الدليل

2025-11-19 13:26:21

شرح الأربعين النووية لبرنامج دليل الأحاديث من 20-35 المجلس الرابع

شرح الأربعين النووية([1])

برنامج دليل

المجلس الرابع 21/7/1446ه

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، أما بعد:

الحديث العشرون:

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) رواه البخاري.

قوله: "إن مما أدرك الناس" (من) هنا للتبعيض، أي إن بعض الذي أدركه الناس من كلام النبوة الأولى ... الخ.

«إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى» يعني أن هذا الكلام مَأْثُورٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ النَّاسَ تَوَارَثُوهُ عَنْهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

"إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" هذه الكلمة من كلام النبوة الأولى.

والحياء خلُق يَكُفُّ صاحبه عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ، وَيَحُثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ.

وقوله: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" يحتمل معنيين:

المعنى الأول: إذا كان الفعل لا يُستحيى منه فاصنعه ولا تبال. فيكون قوله: (فاصنع) على ظاهره يفيد الأمر.

المعنى الثاني: إذا لم تكن ذا حياء فإنك تصنع ما تشاء، فيكون الأمر في قوله: (فاصنع) بمعنى الخبر، لأنه لا حياء عنده، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل.

فالأول عائد إلى الفعل، والثاني إلى الفاعل.

وقوله: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يقول العلماء: إن ما نقل عن الأمم السابقة لا يخلو من ثلاثة أحوال:

  1. ما شهد شرعنا بصحته، فهو صحيح مقبول، كما في هذا الحديث، لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء فيه.
  2. ما شهد شرعنا ببطلانه، فهو باطل مردود.
  3. ما لم يشهد شرعنا بصحته ولا بطلانه، فهذا يتوقف فيه، فلا نجزم بصحته ولا بطلانه.

ولكن مع ذلك لا بأس أن يتحدث به الإنسان في المواعظ وشبهها إذا لم يخش أن يفهم المخاطب أنه صحيح. لقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)

ثم الحياء نوعان من جهة كونه مكتسبا أو غير مكتسب:

فالأول: مَا كَانَ خُلُقًا وَجِبِلَّةً غَيْرَ مُكْتَسَبٍ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَمْنَحُهَا اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَجْبُلُهُ عَلَيْهَا.

النوع الثاني: مَا كَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةِ عَظَمَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَهَذَا مِنْ أَعْلَى خِصَالِ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ، ولهذا قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: " اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي رَجُلًا مِنْ صَالِحِ عَشِيرَتِكَ ".

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ تَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى؛ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ» رواه الترمذي.

وينبغي أن يُعلَم أن الحياء خلق محمود إلا إذا منع مما يجب، أو أوقع فيما يحرم، فبعض الناس يستحي أن ينكر المنكر الذي يجب عليه إنكاره، فهذا حياء مذموم، ما دام أنه ينكر على الوجه المشروع فلا وجه للحياء هنا.

وكذا من يكون مع قوم يفعلون معصية فيستحي أن يفارقهم، فيوافقهم على فعل هذا الحرام كالنظر إلى الحرام أو سماع الحرام حياءً، فهذا حياء مذموم.

وفي الحديث الرد على الجبرية، لإثبات المشيئة للعبد، في قوله: (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت).

الحديث الحادي والعشرون:

عن أبي عمرو - وقيل أبي عمرة - سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: ((قل آمنت بالله، ثم استقم)) رواه مسلم.

سفيان: هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الطائف.

والحديث رواه الترمذي 2410 عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ t قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا» وقال الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وصححه الألباني.

(قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك) أي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله، ثم استقم) وفي رواية الترمذي: (قل ربي الله، ثم استقم) هذا مأخوذ من قوله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} وقوله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون}

والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير انحراف عنه، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها.

ولا يلزم ممن سلك طريق الاستقامة ألا يقع منه معصية، بدليل قوله عز وجل: {فاستقيموا إليه واستغفروه} ففيه الإشارة إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، كما خرجه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» ،

فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته وتعظيمه استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك، استقامت جنوده.

وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه المعبر عما في القلب، فعن أنس t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».

الحديث الثاني والعشرون:

عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) رواه مسلم.

ومعنى حرمت الحرام: أي اجتنبته.

ومعنى أحللت الحلال: أي فعلته معتقدا حله، والله أعلم.

هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ (15) وَزَادَ فِي آخِرِهِ بعد قوله صلى الله عليه وسلم: (نعم) قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.

وقوله "أرأيت" بمعنى أخبرني.

"إذا صليتُ المكتوبات" أي الصلوات الخمس المفروضة.

" وأحللتُ الحلال" فسره المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: فعلته معتقدا حله.

وهذا يتضمن فعل الحلال، واعتقاد أنه حلال.

والقول الثاني في معنى أحللت الحلال: أي اعتقدت حل كل ما أحل الله تعالى، وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله عز وجل، وإن كان لم يفعل كل ما أحله الله تعالى.

ويَرِد على القول الأول: أن فعل كل حلال أحله الله تعالى ممتنع، لأن الحلال كثيرا جدا.

"وحرمت الحرام" أي اجتنبته كما فسره المؤلف.

والقول الثاني: أن معنى "وحرمت الحرام" أي اجتنبته معتقدا تحريمه؛ لأنه لا بد أن يعتقد أنه حرام، فإن من لم يعتقد حرمة ما تحريمه معلوم من الدين بالضرورة فإنه كافر؛ لتكذيبه الكتاب والسنة.

وفي هذا الحديث إشكال: أن الرجل قال: لم أزد على ذلك شيئا. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم تدخل الجنة، مع أنه نقص من أركان الإسلام الزكاة والحج، والزكاة مفروضة قبل الصيام، يعني فلا يقال: لعل هذا الحديث قبل أن تفرض الزكاة.

الجواب أن يقال: لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال الرجل أنه ليس ذا مال، وعلم أنه إذا كان ذا مال فسوف يؤدي الزكاة، لأنه قال: "وحرمت الحرام" ومنع الزكاة من الحرام.

أما الحج: لعل هذا الحديث قبل فرض الحج، لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أو العاشرة.

وقد يقال: ذلك داخل في قوله: "حرمت الحرام" لأن ترك الحج حرام على المستطيع.

الحديث الثالث والعشرون:

عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم.

هذا حديث عظيم، من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، اشتمل على ما يرقق القلب، ويحمل على الطاعة.

وقوله: "الطُّهور شطر الإيمان" الطهور بضم الطاء أي الفعل، وبالفتح ما يتطهر به، فالماء طَهور.

والْمُرَادَ بِالطُّهُورِ في هذا الحديث: التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ مِنَ الْإِحْدَاثِ، ويؤيده ما جاء في رواية ابن ماجه 280 بلفظ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الْإِيمَانِ) وصححه الألباني، ورواية الترمذي 3517: (الوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ) وصححه الألباني.

والمراد بشطر الإيمان أي نصفه، ويؤيده رواية الترمذي 3519: (وَالطُّهُورُ نِصْفُ الإِيمَانِ) قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وضعفها الألباني.

وَعَلَى هَذَا فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى كَوْنِ الطُّهُورِ بِالْمَاءِ شَطْرَ الْإِيمَانِ.

فمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا: الصَّلَاةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، وَالْمُرَادُ صَلَاتُكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةَ، فَالصَّلَاةُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِطُهُورٍ، فَصَارَ الطُّهُورُ شَطْرَ الصَّلَاةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وهذا المعنى محكي عن بعض السلف.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: خِصَالُ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ كُلُّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ وَتُزَكِّيهِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ، فَهِيَ تَخْتَصُّ بِتَطْهِيرِ الْجَسَدِ وَتَنْظِيفِهِ، فَصَارَتْ خِصَالُ الْإِيمَانِ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُطَهِّرُ الظَّاهِرَ، وَالْآخَرُ يُطَهِّرُ الْبَاطِنَ، فَهُمَا نِصْفَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

"والحمد لله تملأ الميزان" أي قول القائل: الحمد لله. يمتلئ بها ميزان العبد، والمراد الميزان الذي توزن به الأعمال يوم القيامة، فدل هذا الحديث على إثبات الميزان، كما قال الله عز وجل: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء: 47)

والميزان ميزان حقيقي، له كفتان ولسان، توزن به الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة.

وَهذا من ضَرْبُ المَثَلٍ، وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْحَمْدُ جِسْمًا لَمَلَأَ الْمِيزَانَ.

والحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما.

ومعنى الحمد لله: أي جميع أجناس المحامد كلها مستحقة لله سبحانه.

والله عز وجل يحمد على تفرده في ربوبيته وفي ألوهيته، وعلى ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، ويحمد على ما شرعه لنا من دين الإسلام، ويحمد على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ويحمد جل وعلا على خلقه وقدره، وغير ذلك كثير مما يحمد الله تعالى عليه، ويثنى عليه به.

"وسبحان الله، والحمد لله تملآن - أو تملأ – ما بين السماء والأرض"

معنى "سبحان الله" أي تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به.  

ومعنى "الحمد لله" الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.

 فتكون هذه الجملة: "سبحان الله، والحمد لله" فيها: نفي النقص عن الله تعالى، وإثبات الكمال له سبحانه.

"تملآن - أو تملأ - ما بين السماء والأرض" والذي بين السماء والأرض مسافة لا يعلمها إلا الله عز وجل.

(أو) هذه شك من الراوي، يعني هل قال: تملآن ما بين السماء والأرض، أو قال: تملأ ما بين السماء والأرض.

وأيهما أفضل التَّسْبِيحُ أو التَّحْمِيدِ؟

الأفضل التحميد، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّحْمِيدَ إِثْبَاتُ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا لِلَّهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ كُلِّهَا، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، وَالْإِثْبَاتُ أَكْمَلُ مِنَ السَّلْبِ.

"والصلاة نور" أي صلاة الفريضة والنافلة نور، نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور يوم القيامة، لأن الحديث مطلق.

فإذا أدى الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها مقبلا على الله تعالى فيها فإنه يجد انشراحا ونورا في قلبه.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)

وجاء في الحديث الذي رواه ابن حبان وغيره لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا نَجَاةٌ وَلَا بُرْهَانٌ».

"والصدقة" الصدقة: بذل المال في وجوه الخير.

"برهان" أي دليل على صدق إيمان المتصدق.

وجه ذلك: أن المال محبوب للنفوس، ولا يبذل المحبوب إلا في طلب ما هو أحب، وهذا يدل على إيمان المتصدق، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة برهانا.

"والصبر ضياء" الصبر: حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن فعل ما ينافي الصبر.

والصبر أنواع ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.

ووصف الصبر بأنه ضياء، ولم يقل: إنه نور، كما قال في الصلاة، لأن الضياء فيه حرارة، كما قال الله عز وجل: (هو الذي جعل الشمس ضياء) وكذا الصبر فيه حرارة؛ لأنه شاق على الإنسان، ولهذا جعل الصلاة نورا، وجعل الصبر ضياء لما يحصل معه من المشقة والمعاناة.

"والقرآن حجة لك أو عليك" القرآن هو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق.

ويكون القرآن حجة لك إذا نصحت له، كما تقدم في شرح حديث: (الدين النصيحة) ويكون حجة عليك إذا لم تنصح له.

مثال ذلك: قول الله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (البقرة: الآية43) هنا رجلان: أحدهما لم يقم الصلاة فيكون القرآن حجة عليه، والثاني أقام الصلاة فيكون القرآن حجة له.

ورجل آخر لم يؤت الزكاة فالقرآن حجة عليه، والثاني آتى الزكاة فالقرآن حجة له.

وفيه أن على قارئ القرآن أن يجتهد في العمل بالقرآن ويحاسب نفسه على ذلك، حتى يكون حجة له لا عليه.

قوله: "كل الناس يغدو" أي كل الناس يخرج مبكرا في وقت الغداة أي الصبح. وهذا من باب ضرب المثل.

والغدو هو السير أول النهار، والرواح الرجوع في آخره.

"فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" أي باع نفسه لله عز وجل فلم يُمكِّن منها الهوى والشيطان، بل جعلها تعمل بما يرضي الله تعالى، فهذا الذي أعتقها يوم القيامة من العذاب.    كما قال الله عز وجل: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) (البقرة: الآية207) يشري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.

والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة الله عز وجل حيث أمضى عمره خسرانا، فهذا موبق لها أي مهلك لها.

الحديث الرابع والعشرون:

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ: أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هذا حديث قدسي عظيم، تضمن حاجة العبد إلى ربه جل وعلا وافتقاره إليه، وبيان ما يجبه الله تعالى من عبده، وما يكرهه.

والحديث أخرجه مسلم 2577، من طريق سَعِيد بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، وفي آخره: قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ.

وقوله: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" أي منَعَ نفسه جل وعلا من الظلم، مع قدرته عليه، لكمال عدله، تفضلا منه وإحسانا إِلَى عِبَادِهِ، كما قال جل وعلا: (ولا يظلم ربك أحدا) وقال سبحانه: (وما ربك بظلام للعبيد)

"وجعلته بينكم محرما" أي صيرته بينكم محرما.

"فلا تظالموا" أي لا يظلم بعضكم بعضا.

والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.

وَالظلم نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: ظُلْمُ النَّفْسِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فَإِنَّ الْمُشْرِكَ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ فِي مَنْزِلَةِ الْخَالِقِ، فَعَبَدَهُ، فَهُوَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ يَلِيهِ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ.

وَالثَّانِي: ظُلْمُ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

" يا عبادي كلكم ضال" أي عن الطريق المستقيم "إلا من هديته" فمن هداه الله لا يكون ضالا، والمراد هداية الدلالة، وهي العلم النافع، وهداية التوفيق وهي العمل الصالح.

"فاستهدوني أهدكم" أي اطلبوا مني الهداية لا من غيري أهدكم.

وهداية التوفيق لا تطلب إلا من الله تعالى؛ لأنه لا يقدر عليها غيره، أما هداية الدلالة فتطلب من الله تعالى، ومن كل قادر على دلالته إلى الخير، كالعلماء والدعاة.

وفي قوله: (كلكم ضال إلا من هديته) أن الأصل في جنس الإنسان الظلم، كما قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة . . . إنه كان ظلوما جهولا) ولذا كان أكثر الناس على ضلال، كما قال تعالى: (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) في عدة آيات.

"يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" لأن الرزق كلَه بيد الله عز وجل، فالناس كلهم محتاجون إليه سبحانه في حصول طعامهم وشرابهم.

"فاستطعموني أطعمْكم" أي اطلبوا مني الإطعام، وإذا طلبتم ذلك ستجدونه.

ولكن لا بد من السعي في طلب الرزق وابتغاء فضل الله عز وجل.

"يا عبادي كلكم عار" لأن كل إنسان خرج من بطن أمه عاريا فكساه الله تعالى.

"إلا من كسوته فاستكسوني أكسِكم"

فهَذَا الحديث يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَقِ مُفْتَقِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمْ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَالرِّزْقِ، فَإِنَّهُ يُحْرَمُهُمَا فِي الدُّنْيَا.

"يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار" أي تعملون الخطيئة، وتجانبون الصواب بالوقوع في الذنوب، إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرم.

وليس المراد بقوله: (تخطئون) الخطأ، الذي لا يكون عند عمد، فإنه معفو عنه، كما قال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)

"وأنا أغفر الذنوب جميعا" أي أسترها وأتجاوز عنها، وهذا مقيد بغير الشرك، فإنه لا يغفره الله تعالى إلا لمن تاب، أما ما دون الشرك من المعاصي فإن الله يغفره إذا شاء، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به . . .)

"فاستغفروني أغفر لكم" أي اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَهُ الْعِبَادُ جَمِيعَ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكُسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَسْأَلُونَهُ الْهِدَايَةَ والمغفرة.

فَإِنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ إِذَا سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ فَقَدْ أَظْهَرَ حَاجَتَهُ فِيهِ، وَافْتِقَارَهُ إِلَى اللَّهِ، وَذَاكَ مما يُحِبُّهُ اللَّهُ تعالى.

"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله عز وجل، والعباد لا يستطيعون هذا، وذلك لكمال غناه عن عباده عز وجل.

كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}

" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا" وذلك لكمال غناه عن خلقه، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين، وإنما الطائع ينفع نفسه، والعاصي يضر نفسه، ولهذا قال:"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا"

"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته" أي إذا قاموا في أرض واحدة وهم جمع كثير من الأولين والآخرين والإنس والجن، فسألوا الله عز وجل فأعطى كل واحدة ما سأل.

"ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تُنقص البحر شيئا ولا تغيره.

فهو جل وعلا يعطي كل واحد مسألته لأن ملكه واسع، وغناه عظيم، وحاجات العباد مهما بلغت ليست بشيء في جنب ملكوته سبحانه وبحمده.

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «(ِيَمِين اللَّهِ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ . . .) رواه البخاري 7419 ومسلم 993.

لا يَغيضُها: أي لا ينقصها.

سحاءُ الليل والنهار: أي كثيرة العطاء في الليل والنهار.

"يا عبادي إنما هي أعمالكم" أي أن المقصود من خلق العباد الابتلاء، والتكليف بالعمل، "أحصيها لكم" أي أضبطها تماما بالعد لا زيادة ولا نقصان، وأحفظها فلا تضيع.

"ثم أوفيكم إياها" يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْصِي أَعْمَالَ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

والجزاء على الأعمال قد يكون في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط.

قد يكون في الدنيا فقط: فإن الكافر يجازى على عمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخر له الثواب في الآخرة، وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)

وقال عز وجل: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) (الاسراء: الآية18) وقال عز وجل: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) (الاسراء: 19)

إذا فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعا، أو في الآخرة فقط.

" فمن وجد خيرا فليحمد الله" أي من وجد خيرا من أعماله فليحمد الله على الأمرين: على توفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له.

"ومن وجد غير ذلك" أي وجد شرا أو عقوبة "فلا يلومن إلا نفسه" لأن الله تعالى لم يظلمه.

الحديث الخامس والعشرون:

عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا «أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) رواه مسلم.

"أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" هؤلاء ناس من فقراء الصحابة رضي الله عنهم.

 "ذهب أهل الدثور" أي الأموال الكثيرة "بالأجور" أي الثواب عليها.

 وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالا يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور.

"يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم" يعني ولا نتصدق لأنه ليس عندنا شيء، فكيف يمكن أن نسبقهم أو نكون مثلهم.

وهذا منهم من باب الرغبة في المنافسة على الخير.

وَقد ظَنُّوا أَنْ لَا صَدَقَةَ إِلَّا بِالْمَالِ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنها، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ صَدَقَةٌ، كما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»

وَالصَّدَقَةُ بِغَيْرِ الْمَالِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ تَعْدِيَةُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، فَيَكُونُ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ، وَهَذَا كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَفٌّ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ النَّفْعِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَإِقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَإِزَالَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالسَّعْيُ فِي جَلْبِ النَّفْعِ لِلنَّاسِ، وَدَفْعُ الْأَذَى عَنْهُمْ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ.

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» رواه الترمذي 1956، وصححه الألباني.

وَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ " قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: " تُعِينُ صَانِعًا، وَتَصْنَعُ لِأَخْرَقَ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: " تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» .

وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا "، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْجَرُ فِيهَا إِذَا احْتَسَبَهَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» خَرَّجَاهُ.

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» .

وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَالِيَّةً: مَا نَفْعُهُ قَاصِرٌ عَلَى فَاعِلِهِ، كَأَنْوَاعِ الذِّكْرِ: مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالِاسْتِغْفَارِ.

وَقَدْ دلت نصوص كثيرة على أن ذكر الله عز وجل أفضل من الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ ومن غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ t عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» خَرَّجَه التِّرْمِذِيُّ.

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلِدَ إِسْمَاعِيلَ».

"أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به"

يعني أن لكم أن تتصدقوا بغير بذل المال من أنواع الصدقات، ثم بين لهم ذلك بقوله:

"إن بكل تسبيحة صدقة" أي إذا قلت: سبحان الله فهي صدقة.

"وبكل تكبيرة صدقة" إذا قلت الله أكبر فهذه صدقة.

"وبكل تحميدة صدقة" إذا قلت الحمد لله فهذه صدقة.

" وبكل تهليلة صدقة" إذا قلت لا إله إلا الله فهي صدقة.

" وأمر بالمعروف صدقة" إذا أمرت من رأيته مقصرا في شيء من الطاعات فهي صدقة.

" ونهي عن منكر صدقة" إذا رأيت شخصا على منكر ونهيته فهي صدقة.

فهذه الأنواع من الصدقات يستطيعها الفقير وغيره، لتيسرها وسهولتها، ويمكن أن يفعلها كل يوم، بل ربما عمر يومه بهذه الصدقات، بخلاف الغني الذي يتصدق بماله، فلا يمكن أن يعمر وقته كله بالصدقة بالمال.

وهذه الصدقات منها هو واجب، ومنها ما هو غير واجب، ومنها المتعدي، ومنها القاصر.

فقوله: (إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة) هذا كله قاصر ومنه واجب، ومنه غير واجب.

فالتكبير منه واجب ومنه غير واجب، فتكبير الصلوات واجب، وتكبير أذكار الصلاة بعدها مستحب، وهكذا يقال في التسبيح والتحميد والتهليل.

وقوله: (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) هذا من الواجب، لكن الأمر بالمعروف تارة يكون واجبا وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره، وكذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه ولكن هناك من يقوم مقامه، وتارة يكون مستحبا وذلك في الأمر بالمعروف المستحب، والنهي عن المكروه.

"وفي بضع أحدكم صدقة" أي أن الرجل إذا أتى أهله فله بذلك صدقة.

"قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟" أشكل عليهم الأمر، كيف يأتي الإنسان شهوته، ويكون له أجر الصدقة، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ " والجواب: نعم يكون عليه وزر لو وضعها في حرام.

"فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" فاستغنى عن الحرام فكان مأجورا بهذا.

وفي الحديث دليل لقياس العكس، وهو: إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه.

يعني أن يثبت للفرع نقيض حكم الأصل، فإذا كان الأصل حلالا صار الفرع حراما، وإذا كان الأصل حراما صار الفرع حلالا. بخلاف ما إذا كان حكم الأصل موافقا لحكم الفرع فهو قياس أصل.

فأثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه، أثبت للفرع أجراً لأنه وطء حلال، كما أن في الأصل وزراً لأنه وطء حرام.

فالحكم: عليه وزر. والعلة: وضع شهوته في الحرام. ويقابله: أن له أجر, والعلة: وضعها في الحلال.

وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقُلْتُ أَنَا أُخْرَى، قَالَ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ، وَقُلْتُ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

ويقاس على ذلك ما يشبهه، فمن أكل طعاما حلالا، قلنا: لك أجر؛ لأنك لو أكلت حراما كان عليك وزر.

وظاهر الحديث أنه يؤجر على شهوته بإطلاق، أي وإن لم ينو الانكفاف عن الحرام، فنطلق ما أطلق الرسول r، وفضل الله واسع.

الحديث السادس والعشرون:

عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» رواه البخاري ومسلم.

(كل سلامى) السلامى هي المفاصل، وقيل: العظام.

عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» رواه مسلم 1007.

وقوله: "كل سلامى من الناس عليه صدقة" أي كل مفصل أو عظم يوجد في الإنسان فعليه صدقة.

وقوله: "كل يوم تطلع فيه الشمس" يعني كل يوم يكون على كل عظم أو مفصل من الإنسان صدقة. أي يجب أن يتصدق ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم؛ لأن قوله: "عليه صدقة" و"على" للوجوب، وهذا من باب الشكر لله عز وجل على نعمة العظام والمفاصل، حيث أصبح سليما معافى فيها.

ولكن من رحمة الله تعالى بعباده أن هذه الصدقات ليست خاصة بصدقة المال، بل كل معروف صدقة، ولذا قال:

"تعدل بين اثنين صدقة" العدل بين اثنين إما بالصلح أو بالحكم يكون صدقة.

ففيه فضيلة العدل بين الناس، وهذا لا يختص بالقضاة، بل كل من يحكم من معلم بين طلابه، أو أب بين أولاده أو محكَّم بين المتخاصمين لديه أو غيرهم يدخل في ذلك.

"وتعين الرجل في دابته" أي بعيره مثلا "فيحمله عليها" إذا كان لا يستطيع أن يركب تحمله أنت وتضعه على الرحل هذا صدقة "أو يرفع له عليها متاعه صدقة" متاعه ما يتمتع به في السفر من طعام وشراب وغيرهما، تحمله على البعير وتربطه، هذا صدقة.

ففيه فضيلة إعانة المسلم لأخيه، وكلما كان محتاجا للإعانة كانت إعانته أفضل.

"والكلمة الطيبة صدقة" أيُّ كلمة طيبة فهي صدقة، سواء أكانت طيبة في حق الله كقراءة القرآن، فكل كلمة في القرآن فهي صدقة، وكذا التسبيح والتكبير والتهليل، أم في حق الناس بالكلام الطيب معهم، كل ذلك صدقة.

"وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة" وإذا كان قد تطهر في بيته وخرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة.

وجاء في الأثر: ولقد رأيتنا نقارب بين الخطا.

"وتميط الأذى عن الطريق صدقة" أي تزيل الأذى وهو ما يؤذي المارة من حجر أو زجاج أو قاذورات فأي شيء يؤذي المارين إذا أميط عن طريقهم فإنه صدقة.

وما ذكر في هذا الحديث من صدقات فهي أمثلة، وإلا فكل معروف صدقة، كما جاء في الحديث.

ويجزئ عن ذلك ركعتان من الضحى.

فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنَ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ، تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِيَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَبُضْعَةُ أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنَ الضُّحَى» رواه أبو داود 1285، وصححه الألباني.

فإذا صليت ركعتين من الضحى صار ما تعمله من الأعمال التي هي صدقة تطوعا.

ويؤخذ من هذه الرواية مشروعية المداومة على ركعتي الضحى، لأنها بدل عن هذه الصدقات، أي بدلا عن ثلاثمائة وستين صدقة.

الحديث السابع والعشرون:

عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» رواه مسلم.

وعن وابصة بن معبد قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم، قال: ((استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حديث حسن. رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل, والدرامي بإسناد حسن.

قال المؤلف في باب ضبط المشكل في آخر هذه الرسالة: (سمعان: بكسر السين وفتحها)

وذكر أن معنى حاك: تَردّد.

قال الهيتمي في الفتح المبين ص115: (وذكر في السابع والعشرين حديثين؛ لاجتماعهما على معنى واحد).

قوله (البر) البر كلمة تدل على كثرة الخير.

(حسن الخلق) أي حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع عباد الله.

فأما حسن الخلق مع الله فيكون في أحكامه الشرعية والقدرية:

أما في أحكامه الشرعية فحسن الخلق فيها أن تُتلقى بالقبول والانشراح، وألا يكون في النفس منها حرج، فيتلقى المؤمن أوامر الله ونواهيه بصدر منشرح، فيمتثل أمره، ويجتنب نهيه.

وأما في أحكامه القدرية فحسن الخلق فيها أن تتلقى بالتسليم لقضاء الله وقدره، فيتلقى ما يصيبه من البلاء بالصبر والرضى.

أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه: بذل الندى وكف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه.

فصار هذا الحديث من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما تضمنه من المعاني الكثيرة، بعبارة وجيزة.

وما تقدم هو البر المطلق، وهناك بر مقيد كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان إليهما بكل وجوه الإحسان.

(والإثم) هو ضد البر لأن الله تعالى قال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

(الإثم ما حاك في نفسك) أي تردّد في نفسك، وصرت منه في قلق.

(وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه مما يذم عند الناس، ويعاب به فاعله.

فذكر صلى الله عليه وسلم للإثم علامتين:

الأولى: أن يكون في النفس تردد منه.

الثانية: أن يكره أن يطلع الناس عليه.

وهذا إنما يكون في حق من صلح قلبه، واستقام على طاعة الله تعالى، فهذا الذي يكون في نفسه من الإثم تردد، ويكره أن يطلع عليه الناس.

أما من قسى قلبه، وتجرأ على محارم الله عز وجل، فليس داخلا في هذا الحديث، لأنه قد يواقع الإثم، ولا يجد في نفسه تردداً منه، لفساد قلبه، بل ربما جاهر بالمعاصي، فلا يكره أن يطلع عليها الناس.

فقوله: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) خاص بمن كان قلبه طاهرا نقيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا الحديث النواس بن سمعان رضي الله عنه وأمثاله من أصحاب القلوب السليمة.

فصاحب القلب السليم إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قِبَل الشرع يجد في نفسه ترددا منه، ويكره أن يطلع الناس عليه.

وموقف المؤمن إذا حاك في نفسه شيء هل هو إثم أو ليس بإثم أن يتركه حتى يتبين الأمر له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وقال صلى الله عليه وسلم: (من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه).

وفي الحديث أن المؤمن يكره أن يطلع الناس على معاصيه، لقوله: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أما الفاجر فلا يكره أن يطلع الناس على معاصيه، بل منهم من يجاهر بها عياذا بالله.

ثم ذكر المؤلف حديث وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه، ولفظه بتمامه عند أحمد 18006 قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ . . . فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَمْ تَسْأَلُنِي؟ " قُلْتُ: لَا، بَلْ أَخْبِرْنِي، فَقَالَ: " جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ " فَقَلت: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: " يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، " الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ "

وحسنه المؤلف.

وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد بإسناد حسن.

وقال الألباني في صحيح الترغيب 2/323: حسن لغيره.

وقال ابن رجب: (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبَعْضُ طُرُقِهِ جَيِّدَةٌ).

(جئت تسأل عن البر والإثم. قال: نعم. قال: استفت قلبك) الاستفتاء: طلب الإفتاء، والافتاء: الإخبار عن الحكم الشرعي. فيكون المعنى اسأل قلبه، فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم على قلبه.

(البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس) أي البر ما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به واطمأنت إليه النفس، ولا يحدث فيها تردد منه.

لكن هذا كما تقدم في حق من كان قلبه سليما نقيا، واستقام في دينه فهذا الذي يطمئن قلبه ونفسه للبر وعمل الخير؛ أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه ولهذا تضيق نفسه بعمل البر، ولا تطمئن نفسه إليه.

(والإثم ما حاك في النفس) أي تردد فيها (وتردد في الصدر) أي في القلب.

(وإن أفتاك الناس) أي فلا ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك ونفسك لم تطمئن لهذا الأمر (وأفتوك) هذا توكيد، يعني حتى وإن أفتاك الناس ثم أفتوك.

ففيه أن قلب المؤمن إذا لم يطمئن إلى شيء ولم تنشرح له نفسه فإنه علامة على أنه إثم فيتوقف فيه، ولا يلتفت إلى ما يفتي به الناس ويشتهر عندهم على خلاف ما في قلبه.

الحديث الثامن والعشرون:

عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» رواه أبو داود , والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح.

قوله: "وعظنا" الوعظ: التذكير بما يُلين القلب سواء كانت الموعظة ترغيبا أو ترهيبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة أحيانا.

وقوله: "وجلت منها القلوب" أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).

" وذرفت منها العيون" أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء.

" فقلنا يا رسول الله: كأنها" أي هذه الموعظة "موعظة مودع"

وقد جرت العادة أن موعظة المودع تكون بليغة مؤثرة، لأن المودع لن يبقى عند قومه حتى يكرر عليهم الموعظة فيأتي بموعظة مؤثرة يُذكر بها بعد ذلك.

ومن أسباب تأثير الموعظة: موضوعها، وطريقة إلقائها بانفعال من الواعظ، وحال الواعظ.

"فأوصنا" فيه طلب الوصية من العالم، عند وجود المقتضي، كما جاء في هذا الحديث، أنهم طلبوا منه الوصية بعدما وعظهم، وكما لو أراد شخص السفر فقال للعالم: أوصني. وما أشبه ذلك، ولا يشرع أنه كما لقي العالم قال أوصني؛ لأنه خلاف الظاهر من هدي الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

" قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل" هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) وتقوى الله: اتباع أمره وترك ما نهى عنه. وقد تقدم الكلام على التقوى في حديث: (اتق الله حيثما كنت).

وفيه أن الوصية بتقوى الله تعالى أهم وأول ما يوصى به العبد.

" والسمع والطاعة" أي لولاة الأمر؛ بدليل قوله: (وإن تأمر عليكم عبد)

والسمع: بأن تسمع إذا تكلم ولي الأمر.

والطاعة: أن تطيع إذا أمر.

والسمع والطاعة لولي الأمر داخل في عموم قوله: (أوصيكم بتقوى الله) فإن السمع والطاعة لولي الأمر من تقوى الله عز وجل، وإنما خُص بالذكر للعناية به وتأكيده؛ لأن المخالفة فيها كثيرة.

والأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر في هذا الحديث مقيد في غير معصية الله تعالى؛ لحديث: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) أي في تلك المعصية التي أمر بها بخصوصها، أما غيرها مما يأمر به وليس بمعصية فيجب امتثال أمره.

وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان فاسقا، يقع منه من الذنوب ما يوجب الفسق، فليس لأحد من الرعية أن يقول: لا نسمع له ولا نطيع ما دام فاسقا، ويدل لهذا ما روى مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية، ومع هذا فأمر بالسمع والطاعة له.

" وإن تأمَّر عليكم عبد" أي وإن صار الأمير عليكم عبدا مملوكا، فدل على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر حراً كان أو عبدا، ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل.

وفيه ثبوت إمارة العبد.

"فإنه من يعش منكم" أي تطول به الحياة "فسيرى اختلافا كثيرا"

وقد أدرك هذا الاختلاف جماعة من الصحابة رضي الله عنهم الذي طال بهم العمر، فأدركوا الاختلاف الذي حصل في الاعتقاد والعمل، والاختلاف الذي سببه الفتن التي وقعت.

وهذا من دلائل النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأمر فوقع كما أخبر.

ثم أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال:

"فعليكم بسنتي" أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها، فلا تبتدعوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، ولا تخرجوا عن شريعته.

" وسنة الخلفاء الراشدين" الخلفاء هم الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

وقوله: "المهديين" صفة مؤكِّدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا يمكن رشد إلا بهداية.

"عضوا عليها" أي على سنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين "بالنواجذ" وهي أقصى الأضراس.

وهذا كناية عن شدة التمسك بها، كفعل من أمسك الشيء بنواجذه وعض عليه لئلا يُنزع منه، وهذا احتراز من النهش، وهو الأخذ بأطراف الأسنان.   

وفي هذا الحديث وجوب التمسك بالسنة عند الاختلاف، وهو واجب في كل حال، إلا أنه عند وجود الاختلاف والفتن متأكد.

ومن لازم التمسك بالسنة العلم بها، فإن من لا يعلم السنة لا يمكنه التمسك بها.

ولما حثهم على التمسك بالسنة حذرهم من البدع فقال:

"وإياكم ومحدثات الأمور" المراد بالأمور هنا أمور الدين، أي احذروا المحدثات في الدين؛ لأنها المنهي عنها، أما المحدثات في أمور الدنيا فما كان منها نافعا فهو مباح، وما كان منها ضارا فهو حرام.

"فإن كل محدثة بدعة" هذا فيه أن عموم المحدثات في الدين تعد من البدع، فليس في الدين بدعة حسنة.

"وكل بدعة ضلالة" أي كل بدعة في دين الله عز وجل فهي ضلالة.

الحديث التاسع والعشرون:

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16] حتى بلغ: يعلمون [السجدة: 16 - 17]، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

قوله: (يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار) أي أخبرني بعمل يكون سببا في دخولي الجنة ونجاتي من النار.

فالعمل ليس عوضا عن دخول الجنة، وإنما هو سبب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فالباء هنا للعوض في قوله: (بعمله) وأما في مثل قوله تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) فهي سببية.

فدخول الجنة هو برحمة الله تعالى، والعمل سبب.

(قال: لقد سألت عن عظيم) لأنه سأل عما يحصل به الفوز العظيم، (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز).

(وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه) لأن دين الإسلام دين اليسر (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ولكن هذا اليسر ليس لكل أحد، وإنما لمن منَّ الله عليه وأعانه ويسر له ذلك.

(تعبد الله) العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

(لا تشرك به شيئا) أي لا تشرك به لا شركا أصغر ولا أكبر، ولا تشرك به شيئا لا نبينا ولا ملكا ولا وليا ولا شجرا ولا حجرا ولا غير ذلك.

(وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) هذه من أركان الإسلام، وقد تقدم الكلام عليها.

(ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟) والجواب: بلى. وحذف للعلم به.

وهذا من إفادة السائل زيادة على سؤاله، فبعد أن أجابه، أفاده بقوله: ألا أدلك على أبواب الخير . . . إلخ. وهذا يكون عند وجود الحاجة إلى الزيادة في الجواب.

(الصوم جُنة) أي وقاية، إما وقاية من النار؛ لما فيه من الأجر العظيم، وإما وقاية من الذنوب، فإن الصوم يكف صاحبه عن فعل المعاصي.

(والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) الصدقة تعم الكثيرة والقليلة، فإنها تطفئ الخطيئة، كما أن الماء يطفئ النار، وهذا من التشبيه البليغ.

(وصلاة الرجل من جوف الليل) خص الرجل بالذكر لأن السائل رجل، لا للاحتراز عن المرأة؛ لأنها مثله في هذا الحكم.

(ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . .} حتى بلغ: (يعلمون) وهذا استشهاد من النبي صلى الله عليه بهذه الآية على فضيلة قيام الليل.

ولم يذكر في الحديث أنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد قال الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم).

والجواب: أن هذه الآية لا يراد بها التلاوة، وإنما يراد بها الاستدلال، وأما قوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن . . .) يعني للتلاوة.

(ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام) أي رأس الأمر الذي من أجله خلق، ورأس أمر الدنيا والآخرة هو الإسلامُ.

(وعموده الصلاة) فالصلاة كالعمود للخيمة، وإذا سقط العمود سقطت الخيمة، فكذلك الصلاة إذا ذهبت ذهب الدين، وهذا من أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا([2]).

(وذروة سنامه الجهاد) ذروة: بضم الذال وكسرها، أي أعلاه، وذروة سنام الجمل أعلاه، والجهاد في سبيل الله تعالى أعلى أنواع الطاعات، أي التي يحصل بها علو الإسلام، وظهوره على سائر الأديان، فهو أعلاها بهذا الاعتبار، وإلا فيوجد من الطاعات ما هو أفضل منه. 

(ثم قال: ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟) مِلاك: قال المصنف: بكسر الميم، أي مقصوده.

وملاك الشيء ما يملك به، والمعنى ما تملك به كل هذا.

(قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا) أي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه نفسه، وقال: (كف عليك هذا) أي الزم الصمت، ولا تتكلم إلا بخير كما تقدم في حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)

(قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟) الجملة خبرية، لكنها استفهامية والمعنى: أإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني أن معاذا رضي الله عنه تعجب كيف يؤاخذ الإنسان بما يتكلم به.

(فقال: ثكلتك أمك) أي فقدتك، وهذه الكلمة يقولها العرب للإغراء والحث، ولا يقصدون بها المعنى الظاهر، وهو أن تفقده أمه.

(وهل يَكُب الناسَ في النار على وجوههم، أو على مناخرهم) هذا شك من الراوي، وهذا اختلاف لفظ والمعنى واحد؛ لأن المنخر في الوجه (إلا حصائدُ ألسنتهم) أي ما يحصدون بألسنتهم من الأقوال؛ لأن اللسان قد ينطق بالكفر والشرك وأنواع المعاصي.

وفيه أن أهل النار قد يكبون فيها على وجوههم عياذا بالله.

وفيه التحذير من خطر اللسان، وأنه سبب لدخول النار.

الحديث الثلاثون:

عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله عز وجل فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.

هذا الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 19725، وقال: هذا موقوف.

وقال ابن عساكر في معجمه 2/965: هذا حديث غريب ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة.

وقال ابن كثير في تفسيره 1/621: (ثَبَتَ في الحديثِ الصحيح) ثم ذكره.

وضعفه الألباني في غاية المرام ص17، وتحقيق رياض الصالحين ص621، لكن قال في تحقيق الإيمان لابن تيمية ص44: حسن بشاهده.

" فرض" أي أوجب قطعا، لأنه من الفرض وهو القطع.

" فرائض" مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغيرها.

" فلا تضيعوها" أي لا تهملوها فتضيع، بل حافظوا عليها.

"وحدَّ حدودا فلا تعتدوها" المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.

فالواجبات حدود لا تُتعدى ولا تُتجاوز، والمحرمات حدود لا تُقرب.

قال تعالى في آيات الطلاق: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها) أي شرائعه وواجباته.

ولما ذكر الله تعالى بعض المحرمات، والتي منها تحريم الأكل والشرب والجماع على الصائم قال: (تلك حدود الله فلا تقربوها) أي تلك محرماته.

"وحرم أشياء فلا تنتهكوها" أي فلا تفعلوا ما حرم عليكم.

"وسكت عن أشياء" سكت بمعنى لم يقل فيها شيئا، لا أوجبها ولا حرمها.

وقوله: "رحمة لكم غير نسيان" أي أنه عز وجل لم يتركها ناسيا (وما كان ربك نسيا) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيِّق عليهم.

"فلا تبحثوا عنها" أي لا تسألوا عنها، بل دعوها.

وفي الحديث وصف الله عز وجل بالسكوت، وهذا من تمام كماله عز وجل، أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم.

ويدل له حديث سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالجُبْنِ وَالفِرَاءِ، فَقَالَ: «الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» رواه الترمذي 1726، وحسنه الألباني.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا،» فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ " وَتَلَا {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إِلَى آخِرِ الْآيَة. رواه أبو داود 3800، وقال الألباني: صحيح الإسناد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 6/179: (فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت؛ لكن السكوت يكون تارة عن التكلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه . . .).

وفي الحديث أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم يحرمه فهو مباح، لكن هذا في غير العبادات، أما العبادات فالأصل فيها المنع حتى يقوم دليل المشروعية، فمن شرع للناس عبادة لا دليل عليها فقد فعل محرما، وابتدع في دين الله ما ليس منه، فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها)

أما غير العبادات فالأصل فيها الإباحة حتى يقوم دليل التحريم، كالمعاملات المالية، والأطعمة ونحوها.

وفي الحديث انتفاء النسيان عن الله عز وجل، لقوله "غير نسيان" وقد جاء ذلك في القرآن الكريم، فقال الله عز وجل: (وما كان ربك نسيا) وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى: (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) (طه: 52)

والمراد بالنسيان المنفي عن الله عز وجل هو الذهول عن شيء معلوم، فهذا لا يوصف الله تعالى به، لأنه صفة نقص.

وأما النسيان الذي بمعنى الترك فيوصف الله تعالى به، كما في قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) وقوله سبحانه: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) فأثبت جل وعلا لنفسه النسيان.

والمراد أنهم لما تركوا الله أي تركوا دينه عاقبهم بأن تركهم من توفيقه وهدايته ورحمته.

الحديث الحادي والثلاثون:

عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» حديث حسن, رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.

رواه ابن ماجه 4102، وصححه الألباني.

وقد تقدم أن الإمام أبا دواد رحمه الله تعالى جعل هذا الحديث ربع العلم.

"دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس" هذا الرجل طلب الدلالة على عمل يحصل به مقصودان عظيمان: أولهما محبة الله عز وجل، والثاني محبة الناس.

فدله النبي صلى الله عليه وسلم على عمل يحصل به مقصوده الأول، وهو محبة الله تعالى، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله" والزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة.

وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر في الآخرة.

فالزاهد يترك ما يضر في الآخرة، ويترك أيضا ما لا ينفعه في الآخرة من المباحات التي لا نفع فيها ولا ضرر، فهو أعلى مرتبة من الورِع؛ لأن الورِع قد يفعل ما لا ينفعه في الآخرة.

ولا يلزم من الزهد التقشف، وترك التنعم بنعم الله تعالى، فلا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، وما أشبه ذلك، بل يتمتع بما أنعم الله عليه، لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإذا تمتع بهذه النعم على هذا الوجه صار قربة إلى الله تعالى، فيكون نافعا له في الآخرة.

ودلَّه أيضاً على عمل يحصل به مقصوده الثاني وهو محبة الناس له، فقال:

"وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" أي ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا يتضمن ترك سؤالهم شيئا من الدنيا، لأنك إذا سألتهم أثقلت عليهم فلم يحبوك.

ويستثنى من ذلك مَن إذا سألته فإنه يسرُّ بسؤالك، كما لو سأل الوالد ولده حاجة، فالأصل في الولد البار بأبيه أن يفرح بسؤال أبيه، فهذا مستثنى من سؤال الناس، لأن هذا السؤال لا يؤثر في محبة المسؤول للسائل.

وفي هذا الحديث وأمثاله علو همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كانت أسئلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم تدل على رغبتهم فيما عند الله تعالى، كما تقدم في الحديث: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، وهنا قال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. وغيرها كثير.

وفيه إثبات صفة المحبة لله عز وجل، فهو جل وعلا يحب محبة حقيقية، تليق بجلاله وعظمته.

وفيه أنه لا حرج على الإنسان أن يعمل ما يحصل به محبة الناس له.

الحديث الثاني والثلاثون:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» حديث حسن, رواه ابن ماجه , والدارقطني , وغيرهما مسندا , ورواه مالك رحمه الله تعالى في "الموطأ" عن عمرو بن يحيى , عن أبيه , عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، فأسقط أبا سعيد، وله طرق يَقوى بعضها ببعض.

هذا الحديث حسنه النووي، وقال: وله طرق يَقوى بعضها ببعض. ونقل كلامه الحافظ ابن رجب وقال: وهو كما قال.

والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/66، وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

وصححه الألباني في الإرواء 896.

وهذا الحديث يعد قاعدة من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها.

ويدخل في أبواب كثيرة من الفقه، كالمعاملات والأنكحة والوصايا وغيرها.

وفي معناه حديث أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه الترمذي 1940، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وحسنه الألباني.

واختلفوا: هل بين اللفظين - أعني الضرر والضرار - فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد.

والمشهور أن بينهما فرقا.

 فقيل: إن الضرر هو الاسم، والضرار الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.

وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به.

وقيل: الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار: أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.

وقيل: الضرر ما كان بغير قصد، والضرار ما كان بقصد.

وأيا كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق.

فأما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله، فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعا.

ومن صور الضرر بغير حق:

الإضرار في الوصية، قال الله تعالى: {من بعد وصية يوصَى بها أو دين غير مضار} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإضرار: في الوصية من الكبائر. ثم تلا هذه الآية.

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث، فتنقص حقوق الورثة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير».

ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث، لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة، إن كانوا جميعا بالغين راشدين، أما إن كان منهم قاصر فيحرم على وليه أن يتنازل عن شيء من ماله.

ومنها: الرجعة في النكاح، قال تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} وقال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة، فإنه آثم بذلك، وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث يطلق الرجل امرأته، ثم يتركها حتى يقارب انقضاء عدتها، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبدا بغير نهاية، فيدع المرأة لا مطلقة ولا ممسكة، فأبطل الله ذلك، وحصر الطلاق في ثلاث مرات.

والقاعدة: متى ثبت الضرر وجب رفعه، ومتى ثبت الإضرار وجب رفعه مع عقوبة قاصد الإضرار.

الحديث الثالث والثلاثون:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر» حديث حسن, رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في " الصحيحين".

هذا الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 21201، وقال الألباني في الإرواء 8/266: إسناده صحيح.

 وأصله مخرج في الصحيحين دون لفظ: (البينة على المدعي).

فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» رواه البخاري 4552، ومسلم 1711، واللفظ لمسلم.

قال ابن المنذر في الإجماع ص65: (وأجمعوا على أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه).

وفي المعنى أحاديث كثيرة، ففي الصحيحين عن الأشعث بن قيس t قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه، قلت: إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترأ هذه الآية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا . .}

وهذا الحديث قاعدة عظيمة في القضاء.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم) أي لو أن كل إنسان ادعى شيئا من مال أو دم أو غيره أعطي ما يدعيه بلا بينة ولا إقرار من المدعى عليه (لادعى رجال أموال قوم ودماءهم) أي لادعى من لا يخاف الله تعالى من الرجال أموال غيرهم ودماءهم، وهم لا يستحقونها.

(ولكن البينة على المدعي) فإذا أقام المدعي البينة على دعواه استحق ما يدعيه.

والبينة كل ما أبان الحق، فالشهود العدول بينة، والقرائن القوية بينة؛ لأنها تُبين الحق.

(واليمين على من أنكر) أي فإن لم يكن للمدعي بينة فله طلب يمين المدعى عليه، وإذا حلف برئ من الدعوى، لأن جانب المدعى عليه أقوى من جانب المدعي؛ لأن الأصل براءة ذمته من الدعوى، فالأصل معه، وكل من كان الأصل معه فاليمين تكون في جهته.

وقد اختلف الفقهاء في تفسير المدعي والمدعى عليه.

فمنهم من قال: المدعي: الذي إذا ترك الدعوى تُرك، والمدعى عليه إذا ترك الدعوى لم يترك.

ومنهم من قال: المدعي هو من يطلب خلاف الأصل أو الظاهر، والمدعى عليه من كان الأصل أو الظاهر معه.

الحديث الرابع والثلاثون:

عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم. 

هذا الحديث أخرجه مسلم (49) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».

(من رأى منكم منكرا) يعم من رأى بعينه أو سمع بأذنه أو بلغه خبر مؤكد بوقوع المنكر فإنه ينكره.

(فليغيره بيده) أي بأن يزيل هذا المنكر.

والمنكر: ما نهى الله عز وجل عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا يجوز إنكار المنكر حتى يعلم المنكِر، أن ما يُنكره هو منكر في الشرع، وأن يعلم أنه منكر في حق الفاعل.

أما إذا لم يكن منكرا في الشرع، فلا وجه لإنكاره، كما أنه قد يكون منكرا في الشرع، لكنه ليس بمنكر في حق الفاعل بخصوصه.

مثال ذلك: الأكل والشرب في نهار رمضان، الأصل أنه منكر، لكن قد لا يكون منكرا في حق رجل بعينه: كأن يكون مريضا يحل له الفطر، أو يكون مسافرا يحل له الفطر.

وإن كان لا ينبغي لمن له عذر بالفطر أن يفعل ذلك أمام الناس، لئلا يظن به السوء.

والمنكر الذي يجب إنكاره ما اتفق العلماء على أنه منكر، أو اتفق المنكِر والمنكَر عليه أنه منكر، أو وُجد فيه خلاف ضعيف، يعني أن القول بأنه ليس بمنكر قول ضعيف، لا وجه له، أما ما كان من مسائل الاجتهاد هل هو منكَر أو لا؟ فإنه لا ينكر على من فعله.

ومن أمثلة مسائل الاجتهاد لو صلى شخص بعد أن أكل لحم إبل ولم يتوضأ، لأنه يرى أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فلا ينكر عليه، لأن المسألة من مسائل الاجتهاد، وهذه المسائل لا إنكار فيها، ولكن لا يمنع من المباحثة، وبيان ما تراه له في هذه المسألة.

ويستثنى من إنكار المنكر ما إذا خاف من الإنكار حصولَ فتنة، فإنه يترك الإنكار؛ لأن الإنكار في مثل هذه الحال يترتب عليه منكر أعظم، والقاعدة أنه إذا اجتمعت مفسدتان ارتكبت أدناهما لدفع أعلاهما.

"فإن لم يستطع" أي إن لم يستطع أن ينكره بيده "فبلسانه" أي فلينكره بلسانه، والأصل أن يكون الإنكار بالرفق والكلام الطيب، وقد يقتضي المقام أن يكون بشيء من الغلظة، إذا كان تتحقق به مصلحة.  

ومثل الإنكار باللسان الإنكار بالكتابة، بأن يراسل من فعل المنكر كتابةً، أو يكتب مقالا أو يؤلف كتابا في إنكار منكر من المنكرات، ببيان الأدلة على تحريمه وكلام أهل العلم في ذلك، من غير ذكر من فعل المنكر.

"فإن لم يستطع فبقلبه" أي فلينكر بقلبه، أي يكرهه ويبغضه ويتمنى أن لم يكن، ويعزم أنه متى قدر على إنكاره بلسانه أو يده فعل.

ومن لازم كراهة القلب لهذا المنكر أن يفارق مكان المنكر إن قدر على ذلك، أما أن يجالس أهل المنكر، ويقول: أنا منكر بقلبي فلا يجوز؛ لأنه لو كان صادقا في إنكاره بقلبه لفارقهم.

" وذلك" أي الإنكار بالقلب "أضعف الإيمان" أي أضعف مراتب الإيمان في هذا الباب أي في تغيير المنكر.

الحديث الخامس والثلاثون:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا؛ ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام , دمه , وماله , وعرضه» رواه مسلم.

قوله: "لا تحاسدوا" أي لا يحسد بعضكم بعضا.

والحسد: أن يتمنى المرء زوال نعمة الله عز وجل التي أنعم بها على غيره.

ثم إن الحاسد على قسمين:

من يتمنى زوال النعمة عن أخيه مع حصول مثلها له، كأن يحسد أخاه على الغنى فيتمنى أن يزول عنه، وأن يكون هو غنيا.

والثاني من يتمنى زوال النعمة عن أخيه مع عدم تمني حصولها لنفسه، كالشيخ الكبير الذي يحسد الشاب على شبابه، فهو لا يتمنى حصول نعمة الشباب له لأنها في حقه متعذرة.

والحسد هو أول ذنب عصي الله به، فقد حسد إبليس آدم عليه الصلاة والسلام.

والحسد من خصال اليهود، كما قال الله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم).

والحسد يضر صاحبه لأن الحاسد لا يبقى مسرورا لأن نعم الله على العباد متتابعة، وكلما رأى الحاسد نعمة منَّ الله تعالى بها على غيره زاده ذلك غما وهما.

والحسد اعتراض على قدر الله عز وجل، لأنه يتمنى خلاف ما قدَّر، والله تعالى له الحكمة البالغة في أمره وقدره.

والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل.

قال شيخ الإسلام: (وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه وَقد قيل لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ أيحسد الْمُؤمن فَقَالَ مَا أنساك أخوة يُوسُف لَا أَبَا لَك وَلَكِن عَمه فِي صدرك فَإِنَّهُ لَا يَضرك مَا لم تعد بِهِ يدا وَلِسَانًا) – أمراض القلوب وشفاؤها ص21 –

وما تقدم هو الحسد المذموم، أما الحسد الممدوح فهو تمني مثل ما لغيره من النعمة، مع عدم تمني زوالها عنه، ويسمى الغبطة.

ومنه ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار».

ومن الناس من إذا وجد في نفسه الحسد، سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرا منه وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا) النجْش في البيع محرم، وهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما لنفع البائع لزيادة الثمن له، أو لإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، أو لهما معاً.

"ولا تباغضوا" أي لا يبغض بعضكم بعضا، وذلك بالبعد عن الأسباب التي تؤدي إلى البغضاء، وإذا وقع في قلوبكم بغض لإخوانكم فاحرصوا على إزالته من قلوبكم.

والتباغض المنهي عنه ما كان بسبب الهوى، وحظوظ الدنيا، أما البغض في الله تعالى، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلا في النهي.

"ولا تدابروا" أي لا يولي بعضكم بعضا ظهره، ويعرض عنه بوجهه، أي لا تقاطعوا، وهذا في التدابر الحسي، وكذا في التدابر المعنوي، أي لا تدابروا في الرأي وتختلفوا.

وفي " الصحيحين " عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»

وهذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاث، بدليل هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم للثلاثة الذين خُلِّفوا خمسين يوما.

"ولا يبع بعضكم على بيع بعض" مثال ذلك: لو باع رجل على آخر سلعة بعشرة، فجاء آخر إلى المشتري وقال: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيرا منها بعشرة، فهذا بيع على بيع أخيه، وهو حرام.

"وكونوا عباد الله إخوانا" أي صيروا مثل الإخوان، ومعلوم أن الإخوان يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.

وهذه الجملة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كالتعليل لما تقدم، وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، وبيع بعضهم على بعض، كانوا إخوانا.

ثم قال: "المسلم أخو المسلم" أي مثل أخيه في الولاء والمحبة والنصح وغير ذلك.

"لا يظلمه" أي لا يعتدي على أخيه فيأخذ منه ما ليس له، أو يمنع ما يجب عليه بذله له، سواء كان ذلك في الأمور المالية، أو في الدماء، أو في الأعراض، في أي شيء.

وليس تحريم الظلم خاصا بالمسلم، بل هو محرم في حق المسلم والكافر.

" ولا يخذله" أي لا يترك نصره في موضع تنتهك فيه حرمته.

(ولا يكذبه) أي لا يخبره بالكذب.

" ولا يحقره" أي لا يستصغره، ويرى أنه أعلى منه.

ثم قال: "التقوى هاهنا" يعني تقوى الله عز وجل في القلب، وليست في اللسان ولا في الجوارح، وإنما اللسان والجوارح تابعان للقلب.

"ويشير إلى صدره ثلاث مرات" تأكيدا لكون القلب هو المدبر للأعضاء.

ثم قال: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" أي يكفي المرء من الإثم أن يحقر أخاه المسلم، وفيه تعظيم إثم احتقار المسلم لأخيه المسلم.

"كل المسلم على المسلم حرام" ثم فسر هذه الكلية بقوله: "دمه وماله وعرضه" يعني أنه لا يجوز انتهاك دم الإنسان ولا ماله ولا عرضه، كله حرام.

ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».

والحمد لله رب العالمين.

 

([1]) تنبيه: هذا الشرح المتواضع مستفاد من عدة شروح لأهل العلم، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([2]) فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الأربعين ص304: (ويرى بعض أهل العلم من السابقين واللاحقين أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها بلا عذر كفر. ولكن الذي أرى: أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة نهائيا).

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله