الدليل

2025-11-19 12:56:42

‏‏شرح الأربعين النووية لبرنامج دليل الأحاديث من 1- 3 المجلس الأول

شرح الأربعين النووية([1])

برنامج دليل

المجلس الأول 23/6/1446ه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فأقدِّم بين يدي التعليق على الأربعين النووية بمقدمتين:

المقدمة الأولى: التعريف بالمؤلف([2]):

هو أبو زكريا محيي الدين يحيى بنُ شرف النووي الشافعي، الشيخ العلامة الحافظ الفقيه.

محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، ولد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة، ونشأ ببلده نوى، وكان يُتوسم فيه النجابة من صغره، وقرأ بها القرآن،

وَقَالَ شَيْخه الشَّيْخ ياسين بن يُوسُف الزَّرْكَشِيّ: رَأَيْت الشَّيْخ محيي الدّين وَهُوَ ابْن عشر سِنِين بنوى وَالصبيان يُكرهونه على اللّعب مَعَهم، وَهُوَ يهرُب مِنْهُم ويبكي لإكراههم، وَيقْرَأ الْقُرْآن فِي تِلْكَ الْحَال، فَوَقع فِي قلبِي حبه.

وَجعله أَبوهُ فِي دكان فَجعل لَا يشْتَغل بِالْبيعِ وَالشِّرَاء عَن الْقُرْآن قَالَ فَأتيت الَّذِي يقرئه الْقُرْآن فوصيته بِهِ وَقلت لَهُ هَذَا الصَّبِي يُرْجَى أَن يكون أعلم أهل زَمَانه وأزهدَهم وَينْتَفع النَّاس بِهِ فَقَالَ لي منجم أَنْت فَقلت لَا وَإِنَّمَا أنطقني الله بذلك فَذكر ذَلِك لوالده فحرص عَلَيْهِ إِلَى أَن ختم الْقُرْآن وَقد ناهز الِاحْتِلَام.

وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درسا على المشايخ شرحا وتصحيحا درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في أصول الفقه، تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب للرازي، ودرسا في أصول الدين.

قال: وكنت أعلق ما يتعلق بذلك من الفوائد.

أخذ العلم عن جماعة من الشيوخ، وبورك له في وقته رحمه الله.

وله مؤلفات نافعة، بارك الله فيها، وعم الانتفاع بها، منها: المجموع شرح المهذب، ولم يكمله.

ومن ذلك: شرح مسلم، جمع فيه مشروحات من تقدم من المغاربة وغيرهم، وزاد فيه ونقص، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، وكتاب المنهاج في الفقه اختصر فيه المحرر وزاد فيه ونقص، وكتاب الإرشاد، وكتاب التقريب والتيسير، وكتاب التبيان في آداب حملة القرآن، وكتاب المناسك، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وكتاب الأربعين.

وقد كان رحمه الله على جانب كبير من العلم والزهد والتقشف والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه، ولا قبله بدهر طويل.

توفي ليلة أربع وعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة، ودفن بنوى، وصلوا عليه بدمشق يوم الجمعة رحمه الله وإيانا.

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى في مقدمة شرح الأربعين: وهو - رحمه الله - مجتهدٌ، والمجتهد يخطئ ويصيب، وقد أخطأ - رحمه الله - في مسائل الأسماء والصفات، فكان يؤول فيها لكنه لا ينكرها، وخطؤه في تأويل بعض نصوص الصفات مغمور بما له من فضائل ومنافع جمّة، ولا نظن أن ما وقع منه إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ - ولو في رأيه - وأرجو أن يكون من الخطأ المغفور، وأن يكون ما قدّمه من الخير والنّفع من السعي المشكور، وأن يصدق عليه قول الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)

فالنووي نشهد له فيما نعلم من حاله بالصلاح، وأنه مجتهد، وأن كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ، إن أخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران. ا. ه. بتصرف يسير.

المقدمة الثانية: التعريف بالكتاب:

أملى الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى مجلسا سماه: الأحاديث الكلية، جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال إن مدار الدين عليها، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا.

ثم إن الحافظ النووي رحم الله تعالى أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا، وسمى كتابه بالأربعين، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكثر حفظها، ونفع الله بها، ببركة نية جامعها، وحسن قصده رحمه الله تعالى.

ثم جاء الحافظ عبد الرحمن بن رجب رحمه الله تعالى فزاد عليها ثمانية أحاديث، فصارت خمسين حديثاً، شرحها في كتابه العظيم: جامع العلوم والحِكَم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم.

والأربعون النووية، التي جمعها النووي هي ليست أربعين، بل هي اثنان وأربعون، لكن على عادة العرب يحذفون الكسر في الأعداد فيقولون: أربعون. وإن زاد واحداً أو اثنين، أو نقص واحداً أو اثنين.

وأحاديث الأربعين النووية تتعلق بموضوعات متنوعة، فسيأتي معنا أن منها ما هو في العقيدة، ومنها ما هو في الأحكام، ومنها ما هو في السلوك والأخلاق وغير ذلك.

وينبغي لطالب العلم أن يحفظها ويعلم ما فيها من المعاني، بل هي مهمة لكل مسلم.

شروح الأربعين النووية:

  1. شرح التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية ومعها شرح الأحاديث التي زادها ابن رجب الحنبلي للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى، (م. الشاملة).
  2. شرح الأربعين النووية، المؤلف: عطية بن محمد سالم (م. الشاملة).
  3. إعراب الأربعين النووية (م. الشاملة).
  4. مُشكِل إعراب أحاديث الأربعين النووية وتصريفها (القسم الأول) د. مؤمن بن صبري غنام (م.الشاملة)
  5. شرح الأربعين النووية، للشيخ عبد الكريم الخضير. (م. الشاملة)
  6. الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية، من أمالي فضيلة الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر البراك (م.الشاملة).
  7. المعين على تفهم الأربعين، لابن الملقن.
  8. المنهج المبين في شرح الأربعين، للفاكهي المالكي 731ه.
  9. التعيين في شرح الأربعين للطوفي الحنبلي 716ه.
  10. الفتح المبين بشرح الأربعين لابن حجر الهيتمي 974ه.
  11. الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية، للجرداني الشافعي 1331ه.
  12. شرح الأربعين للنووية للنووي.
  13. شرح أحاديث من الأربعين النووية، لمحمد تقي الدين للهلالي 1407ه.
  14. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين، للشيخ عبد المحسن العباد.
  15. شرح الأربعين النووية لسماحة الإمام ابن باز.
  16. جامع العلوم والحكم لابن رجب.

مقدمة النووي للأربعين:

(الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.

وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، الكريم الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين، المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وآل كل وسائر الصالحين.

أما بعد:

فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله تعالى فقيها يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء».

وفي رواية: «بعثه الله تعالى فقيها عالما».

وفي رواية أبي الدرداء: «وكنت له يوم القيامة شافعا وشهيدا».

وفي رواية ابن عمر: «كتب في زمرة العلماء , وحشر في زمرة الشهداء». واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه.

وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، فأول من علمته صنف فيه: عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسوي، وأبو بكر الآجري، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، والحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابويي، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين.

وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثا؛ اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام، وحفاظ الإسلام، وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» وقوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها, فأداها كما سمعها».

ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة رضي الله عن قاصديها.

وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله؛ وهي أربعون حديثا مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وقد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك.

ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة ومعظمها في "صحيحي البخاري ومسلم"، وأذكرها محذوفة الأسانيد؛ ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها.

وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث؛ لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره.

وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة).

تضمنت مقدمة المؤلف عدة أمور:

  1. بدأها رحمه الله تعالى بالاستهلال بحمد الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والكلام على معاني ذلك وذكر أدلته قد تكرر مرارا في الدروس.
  2. وقوله: (المخصوصُ بجوامع الكلم) هذا من براعة الاستهلال، حيث ذكر في استهلاله ما يُشير إلى مراده بهذا التأليف، وهو أنه يجمع الأحاديث التي هي من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن الله سبحانه وتعالى قد اختص نبيه صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، كما في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ . . .» رواه البخاري 7013، ومسلم 523.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البخاري بعد هذا الحديث: "وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الكَلِمِ: أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الأُمُورَ الكَثِيرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الكُتُبِ قَبْلَهُ، فِي الأَمْرِ الوَاحِدِ، وَالأَمْرَيْنِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ "

فمعنى جوامع الكلم: أن يأتي بالكلمات القليلة، المشتملة على المعاني الواسعة، لكونها من القواعد الكلية في الشريعة.

وجوامع الكلم التي خُص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن كقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) قال الحسن رحمه الله تعالى: لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ولا شرا إلا نهت عنه.

والنوع الثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو كثير في السنن المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم.

  1. أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء في حفظ أربعين حديثاً، وما جاء في ذلك فهو حديث ضعيف، وقد قال الحافظ النووي في هذه المقدمة: (واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه).
  2. أن جماعة من العلماء لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين ألفوا في جمع أربعين حديثا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في موضوعات متنوعة، فمنهم من جمعها في أصول الدين، ومنهم من جمعها في الآداب، ومنهم من جمعها في الزهد، وغير ذلك، فاقتداء بهم جمع النووي رحمه الله تعالى هذه الأحاديث الأربعين، مستدلا على ذلك بعموم الأدلة الدالة على تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشرها، كحديث: (نضر الله امراءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، وحديث: (ليبلغ الشاهد الغائب).
  3. وقوله: (وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال)

هذا الاتفاق غير مسلَّم؛ لوجود المخالف، فمن أهل العلم من لا يرى العمل بالضعيف مطلقاً،

والنووي -رحمه الله تعالى- على علمه وفضله فقد عُرف عنه التساهل في نقل الإجماع.

لكن العمل بالضعيف في فضائل الأعمال هو قول الجمهور بشروط يشترطونها، ألا يكون الضعف شديداً، وأن يندرج تحت أصل عام، وألا يعتقد عند العمل به ثبوته.

والشرط الأول غير متحقق في هذا الحديث لأن الضعف شديد، فدل على أنه لا يعمل به حتى عند من يرى العمل بالحديث الضعيف بشروط، ولهذا قال النووي رحمه الله تعالى: (ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» وقوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها, فأداها كما سمعها»).

  1. أن النووي رحمه الله تعالى رأى أن يجمع أربعين حديثا من الأحاديث التي كل حديث منها هو قاعدة عظيمة من قواعد الدين، والتي وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك.
  2. أنه رحمه الله تعالى قد التزم الصحة في هذه الأحاديث، وغالبها في صحيحي البخاري ومسلم، وما كان في غيرهما فإنه يخرجه ويبين حكمه، هل هو صحيح أو حسن؟
  3. قوله: (وأذكرها محذوفة الأسانيد؛ ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى) فيه أن غرضه من تأليفها تيسير حفظها وفهما، وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بحفظها، وفهم ما فيها من المعاني، ومراجعة ذلك بين وقت وآخر، لما فيها من العلم الغزير.
  4. قوله: (ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها)

ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في خاتمة هذه الرسالة بابا في ضبط الألفاظ المشكلة من هذه الأحاديث الأربعين، وبيان شيء من معانيها.

وأكثر طبعات الأربعين وشروحها لم تُذكر فيها هذه الخاتمة، وهي مفيدة، وقد الحقها محقق الفتح المبين بشرح الأربعين للهيتمي في آخر الكتاب.

قال المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث الأول:

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الدين، وقد صدر البخاري رحمه الله تعالى كتابه الصحيح بهذا الحديث، وأقامه مقام الخطبة له، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا، ولا في الآخرة.

ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: لو صنفت كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب.

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، حديث عمر: إنما الأعمال بالنيات، وحديث عائشة: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ، وحديث النعمان بن بشير: الحلال بين والحرام بيّن.

وجعله أبو داود ربع العلم، مع حديث: الحلال بين والحرام بين، وحديث: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وحديث: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

وفي رواية عنه: حديث ازهد في الدنيا يحبك الله. بدل حديث: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.

وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوِّز المعافري الأندلسي:

 عمدة الدين عندنا كلـمــاتٌ    أربع من كلام خير البرية

 اتق الشبهات وازهد ودع ما    ليس يعنيك واعملنَّ بنية

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات):

فيه الحصر، وهو: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.

(الأعمال) جمع عمل، ويشمل عمل القلب وعمل اللسان، وعمل الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.

فالأعمال القلبية: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.

وعمل اللسان وعمل الجوارح معروفة.

(النيات): جمع نية وهي: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى الله تعالى.

ومحلها القلب.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) الجملة الأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو الله جل وعلا، يعني هل أردت بعملك وجه الله تعالى أو للرياء والسمعة، وحظ من حظوظ الدنيا؟ ولهذا كان قوله صلى الله عليه وسلم: (فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ . . .) دالاً على أن الجملة الثانية تتعلق بالإخلاص في العمل.

فمعنى قوله r: (إنما الأعمال بالنيات) أي: إنما الأعمال صحة وقبولًا أو فسادًا بسبب النيات، فالباء في قوله (بالنيات) للسببية، وعلى هذا فيكون المراد بالأعمال الأعمال الشرعية التي تفتقر إلى نية، فأما مالا يفتقر إلى نية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها أو مثل رَدّ الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية فيُخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ههنا.

فهذا العموم عموم مراد به الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.

(وإنما لكل امرئ ما نوى) أي لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا بحسب ما نواه، فإن أراد وجه الله تعالى أثيب، وإن أراد الرياء أو عرضاً من الدنيا فهو آثم.

(وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.

مسألة: النية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا وتمييز صيام رمضان من صيام غيره.

أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره؟ وهذه هي النية التي يتكلم فيها علماء الاعتقاد في كتبهم عند كلامهم على الإخلاص وما يتعلق به.

التلفظ بالنية:

النية محلها القلب، ولا يُنْطَقُ بها إطلاقاً، لأن الله تعالى عليم بما في قلوب عباده.

ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها سرّاً.

وأما قول من أراد الحج أو العمرة: اللهم لبيك حجا، أو اللهم لبيك عمرة. فهذا ليس من التلفظ بالنية، لأنه لو أراد التلفظ بالنية لقال: اللهم إني نويت أن أحج, أو نويت أن أعتمر. فهذا تلفظ بالنية لا يجوز؛ لعدم الدليل عليه.

أما لبيك اللهم عمرة أو حجا فهذا ليس تلفظا بالنية، ثم إنه قد دلت السنة عليه، لقوله r: (أتاني آت من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) رواه البخاري.

مسألة: كلام السلف عن النية والإخلاص:

عن يحيى ابن أبي كثير قال: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.

وعن زيد الشامي قال: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.

وعن سفيان الثوري: قال ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي لأنها تنقلب علي.

وعن يوسف بن أسباط: قال تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

وعن ابن المبارك قال: رُبَّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.

وقال سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشقَ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب.

وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتفقد نيته، وأن يجاهد نفسه في الإخلاص لله تعالى، وليحذر من طلب العلم للرياء والسمعة، أو لحظ من حظوظ الدنيا، فإن الوعيد شديد.

أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال فما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

 وفي الحديث إن معاوية لما بلغه هذا الحديث بكى حتى غشي عليه فلما أفاق قال صدق الله ورسوله قال الله عز وجل (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار)

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  (من تعلم علما مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني ريحها

وأخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار).

مسألة: شرطا قبول العمل:

أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة رضي الله عنها: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).

والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل، كما تضمنه حديث عمر t: (إنما الأعمال بالنيات).

قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال أخلصه وأصوبه وقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا قال والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة.

 وقد دل على هذا الذي قال الفضيل قوله عز وجل: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).

وقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)

هذا مثال على الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وسائر الأعمال على مثل هذا المثال.

 وأصل الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينه النبي صلى الله عليه وسلم وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله على الحقيقة.

ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة.

ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه، فالأول تاجر والثاني خاطب وليس بواحد منهما مهاجر.

وفي قوله (إلى ما هاجر إليه) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يُذكَر بلفظه.

 

الحديث الثاني:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا قال بينما نحن جلوس عند رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) قال: صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) قال صدقت قال فأخبرني عن الساعة قال (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) قال فأخبرني عن أماراتها قال (أن تلد الأمة ربتها وأن تري الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ثم انطلق فلبث مليا ثم قال: (يا عمر أتدري من السائل؟) قلت الله ورسوله أعلم قال (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم.

هذا حديث عظيم الشأن جدا، يشتمل على شرح الدين كله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان فجعل ذلك كله دينا.

ولهذا سماه بعض العلماء بـ (أم السنة) يعني كما أن الفاتحة أمُّ القرآن فهذا الحديث سمي بذلك لأن جميع ما في السنة يعود إليه، من العقيدة والشريعة والغيبيات ونحوها.

وقوله: (إذ طلع علينا رجل) هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، كما سيأتي مصرحاً به آخر الحديث، وكان على صورة دحية الكلبي([3])، كما عند النسائي 4991، وفيه: (إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ).

وقوله: (شديد بياض الثياب) أي ثيابه بيضاء نظيفة.

(شديد سواد الشعر) أي أنه شاب، وليس في شعره غبرة، وليس بأشعث.

(لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ) لأن المسافر في ذلك الوقت يُرى عليه أثر السفر، فيكون أشعث الرأس، مغبرّاً، ثيابه غير ثياب الحضر.

(وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ) أي وليس من أهل المدينة المعروفين، فهو غريب.

ويؤخذ منه مدح من كانت ثيابه شديدة البياض، وفي الحديث: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم . . .) رواه أبو داود.

قوله: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه):

أي أسند جبريل عليه السلام ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه القُرْب من العالم والمسؤول حتى يكون أبلغ في أداء السؤال والفهم.

قوله: (ووضع كفيه على فخذيه):

فيه قولان:

1-وضع جبريل عليه السلام كفيه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي صلى الله عليه وسلم.

2-وضع جبريل عليه السلام كفيه على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن تكون الضمائر راجعة على نحو ما رجعت إليه الجملة الأولى، (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه) لأن توافق رجوع الضمائر أولى من تعارضه بلا قرينة.

ويؤيده ما جاء عند النسائي 4991 من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما، وفيه: (حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

(وقال: يا محمد) ولم يقل: يا رسول الله ليوهم أنه أعرابي، لأن الأعراب ينادون النبي صلى الله عليه وسلم باسمه العَلَم، وأما أهل الحضر فينادونه بوصف النبوة أو الرسالة عليه الصلاة والسلام.

 (أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . . .)

الإسلام فسره النبي e بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل وأول ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهو عمل اللسان ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وهي منقسمة إلى عمل بدني كالصلاة والصوم وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة.

وفي رواية لابن حبان أضاف إلى ذلك: الاعتمار والغُسل من الجنابة وإتمام الوضوء وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام وإنما ذكر ههنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها.

 ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي e أي الإسلام خير؟ قال: (أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).

وقوله: (أن تشهد) فيه الاعتقاد والإخبار، ولا تستقيم الشهادة بأنه لا إله إلا الله مع الكتمان، فمن شهد بقلبه ولم يُظهر هذه الشهادة من غير عذر شرعي فليس له شهادة.

فمعنى (أشهد) أي أقر بقلبي ناطقا بلساني.

كما أن الشاهد عند القاضي لا بد أن ينطق بما يعتقد.

والمنافقون يشهدون ألا إله إلا الله، ولم تقبل منهم؛ لأنهم لم يعتقدوا ما دلت عليه بقلوبهم([4]).

وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا كما جاء عن النبي e أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

لكن لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان مصحح له؛ لأن لفظ (أشهد) في اللغة والشرع متعلق بالباطن والظاهر.

وقوله: (أن تشهد ألا إله إلا الله) معناها لا معبود بحق إلا الله.

(وأن محمدا رسول الله) هذه الشهادة تقتضي طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع.

وقوله: (وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) فإن قيل: هذا الشرط في جميع العبادات لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: الآية16) فلماذا خص الحج؟

الجواب: خص الحج لأن الغالب فيه المشقة والتعب وعدم القدرة، فلذلك نص عليه وإلا فجميع العبادات لابد فيها من الاستطاعة.

قوله: (قال صدقت، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلهُ وَيُصَدِّقُه) ووجه العجب أن السائل عادة يكون جاهلاً، والمصدِّق يكون عالماً، فكيف يسأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول صدقت؟ هذا محل العجب.

وأما الإيمان فقد فسره النبي e في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)

هذه الأركان الستة للإيمان فيها قدر واجب لا يصح إسلام بدونه، يجب على كل مكلف، فمن لم يأت به فليس بمؤمن، وهناك قدر زائد على هذا يتبع العلم.

  1. الإيمان بالله عز وجل:

يشمل أربعة أشياء:

  • أن يؤمن العبد بأن له رباً موجوداً، وأنه الموجِد لجميع المخلوقات، وأن المخلوقات لم توجد من العدم.
  • أن يؤمن بأن هذا الخالق واحد في ربوبيته لا شريك له في ملكه، وهذا هو توحيد الربوبية.
  • أن يؤمن بأن هذا الرب له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وله الكمال المطلق من جميع الوجوه، لا يماثله أحد في ذلك، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
  • أن يؤمن بأن هذا الرب الذي له نعوت الكمال والجلال والجمال هو المستحق وحده للعباده، دون ما سواه، وهذا هو المهم الأعظم في الإيمان بالله تعالى، وهو توحيد الألوهية.

2-الإيمان بالملائكة له مرتبتان:

  • الإيمان الإجمالي: وهو المعني بهذا الركن، ومعناه أن يؤمن العبد بأن الملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم عبيد لله لا يُعبَدون، فمن قال من العوام: أؤمن بأن الملائكة موجودون، وهم عبيد لله تعالى، لا يُعبدون فقد حقق هذا الركن.
  • الإيمان التفصيلي: وهو الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الملائكة بأسمائهم وصفاتهم وما وكلوا به، ونحو ذلك، وهذا إيمان تفصيلي يلزم العبد الإيمان به إذا علم النص في ذلك، أما من لم يصل إليه النص في هذه التفاصيل فلا يكون إيمانه بالملائكة ناقصاً، إذا كان قد أتى بالإيمان الإجمالي، فلو سألت عامياً هل تؤمن بميكائيل؟ فقال لا أُؤمن به مَن ميكائيل هذا؟ فلا يعد كافراً منكراً لوجود هذا الملك، إلا إذا عرف بالنصوص وعلم بها، فيكون بعد ذلك جاحداً كافراً، وهذا مرجعه إلى تكذيب النصوص لا عدم الإيمان بالملائكة.

3-الإيمان بالكتب على مرتبتين:

  • إيمان إجمالي: وهو القدر المجزئ من الإيمان بالكتب، فيؤمن العبد أن الله تعالى أنزل كتباً مع رسله إلى خلقه، فيها الهدى والبينات، وما يصلح العباد، وأن منها القرآن الذي هو كلام الله تعالى، وأن هذه الكتب المنزلة كلها حق؛ لأنها من عند الله عز وجل.
  • إيمان تفصيلي: فيؤمن إيماناً خاصاً أن القرآن آخر هذه الكتب، وأنه منه بدأ وإليه يعود، وأنه حجة على الناس إلى قيام الساعة، وبه نسخت جميع الكتب السابقة، وأن ما فيه من الأخبار يجب تصديقها، وما فيه من الأحكام يجب امتثالها، ويجب التحاكم إليه في جميع الأمور.

ويؤمن بجميع الكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وصحف موسى عليهما الصلاة والسلام، فيؤمن بأن الله أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام، فمن علم شيئاً من تفاصيل الكتب بدليله وجب عليه الإيمان به.

4-الإيمان بالرسل على مرتبتين:

  • إيمان إجمالي: بأن يؤمن العبد بأن الله تعالى أرسل رسلاً يدعون إلى التوحيد، وأنهم بلغوا ما أُومروا به، وأيدهم الله تعالى بالمعجزات، والآيات الدالة على صدقهم، وأنهم كانوا أتقياء بررة، والإيمان بهم متلازم، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالله تعالى وبجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.

وبهذا الإيمان الإجمالي يكون قد آمن بالرسل جميعاً، ثم يؤمن إيماناً خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتمهم، وأن الله تعالى بعثه بدين الإسلام الذي هو آخر الرسالات وخاتمها.

  • إيمان تفصيلي: وهذا يتبع العلم بأحوال الرسل وأسمائهم وأحوالهم، وتفاصيل ما جاء فيهم.

5- الإيمان باليوم الآخر: وهو الإيمان بالموت وما بعده إلى دخول الجنة أو النار، وهو على مرتبتين:

  • إيمان إجمالي: فيؤمن العبد بغير شك أن ثم معاد للناس يبعثون فيه من قبورهم للحساب على ما عملوا، وأن كل إنسان مجزي بما فعل.
  • إيمان تفصيلي: وهذا يتبع العلم بما جاء في النصوص عن تفاصيل اليوم الآخر، من أحوال القبور والبعث والحساب والحوض والميزان . . إلخ، فهذه التفاصيل لا يجب الإيمان بها على كل أحد إلا من علمها من النصوص، فمن قال: أنا لا أعلم هل هناك ميزان أم لا؟ فإنه يعرف بالنصوص فإن عرف ثم أنكر كان مكذباً للقرآن والسنة.

6-الإيمان بالقدر:

والإيمان بالقدر يتضمن عدة أمور: وهي مراتب القدر، أو أركانه:

1-العلم: أي الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلا أزلا وأبدا سواء أكان فيما يتعلق بأفعاله جل وعلا أم بأفعال عباده، فعلمه سبحانه محيط بكل شيء.

 قال سبحانه: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) وقال سبحانه: (وهو بكل شيء عليم)

2-الكتابة: وهي الإيمان بأن الله تعالى كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.

قال تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) وقال سبحانه: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)

3-المشيئة: وهي تقتضي الإيمان بمشيئة الله تعالى النافذة وقدرته الشاملة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما يكون في هذا الكون من حركة ولا سكون ولا هداية ولا ضلالة إلا بمشيئة الله تعالى.

قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) وقال سبحانه: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين)

4-الخلق: وهي تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها وصفاتها وحركاتها، وتقتضي أن ما سوى الله عز وجل فهو مخلوق موجد من العدم.

قال الله عز وجل: (الله خالق كل شيء) وقال تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض).

وبناء على ما تقدم فإن الإسلام إذا قرن بالإيمان انصرف الإسلام إلى عمل اللسان وعمل الجوارح، والإيمان إلى الاعتقادات الباطنة.

 ولا يُتصور أن يوجد إسلام بلا إيمان، ولا أن يوجد إيمان بلا إسلام.

فكل مسلم لا بد أن يكون معه من الإيمان قدرٌ هو الذي يَصحَّ به إسلامه، وهو القدر المجزئ من الإيمان، ولو لم يكن عنده ذلك القدر ما سُمي مسلماً أصلاً.

وكل مؤمن لا بد أن يكون عنده قدر من الإسلام مصحِّح لإيمانه، لأن جنس العمل ركن في الإيمان.

وإذا أُفرد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل.

فقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً) يشمل الإيمان، وقوله تعالى: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) يشمل الإيمان.

كذلك الإيمان إذا ذكر وحده دخل فيه الإسلام، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ . . .) إلى أن قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

وكان النبي e يقول في دعائه إذا صلى على الميت: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) لأن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن منه في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب.

وقوله: (فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه . . .)

الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو إيقاع العمل على أحسن الوجوه في الظاهر والباطن، وهذا لا يكون إلا ممن اتصف بالإخلاص لله تعالى.

والإحسان له مرتبتان:

1-       أن تعبد الله كأنك تراه: أي أن تؤدي العبادات التي أمرك الله تعالى بها كأنك تراه، يعني مستحضرا أنك تعاين معبودك، ومن المعلوم أن من يعبد الله تعالى على هذه الحال فإنه سيؤدي العبادة على أكمل والوجوه في الظاهر والباطن.

  1. فإن لم تكن تراه فإنه يراك: يعني فإن لم تعبده على استحضار أنك تراه، فاعبده على استحضار أنه يراك، ولا يخفى عليه خافية من أمرك، وهذا يوجب للعبد الحياء من الله تعالى إذا استحضر نظره إليه، فيدعوه إلى إحسان العمل، كما قال بعضهم: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك. وقال بعضهم: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحِ من الله على قدْر قُربه منك.

وقد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) وفي الحديث أن رجلا قال: يا رسول الله أوصني. قال: (أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحي رجلاً من صالحي قومك) - الصحيحة برقم (741)- وعزاه لأحمد وغيره وسئل النبي e عن كشف العورة خاليا فقال (الله أحق أن يستحيا منه).

وهذه المرتبة هي من مراتب الكمال، لكنها دون المرتبة الأولى.

فالأولى مرتبة المشاهدة، والثانية مرتبة المراقبة.

فهذا الحديث اشتمل على ذكر مراتب الدين.

ومعنى المراتب: أي الدرجات، وكل واحدة منها أخص من الأخرى، أخصها الإحسان، ثم بعدها الإيمان، ثم الإسلام، وهو أوسعها.

ويُمثِّل لها أهلُ العلم بثلاث دوائر، دائرة صغيرة تمثل الإحسان، ثم دائرة أكبر منها بداخلها الدائرة الصغيرة تمثل الإيمان، ثم دائرة أكبر منهما، بداخلها هاتان الدائرتان وتمثل الإسلام.

فكل محسن فهو مؤمن مسلم، وليس كل مسلم أو مؤمن محسناً.

وكل مؤمن فهو مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، لكن لا بد أن يبقى معه إيمان يصحح إسلامه، وإلا كان كافرا أو منافقا.

قوله: (فأخبرني عن الساعة فقال النبي e ما المسئول عنها بأعلم من السائل)

 يعني أن علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء وهذه إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها.

ولهذا فإن العالم إذا سئل عن شيء لا يعلمه يقول: لا أعلمه. وذلك لا يُنقصه شيئا، بل هو من ورعه ودينه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم.

وقال عز وجل: (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة . . الآية)

ففيه أن الساعة لا يعلمها أحد إلا الله عز وجل، لأن أفضل الرسل من الملائكة سأل أفضل الرسل من البشر عليهما الصلاة والسلام عنها، فقال: ما المَسْؤولُ عَنْهَا بَأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.

ويترتب على هذا أنه لو صدَّق أحد من الناس شخصاً ادعى أن الساعة تقوم في الوقت الفلاني، فإنه يكون كافراً، لأنه مكذب للقرآن والسنة.

قوله (فأخبرني عن أماراتها) يعني عن علاماتها وأشراطها التي تدل على اقترابها.

أمارات أو أشراط الساعة قسمها العلماء إلى قسمين: أشراط صغرى، وأشراط كبرى.

والمقصود بالأشراط الصغرى: هي التي تحصل قبل خروج المسيح الدجال، فما كان قبل خروج المسيح الدجال مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من علامات الساعة، فإن هذا من الأشراط الصغرى. ثم ما بعد ذلك من الأشراط الكبرى؛ لأن الأشراط الكبرى تكون عند قرب قيام الساعة.

 وقد ذكر النبي e للساعة علامتين من علامات الساعة الصغرى:

 الأولى: أن تلد الأمة ربتها والمراد بربتها سيدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ربها.

 وهذه إشارة إلى فتح البلاد وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر السراري وتكثر أولادهن فتكون الأَمة رقيقة لسيدها، وأولادُه منه بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد فيصير ولدُ الأمة بمنزلة ربها وسيدها.

وقد فُسر قوله تلد الأمة ربتها بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها وهي جاهلة بأنها أمها وقد وقع هذا في الإسلام.

والمقصود هنا الإخبار عن كثرة الرقيق، وإلا فإنه موجود في العصور الأولى أن تلد الأمة سيدها أو سيدتها، وهذا غير مقصود به هذا الخبر بأنه من أمارات الساعة، لكن المقصود به: أن يكثر ذلك بحيث يكون ظاهراً فيكون علامة.

والعلامة الثانية: (أن ترى الحفاة العراة العالة) والمراد بالعالة الفقراء كما قال تعالى (ووجدك عائلا فأغنى) وقوله (رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) والمراد أن أسافل الناس الذين ليسوا بأهلٍ للغنى يصيرون رؤساء، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه، وهذا فيه تغير الناس وكثرة المال، وأن يكون المال في أيدي مَن ليس له بأهل.

قال: (ثم انطلق، فلبثت مليًّا) انطلق يعني: جبريل عليه السلام، "فلبثتُ": أي عمر رضي الله عنه (مليًّا) يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) أي مدة طويلة، جاءت في بعض الروايات أنها ثلاثة أيام.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرُ أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

وعند النسائي 4991: (وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ).

ففيه أن الملائكة عليهم السلام يمكن أن يتشكلوا على صورة الآدميين بأمر الله عز وجل.

وفيه أن السائل عن العلم يكون معلماً لمن سمع الجواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإنه جبريل أَتَاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ) مع أن الذي علمهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كان سؤال جبريل عليه السلام هو السبب جعله هو المعلم.

ويتفرع على هذا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا كان يعلم المسألة وكان من المهم معرفتها أن يسأل عنها وإن كان يعلمها، وإذا سأل عنها وأجيب صار هو المعلم.

 

الحديث الثالث:

عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) رواه البخاري ومسلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام) المراد بالإسلام هنا الإسلام الخاص الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم.

وذلك أن الإسلام له إطلاقان في النصوص:

الأول: الإسلام بمعناه العام، وهو الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم، قال سبحانه عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما . .) وقال -جل وعلا-: (هو سماكم المسلمين من قبل).

الثاني: الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بُعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي إذا أُطلق الإسلام لم يُعن به إلا هذا على وجه الخصوص.

والإسلام بمعناه العام ومعناه الخاص يتفقان في أصل التوحيد والاعتقاد، وأما من حيث الشرائع ففيها اختلاف فشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تختلف في بعضها عن شريعة من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لِعَلَّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد) متفق عليه.

 (على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله) ويجوز في شهادةِ ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بدل بعض من كل، يعني: تقول: على خمسٍ شهادةِ.

ويجوز أن تستأنفها، فتقول: على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله. على القطع، أي على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة، كما قال -جل وعلا -: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدُهما أبكم) وهذا شائع كثير.

وبناء على هذا فنظائرها يجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.

وقوله: (شهادة أن لا إله إلا الله) يعني: العلم بأنه لا إله إلا الله، والنطق بذلك والإعلام به.

فلا تكون شهادة حتى يجتمع فيها: أن يعتقد، ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ ... يقول بلسانه معلما بها غيره، إذا لم يكن هناك عذر شرعي عن إعلام غيره، كالإكراه.

    وقوله: (وأن محمداً رسول الله) يعني: أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم أنه رسول من عند الله حقا.

وهذه الشهادة بأن محمدا رسول الله لها مقتضى، وهذا المقتضى: هو طاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم.

والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس فهي كالأركان والدعائم لبنيانه، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان.

وإذا فقدت هذه الأركان جميعا فإن الإسلام يزول بفقدها، وكذلك يزول بفقد الشهادتين بالاتفاق.

أما بقية الأركان الأربعة، فمن تركها هل يزول عنه وصف الإسلام، بمعنى هل يكفر أو لا؟ فيها خلاف.

والمرجع في ذلك إلى ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة من أن هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، فلا يتصور أن هناك بيع بلا بائع.

أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني: لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه: مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنه يقال عنه: مسلم، وهكذا في صيام رمضان، وهذا بناء على القول الراجح في عدم تكفير من ترك الزكاة أو الصوم أو الحج.

وأما إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا فالراجح القول بكفره.

ومن الأدلة على كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا:

ما روى الإمام أحمد أن النبي r قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) أي العهد الذي أُخذ على المؤمنين والذي تميزوا به عن غيرهم من المنافقين والكافرين الصلاة.

وعن جابر t قال: قال رسول r: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) رواه مسلم.

قال النووي: (الذي يمنع كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل بل دخل فيه)

وعن عبد الله بن شقيق رحمه الله تعالى: (كان أصحاب محمد r لا يرون شيئا من الأعمال تركُه كفر غيرَ الصلاة) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (565).

قال الشوكاني في النيل 1/363: (وَالظَّاهِرُ مِنْ الصِّيغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ " جَمْعٌ مُضَافٌ، وَهُوَ مِنْ الْمُشْعِرَاتِ بِذَلِكَ).

قال ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة 2/924: (ثُمَّ ذَكَرْنَا الْأَخْبَارَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِكْفَارِ تَارِكِهَا وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُ مِنَ الْمِلَّةِ وَإِبَاحَةِ قِتَالِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ إِقَامَتِهَا، ثُمَّ جَاءَنَا عَنِ الصَّحَابَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِئْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي إِكْفَارِ تَارِكِهَا وَإِيجَابِ الْقَتْلِ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنَ إِقَامَتِهَا)

وقال أبو عبد الله ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة 2/929: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ، يَقُولُ: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا كَافِرٌ، وَذَهَابُ الْوَقْتِ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ).

وممن حكى إجماع الصحابة y ابن القيم في الصلاة ص54 حيث قال بعد ذكر أثر عمر t: (لا إسلام لمن ترك الصلاة). وفي سياق آخر: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) . . . قال: (فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ولا يعلم عن صحابي خلافهم).

وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة) فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه.     

والحمد لله رب العالمين.

 

 

([1]) تنبيه: هذا الشرح المتواضع مستفاد من عدة شروح لأهل العلم، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([2]) ينظر: طبقات الشافعيين لابن كثير 1/909، وطبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي 8/395.

([3]) قال السندي في حاشيته على النسائي 8/103: (ثمَّ قَالَ أَي للنَّاس الْحَالين عِنْده بعد أَن خرج الرجل من الْمجْلس "نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ" قَالَ الْحَافِظُ بن حجر: هَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ دِحْيَةَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ قَالَ عمر مَا يعرفهُ منا أحد. قلت: كَونه فِي صُورَة دحْيَة لَا يَقْتَضِي أَن لَا يمتاز عَنهُ بِشَيْء أصلا سِيمَا الامتياز بالأمور الْخَارِجَة فَيجوز أَنه ظهر لَهُم بِبَعْض الْقَرَائِن الْخَارِجَة بل الدَّاخِلَة الْخفية أَنه غير دحْيَة فَلَا وَجه لتوهيم الروَاة بِمَا ذكر فَلْيتَأَمَّل).

([4]) قال شيخ الإسلام في الفتاوى (7/609): (ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه   الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها فأما الشهادتان اذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها وجماهير علمائها وذهبت طائفة من المرجئة وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي واتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة).

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله