في السنن، يقول الراوي عنه: كان عبد الله بن عمر يجلس في المسجد الحرام فيسأله الناس فكان ما يقول فيه الله أعلم أكثر مما يفتي فيه.
هذا يقوله مَن؟ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المكثر من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن فقهاء الصحابة y، فكيف بغيره؟
وهذا أيضا كثير عند علمائنا الراسخين، واشتهر بهذا سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- كثيرا ما نسمعه يقول: الله أعلم، المسألة تحتاج مراجعة، نراجع الإخوان في اللجنة، اللجنة الدائمة للإفتاء، وكلهم أصغر منه، بعضهم من تلاميذه.
هذه تدلّك على ماذا؟ على ورع وديانة واستحضار أنّك إذا قلت يجوز أو لا يجوز فإنك ستوقف بين يدي الله عز وجل وتسأل ما حجّتك على ما قلت؟ لأنك تكلمت في دين الله، إذن قل: الله أعلم. فيما لا تعلم، ويسلم لك دينك.
ولهذا كان بعض السلف إذا سئل عن مسألة وهو لا يعلم قال: الله أعلم، فإذا انصرف السائل قال: بليّة دفعها الله.
بليّة يعني ابتلاء وامتحان لكن الله دفعها عني؛ لأنه ليس كل أحد يوفق إلى أن يقول: الله أعلم.
وذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن بعضهم جاهل بالمسألة، ولا يريد أن يقول: الله أعلم، بل يقول: أظن كذا، فهو غير متثبت، وهذا لا يحل له أن يتكلم فيما لم يتثبت منه، فالأصل أن الإنسان إذا كان لا يعلم يقول الله أعلم، وهذا مع الأسف اليوم قليل في طلاب العلم.
ولهذا جاء عن بعض السلف أنه ينبغي للعالم أن يورّث تلاميذه: الله أعلم.
وقد قيل إن الله أعلم نصف العلم.
فنسأل الله -عز وجل- العصمة في هذا وأن يوفقنا لئلا نتكلم في دين الله إلا بعلم.
الطالب:
(المحافَظَةُ على رأسِ مالِك، ساعاتِ عُمُرِك:
الوقتَ الوقتَ للتحصيلِ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ، وحِلْسَ مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ، بالجِدِّ والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ، والاشتغالِ بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا، لا سِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ، ومَعْدِنِ العافيةِ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ العاليةَ، فإنها وقتُ جَمْعِ القلبِ، واجتماعِ الفِكْرِ ، لقِلَّةِ الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ، ولِخِفَّةِ الظَّهْرِ والعِيالِ.
ما للمُعيل وللعوالي إنما •• يسعى إليهنّ الفَريدُ الفاردُ
وإيَّاك وتأميرَ التسويفِ على نفسِك، فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا، وبعدَ التقاعُدِ من العَمَلِ هذا... وهكذا، بل البِدارَ قبلَ أن يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ:
حنَتني حانياتُ الدهر حتى •• كأني خاتلٌ أدنو لصَيدي
قصيرُ الخطو، يحسبُ مَن رآني •• ولستُ مُقَيّدًا أني بقَيدِ
وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ:
مع الثمانين عاث الضعفُ في جسدي •• وساءني ضعفُ رِجلي واضطرابُ يَدي
إذا كتبتُ فخطّي خط مُضطربٍ •• كخطّ مُرتعش الكفيّن مُرتعدِ
فاعجَب لضعف يدي عن حملِها قلمًا •• من بعد حمل القنا في لَبّة الأسَدِ
فقُل لمن يتمنى طول مُدتهِ •• هذي عواقبُ طول العُمر والمددِ
فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ كِبرَ الهمَّةِ في العِلْم).
لا بدَّ لطالب العلم أن يحفظ الوقت، لا يضيع الوقت في أمور لا فائدة فيها، فضلا عن أن يضيعها فيما يغضب الله -جل وعلا-.
ولهذا أكد الشيخ -رحمه الله- على زمن الشباب، وذلك لما فيه من قوة البدن، فالإنسان كل ما تقدم به العمر يضعف، فالشباب في الغالب يكون معه الصحة والقوة والهمة العالية، وأيضا فيه الفراغ، لم يتزوج وليس عنده أولاد وليس عنده أعمال ولا هموم، الذهن خالٍ متفرّغ للعلم والطلب.
وذكر الشيخ -رحمه الله- بيتا وهو قول القائل ما للمعيل وللعوالي ،المُعيل يعني الذي عنده عائلة وعنده أولاد يعولهم، يقول هذا سيكون مشغولا إما بكسب الرزق لهم أو بما يحتاجون إليه من أمور لا تخفى، قال إنما يسعى إليهن، يسعى للعوالي، الفريد الفارد، يعني الذي ليس عنده زوجة ولا أولاد، لا يزال في مُقتبل عمره، هذا يستثمر هذا الوقت ويشتغل في الطلب والبحث والحفظ والمراجعة، يحصّل بإذن الله خيرا كثيرا؛ لأنه كلما تقدم به العمر سوف يقل عنده الوقت الذي يصرفه للعلم، فينبغي للشباب أن يستثمروا هذه المرحلة الزمنية التي هي من أفضل الأوقات للطلب والتحصيل.
الطالب:
(إجمامُ النفْسِ:
خُذْ من وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ المحاضراتِ الثقافةِ العامَّةِ، فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً فساعةً.
وفي المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنه قالَ: أَجِمُّوا هذه القلوبَ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ، فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ.
وقالُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ -رحمه الله تعالى- في حِكْمَةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ: بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ، من ثِقَلِ العِبادةِ، كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه، ولهذا قالَ مُعاذٌ: إني لأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي.
وقالَ: بل قد قيلَ: إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ في بعضِ الأوقاتِ: إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ، فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ الراحةِ. واللهُ أَعْلَمُ اهـ.
ولهذا كانت العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ، وكان الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ، وعندَ بعضِهم يومَ الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا.
ونَجِدُ ذلك في كُتُبِ آدابِ التعليمِ، وفي السِّيَرِ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ: آدابُ المعَلِّمِينَ لسُحْنونٍ، والرسالةُ الْمُفَصَّلَةُ للقابسي، والشقائقُ النُّعْمانيَّةُ، وعنه في: أَبْجَدِ العلوم، وكتابِ: أَلَيْسَ الصبْحُ بقريبٍ للطاهرِ ابنِ عاشورٍ، وفتاوَى رَشيد رِضَا، ومُعْجَمِ البِلدانِ، وفتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيمية).
النفس قد تكلّ وقد تمل من الطلب، فحينئذ يُـجم نفسه بأن يقرأ في كتب التاريخ مثلا، كتب السيَر ،كتب الأدَب، والمقصود الأدب النافع المفيد المشتمل على الحكَم، هذه يحصل بها للنفس استجمام وراحة؛ لأنها لا تحتاج إلى كد للذهن ولا تحتاج إلى حفظ متن، وإنما يمر عليها ويستفيد منها وهي أيضا مفيدة لطالب العلم، طالب العلم من المهم أن يكون مطلعا على هذه العلوم التي تسمى الملَح ،بخلاف العلوم التي هي أصول العلم كالعقيدة والفقه والحديث ونحوها، لكن هذه إذا تعب من تلك العلوم التي هي علوم أصول وفيها إعمال الذهن وفيها تعب وفيها كد للذهن فإذا تعب ينتقل إلى تلك العلوم ويقرأ فيها ويجم نفسه.
الطالب:
(قراءةُ التصحيحِ والضبْطِ:
احْرِصْ على قِراءةِ التصحيحِ والضبْطِ على شيخٍ مُتْقِنٍ؛ لتأْمَنَ من التحريفِ والتصحيفِ والغلَطِ والوَهْمِ. وإذا اسْتَقْرَأْتَ تَراجمَ العُلماءِ – وبخاصَّةٍ الْحُفَّاظَ منهم – تَجِدُ عَددًا غيرَ قليلٍ مِمَّنْ جَرَّدَ المطَوَّلَاتِ في مجالِسَ أو أيَّامٍ قراءةَ ضَبْطٍ على شيخٍ مُتْقِنٍ.
فهذا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ -رحمه الله تعالى- قَرَأَ صحيحَ البخاريِّ في عشرةِ مجالسَ، كلُّ مجلِسٍ عشرُ ساعاتٍ، وصحيحَ مسلِمٍ في أربعةِ مجالسَ في نحوِ يومينِ وشيءٍ من بُكْرَةِ النهارِ إلى الظهْرِ وانتهى ذلك في يومِ عَرَفَةَ، وكان يومَ الجمُعَةِ سنةَ 813 هـ، وقرأَ سُنَنَ ابنِ ماجهْ في أربعةِ مجالِسَ، ومُعجَمَ الطبرانيِّ الصغيرَ في مَجلِسٍ واحدٍ، بينَ صَلَاتَي الظهْرِ والعَصْرِ.
وشيخُه الفَيروزآباديُّ قَرَأَ في دِمَشْقَ صحيحَ مُسْلِمٍ على شيخِه ابنِ جَهْبَلَ قِراءةَ ضَبْطٍ في ثلاثةِ أيَّامٍ.
وللخطيبِ البَغدادىِّ والمؤتَمَنِ الساجيِّ، وابنِ الأبَّار وغيرِهم في ذلك عجائبُ وغرائبُ يَطولُ ذِكْرُها، وانْظُرْها في السِّيَرِ للذهبي، وطَبقاتِ الشافعيَّةِ للسُّبْكيِّ، والجواهِرِ والدُّرَرِ للسَّخَاويِّ، وفتْحِ الْمُغيثِ، وشَذَراتِ الذهَبِ، وخُلاصةِ الأثَرِ، وفِهْرِسِ الفهارِسِ للكَتَّانِيِّ، وتاجِ العَروسِ.
فلا تَنْسَ حَظَّكَ من هذا).
قراءة التصحيح والضبط.
كأن يقرأ مثلا صحيح البخاري على شيخه لأجل أن يصحح له ويضبط له هذا الكتاب، وذلك أن بعض الكلمات قد تشتبه على الطالب فيخطئ فيها، فهذه القراءة ليس المقصود منها الشرح والتفصيل، بل مجرد أن يضبط قراءة هذا الكتاب.
وذكَر جملة من العلماء الذين كانوا يقرؤون على مشايخهم، وهذا يدُلُّك على علو الهمة، فانظر ما ذكر عن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أنه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس، المجلس الواحد عشر ساعات، وهذا صبر عظيم على العلم، فانظر إلى الهمم العالية.
فالمقصود من هذا إن تيسر عرض هذه الكتب، كالكتب الستة، وقراءتها على المشايخ قراءة تصحيح وضبط فهذا طيب، اقتداء بهؤلاء العلماء -رحمهم الله تعالى-.
لكن هذا لا يكون في البداية، يكون بعد ما يحصل طالب مبادئ العلم ويتقدم في العلم.
الطالب:
(جَرْدُ الْمُطَوَّلَاتِ:
الْجَرْدُ للمُطَوَّلاتِ من أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، لتَعَدُّدِ المعارِفِ، وتوسيعِ الْمَدَارِكِ واستخراجِ مَكنونِها من الفوائدِ والفرائدِ، والخبرةِ في مَظَانِّ الأبحاثِ والمسائلِ، ومَعرِفَةِ طرائقِ الْمُصَنِّفِينَ في تآليفِهم واصطلاحِهم فيها.
وقد كان السالِفون يَكتبون عندَ وُقوفِهم: بَلَغَ. حتى لا يَفوتَه شيءٌ عندَ الْمُعاوَدَةِ، لا سيَّمَا مع طُولِ الزَّمَنِ).
جرد المطولات مهم للطالب لكن لا يكون للمبتدئ -كما عرفنا- بعد ما يتقدم في الطلب ويمر على جملة من المتون ويحصّل شيئا من العلم حينئذ يقرأ في المطولات، وإذا قرأ في المطولات عرفنا كيف يقيد الفوائد فيما مر معنا في كلام الشيخ -رحمه الله- فحينئذ يحصّل فوائد جمة متنوعة في فنون متعددة، ويعرف مظان بحث المسائل؛ لأنه تمر عليه المسائل في جرده لهذه المطولات؛ لأن بعض المسائل تُبحث أو تُذكر في غير مظنتها.
وأنا أذكر لكم مثالا على هذا:
لبس الخاتم، هل يلبس في اليمنى بالنسبة للرجل أو في اليسرى؟ وفي أي إصبع يلبس؟ ما هي السنة في هذا؟
لو قلت لك هذه المسألة أين يبحثها الفقهاء؟
هذا يذكره بعض الحنابلة كما في الروض المربع في كتاب الزكاة! ما علاقته بالزكاة؟
لما تكلموا على باب زكاة النقدين استطردوا؛ لأن الرجل يلبس الحُلي، وهذا الحُلي الذي لبسه الرجل يزكّى أو لا يزكّى؟
ثم استطردوا فتكلموا على لبس الرجل الخاتم ويكون في أي إصبع وفي أي يد إلى آخره.
إذا لم تكن قد جردت الفقه من أوله إلى آخره لن تعرف مظنّة هذه المسألة، طبعا هذا في السابق، اليوم تيسرت طرق للبحث توصلك إلى المعلومة وإن كانت في غير مظنّتها، وهذه تحتاج إلى تدرب على طريقة البحث، لكن المقصود من هذا أن كلام الشيخ -رحمه الله- في جرد المطولات تقف على نفائس من كلام أهل العلم في غير مظنتها، وعرفنا كيف نقيد هذه الفوائد ونضمها إلى نظائرها حتى لا تضيع.
الطالب:
(حُسْنُ السؤالِ:
الْتَزِمْ أَدَبَ الْمُباحَثَةِ، من حُسْنِ السؤالِ، فالاستماعِ، فصِحَّةِ الفَهْمِ للجَوابِ، وإيَّاكَ إذا حَصَلَ الجوابُ أن تَقولَ: لكنَّ الشيخَ فلانًا قالَ لي كذا، أو قالَ كذا، فإنَّ هذا وَهنٌ في الأَدَبِ، وضَرْبٌ لأَهْلِ العِلْمِ بعضِهم ببعضٍ، فاحْذَرْ هذا.
وإن كنتَ لا بُدَّ فاعلاً، فكنْ واضحًا في السؤالِ، وقل ما رأيُك في الفَتْوَى بكذا، ولا تُسَمِّ أَحَدًا.
قالَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله تعالى-: وقيلَ: إذا جَلَسْتَ إلى عالِمٍ، فسَلْ تَفَقُّهًا لا تَعَنُّتًا اهـ.
وقالَ أيضًا: وللعلْمِ سِتَّةُ مَراتِبَ.
أوَّلُها: حسْنُ السؤالِ.
الثانيةُ: حسْنُ الإنصاتِ والاستماعِ.
الثالثةُ: حسْنُ الْفَهْمِ.
الرابعةُ: الْحِفْظُ.
الخامسةُ: التعليمُ.
السادسةُ: وهي ثَمَرَتُه، العمَلُ به ومُراعاةُ حُدودِه اهـ.
ثم أَخَذَ في بيانِها ببَحْثٍ مُهِمٍّ).
ابن عباس -رضي الله عنهما- قيل له: كيف حصّلت هذا العلم؟ قال: بلسانٍ سؤول وقلبٍ عقول.
لكن السؤال ينبغي أن يكون بأدب، ومما ذكره الشيخ -رحمه الله- من الأدب أنك إذا سألت شيخك عن مسألة فإذا أجابك لا تقُل: ولكن الشيخ فلانا يقول كذا، هذا ليس من الأدب ،كأنك الآن تريد أن تضرب أقوال أهل العلم بعضها ببعض، هو الآن أعطاك ما يعتقد، وأنت تعمل بما ذكره أهل العلم عند اختلاف الفتوى، إذا كنت الآن تستفتي لأجل أن تعمل فإذا اختلف عليك أهل العلم في مسألة فتأخذ برأي الأعلم والأتقى، وإن كان هناك كثرة تأخذ بالكثرة، هذه ثلاثة ضوابط تعمل بها عند اختلاف الفتوى ،وهذه مسألة نحتاج إليها ويحتاج إليها عموم الناس اليوم مع الانفتاح الآن في الفتوى، يسمعون فتوى من فلان ومن فلان ومن فلان، فيشكل الأمر على العامي أو طالب العلم المبتدئ الذي لا يحسن الترجيح في المسائل، يقول: أعمل بقول مَن؟
عندك ثلاثة ضوابط:
الضابط الأول: التقوى، يعني الأتقى من المفتيَين.
والضابط الثاني: الأعلم منهما.
والضابط الثالث: إن كان القول الأول هو قول أكثر أهل العلم فهذا مرجح له على القول الذي قال به قليل من أهل العلم.
الطالب:
(الْمُناظَرَةُ بلا مُمَارَاةٍ:
إيَّاكَ والْمُمَارَاةَ، فإنها نِقْمَةٌ، أمَّا المناظَرَةُ في الْحَقِّ، فإنها نِعْمَةٌ إذ الْمُناظَرَةُ الْحَقَّةُ فيها إظهارُ الحقِّ على الباطلِ، والراجِحِ على المرجوحِ، فهي مَبْنِيَّةٌ على الْمُناصَحَةِ والْحِلْمِ، ونَشْرِ العلْمِ، أمَّا الْمُماراةُ في المحاوَرَاتِ والمناظَرَاتِ، فإنها تَحَجُّجٌ ورِياءٌ، ولَغَطٌ وكِبرياءُ ومُغالَبَةٌ ومِراءٌ، واختيالٌ وشَحْنَاءُ، ومُجاراةٌ للسفهاءِ، فاحْذَرْها واحْذَرْ فاعِلَها، تَسْلَمْ من المآثِمِ وهَتْكِ الْمَحارِمِ، وأَعْرِضْ تَسْلَمْ وتَكْبُت الْمَأْثَمَ والْمَغْرَمَ).
المناظرة بلا مماراة.
المقصود المباحثة في العلم، كما يحصل في كتب الفقه التي أُلفت في الخلاف العالي بين المذاهب، تذكر الأقوال في المسألة وأدلة كل قول والمناقشة للأدلة، وربما الجواب عنها، هذه مطارحات علمية، فالمناقشة العلمية أو المناظرة العلمية المقصود منها إحقاق الحق والوصول إليه، هذه محمودة ومطلوبة، قال الله -عز وجل- ﱩ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﮲ ﱨ
وأما المناظرة المذمومة أو الجدال المذموم فهو الذي يكون لأجل الانتصار للنفس ولأجل المغالبة، يناظره لأجل أن ينتصر عليه ويُظهر جهله وضعفه، هذا مذموم، وقد نهى عنه السلف.
فالشيخ -رحمه الله- يقول: المناظرة بلا مماراة، لا يماري في مناظرته بل يكون قصده إحقاق الحق والانتفاع والاستفادة.
الطالب:
(مُذاكَرَةُ العِلْمِ:
تَمَتَّعْ مع البُصَرَاءِ بالْمُذاكَرَةِ والْمُطارَحَةِ، فإنها في مَواطِنَ تَفوقُ الْمُطالَعَةَ وتَشْحَذُ الذهْنَ وتُقَوِّي الذاكرةَ، مُلْتَزِمًا الإنصافَ والملاطَفَةَ مُبْتَعِدًا عن الْحَيْفِ والشَّغَبِ والمجازَفَةِ.
وكُنْ على حَذَرٍ، فإنها تَكْشِفُ عُوارَ مَن لا يَصْدُقُ
فإن كانت مع قاصرٍ في العِلْمِ، باردِ الذهْنِ، فهي داءٌ ومُنافَرَةٌ، وأمَّا مُذاكرَتُك مع نفسِك في تقليبِك لمسائِلِ العلْمِ، فهذا ما لا يَسوغُ أن تَنْفَكَّ عنه.
وقد قيلَ: إحياءُ العِلْمِ مُذاكرَتُه).
يريد الشيخ -رحمه الله- أنك تستذكر العلم مع قرانك أو مع نفسك.
أما مع النفس فالأمر واضح، وأنت في خلوة وفي راحة تبدأ تستحضر، ماذا درسنا اليوم؟ درسنا المسألة الفلانية، ما صورتها؟ ما دليلها؟ تستحضر المسائل وتسترجع مع نفسك، هذه مذاكرة لأجل أن تضبط العلم.
والطريق الثاني: المذاكرة مع أقرانك وزملائك من طلاب العلم، لكن ينبه الشيخ: لا تتذاكر العلم مع شخص بارد الذهن ضعيف، هذا لا تنتفع به، وإنما يكون مثلك أو أفضل منك لأجل أن تستفيد، ربما يعطيك بعض الفوائد التي فاتت عليك، فهذه مذاكرة للعلم ومدارسة، وهذا كان موجودا يعني حسب ما ذُكر لنا أو ما سمعنا من المشايخ أيام الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- كان إذا ألقى الدرس يقوم أحد الطلاب يعيد درس الشيخ، يسمى المعيد.
فيقوم هذا التلميذ ويعيد درس الشيخ، هذه الإعادة كتلخيص لما قاله الشيخ لا شك أنها تؤدي لتثبيت العلم، فهذه نوع من المذاكرة، فالمقصود أنك لا تغفل عن تذاكر العلم مع إخوانك ممن تستفيد منهم وتفيدهم.
الطالب:
(طالبُ العلْمِ يَعيشُ بينَ الكتابِ والسُّنَّةِ وعلومِها، فهما له كالْجَناحينِ للطائرِ، فاحْذَرْ أن تكونَ مَهيضَ الْجَناحِ.
استكمالُ أدواتِ كلِّ فَنٍّ:
لن تكونَ طالبَ عِلْمٍ مُتْقِنًا مُتَفَنِّنًا – حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِياطِ – ما لم تَستكمِلْ أدواتِ ذلك الفَنِّ، ففي الفِقْهِ بينَ الفقْهِ وأصولِه، وفي الحديثِ بينَ عِلْمَي الروايةِ والدِّرايةِ.... وهكذا، وإلا فلا تَتَعَنَّ.
قالَ اللهُ تعالى: ﱩ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﱨ فيُستفادُ منها أنَّ الطالِبَ لا يَتْرُكُ عِلْمًا حتى يُتْقِنَهُ).
هذا حث من الشيخ -رحمه الله- لطالب العلم أن يعتني بإتقان العلوم، ومن المعلوم أن إتقان جميع العلوم ليس بالأمر الهين، وأنت إذا نظرت في تاريخ الإسلام، مَن هم العلماء الذين جمعوا بين علوم الشريعة كلها؟ تجد الواحد بعد الواحد، نعم تجد من برز في الفقه لكن ليس بارزا في الحديث، تجد من برز في التفسير لكن لم يبرز في الحديث، وهكذا، لكن أصول العلم العامة موجودة عندهم.
فإذا يسر الله -عز وجل- للطالب ونشأ على العلم من صغره ووفق لمن يوجهه واجتهد في أن يتقن هذه العلوم الشرعية كلها فهذا نور على نور، وإلا فلا أقل من أن يتقن بعضها وينفع الله -عز وجل- به في هذا العلم الذي أتقنه.
الطالب:
(الفصلُ السادسُ
التَحَلِّي بالعَمَلِ.
من عَلاماتِ العِلْمِ النافِعِ:
تَسَاءَلْ مع نفْسِك عن حَظِّكَ من عَلاماتِ العِلْمِ النافعِ، وهي:
العَمَلُ به.
كراهيةُ التزكيةِ والمدْحِ والتكبُّرِ على الْخَلْقِ.
تكاثُرُ تَواضُعِكَ كُلَّمَا ازْدَدْتَ عِلْمًا.
الهرَبُ من حُبِّ الترَؤُّسِ والشُّهرةِ والدنيا.
هَجْرُ دَعْوَى العِلْمِ.
إساءةُ الظنِّ بالنفْسِ، وإحسانُه بالناسِ، تَنَزُّهًا عن الوُقوعِ بهم.
وقد كان عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ إذا ذكر أَخلاقَ مَن سَلَفَ يُنشِدُ:
لا تعرضن بذِكرنا مع ذكرهم •• ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد)
ذكر الشيخ رحمه الله تعالى من علامات العلم النافع ستة أمور:
الأمر الأول: العمل بالعلم، وهذا مر معنا مرارا.
الثاني: كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق، يعني إذا مُدح وقيل أنت ما شاء الله عليك طالب علم وأنت ما شاء الله عليك حافظ، ونحوه هذه العبارات، فينبغي له أن يكره هذا المدح. لأنه يعرف من نفسه الضعف والنقص، دائماً الإنسان يزدري نفسه لا يرى نفسه فيقول: حفظت أو درست أو قرأت وأنا كذا وكذا وأنا حصّلت، لا، حتى لو حصّل أعلى الشهادات، دائماً يزدري نفسه، ولذا فإن عمر -رضي الله تعالى عنه- لما طُعن -كما في البخاري- قال -رضي الله عنه-: ليتني خرجت منها كفافا لا لي ولا عليّ.
والإمام أحمد -رحمه الله- لما قيل له: هل أنت عربي؟ قال نحن قوم مساكين.
وهذا كلام عبد الله بن المبارك، قال:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم •• ليس الصحيح إذا مشى كالمُقعدِ
يقوله عبد الله بن بارك العالم المعروف.
إذن المقصود أن طالب العلم إذا مدح يكره ويظهر هذا على وجهه أنه يكره المدح لأجل أن لا يدخل عليه العُجب ثم يهلك عياذا بالله، يطلب العلم ويتعب فيه ثم يكون مآله إلى النار نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
-قال: تكاثر تواضعك كلما ازددت علما، كلما ازداد طالب العلم علما ازداد تواضعا، فإن كان إذا ازداد علما يزداد تكبراً فليعلم أن عنده خلل، هذا ليس علماً نافعاً، العلم النافع الذي يزيدك تواضعاً وإخباتاً، وأنت تعلم أن هذا العلم الذي حصلته قليل جداً، وهذا القليل هو محض فضل الله عليك لا بحولك ولا بقوتك، الله -عز وجل- هو الذي وفق وهو الذي هدى والذي يسر الأسباب، لو شاء -جل وعلا- لأشغلك في دنياك ولم تستطع أن تقرأ كتابا ولا تحفظ متنا، إذن فالفضل له -جل وعلا-.
إذا استحضرنا هذا فإننا نتواضع، كلما ازددنا علما تواضعنا لله -جل وعلا-.
-الهرب من حب الترؤُّس والشهرة والدنيا.
الشهرة الأصل أن طالب العلم لا يطلبها ولا يسعي إليها، ويسعى في الخمول، ألا يُعرف، كما في الآثار عن السلف في هذا، ولكن قد تأتي الشهرة من حيث لا يريد، يعني مثل علمائنا الكبار الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين -رحمهم الله- وسماحة المفتي والشيخ صالح الفوزان -حفظهم الله- جاءتهم الشهرة، هل سعوا إليها؟
لا، لكن هم لما نشروا دين الله -عز وجل- وهذا واجب كفائي على أهل العلم أن يبلغوا دين الله -جل وعلا- جاءتهم الشهرة، لكن هم ما سعوا إليها، ولهذا فطالب العلم لا يكون قصده الترؤس وأن يشتهر، لا، ولكن إذا جاءته الشهرة فليجاهد نفسه في إخلاص العمل لله -عز وجل- وأن يستثمر هذه الشهرة فيما يرضي الله -جل وعلا- في تعليم الناس وتوجيه الناس إلى الخير حتى ينتشر دين الله -جل وعلا-.
-أيضاً يقول: هجر دعوى العلم، يعني لا يدّعي أنه عالِم، مر معنا آثار في هذا.
-أيضاً إساءة الظن بالنفس وإحسانه بالناس تنزها عن الوقوع بهم، يعني لا تقول: أنا عندي علم والناس في جهل ثم تبدأ تزدري الناس، لا، أنت إذا حاسبت نفسك محاسبة دقيقة ستعلم أنك مقصر بحق الله، عندك تقصير، وأيضا علمك ليس بالعلم الغزير، مهما بلغ الإنسان فعلمه قليل، ولهذا الإمام أحمد -رحمه الله- لما جاءه من أثنى عليه وذكروا أشياء كثيرة في الثناء عليه قال لهم -رحمه الله-: إذا عرف الرجل نفسه لم ينفعه كلام الناس.
الناس ما لهم إلا الظاهر، قد يكون عند الإنسان من خفايا الأمور ما هي مخالفة لأمر الله -جل وعلا-.
لو حاسبنا أنفسنا محاسبة شديدة -الله يرحمنا برحمته- من منا يخشع في صلاته؟ الله -عز وجل- يقول ﱩ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﱨ مفهوم الآية أن الذي لا يخشع ليس بمفلح، وهذا احتج به بعض أهل العلم على وجوب الخشوع في الصلاة، هذه مسألة واحدة فقط، فلو حاسب الإنسان نفسه الحساب الدقيق لوجد أنه مقصر غاية التقصير.
إذن الأصل في الإنسان أن لا يُزكِّي نفسه ويُسيء الظن بنفسه لأجل أن يترقَّى بها إلى الكمال، لا يقول أنا الكامل ثم ينزل والعياذ بالله إلى أدنى الدرجات.
الطالب:
(زكاةُ العِلْمِ:
أَدِّ زَكاةَ العِلْمِ: صادعًا بالحَقِّ، أمَّارًا بالمعروفِ، نَهَّاءً عن الْمُنْكَرِ، مُوازِنًا بينَ الْمَصالِحِ والْمَضَارِّ، ناشرًا للعِلْمِ، وحبِّ النفْعِ وبَذْلِ الجاهِ، والشفاعةِ الحسَنَةِ للمسلمينَ في نوائِبِ الحقِّ والمعروفِ.
وعن أبي هُريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ:
"إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ". رواه مسلِمٌ وغيرُه.
قالَ بعضُ أهلِ العلْمِ: هذه الثلاثُ لا تَجتمِعُ إلا للعالِمِ الباذِلِ لعِلْمِه فبَذْلُه صَدَقَةٌ، يُنْتَفَعُ بها، والْمُتَلَقِّي لها ابنٌ للعالِمِ في تَعَلُّمِه عليه، فاحْرِصْ على هذه الْحِلْيَةِ، فهي رأسُ ثَمرةِ عِلْمِكَ.
ولشَرَفِ العِلْمِ، فإنه يَزيدُ بكثرةِ الإنفاقِ، ويَنْقُصُ مع الإشفاقِ، وآفَتُه الكِتْمَانُ.
ولا تَحْمِلْكَ دَعْوَى فَسادِ الزمانِ، وغَلَبَةِ الفُسَّاقِ، وضَعْفِ إفادةِ النصيحةِ عن واجبِ الأداءِ والبَلاغِ، فإن فَعَلْتَ، فهي فِعْلَةٌ يَسوقُ عليها الفُسَّاقُ الذهَبَ الأحْمَرَ لِيَتِمَّ لهم الخروجُ على الفضيلةِ ورَفْعُ لواءِ الرَّذيلةِ).
زكاة العلم بنشره والدعوة إليه وتعليمه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة، هذه زكاة العلم.
وفيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه ينقسم إلى أقسام:
-إما أن يكون إنكار هذا المنكر يغلب على الظن أن يزول المنكر ويعقبه المعروف، فهذا مطلوب أن ينكر، إذا كنت إذا أنكرت المنكر يغلب على ظنك زوال المنكر فحينئذ يكون الإنكار مطلوبا.
-وأما إذا كنت تعلم أن إنكار هذا المنكر سوف يؤول إلى منكر أعظم، فحينئذِ لا يجوز أن تُنكِر.
-الثالث: أن يحصل عندك تردد هل إذا أنكرت سوف يزول المنكر أو سوف يزيد؟ هذه محل اجتهاد. يجتهد فيها الذي يتولى الأمر والنهي بحسب ما يغلب على ظنه.
ولهذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى فقه، ولهذا لا ينكر الإنسان إلا بعلم، فإن كان الإنكار على من ولاه الله -عز وجل- أمور المسلمين سواء كان الإمام الأعظم أو من دونه ممن له ولاية فإنه فيه تفصيل، إن كان أمامه وكان الإنكار يؤول إلى مصلحة كما تقدم أنكر عليه، لو تكلم بكلام يخالف الحق أو فعل فعلا يخالف الحق وغلب على ظنه أن الإنكار عليه تتحقق به المصلحة فإنه ينكر، وأما إذا كان الإنكار عليه يؤول إلى مفسدة فلا ينكر.
وأما إذا لم يكن بحضرته وبلغه أنه قد حصل منه منكر في دولته أو في وزارته أو نحو ذلك من الجهات فهنا يتعين أن يكون النصح سراً إما بالمكاتبة السرية أو المقابلة السرية فيما بينه وبينه، كما جاء عند الإمام أحمد من حديث عياض بن غَنْم -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده وليخلُ به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له".
هذا هو المنهج المعروف عن السلف، أنهم ينكرون على الحاكم أو نواب الحاكم فيما بينهم وبينه.
ومن المعلوم أن النصيحة لعموم الناس وآحادهم لو كانت علانية فإنه لا يقبل الشخص، يقول هذا يشهّر بي، وقد تأخذه العزة بالإثم، فكيف بولي الأمر الذي جعل له الشرع حقاً أعظم من حقوق آحاد الناس، جعل له السمع والطاعة في المعروف، ولزوم البيعة وعدم الخروج عليه وغير ذلك من الحقوق.
وهذا هو طريقة العلماء الراسخين، أنهم إذا رأوا منكراً من ولي الأمر نصحوه سراً، فإن قبل فالحمد لله، وإن لم يقبل يكونون قد أدّوا الذي عليهم.
وأيضاً قد يكون لولي الأمر من العذر ما لا يعلمه الناس.
فالناس ينظرون بنظر محدود، لكن ولي الأمر له نظر بعيد وموازنة ونظر في السياسية وغير ذلك مما يخفى على الناس، فقد يفعل بعض الأشياء يظنها الناس محرمة ولكنها جائزة لما يحتف بها ملابسات تؤثر في حكمها.
وقد يدرأ شيئا من الشر بشيء آخر، وأنت لا تدري عن هذه الأمور الخفية.
إذن لا يستعجل الإنسان في مثل هذا، فهذه طريقة السلف، أن النصح للحكام يكون سرا، وأن طريقة الخوارج أنهم يُظهرون الإنكار على الحكام ويهيجون الناس على الحكام، ولهذا عثمان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كيف آل الأمر إلى أن يحاصره الخوارج ويقتلونه وهو أفضل أهل الأرض في ذلك الزمان، وهو الحاكم، ومع ذلك أنكروا عليه علانية.
كيف أنكروا على عثمان؟ أول ما بدأ الإنكار على عثمان الإنكار على ولاته، قالوا: ولاة عثمان يفعلون كذا وكذا، ثم آل الأمر إلى أن ينكروا على عثمان ويطعنوا في عثمان -رضي الله عنه-.
هل بقي الأمر مجرد إنكار؟ لا، آل الأمر إلى الفتنة ووقع السيف في هذه الأمة، كما قيل: لما وقع السيف لم يُرفع إلى يومنا هذا.
فالمقصود أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة فيها تفصيل لأهل العلم ينبغي أن يعرفه طالب العلم حتى لا يغتر بمن يدخل عليك من باب الإنكار للمنكر وتهييج العواطف ثم يؤول الأمر إلى أمور لا تحمد عقباها.
الطالب:
(عِزَّةُ العُلماءِ:
التَّحَلِّي بـعِزَّةِ العُلَمَاءِ: صيانةُ العِلْمِ وتَعظيمُه، وحمايةُ جَنابِ عِزِّه وشَرَفِه، وبِقَدْرِ ما تَبْذُلُه في هذا يكونُ الكَسْبُ منه ومن العَمَلِ به، وبِقَدْرِ ما تُهْدِرُه يكونُ الفَوْتُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العزيزِ الحكيمِ.
وعليه، فاحْذَرْ أن يَتَمَنْدَلَ بك الكُبراءُ، أو يَمْتَطِيَكَ السفهاءُ، فتُلَايِنَ في فَتْوَى أو قضاءٍ أو بَحْثٍ أو خِطابٍ.
ولا تَسْعَ به إلى أهلِ الدنيا، ولا تَقِفْ به على أَعتابِهم، ولا تَبْذُلْه إلى غيرِ أهلِه وإن عَظُمَ قَدْرُه.
ومَتِّعْ بَصَرَك وبَصِيرَتَكَ بقِراءةِ التراجِمِ والسيَرِ لأَئِمَّةٍ مَضَوْا، تَرَ فيها بَذْلَ النفْسِ في سبيلِ هذه الحمايةِ، لا سِيَّمَا مَن جَمَع مُثُلًا في هذا، مثلَ كتابِ (من أخلاقِ العُلماء) لِمُحَمَّد سليمانَ -رحمه الله تعالى-، وكتابِ (الإسلامِ بينَ العُلماءِ والحكَّامِ) لعبدِ العزيزِ البَدْرِيِّ -رحمه الله تعالى-، وكتابِ (مَناهِجِ العُلماءِ في الأمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن الْمُنكَر) لفاروقٍ السامَرَّائيِّ.
وأرجو أن تَرى أضعافَ ما ذَكَرُوه في كتابِ عِزَّةِ العُلَمَاءِ يَسَّرَ اللهُ إتمامَه وطَبْعَه.
وقد كان العلماءُ يُلَقِّنُونَ طُلَّابَهُم حِفْظَ قصيدةِ الْجُرجانيِّ عليِّ بنِ عبدِ العزيز، المتوفى سنةَ 392 هـ -رحمه الله تعالى- كما نَجِدُها عندَ عددٍ من مُتَرْجِمِيهِ، ومَطْلَعُها:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما •• رأوا رجلا عن موقف الذُل أحجما
أرى الناس مَن داناهمُ هان عندهم •• ومن أكرمَتهُ عزة النفس أُكرِما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم •• ولو عظّموهُ في النفوس لعَظَّما
لعَظَّمَا بفتحِ الظاءِ المعجَمَةِ الْمُشالَةِ).
يقول -رحمه الله-: ينبغي لطالب العلم أن يكون عنده عزة، فأهل العلم يتحلون بالعزة، بمعنى أنهم يحملون هذه الشريعة ويحملون هذا العلم فينبغي لهم أن يعظموا هذا العلم الذي في صدورهم ولا يهينوه بالجلوس مع السفهاء أو بأن يجعلوا هذا العلم طريقا إلى شيء من حطام الدنيا، فهذا إهانة للعلم.
ثم إنه ذكر قصيدة الجرجاني -رحمه الله تعالى- وهي قصيدة بليغة ومفيدة في بيان عزة العلماء، وهي تزيد على العشرين بيتا يمكن لطالب العلم أن يراجعها، وإن تيسر حفظها فهي مفيدة.
ذكر فيها: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم •• ولو عظموه في النفوس لعَظّما. هكذا قال المؤلف وضبطها.
بعض أهل العلم يقول: لعُظّمَا، يعني لعُظم عند الناس.
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا •• مُحيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهّمَا
فهذا موجود من زمان قديم إلى يومنا هذا، من يطلب العلم لا للعلم عياذا بالله وإنما لأجل أن يحصّل به الدنيا، وهذا متوعد بوعيد شديد كما تقدم معنا أن "من تعلم علما مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليُصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة".
يعني لم يجد ريحها، فهذا وعيد شديد يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب؛ لأنه متوعد بعدم دخول الجنة والعياذ بالله.
ومما يذكر هنا من باب الفائدة أن الشيخ الشاعر محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- وهو من تلاميذ الشيخ سعد بن عتيق العلامة المعروف -رحمه الله- المتوفى سنة 1349 هـ، قاضي الرياض، رثاه الشيخ محمد بن عثيمين وهو طبعا غير شيخنا المعروف، شيخنا متأخر، هذا من تلاميذ الشيخ سعد بن عتيق -رحمه الله- وكان شاعرا مجيدا للشعر، رثى الشيخ سعدا بمرثية من عيون الشعر من المفيد أن يطلع عليها طالب العلم ويقرأها ففيها رثاء للشيخ سعد وفيها أيضا ثناء على العلماء، مطلعها:
أهكذا البدر تُـخفي نوره الحفرُ •• ويفقد بالعلم لا عينٌ ولا أثرُ
خبَتْ مصابيح كنا نستضيء بها •• وطوّحت للمغيب الأنجمُ الزهُرُ
إلى آخرها..
إلى أن قال -لما ذكر العلماء- قال:
لم يجعلوا سُلَّمًا للمال علمهمُ •• بل نزهوه فلم يلحق به وضَرُ.
لم يجعلوا سُلَّمًا، ما جعل العلم سُلَّما للدنيا وللمال بل نزّه العلم ووقّر العلم، العلم شريف، لا يُجعل سبيلا أو وسيلة إلى حطام الدنيا الزائل.
فالمقصود من هذا أن طالب العلم ينبغي له أن يوقر العلم الذي يحمله، أنت يا طالب العلم لا تمثل نفسك، لا تمثل أنك فلان ابن فلان، لا، أنت الآن تمثل طلاب العلم وتمثل العلم الذي تحمله، فينبغي أن يكون العلم عزيزا، لا تهن العلم بشيء من الدنيا أو بالجلوس مع أهل السفه وأهل الباطل، هذا ينقص قدر العلم؛ لأن العامة يقولون: هؤلاء طلاب العلم، هؤلاء المشايخ، ينتقصون طلبة العلم كلهم، الناس يعمّمون الأحكام، فأنت ينبغي لك أن يكون عندك عزة وأن توقّر ما منّ الله -عز وجل- به عليك من هذا العلم العظيم.
الطالب:
(صِيانةُ العِلْمِ:
إن بَلَغْتَ مَنْصِبًا فتَذَكَّرْ أنَّ حَبْلَ الوَصْلِ إليه طَلَبُكَ للعِلْمِ، فبِفَضْلِ اللهِ ثم بسببِ عِلْمِك بلَغْتَ ما بَلَغْتَ من وَلايةٍ في التعليمِ، أو الفُتْيَا أو القضاءِ... وهكذا، فأَعْطِ العِلْمَ قَدْرَه وحَظَّهُ من العمَلِ به وإنزالَه مَنْزِلَتَهُ.
واحْذَرْ مَسْلَكَ مَن لا يَرْجُونَ للهِ وَقَارًا، الذين يَجْعَلون الأساسَ حِفْظَ الْمَنْصِبِ فيَطْوُونَ أَلْسِنَتَهُم عن قولِ الحَقِّ، ويحملُهم حُبُّ الوَلايةِ على الْمُجَارَاةِ.
فالْزَمْ – رَحِمَكَ اللهُ – المحافَظَةَ على قِيمَتِكَ بحِفْظِ دِينِك، وعِلْمِك وشَرَفِ نفسِكَ، بحِكْمَةٍ ودِرايةٍ وحُسْنِ سِياسةٍ: احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ في الرخاءِ يَحْفَظْكَ في الشدَّة.
وإن أَصْبَحْتَ عاطلًا من قِلادةِ الوِلايةِ – وهذا سبيلُك ولو بعدَ حينٍ – فلا بأسَ، فإنه عَزْلُ مَحْمَدَةٍ لا عَزْلُ مَذَمَّةٍ ومَنْقَصَةٍ.
ومن العجيبِ أنَّ بعضَ مَن حُرِمَ قصدًا كبيرًا من التوفيقِ لا يكونُ عندَه الالتزامُ والإنابةُ والرجوعُ إلى اللهِ إلا بعدَ التقاعُدِ، فهذا وإن كانت تَوبَتُه شرعيَّةً، لكن دِينَه ودِينَ العجائزِ سواءٌ، إذ لا يَتَعَدَّى نَفْعُه، أمَّا وَقْتُ وِلايتِه حالَ الحاجةِ إلى تَعَدِّي نَفْعِه، فتَجِدُه من أَعْظَمِ الناسِ فُجورًا وَضَرَرًا، أو باردَ القلْبِ أَخْرَسَ اللسانِ عن الْحَقِّ، فنَعوذُ باللهِ من الْخِذلانِ).
الكلام واضح.
الطالب:
(الْمُداراةُ لا الْمُداهَنَةُ:
الْمُداهَنَةُ خُلُقٌ مُنْحَطٌّ، أمَّا الْمُدارَاةُ فلا، لكن لا تَخْلِطْ بينَهما فتَحْمِلَك المداهَنَةُ إلى حَضَارِ النفاقِ مُجاهَرَةً، والْمُداهَنَةُ هي التي تَمَسُّ دِينَك.
المداراة لا المداهنة، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداهنة محرمة والمداراة جائزة، والمداهنة أن ترضى بما عليه المخالف لك، ترضى بما عليه أهل الباطل هذا لا يجوز، وأما المداراة فأنت لا ترضى بما هم عليه ولكنك قد تؤخر الإنكار عليهم وبيان ما هم عليه من الباطل إلى وقت يكون مناسبا؛ لأجل تحقيق مصلحة أو لأجل دفع مفسدة، هذه تسمى مداراة، فأحيانا مع الكافر أو المبتدع تجد أنك لا تتكلم معه في شيء، ليس ذلك عن رضا بما هو عليه، لو رضيت بما هو عليه لكانت مداهنة، لكن أنت لا ترضى بما هو عليه ولكنك تداريه لأجل أنك قد تخشى شره لو أنكرت عليه ربما يحصل مفسدة كبيرة، فيدارى ،أو مثلا تريد تحقيق مصلحة أكبر فتداريه، لا تنكر عليه الآن، تؤجل هذا إلى وقت آخر يكون مناسبا أو بطريقة أفضل، هذه مداراة، فهي جائزة ولا بد فيها من علم.
الطالب:
(الغَرامُ بالْكُتُبِ:
شرَفُ العِلْمِ معلومٌ لعُمومِ نَفْعِه، وشِدَّةُ الحاجةِ إليه كحاجةِ البَدَنِ إلى الأنفاسِ، وظهورُ النقْصِ بقَدْرِ نقْصِه، وحصولُ اللذةِ والسرورِ بقَدْرِ تحصيلِه، ولهذا اشْتَدَّ غَرامُ الطُّلَّابِ بالطلَبِ، والغَرامُ بجَمْعِ الكُتُبِ مع الانتقاءِ، ولهم أَخبارٌ في هذا تَطُولُ، وفيه مُقَيَّدَاتٌ في خبرِ الكِتابِ يَسَّرَ اللهُ إتمامَه وطَبْعَهُ.
وعليه، فأَحْرِز الأصولَ من الكُتُبِ، واعْلَمْ أنه لا يُغْنِي منها كتابٌ عن كتابٍ ولا تَحْشُرْ مَكتَبَتَكَ وتُشَوِّشْ على فِكْرِك بالكُتُبِ الغُثَائِيَّةِ، لا سِيَّمَا كُتبَ المبتدِعَةِ، فإنها سُمٌّ ناقع).
لا بد لطالب العلم من آلة، ما هي آلة طالب العلم؟ الكتب.
يقول:
كان أحد العلماء تلومه امرأته، تقول أموالك كلها أنفقتها في الكتب، فقال لها:
وقائلةً أنفقتَ في الكتْب ما حوَت •• يمينُك من مالٍ فقلتُ دعيني
لعــــــــــــلي أرى منها كتـــــــــــــابا يدلـــــــــني •• لأخــــــــذ كتـــــــــــابي آمنا بيميني
وقيل لبعضهم: لماذا تنفق الأموال على شراء الكتب؟ قال إنما تكون الصنعة بحسب الآلة.
فآلة طالب العلم هي: الكتب، كيف يراجع المسائل ويبحث المسائل ويقرأ إلا عن طريق الكتب.
وفي هذا الزمان قد يسر الله -عز وجل- عليك، فالكتب بل المكتبات تحملها في جيبك، ما كان هذا متهيئا إلى عهد قريب.
ذكروا لنا عن المشايخ المعاصرين الآن -كبار العلماء- أول ما بدأت الدولة السعودية -جزى الله ولاة أمرها خير الجزاء- كان الناس في فقر وفي حاجة، ما يستطيعون أن يشتروا الكتب، فكانت الدولة تطبع أيام الملك عبد العزيز -رحمه الله- ومن بعده من ملوك هذه الدولة -جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- تطبع الكتب وتوزعها على طلاب العلم، بل أدركنا هذا في كلية الشريعة، وزع علينا بعض الكتب.
فالمقصود أن طالب العلم ينبغي له أن يعتني بالكتب، والآن يمكن أن نقسم الكتب على قسمين:
-كتب ورقية، المعروفة، تكون في مكتبتك وتنشئ لك مكتبة وترتبها وتجمع فيها المراجع.
-وأيضا المكتبة الإلكترونية، عندك المكتبة الشاملة، وعندك مكتبات أخرى معروفة ممكن تجمع بين الكتب الورقية والإلكترونية، وتستفيد من هذه ومن هذه.
لكن من طلاب العلم من لا يلتذ بقراءة الكتاب إلا إذا كان ورقياً؛ لأجل أن يخطط على المسائل المهمة ويُعلق عليها ويضيف إليها، وقد يستدرك عليها ويقيد الفوائد كما عرفتم، هذا ما أدري أنا لا أفهم كثيرا في الأمور الإلكترونية لكن بعضهم يقول يمكن التعليق على الكتاب الإلكتروني، لكن أنا ما اعتدت على هذا ولا أعرفه، من كان يحسنه ويمكن أن يقوم هذا مقام الكتاب الورقي فلكلٍ مشربُه.
المقصود أنك تقتني الكتب وتعتني بها لأنها هي المرجع لك، وأحياناً تمر بك بعض الكتب وترى أنه لا حاجة إليها ثم تأتي مسألة مشكلة عليك وتتمنى أنك لو اشتريت هذا الكتاب ثم تبحث عنه وإذا به قد نفد من الأسواق، ما تجده.
يعني لا تقول كلما أردت كتابا سأشتريه، لا، الكتب حين تنزل متوفرة، ثم تنفد من الأسواق ثم لا تطبع مرة ثانية تبحث عنها ما تجدها، اللهم إلا ما يسر الله -عز وجل- في هذا العصر، فقد تجدها عن طريق الـنت أو عن طريق الكتب الإلكترونية.
الطالب:
(قِوامُ مَكتَبَتِكَ:
عليك بالكُتُبِ الْمَنسوجَةِ على طريقةِ الاستدلالِ، والتَّفَقُّهِ في عِلَلِ الأحكامِ، والغَوْصِ على أسرارِ المسائلِ، ومن أَجَلِّها كتُبُ الشيخينِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَةَ -رحمه الله تعالى-، وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ -رحمه الله تعالى-، وعلى الجادَّةِ في ذلك من قَبْلُ ومن بعدُ كُتُبُ:
الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ م سنة 463هـ -رحمه الله تعالى-، وأَجَلُّ كُتُبِه التمهيدُ.
الحافظُ ابنُ قُدامَةَ م سنة 620 هـ -رحمه الله تعالى-، وأَرْأَسُ كُتُبِه الْمُغْنِي.
الحافظُ ابنُ الذهبيِّ م سنة 748 هـ -رحمه الله تعالى-.
الحافظُ ابنُ كثيرٍ م سنة 774 هـ -رحمه الله تعالى-.
الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ م سنةَ 795 هـ -رحمه الله تعالى-.
الحافظُ ابنُ حَجَرٍ م سنةَ 852 هـ -رحمه الله تعالى-.
الحافظُ الشوكانيُّ م سنةَ 1250 هـ -رحمه الله تعالى-.
الإمامُ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ م سنةَ 1206 هـ -رحمه الله تعالى-.
كُتُبُ عُلماءِ الدعوةِ، ومن أَجْمَعِها الدُّرَرُ السنِيَّةُ.
العلامَةُ الصنعانيُّ م سنةَ 1182هـ -رحمه الله تعالى-، لا سِيَّمَا كتابُه النافعُ سُبُلُ السلامِ.
العَلَّامَةُ صِدِّيقُ حسن خان القنَّوجيُّ، المتوفى سنةَ 1307هـ -رحمه الله تعالى-.
العَلَّامَةُ محمَّدٌ الأمينُ الشِّنقيطيُّ م سنة 1393هـ -رحمه الله تعالى- لا سِيَّمَا كتابُه أضواءُ البيان).
طالب العلم يحرص على أن يقتني كتب هؤلاء العلماء المحققين، وقد عرفنا أنه لا يدخل في قراءة المطولات حتى يتقن مبادئ العلوم.
ذكر الشيخ جملة من العلماء، ليس هذا حصراً وإنما تمثيل، وإلا يمكن أن نضيف كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، كتب الشيخ ابن عثيمين، كتب الشيخ ابن فوزان، كتب الشيخ بكر نفسه، المؤلف -رحمهم الله جميعاً-.
فالمقصود أن هذا تمثيل.
لكن أنبه إلى أن كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- علماؤنا بل أئمة الدعوة النجدية لهم عناية بهذه الكتب عناية كبيرة جدا جدا، ولكن كتب ابن القيم أيسر في الفهم من كتب ابن تيمية، ابن تيمية عبارته قوية جدا، فالأولى والله أعلم إذا تأهلت لقراءة الكتب بعد تجاوز المرحلة الأولى فإنك تبدأ بكتب ابن القيم فإنها أسهل وأيسر ، وأيضاً هي تحتاج إلى ترتيب، تقرأ هذا الكتاب قبل هذا الكتاب قبل هذا الكتاب؛ لأن بعض الكتب عنده تحتاج إلى فهم أعمق وقد يصعب فيها فهم بعض المسائل، لكن ابن القيم في الجملة كلامه أيسر وأسهل من كلام ابن تيمية -رحمهما الله جميعا-.
الطالب:
(التعامُلُ مع الكتابِ:
لا تَسْتَفيد من كتابٍ حتى تَعْرِفَ اصطلاحَ مؤَلِّفِه فيه، وكثيرًا ما تكونُ الْمُقَدِّمَةُ كاشفةً عن ذلك، فابْدَأْ من الكتابِ بقراءةِ مُقَدِّمَتِه).
هذا مهم جدا، لا تقرأ كتابا حتى تقرأ المقدمة؛ لأن المؤلف قد يذكر مصطلحات أو منهجا يسير عليه في هذا الكتاب، بعض الكتب وأنت تقرأ فيها تجد رموزا، "و" مثلا، ماذا يريد بواو؟
هذا لا تعرفه إلا عن طريق الرجوع إلى المقدمة، يقول: إذا قلت واو فالمراد به كذا وكذا، أو أحيانا يقول: شيخنا، ماذا يريد بقوله: شيخنا؟
مشايخه كثر، مَن هو المراد؟
المراد ما ذكره في المقدمة.
أحيانا يقول: شيخ الإسلام.
لا تظنوا شيخ الإسلام فقط ابن تيمية، عدد من العلماء أطلق عليه شيخ الإسلام، شيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيره.
طيب إذا قال شيخ الإسلام، ماذا يريد المؤلف؟
إما أن يُعرف هذا بنصه في المقدمة أو يعرف بما جرى عليه علماء هذا المذهب أو هذه المدرسة العلمية، وقد يدل على ذلك السياق.
المقصود أن المصطلحات مهم أن تعرفها، ومن طرق معرفتها قراءة المقدمة.
الطالب:
(- ومنه:
إذا حُزْتَ كِتابًا، فلا تُدْخِلْه في مَكتبتِك إلا بعدَ أن تَمُرَّ عليه جَرْدًا أو قراءةً لِمُقَدِّمَتِه، وفِهْرِسِه، ومواضِعَ منه، أمَّا إن جَعَلْتَه مع فَنِّه في الْمَكتبةِ، فرُبَّما مَرَّ زمانٌ وفاتَ العُمُرُ دونَ النَّظَرِ فيه، وهذا مُجَرَّبٌ، واللهُ الْمُوَفِّقُ).
إذا اشتريت كتابا، مثلا كتاب في الحديث، فتضعه مع كتب الحديث، في الفقه فتضعه مع كتب الفقه، لا، اقرأ المقدمة، اقرأ الفهرس؛ حتى تعرف ما هي المسائل التي في هذا الكتاب، اقرأ موضعا أو موضعين منه حتى يكون عندك تصور عن الكتاب بحيث لو مرت بك مسألة مشكلة مباشرة ذهنك ينصرف إلى أنها موجودة في هذا الكتاب فترجع إليه وتجدها، هذا مهم جدا.
طبعا إن تيسر لك ألا تضعه في الدرج إلا بعد المرور عليه ولو مرور جرد -كما قال الشيخ- مرورا سريعا فهذا هو الأولى.
الطالب:
(إعجامُ الكتابةِ:
إذا كَتَبْتَ فأَعْجِم الكتابةَ بإزالةِ عُجْمَتِها، وذلك بأمورٍ:
وضوحُ الخطِّ.
رَسْمُه على ضَوْءِ قواعدِ الرسْمِ الإملاءِ.
وفي هذا مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ من أَهَمِّها:
كتابُ الإملاءِ لحسين والي. قواعدُ الإملاءِ لعبدِ السلامِ محمد هارون.
الْمُفْرَدُ العَلَمُ للهاشميِّ، رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
النَّقْطُ للمُعْجَمِ والإهمالُ للمُهْمَلِ.
الشَّكْلُ لِمَا يُشْكِلُ.
تَثبيتُ عَلاماتِ الترقيمِ في غيرِ آيةٍ أو حديثٍ).
إعجام الكتابة، يعني إذا كتبت فاكتب كتابة صحيحة.
ثم ذكر ما يتعلق بالإملاء، وأضيف أيضا: الخط؛ لأنه في الحقيقة توجد معاناة كبيرة جدا من بعض الطلاب إذا رأيت خطوطهم، بعضها مُستغلق جداً جداً، ما يكاد يُقرأ.
هذا فضلا عن الأخطاء الإملائية، وأما أمر الهمزات فحدّث ولا حرج، هذه ما يحسنها إلا القليل.
إذن طالب العلم عيبٌ عليه حقيقة أن يكون خطه ما يُقرأ.
أن يكون خطه جميلا هذا نور على نور، لكن أقل شيء وأدنى شيء أن كل من قرأ خطك يفهم ويعرف المراد.
الأمر الثاني: عيب على طالب العلم أن يخطئ في الإملاء، ولو أننا درسنا في المدارس دراسة قوية فالغالب أننا ندرس الإملاء، أليس كذلك؟ لكن جملة ممن يدرس لا يتقن أو قد لا يوفق بمعلم يعلمه التعليم الصحيح، إذن أنت الآن تستدرك ما عندك من نقص يا طالب العلم، من جهة الخط ومن جهة الإملاء.
وذكر الشيخ -رحمه الله- عددا من الكتب التي تفيد، والآن توجد دورات يمكن عن طريق النت الآن أن تدخل وتحضر دورات معينة إما في الخط أو في الإملاء لتكمل ما عندك من النقص في هذا.
الطالب:
(الفصلُ السابعُ
الْمَحاذِيرُ
حلم اليَقَظَةِ:
إيَّاك وحِلْمَ اليَقَظَةِ، ومنه بأن تَدَّعِيَ العلْمَ لِمَا لم تَعْلَمْ، أو إتقانَ ما لم تُتْقِنْ، فإن فَعَلْتَ، فهو حِجابٌ كَثيفٌ عن الْعِلْم).
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله- لبيان المحاذير التي ينبغي أن يحذر منها طالب العلم.
فأول هذه المحاذير: حلم اليقظة، وذلك بأن يدعي طالب العلم أنه يعلم وهو لا يعلم، أو أنه أتقن الفن الفلاني أو المسألة الفلانية وهو لم يتقن ذلك، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَي زور".
يعني أنه يتظاهر بما ليس عنده أنه عنده، فهذا كمن يلبس ثوبين ليسا له، إما استعارها أو استأجرها ويُظهر أنها ملك له، كلابس ثوبي زور، والزور هو الباطل.
الطالب:
(احْذَرْ أن تكونَ أبا شِبْرٍ:
فقد قيلَ: العلْمُ ثلاثةُ أَشبارٍ، مَن دَخَلَ في الشبْرِ الأَوَّلِ، تَكَبَّرَ، وَمَنْ دَخَلَ في الشبْرِ الثاني، تَواضَعَ، ومَن دَخَلَ في الشبْرِ الثالثِ، عَلِمَ أنه ما يَعْلَمُ).
احذر أن تكون أبا شبر.
الذي يدخل في الشبر الأول يتكبر لأنه يرى أنه عالم ثم يتكبر، والشبر الثاني إذا دخل فيه علم أنه ليس عالما فيتواضع، وأما الشبر الثالث علم أنه ما يعلم.
ومن المعلوم أنه إذا كان يعتقد في نفسه أنه ليس عنده علم سوف يتواضع ،ولكن وإن كان الإنسان إذا حصَّل من العلم قدرًا مناسبًا وهو يزدري نفسه كما تقدم ولا يدّعي أنه بلغ في العلم مبلغًا عظيمًا هذا لا ينبغي أن يمنعه من نشر العلم إذا تأهل لنشره في دعوة وتعليم وتأليف إذا تأهل لهذا، يعني قوله: الشبر الثالث عَلِمَ أنه ما يعلم، قد يفهم منه الطالب أنه لا يفعل شيئا، لا يدعو إلى الله ولا يعلّم العلم ولا يؤلِّف المؤلفات النافعة، هذا ليس مراده، لكن في نفسه وإن بلغ في العلم مبلغا عاليا يزدري نفسه، لكن هل معنى ذلك أنه لا يبلّغ؟ لا، يجب عليه أن يبلغ وجوبا كفائيا، الدعوة إلى الله واجب كفائي، تعليم العلم واجب كفائي، وأنتم ترون الآن قلة الدعاة إلى الله -عز وجل- الذين هم على منهج السلف الصالح.
فمن تأهل يُبلغ من العلم ما يعلم، ولا يُكلِّف نفسه ما لا يُطيق فيتكلم فيما لا يُحسنه من العلم.
الطالب:
(التَّصَدُّرُ قبلَ التأَهُّلِ:
احْذَرِ التَّصَدُّرَ قبلَ التأَهُّلِ، فهو آفةٌ في العِلْمِ والعَمَلِ.
وقد قيلَ: مَن تَصَدَّرَ قبلَ أَوانِه، فقد تَصَدَّى لِهَوَانِهِ).
الطالب، لا يستعجل، ولا يتصدر في التأليف ولا يتصدر في الفتوى ولا في غير ذلك، حتى يتأهل، ولهذا كان العلماء -رحمهم الله- لا يُفتون حتى يشهد لهم مشايخهم بأنهم أهل للفتوى، وهذا تجدونه في السيَر، إذا قرأتم في تراجم العلماء: فأذِن له شيخه أن يفتي، أو أذِن له شيخه أن يعلّم ويجلس للتدريس، فهذا لا يكون إلا بعد التأهل لهذه المرحلة من نشر العلم والتصدي له.
الطالب:
(التَّنَمُّرُ بالعِلْمِ:
احْذَرْ ما يَتَسَلَّى به الْمُفْلِسُونَ من العِلْمِ، يُراجِعُ مسألةً أو مسألتين، فإذا كان في مَجلسٍ فيه مَن يُشارُ إليه، أثارَ البحثَ فيهما، ليُظْهِرَ عِلْمَه، وكم في هذا من سَوْأَةٍ، أقَلُّها أن يَعلمَ أنَّ الناسَ يَعلمونَ حقِيقَتَه. وقد بَيَّنْتُ هذه مع أخواتٍ لها في كتابِ التعالمِ والحمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ).
هذه في الحقيقة خصلة ذميمة توجد في بعض طلاب العلم، وهو أنه إذا علم أنه سوف يجتمع مع طلاب علم أو مع أحد العلماء ماذا يصنع؟ يبحث مسألة دقيقة من مسائل العلم ثم إذا جلس أثار هذه المسألة مع ذلك العالم أو مع طلاب العلم، فإذا أثارها فالغالب أن من حوله قد لا يكونون أتقنوا المسألة؛ لأن المسألة دقيقة، فهذا جمع فيها الأقوال والاستدلال وكلام أهل العلم وعهده بها قريب، فيتكلّم في المسألة يظهر ماذا؟ يظهر أنه عالم وأنه عارف بدقائق المسائل، هذه خصلة ذميمة، وهذا يعرف عند أهل العلم، يعرفونه؛ لأنه معلوم أن هذه المسائل الدقيقة ما تكون مستحضرة دائما، ولذلك لو سئل عن غيرها مما يشابهها لما أحسن الجواب، وإنما هذه درسها وراجعها قبل أن يجتمع بهؤلاء، فهذا أمر شنيع لا يحل لطالب العلم أن يفعله، وإنما إذا عُرضت المسائل للمباحثة والمناقشة بين أهل العلم إن كانت حاضرة عند تكلم بما يعلم وإذا لم يكن عنده علم يستفيد من إخوانه، أما أن يسلك هذا المسلك فإن هذا مما يُذَم.
الطالب:
(تَحْبِيرُ الكَاغَدِ:
كما يكونُ الحذَرُ من التأليفِ الخالي من الإبداعِ في مَقاصِدِ التأليفِ الثمانيةِ، والذي نِهايتُه تَحبيرُ الكاغَدِ فالْحَذَرَ من الاشتغالِ بالتصنيفِ قبلَ استكمالِ أَدواتِه، واكتمالِ أهْلِيَّتِكَ، والنضوجِ على يَدِ أشياخِك، فإنك تُسَجِّلُ به عارًا، وتُبْدِي به شَنَارًا.
أمَّا الاشتغالُ بالتأليفِ النافعِ لِمَن قامَتْ أهْلِيَّتُه، واستَكْمَلَ أَدواتِه وتَعَدَّدَتْ مَعارِفُه، وتَمَرَّسَ به بَحْثًا ومُراجعةً ومُطالَعَةً وجَرْدًا لِمُطَوَّلاتِه وحِفْظًا لِمُخْتَصَرَاتِه، واستذكارًا لمسائلِه، فهو من أَفْضَلِ ما يَقومُ به النُّبلاءُ من الفُضلاءِ.
ولا تَنْسَ قولَ الْخَطيبِ: مَن صَنَّفَ، فقد جَعَلَ عقْلَه على طَبَقٍ يَعْرِضُه على الناس.)
الشيخ رحمه الله تعالى يحذّر أن يؤلّف طالب العلم قبل التأهل، ولهذا تجد بعض العلماء ألفوا مؤلفات في وقت الشباب وقت التحصيل ثمّ لما كبروا وصار لهم شأن ظهر لأهل العلم أن تلك المؤلفات التي ألفت في وقت الشباب لم تكن محررة، واستُدرك عليها أشياء، بل إن طالب العلم إذا بلغ في العلم مبلغا يندم على ما ألف ونشر في وقت الشباب.
طبعا لا يقال لك: لا تبحث، لا، ابحث، لكن الكلام على النشر.
ولهذا بعض طلبة العلم بحثوا في أيام الطلب وأيام الشباب لكن جعلوها في الأدراج ما نشروها، من باب أنه يتدرب على البحث ويتعود عليه ويعرف كيف يبحث، هذا لا إشكال فيه، لكن أن تنشر قبل أن تتأهل: هذا لا يصلح، إذا تأهل الإنسان يقول الشيخ هذا من القربات لله -عز وجل- في نشر العلم أن يؤلف الإنسان وينفع الأمة.
ذكر الشيخ -رحمه الله- مقاصد التأليف الثمانية، ما هي هذه الثمانية؟
هذا يذكرها أهل العلم ممن يعتني بالكلام في طريقة التأليف ومقاصد التأليف، أذكرها باختصار:
-الأول: اختراع معدوم.
ومعنى اختراع معدوم يعني لم يُسبق إلى هذا التأليف، أتى بشيء مبتكر من عنده.
-والثاني من المقاصد: جمع مفترق.
وهذا كثير، أن يجمع مثلا الأحكام المتعلقة بالإبل مثلاً أو الأحكام المتعلقة بالخاتم تجدها متفرقة في كلام أهل العلم لا يجمعها كتاب واحد أو موضع واحد، هذا جمع متفرق هذا مقصد من مقاصد التأليف.
- أو تكميل ناقص.
كأن يكون أحد العلماء ألف مؤلفاً لكن لم يكمله فجاء من بعده فأكمله، وهذا مثل النووي -رحمه الله- شرح المهذب للشيرازي ووقف على أول المعاملات، جاء بعده السبكي فأتم منه قطعة من المعاملات، وجاء بعده المطيعي فأتمه إلى آخره، هذا تكميل ناقص.
- الرابع: تفصيل مجمل.
وهذا ربما نمثل له بشرح المتون الفقهية أو المتون في العلوم عموما؛ لأن المتون تكون العبارات مختصرة، تحتاج إلى شرح، وإلى بسط وبيان ما فيها من إجمال.
-أيضا تهذيب مطوّل.
مثل تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب، يكون الكتاب مطولا، فيأتي من يهذبه.
-أيضا من المقاصد: ترتيب مختلط.
ومن أمثلة ذلك التمهيد لابن عبد البر، فإنه رتّبه على شيوخه ولم يرتبه على الأبواب الفقهية، فجاء بعض المعاصرين ورتبه على أبواب الفقه، هذا ترتيب مختلط لأنه أيسر، إذا أردت أن تعرف كلامه في المياه مثلا ترجع إليه تجده مجموعا، كلامه مثلا في صلاة الاستسقاء تجده مجموعا، هذا مقصد من مقاصد التأليف.
-أو تعيين مبهم.
كأن يكون الكتاب فيه مبهمات من أسماء الرجال أو الأماكن أو غير ذلك فيأتي من يؤلف ويبين هذه المبهمات.
-أو تبيين خطأ.
كما ألف أحد أهل العلم كتابا وفيه أخطاء، فيأتي عالم ويبين ما في هذا الكتاب من الخطأ، وهذا قد يدخل فيه الردود على المخالفين، يقول هذا الكتاب فيه مخالفة في كذا ومخالفة في كذا، وقد تكون مخالفات عقَدية، وقد تكون دون ذلك.
المقصود أن هذا مقصد من المقاصد.
ما سوى هذه الثمانية فالشيخ يقول: لا تتعب نفسك، إنما هو هي تسويد الكاغد، والكاغد هو القرطاس، يعني تصرف الحبر على هذه الأوراق بما لا طائل من ورائه.
وهذا مهم الآن عندنا في الدراسات العليا في الأقسام العلمية، يطلب من الطالب عند تقديم خطة البحث أن يكون عنده إضافة علمية، ما معنى إضافة علمية؟ يعني إضافة على من سبقك، طبعا قد يأتي بشيء لم يتكلم فيه أحد وهذا إن وجد يدخل في الأول، اختراع معدوم، لكن هذا نادر، وقد يكون هذا في نوازل عرضت في هذا العصر ليس فيها كلام للمتقدمين، لكن هذا قليل، وقد تكون المسألة فيها بحوث، فيها كلام لأهل العلم لكن يقول: أنا عندي إضافة على ما ذكروا، فتلحظ هنا أنه توجد إضافة كافية لتميز هذا الكتاب وهذا البحث عن غيره، وإلا لو أتى شخص وألف مثلا في زكاة الحلي، هذا الموضوع قد قتل بحثاً، ربما تجد عشرة كتب أو أكثر أفردت هذه المسألة بالكلام، ماذا سوف يزيد عليها؟ نعم لو قال: عندي إضافة على سبيل التسليم وهي كذا وكذا، إضافة معتبرة تستحق أن يؤلف مؤلفا في هذا الموضوع، نعم، لكن إذا لم يكن عنده إضافة فالحقيقة أن هذا مضيعة للوقت، ينبغي أن تصرف الهمم في التأليف إلى شيء فيه إضافة إلى المكتب العلمية، أما تكرار البحوث كما نجد أحيانا فهذا ليس بجيد.
الطالب:
(مَوْقِفُكَ مِن وَهْمِ مَن سَبَقَكَ:
إذا ظَفِرْتَ بوَهْمٍ لعالِمٍ، فلا تَفْرَحْ به للحَطِّ منه، ولكن افْرَحْ به لتصحيحِ المسألةِ فقطْ، فإنَّ الْمُنْصِفَ يَكادُ يَجْزِمُ بأنه ما من إمامٍ إلا وله أغلاطٌ وأوهامٌ، لا سِيَّمَا الْمُكْثِرِين منهم.
وما يُشَغِّبُ بهذا ويَفْرَحُ به للتَّنَقُّصِ، إلا مُتعالِمٌ يُريدُ أن يُطِبَّ زُكامًا فيُحْدِثَ به جُذَامًا.
نعمْ، يُنَبِّهُ على خَطأٍ أو وَهْمٍ وَقَعَ لإمامٍ غُمِرَ في بَحْرِ عِلْمِه وفَضْلِه لكن لا يُثيرُ الرَّهَجَ إليه بالتنَقُّصِ منه والْحَطِّ عليه فيَغْتَرَّ به مَن هو مِثْلُه).
يقول: يا طالب العلم إذا وقفت على خطأ ممن سبقت من أهل العلم أو حتى من المعاصرين لك فإنك لا تفرح بزلته هذا يدل على سوء النية وأنه يفرح عياذا بالله بخطأ أهل العلم، هذا لا يجوز، لا يجوز أن يفرح بهذا، وإنما يفرح أن وفقه الله -عز وجل- لمعرفة الحق في المسألة، نقول نعم تفرح بهذا وتلتمس العذر لذلك العالم فيما وقع فيه من خطأ.
ومن المعلوم أن المسائل قد تكون مسائل اجتهادية، والمسائل الاجتهادية ما فيها تخطئة ولا فيها تضليل، يعني مثل مسألة ذكرتها قبل قليل، الخلاف في زكاة الحلي هل تجب الزكاة فيه أو لا تجب، مسألة اجتهادية لا يشنع فيها على أحد، من اختار هذا القول بناء على ما ظهر له من الدليل فلا يشنّع عليه، ومن اختار القول الآخر بناء على ما ظهر له من الدليل فلا يشنّع عليه، المسائل الاجتهادية ما فيها إنكار، وإنما يكون الإنكار على من خالف إجماعا أو خالف نصا صحيحا صريحا لا معارض له، نعم فهذا ينكر عليه.
إذن إذا وجدت خطأً لمن سبق أو للمعاصرين أولا تحمد الله -عز وجل- أن بصَّرك وعرَّفك حتى لا تقع فيما وقع فيه من الخطأ، ثم تُنبِّه عليه بالطريقة المناسبة، فمن عُرف بالعلم والتقوى والسابقة في الخير ومن أهل السنة هذا نقول: أخطاؤه مغمورة في بحر حسناته ،وحينئذ لا يشنّع عليه ولكن يُبَيِّن الخطأ بألطف عبارة، وأيضا لا يُبَيِّن الخطأ كلُّ أحد، وإنما يُبَيِّنه من كان أهلا لأن يتكلم في هذا وأن يرد على العلماء؛ لأن بعض صغار طلاب العلم قد يظنون أن ذلك العالم أخطأ والحقيقة أن هذا الطالب هو المخطئ في الفهم، ما فهم كلام العالم، وإنما يتجرَأ على تخطئة العلماء، هذا لا ينبغي، لكن من تأهل في العلم وتبَيَّن له بوضوح وقوع الخطأ من ذلك العالم فإنه يرد عليه بردٍ مناسب؛ لأن له سابقة في العلم والفضل، وأما أهل البدع الذين ظهر اتباعهم للهوى ومعاندتهم فهؤلاء لا كرامة لهم، يرد عليهم بل قد يغلظ عليهم إذا كان في التغليظ مصلحة، فإن أهل العلم قد غلظوا في ردودهم على المخالفين يعني من أهل الأهواء والذين عُرف سوء قصدهم واتباعهم لأهوائهم لا للحق، فهذا يختلف.
أما ما ذكر الشيخ -رحمه الله- من الخطأ الذي يقع من بعض العلماء الذين لهم سابقة فهذا يُتلطف معه ويُعتذر له بقدر ما يمكن.
الطالب:
(دَفْعُ الشُّبُهَاتِ:
لا تَجْعَلْ قلبَك كالسِّفِنْجَةِ تَتَلَقَّى ما يَرِدُ عليها فاجْتَنِبْ إثارةَ الشُّبَهِ وإيرادَها على نفسِك أو غيرِك، فالشُّبَهُ خَطَّافةٌ والقلوبُ ضَعيفةٌ وأَكْثَرُ مَن يُلْقِيهَا حَمَّالَةُ الْحَطَبِ - المبتَدِعَةُ – فتَوَقَّهُم).
يعني ينتبه طالب العلم من الشُّبه، الشُّبه قد ترد عليك في قراءة كتاب أو في سماع من شخص أو أحيانا قد يلقيها الشيطان في قلبك، فتنتبه لهذا، لا تجعل قلبك يلتفت لهذه الشبهات ويسترسل مع هذه الشبهات، لا، ادفعها عنك، خاصة في البداية، في بداية الطلب؛ لأن الإنسان لم يتمكن من العلم، كم من الأمور المشكلة أو الشبهات التي تثار، مع التقدم في العلم تزول هذه كلها وتكون عندك الأمور بإذن الله واضحة بينة.
لكن لو أن الإنسان استرسل مع الشُّبَه ربما ضل في أول الطريق، فليكن حذرا، طريق أهل السنة والجماعة معروف، وسبقك علماء ساروا على هذا الطريق فوصلوا، فسِر أنت على هذا الطريق، ليست المسألة أنني الآن أريد أن أعرف ما هو الصواب، لا، الصواب طريق أهل السنة والجماعة بيقين لا تردد عندي في هذا، أسير على هذا الطريق.
قد تُثار عليك شُبه أن هذا الطريق فيه كذا أو يلحظ عليه كذا، هذه لا تلتفت إليها ولا تُقبل عليها ولا تستمع إليها، فأنت مع تحصيلك للعلم ستزول بإذن الله كل هذه الشُبه.
الطالب:
(احْذَر اللَّحْنَ:
ابْتَعِدْ عن اللحْنِ في اللفظِ والكتب؛ فإنَّ عَدَمَ اللحْنِ جَلالةٌ وصفاءُ ذوقٍ ووُقوفٌ على مِلاحِ المعاني لسلامةِ الْمَبانِي، فعن عمرَ -رضي الله عنه- أنه قالَ: تَعَلَّمُوا العربيَّةَ، فإنها تَزيدُ في الْمُروءةِ.
وقد وَرَدَ عن جَماعةٍ من السلَفِ أنهم كانوا يَضْرِبُونَ أولادَهم على اللَّحْنِ.
وأَسْنَدَ الخطيبُ عن الرَّحْبيِّ قالَ: سَمِعْتُ بعضَ أصحابنِا يَقولُ: إذا كَتَبَ لَحَّانٌ، فكَتَبَ عن اللَّحَّانِ لَحَّانٌ آخَرُ، صارَ الحديثُ بالفارِسِيَّةِ! وأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ:
النحوُ يبسط من لسان الألكَنِ •• والمرءُ تُكرمهُ إذا لم يلحَنِ
فإذا أردتَ من العلوم أجلَّها •• فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ
وعليه، فلا تَحْفَلْ بقولِ القاسمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ -رحمه الله تعالى-: تَعَلُّمُ النَّحْوِ: أوَّلُه شُغْلٌ وآخِرُه بَغْيٌ.
ولا بقولِ بِشْرٍ الحافِي -رحمه الله تعالى-: لَمَّا قيلَ له: تَعَلَّم النحْوَ قالَ: أَضِلُّ، قالَ: قلُ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. قالَ بِشْرٌ: يا أخي! لِمَ ضَرْبُه؟ قالَ: يا أبا نَصْرٍ! ما ضَرَبَه، وإنما هذا أصْلٌ وُضِعَ. فقالَ بِشْرٌ: هذا أَوَّلُه كَذِبٌ، لا حاجةَ لي فيه. رواهما الخطيبُ في اقتضاءِ العِلْمِ العَمَل).
ينبغي لطالب العلم أن يعتني بعلم العربية عموما ومن ذلك علم النحو؛ حتى لا يحصل منه لحن في كلامه أو في كتابته.
ثم ذكر الآثار في أهمية هذا العلم، ولا شك أننا لا يمكن أن نفهم كتاب الله -عز وجل- ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا آثار الصحابة -رضي الله عنهم- ولا كلام العلماء إلا بفهمنا للغة العربية، هذا هو الطريق الأول، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بهذا العلم.
ثم ذكر بعض الآثار وبعضها فيه طرافة، يقول: إذا كتب لحان عن لحان صار الحديث بالفارسية، وهذا من باب المبالغة في أنه يحصل فيه الخطأ الكثير.
ذكر أيضا بيتين للمبرد -رحمه الله- ولكن الشيخ علّق على البيت الثاني فإذا أردت من العلوم أجلّها فأجلّها منها مُقيم الألسنِ، قال هذا مُستدرك، أجل العلوم هو التوحيد وليس ما يُقيم الألسن، الذي هو النحو.
ولكن اعتذر الشيخ له، قال لعل الأولوية هنا نسبية، يعني نسبة إلى علوم الآلة، علوم الآلة مثل النحو والصرف ومثل أصول الفقه ومثل مصطلح الحديث كل هذه علوم آلة، أجلها -يقول- علم النحو، ربما هذا يسلم لكن بإطلاق ما نسلمها، فأجلُّها علم التوحيد.
ثم ذكر طرفة عن بشر الحافي لما قيل له ضرب زيدٌ عمرا، قال لمَ ضربه؟ قالوا ما ضربه ولكن هذا مثل، قال: علم أوله كذب لا حاجة لي به.
هذا يذكره الشيخ من باب الطرف التي تذكر، وإلا فعلم النحو علم مهم لا بد لطالب العلم أن يعتني به.
الطالب:
(الإجهاضُ الفكريُّ:
احْذَر الإجهاضَ الفِكْرِيَّ، بإخراجِ الفِكرةِ قبلَ نُضُوجِها).
أي فكرة سواء رأي في مسالة أو مؤلف، لا تخرج شيئا إلا إذا كان ناضجا، فمثلا في التأليف، ذكرت لكم قبل قليل أن من العلماء من ألف وأبقى هذه الكتب ما أخرجها حتى تأهل في العلم أن يكون صالحا لأن يؤلف راجع ما كتب ثم أخرجه بعد نضوجه.
الطالب:
(الإسرائيلياتُ الجديدةُ:
احْذَر الإسرائيليَّاتِ الجديدةَ في نَفَثَاتِ المستشرقين من يهودَ ونَصَارَى، فهي أشدُّ نِكايةً وأعظَمُ خَطَرًا من الإسرائيليَّاتِ القديمةِ، فإنَّ هذه قد وَضَحَ أمْرُها ببيانِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الموْقِفَ منها، ونَشْرِ العُلماءِ القولَ فيها، أمَّا الجديدةُ الْمُتَسَرِّبَةُ إلى الفِكْرِ الإسلاميِّ في أعقابِ الثورةِ الحضارِيَّةِ واتِّصالِ العالَمِ بعضِه ببعضٍ، وكَبْحِ المدِّ الإسلاميِّ، فهي شرٌّ مَحْضٌ وبلاءٌ متَدَفِّقٌ، وقد أخذَتْ بعضَ المسلمينَ عنها سِنَةٌ، وخَفَضَ الْجَناحَ لها آخَرونَ فاحْذَرْ أن تَقَعَ فيها، وَقَى اللهُ المسلمينَ شَرَّهَا.
أولاً: لا بد أن نعرف الإسرائيليات التي هي موجودة في كتب أهل العلم كما يرِد في كتب التفسير كثير من الإسرائيليات، يعني التي تنقل عن بني إسرائيل هذه قال فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- "بلّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
وذكر ابن كثير -رحمه الله- في مقدمة التفسير أن هذه الإسرائيليات على ثلاثة أقسام:
-القسم الأول: الإسرائيليات التي ورد في شرعنا ما يؤيدها ويشهد بصدقها، فحينئذٍ هي حق، لكن المعول على أي شيء؟ على شرعنا.
-والقسم الثاني :ما جاء في شرعنا بيان كذبه وبطلانه، فحينئذ تكون هذه الإسرائيليات مُطّرحة؛ لدلالة شرعنا على بطلانها.
-والقسم الثالث: ما سُكت عنه في شرعنا فلم يأتِ بما يدل على صدقه ولا ما يدل على كذبه، فهذه ما الحكم فيها؟ "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
نحدث بها ولكن لا نصدّق ولا نكذّب، وهذا يرد كثيرا في كتب التفسير وربما في غيرها.
الشيخ ينطلق من هذا إلى الإسرائيليات الجديدة، ماذا يريد بها؟
يقول: نفثات المستشرقين وإثارتهم للشكوك في دين الإسلام.
والاستشراق هو فكر غربي يُعنى بدراسة علوم الشرق الإسلامي كالعلوم الشرعية والعلوم التاريخية وعلوم اللغة العربية ونحوها، ما هدفهم من دراسة هذه العلوم؟
لأجل الكيد للإسلام وإثارة الشُّبه على المسلمين وتشكيك المسلمين في دينهم، هذا هو مقصودهم، ولهذا تجد في بلاد الغرب جامعات تعنى بهذا، الفقه الإسلامي يدرس هناك ويأخذون عليه الشهادات العليا، والتاريخ الإسلامي واللغة العربية ونحو ذلك وهم غرب، ما مقصدهم من هذا؟ لأنه يقولون إننا لن نصل إلى الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم إلا بمعرفة علومهم ثم يبدؤون بالتشكيك وإثارة الشبه، فالشيخ -رحمه الله- يقول: أيضا تنتبه لهؤلاء ومن شبههم ومن كيدهم.
الطالب:
(احْذَرْ الْجَدَلَ البِيزَنْطيَّ:
أي الجدَلَ العقيمَ أو الضئيلَ، فقد كان البيزنطِيُّونَ يَتَحَاوَرُونَ في جِنْسِ الملائكةِ والْعَدُوُّ على أبوابِ بَلْدَتِهم حتى دَاهَمَهم.
وهكذا الْجَدَلُ الضئيلُ يصُدُّ عن السبيلِ.
وهَدْيُ السلَفِ كان الكَفَّ عن كَثرةِ الخِصامِ والْجِدالِ، وأنَّ التوَسُّعَ فيه من قِلَّةِ الوَرَعِ، كما قالَ الحسَنُ إذ سَمِعَ قَوْمًا يَتجادلونَ: هؤلاءِ مَلُّوا العِبادةَ وخَفَّ عليهم القولُ، وقَلَّ وَرَعُهم فتَكَلَّموا. رواه أحمدُ في الزهْدِ وأبو نُعَيْمٍ في الْحِلْيَة).
هذا مر معنا عند الكلام على المناظرات والمجادلات.
ومراد الشيخ -رحمه الله- هنا بالجدل هو الجدل المذموم الذي نهى عنه السلف وهو الذي يقصد به المغالبة والانتصار على الخصم وازدراء الخصم وإظهار جهله هذا هو المذموم الذي نهى عنه السلف، وأما الجدال بالحق الذي يراد به إظهار الحق والوصول إليه فهذا مأمور به كما تقدم.
الطالب:
(لا طائفِيَّةَ ولا حِزبيَّةَ يُعْقَدُ الولاءُ والبَرَاءُ عليها:
أهلُ الإسلامِ ليس لهم سِمَةٌ سِوى الإسلامِ والسلامِ: فيا طالبَ العلْمِ! بارَكَ اللهُ فيك وفي عِلْمِك، اطْلُب العِلْمَ واطْلُب العملَ وادْعُ إلى اللهِ تعالى على طَريقةِ السلَفِ.
ولا تَكُنْ خَرَّاجًا وَلَّاجًا في الجماعاتِ، فتَخْرُجَ من السَّعةِ إلى القوالِبِ الضيِّقَة، فالإسلامُ كلُّه لك جَادَّةً ومَنْهَجًا والمسلمونَ جَميعُهم هم الجماعةُ وإنَّ يدَ اللهِ مع الجماعةِ، فلا طائفِيَّةَ ولا حِزبيَّةَ في الإسلامِ.
وأُعِيذُكَ باللهِ أن تَتَصَدَّعَ، فتكونَ نَهَّابًا بينَ الفِرَقِ والطوائفِ والْمَذاهِبِ الباطلةِ والأحزابِ الغاليةِ، تَعْقِدُ سُلطانَ الوَلاءِ والبَرَاءِ عليها فكُنْ طالِبَ عِلْمٍ على الْجَادَّةِ، تَقْفُو الأَثَرَ، وتَتْبَعُ السُّنَنَ، تَدْعُو إلى اللهِ على بَصيرةٍ، عارفًا لأهلِ الفَضْلِ فَضْلَهم وسابِقَتَهم.
وإنَّ الحزبيَّةَ ذاتَ المساراتِ والقوالِبِ الْمُستحدَثَةِ التي لم يَعْهَدْها السلَفُ من أَعْظَمِ العوائقِ عن العِلْمِ، والتفريقِ عن الجماعةِ، فكم أَوْهَنَت حَبْلَ الاتِّحادِ الإسلاميِّ وغَشِيَت المسلمينَ بسَبَبِها الغَوَاشِي.
فاحْذَرْ رَحِمَكَ اللهُ أَحزابًا وطَوائفَ طافَ طائفُها ونَجَمَ بالشرِّ ناجِمُها فما هي إلا كالْمَيَازِيبِ؛ تَجْمَعُ الماءَ كَدَرًا، وتُفَرِّقُه هَدَرًا، إلا مَن رَحِمَه ربُّك، فصارَ على مِثْلِ ما كان عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه -رضي الله عنهم-.
قالَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله تعالى- عندَ عَلَامَةِ أهلِ العُبودِيَّةِ: العَلامةُ الثانيةُ: قولُه: ولم يُنْسَبُوا إلى اسمٍ، أي: لم يَشْتَهِروا باسمٍ يُعرَفون به عندَ الناسِ من الأسماءِ التي صارَتْ أعلامًا لأهلِ الطريقِ.
وأيضًا، فإنهم لم يَتَقَيَّدُوا بعَمَلٍ واحدٍ يُجْرَى عليهم اسْمُه، فيُعْرَفون به دونَ غيرِه من الأعمالِ، فإنَّ هذا آفةٌ في العُبوديَّةِ، وهي عُبودِيَّةٌ مُقَيَّدَةٌ.
وأمَّا العُبوديَّةُ المطلَقَةُ، فلا يُعْرَفُ صاحبُها باسمٍ مُعَيَّنٍ من معاني أسمائِها، فإنه مُجيبٌ لداعيها على اختلافِ أنواعِها، فله مع كلِّ أهلِ عُبودِيَّةٍ نصيبٌ يَضْرِبُ معهم بسَهْمٍ، فلا يَتَقَيَّدُ برَسْمٍ ولا إشارةٍ ولا اسمٍ ولا بِزِيٍّ ولا طريقٍ وَضْعِيٍّ اصطلاحيٍّ، بل إن سُئِلَ عن شَيخِه قالَ: الرسولُ. وعن طريقِه قال: الاتِّباعُ. وعن خِرْقَتِه قال: لِباسُ التَّقْوَى، وعن مَذْهَبِه قالَ: تَحكيمُ السُّنَّةِ. وعن مَقْصِدِه ومَطْلَبِه قالَ: ﱩ ﯸ ﯹﯺ ﱨ. وعن رِباطِه وعن خَانْكَاه قالَ: ﱩ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﱨ وعن نَسَبِه قالَ:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ •• إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وعن مَأْكَلِه ومَشْرَبِه قال: ما لك ولها معها حِذاؤُها وسِقاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتَرْعَى الشَّجَرَ حتى تَلْقَى رَبَّهَا.
واحسرتاهُ تقضّى العمر وانصرمَت •• ساعاته بين ذُلّ العجز والكسلِ
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد •• ساروا إلى المَطلبِ الأعلى على مهَلِ
ثم قالَ: قولُه: أولئك ذخائرُ اللهِ حيث كانوا ، ذخائرُ الملك: ما يُخَبَّأُ عندَه ويَذْخَرُه لِمُهِمَّاتِه، ولا يَبْذُلُه لكلِّ أحدٍ، وكذلك ذَخيرةُ الرجُلِ: ما يَذْخَرُه لحوائجِه ومُهِمَّاتِه، وهؤلاءِ، لَمَّا كانوا مَسْتُورِينَ عن الناسِ بأَسبابِهم، غيرَ مُشارٍ إليهم، ولا مُتَمَيِّزِينَ بِرَسْمٍ دونَ الناسِ، ولا مُنتسبينَ إلى اسمِ طريقٍ أو مَذهَبٍ أو شيخٍ أو زِيٍّ، كانوا بِمَنْزِلَةِ الذخائرِ المخبوءةِ، وهؤلاءِ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عن الآفاتِ، فإنَّ الآفاتِ كلَّها تَحتَ الرسومِ والتقَيُّدِ بها، ولزومِ الطرُقِ الاصطلاحيَّةِ والأوضاعِ المتداوَلَةِ الحادِثَةِ.
هذه هي التي قَطَعَتْ أكثرَ الخلْقِ عن اللهِ وهم لا يَشعرون.
والعَجَبُ أنَّ أَهْلَها هم الْمَعروفون بالطلَبِ والإرادةِ، والسيْرِ إلى اللهِ وهم – إلا الواحدَ بعدَ الواحدِ – الْمَقطوعون عن اللهِ بتلك الرسومِ والقُيودِ.
وقد سُئِلَ بعضُ الأئِمَّةِ عن السُّنَّةِ؟ فقالَ: ما لا اسمَ له سِوَى السُّنَّةِ.
يعني: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ ليس لهم اسمٌ يُنْسَبُون إليه سِواهَا.
فمِن الناسِ مَن يَتَقَيَّدُ بلِباسِ غيرِه، أو بالجلوسِ في مَكانٍ لا يَجْلِسُ في غيرِه أو مِشْيَةٍ لا يَمْشِي غيرَها أو بِزِيٍّ وهيئةٍ لا يَخْرُجُ عنهما، أو عبادةٍ مُعَيَّنَةٍ لا يَتَعَبَّدُ بغيرِها وإن كانت أَعْلَى منها أو شيخٍ مُعَيَّنٍ لا يُلْتَفَتُ إلى غيرِه، وإن كان أَقْرَبَ إلى اللهِ ورسولِه منه.
فهؤلاءِ كلُّهم مَحجوبون عن الظَّفَرِ بالمطلوبِ الأعلى مَصْدُودُون عنه، قد قَيَّدَتْهُم العوائِدُ والرُّسومُ والأوضاعُ والاصطلاحاتُ عن تَجريدِ المتابَعَةِ فأَضْحَوْا عنها بِمَعْزِلٍ، ومَنزِلتُهم منها أبْعَدُ مَنْزِلٍ، فتَرَى أحدَهم يَتَعَبَّدُ بالرياضةِ والْخَلْوَةِ وتَفريغِ القَلْبِ ويَعُدُّ العِلْمَ قاطعًا له عن الطريقِ فإذا ذُكِرَ له الْمُوالاةُ في اللهِ والْمُعاداةُ فيه والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكَرِ، عَدَّ ذلك فُضولًا وشَرًّا، وإذا رَأَوْا بينَهم مَن يَقومُ بذلك أَخْرَجُوه من بينِهم وَعَدُّوه غَيْرًا عليهم، فهؤلاءِ أَبْعَدُ الناسِ عن اللهِ، وإن كانوا أكثرَ إشارةً. واللهُ أَعْلَمُ اهـ).
ينبغي لطالب العلم أن يحذر من الطائفية ومن الحزبية فلا ينتسب إلى جماعة أو إلى حزب وإنما يعقد الولاء والبراء على دين الله -عز وجل- وما يحبه ويرضاه.
والحزبية المراد بها أن يوالي الشخص أتباعه في هذا الحزب أو في هذه الجماعة، فمن كان معه في هذه الجماعة أو في هذا الحزب ويسير على منهج هذه الجماعة أو الحزب فهو الذي يوالى ومن كان خارجا عن هذه الجماعة أو هذا الحزب فإنه يعادى، إذن الولاء والبراء يُعقد على أي شيء عنده؟ يعقد على الحزب أو على الجماعة، هذا أمر محرم شرعا؛ لأن الولاء والبراء إنما يكون على وفق شرع الله -جل وعلا-، فمن أطاع الله -عز وجل- كائناً من كان فإنه يوالى ومن عصى الله -عز وجل- كائناً من كان فإنه يُتبرأ منه ويعادى.
وهذه المسألة فيها تفصيل، فالناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: أهل الصلاح والتقوى والاستقامة، هؤلاء يوالَون موالاة تامة.
- والقسم الثاني: أهل الكفر والشرك والإلحاد، يعني بأنواع ملل الكفر، هؤلاء يعادَون معاداة تامة لا موالاة معها.
- والقسم الثالث: من يوالى من وجه ويعادَى من وجه ،وهم أهل التوحيد الذين عندهم معاصي، عندهم أعمال صالحة وعندهم أيضا أعمال سيئة، كالموحد الذي يصلي ويبر بوالديه ويصل الرحم ولكنه يشرب الخمر أو يقع في الغيبة والنميمة ونحو ذلك، فهذا يوالى من وجه، من جهة أنه موحد وعنده بعض الأعمال الصالحة، فمن هذه الجهة يُحب ويوالى، وأما من جهة ما عنده من الكبائر فإنه يعادى فيها.
هذا التفصيل عند أهل السنة والجماعة.
إذن هذا هو معقد الولاء والبراء على وفق الشرع لا على وفق الطائفية أو وفق الأحزاب أو الجماعات.
وحتى لا يكون الكلام عاما نضرب مثالا واحدا على الحزبية الموجودة عند جماعة الإخوان المسلمين، وحتى لا يكون الكلام من غير مستند -لأنك إذا قلت هذا قد يقول قائل أبدا هذا غير موجود عند الجماعة- نقول طيب الآن نرجع إلى كلام مؤسسي هذه الجماعة وكبراء هذه الجماعة، أنا سأنقل لكم نقلين عن حسن البنا ونقل عن سيد قطب، يقول حسن البنا في مذكّرات الدعوة والداعية -إن شئت أن ترجع للكتاب فهو موجود ومنشور في النت- مذكّرات الدعوة والداعية صفحة 190 يقول: (على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج -يعني منهج الجماعة- كله من الإسلام ،وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة).
ماذا تفهم من هذا الكلام؟ يعني أن جماعة الإخوان كما يقول منهجها كله من الإسلام.
وإذا قلتَ: فيه نقص معناه أن في الإسلام نقصا. إذن هم يرون أن الحق معهم، وأن المخالف لهم يكون عنده الخلل والنقص.
انظر كلاما ثانيا له أيضا في نفس الكتاب صفحة 288 يخاطب أتباعه، حسن البنا -غفر الله لنا وله-يخاطب أتباعه، يقول: (فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس ولا تأتي أحدا.) أي الناس يأتونكم يدخلون معكم أما أنتم لا تذهبون لأحد.
(وتستغني عن غيرها، إذ هي جماع كل خير وما عداها لا يسلمون النقص).
جماعة الإخوان هي جماع كل خير، وأما ما عدا هذه الجماعة لا يخلو من النقص.
فحاصل كلامه أنه يقول: الحق معنا، وغيرنا عنده حق وعنده باطل، ونحن الذين نمثل الإسلام.
هذه حزبية باطلة، والعجب أننا ما سمعنا هذا من أحد من أهل العلم الذين هم على السنة ما عندهم بدع ولا عندهم ضلالات جماعة الإخوان، ومع ذلك لا يقولون للناس: اتبعونا، لا، يقولون: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على فهم سلف الأمة، نحن بشر نصيب ونخطئ، ولهذا الإمام احمد -رحمه الله- كان ينهى أن يكتب كلامه وهو إمام أهل السنة، لماذا؟ يقول: أنا أرى الرأي اليوم وغدا يختلف رأيي خذوا من حيث أخذنا يعني من أين؟ من الآثار ومن النصوص.
حتى تعرف الواقع… جاء سيد قطب فجاء بغلو زائد، اسمع ماذا يقول:
(ثم تأتي بعد ذلك مرحلة المفاصلة وهي أن يقف رجالات هذه الدعوة ويفاصلوا المجتمع ويقولوا: هذا طريقنا وهذا طريقكم، فمن أراد أن يلحق بنا فهو مسلم ومن وقف ضدنا فقد حكم على نفسه بالكفر).
وهذا الكلام ذكره علي عشماوي في كتاب التاريخ السري لجماعة الإخوان صفحة 93.
وعلي عشماوي -حتى تعرف- هو من الجماعة، علي عشماوي هو من أصحاب التنظيم السري في جماعة الإخوان وكتب هذه المذكرات، فهذا الكلام الذي ينقله مَن؟ واحد منهم.
وهذه الحزبية واعتقاد أن الحق معهم لا يخرج عنهم لا شك أن هذا مما ينهى عنه دين الإسلام.
فلهذا ينتبه طالب العلم، طالب العلم لا يتحزب ولا ينتمي إلى طوائف ولا إلى جماعات، وإنما المرجع إلى كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على فهم سلف الأمة كما تقدم هذا معنا مرارا.
والشيخ -رحمه الله- ذكر أن أهل السنة ليس لهم اسمٌ يُنسبون إليه سواها، فهم أهل سنةٍ وجماعة، وهم أهل الأثر وهم الطائفة المنصورة وهم الفرقة الناجية وهم السلفيون، كل هذه مصطلحات ترجع إلى معنى واحد كما تقدم، الرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "تفترق هذه الأمة على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"
قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
من كان على هذا الطريق فليبشر بالسلامة في دنياه وفي أخراه، ويكون بذلك سلم من التحزب ومن الطائفية.
الطالب:
(نَوَاقِضُ هذه الْحِلْيَةِ:
يا أخي – وَقَانا اللهُ وإيَّاكَ العثراتِ – إن كنتَ قَرَأْتَ مَثَلًا من حِليةِ طالبِ العِلْمِ وآدابِه وعَلِمْتَ بعضًا من نواقِضِها، فاعْلَمْ أنَّ مِن أَعْظَمِ خَوارِمِها الْمُفْسِدَةِ لنظامِ عِقْدِها:
إفشاءَ السرِّ.
ونَقْلَ الكلامِ من قومٍ إلى آخرينَ.
والصلَفَ واللسانَةَ.
وكثرةَ الْمِزاحِ.
والدخولَ في حديثٍ بينَ اثنينِ.
والحقْدَ.
والحسَدَ.
وسوءَ الظنِّ.
ومُجالَسَةَ المبتَدِعةِ.
ونَقْلَ الْخُطَى إلى الْمَحَارِمِ.
فاحْذَرْ هذه الآثامَ وأخواتِها واقْصُرْ خُطاكَ عن جميعِ الْمُحَرَّمَاتِ والْمَحارِمِ فإن فعلتَ وإلا فاعْلَمْ أنك رَقيقُ الدِّيانةِ خَفيفٌ لَعَّابٌ مُغْتَابٌ نَمَّامٌ فأَنَّى لك أن تكونَ طالبَ عِلْمٍ، يُشارُ إليك بالبَنانِ، مُنَعَّمًا بالعِلْمِ والعمَلِ.
سَدَّدَ اللهُ الْخُطَى، ومَنَحَ الجميعَ التقْوَى وحُسْنَ العاقِبَةِ في الآخرةِ والأُولَى.
وصَلَّى اللهُ على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ).
ختم الشيخ -رحمه الله- هذا الكتاب النافع بذكر نواقض هذه الحلية، يعني إذا تحلَّى طالب العلم بما تقدَّم ذكره في هذا الكتاب وبغيره أيضًا من الآداب الشرعية فلا يليق به أن يكون عنده مثل هذه المحرمات، ومنها إفشاء السر ونقل الكلام من قوم إلى آخرين على سبيل الإفساد، وهو النميمة، وغير ذلك مما ذكر.
وأيضا كثرة المزاح، وقد مر معنا الكلام على المزاح وأنه لا يجوز إلا بشروط ثلاثة، وإذا اختل منها شرط صار المزاح محرما.
المقصود أنه لا يليق بطالب العلم أن يقع في مثل هذه المحرمات، وحاصلها: العمل بالعلم فإنه يمر معه الأحاديث في النميمة وأنها من الكبائر "لا يدخل الجنة نمام" وإذا به ينقل الكلام بين إخوانه طلاب العلم لأجل أن يفسد بينهم، ما هذا؟ ما ثمرة العلم إن لم يعمل به؟ هذا لا شك أنه على خطر عظيم وعلى خلل، العلم ما انتفع به.
وقد تقدم معنا كلام الشيخ، ما هو العلم النافع؟ قال: الذي يعقبه العمل بهذا العلم، هذا العلم النافع.
ولهذا الإنسان يتابع نفسه ويحاسب نفسه، إن رأيت من نفسك -عياذًا بالله- أنك تتعلم ولا تعمل إذن النية فيها شيء، لماذا تتعلم؟ مر معنا أن الإخلاص في طلب العلم يكون بأمور، من هذه الأمور أن ترفع الجهل عن نفسك، لو فرض أن شخصا لا يعرف النميمة ثم سمع الحديث: "لا يدخل الجنة نمّام" قال ما هي النميمة؟ قيل له نقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد، قال الحمد لله تعلمت الآن، طيب ماذا يعقب هذا؟ أنك لا تنم بين الناس، هذا علم نافع، أما أن تتعلم ثم بعد ذلك تخالف ما تعلمت هذا يكون حجّة عليك يوم القيامة، ووزر الإنسان يكون أعظم.
نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لكل خير وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يغفر للشيخ بكر أبو زيد وأن يسكنه فسح جناته وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([1]) ينظر: المدخل لابن بدران ص499.