الدليل

2025-11-19 13:48:30

شرح مقدمة التفسير لابن قاسم المجلس الأول

 

شرح مقدمة التفسير لابن قاسم

برنامج دليل 1446هـ

المجلس الأول([1])

إن الحمد لله ... أما بعد:

مقدمة في التعريف بالمؤلف والمتن:

أولاً: التعريف بالمؤلف:

هو الشيخ العلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، نسبة إلى عاصم، وهو جد القبيلة المشهورة بنجد من قبائل قحطان، ولد رحمه الله سنة 1312 هـ، في بلدة البير القرية المعروفة شمال الرياض، وابتدأ في صغره بحفظ القرآن الكريم حتى أتقنه عن ظهر قلب، ثم قرأ في مبادئ العلوم على مشايخ بلده ومَن بقُرْبه، ثم انتقل إلى الرياض وكانت إذ ذاك حافلة بالعلماء الكبار، فواصل دراسته وجدَّ واجتهد في التعلم بعد أن ذاق حلاوة العلم، وأدرك من نفسه إقبالاً كلياً على القراءة والحفظ والاستفادة حتى فاق أقرانه.

ومن أشهر مشايخه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف والشيخ حمد بن فارس والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ عبد الله العنقري والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ محمد بن مانع وغيرهم من علماء ذلك الزمان.

ولم يزل مُكبَّا على الدراسة والحفظ والاستفادة حتى حصَل على جانب كبير في أكثر العلوم، وتضلَّع في علم التوحيد والفقه والحديث ونحوها من العلوم الدينية، وكان رحمه الله حسن الخط سريع الكتابة، فنسخ بيده شيئاً كثيراً، ورزقه الله الصبر والقوة بحيث لا يعتريه ملل ولا سآمة، فأكبَّ على المطالعة والبحث والاستفادة والتنقيب عن أفراد المسائل وأماكن الأدلة، حتى نال ما تمناه، ثم حرص على العمل والتطبيق، فانطبعت في أخلاقه آثار تلك الفوائد، فلا يخلو حديثه من فائدة دينية، أو مسألة فقهية، أو استشهاد بآية أو حديث.

وكان رحمه الله غيورًا على حرمات الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ثم هو مع ذلك حسن السمت دمث الأخلاق دائم البشر، كريم النفس متعززًا عن رذائل الأمور وسفاسف الأخلاق، وكان متواضعًا لربه لا يستنكف ولا يرفع نفسه عن إجابة الصغير والكبير ومحادثة الغني والفقير، مع ما رزقه الله من الهيبة والاحترام في قلوب الخاص والعام.

وقد نفع الله بعلومه وبارك في أوقاته، فصنف عدة كتب في مختلف الفنون فمنها في الحديث:

1- (أصول الأحكام) مختصر قيِّم انتقى فيه الأدلة الواضحة الصحيحة بإيجاز.

2- (الأحكام شرح أصول الأحكام) وقد طبع في أربعة مجلدات.

ومنها في الفقه.

3- حاشية على كتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع، وتقع في سبعة مجلدات.

4- حاشية على نظم الرحبية في علم الفرائض، في مجلد لطيف.

5- نبذة مفيدة في تحريم حلق اللحى، وقد طبعت مراراً.

6- وظائف رمضان، نبذة لخصها من لطائف المعارف لابن رجب.

ومنها في علوم القرآن:

7- مقدمة التفسير، وهي هذه المقدمة.

8- حاشية مقدمة التفسير. في مجلد لطيف.

ومنها في النحو:

9- حاشية على متن الآجرومية، طبعت في مجلد لطيف.

ومنها في التوحيد:

10- السيف المسلول في الرد على عابد الرسول ﷺ.

11- حاشية ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

12- حاشية كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهي من أنفس ما كتب على هذا الكتاب.

13- الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ترتيب رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام من زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى زمن المؤلف وقد بذل جهدا في استقصائها وتتبعها في مختلف البلاد وصبر على ما لقي من صعوبات ونفقات وأخطار وسهر وتعب في البحث والنسخ والمقابلة والتصحيح ثم قسمها فنونا ورتبها على الكتب والأبواب فجاءت مجموعة ضخمة في عدة مجلدات، وختمها بتراجم لأصحاب تلك الرسائل والأجوبة رحمهم الله تعالى.

15- ترتيب مجموعة رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، عثر على بعضها أثناء جمعه لرسائل علماء نجد فواصل البحث في المكاتب القريبة والبعيدة بمساعدة ابنه محمد وقد تكبَّد في سبيل جمعها من الشدة والمشقة ما يُرجى له به جزيل البر والأجر عند الله، وقد رتبها وقسمها فنونا وأبوابا، وأضاف إليها المطبوع من الرسائل الصغيرة والفتاوى فبلغت خمسة وثلاثين مجلدا، احتوت على علم جمٍّ لا يُقْدَر قدْرُه، ثم عمل عليها ابنه محمد رحمه الله فهرسا مفصلا، كان كالتقريب لها، ويقع في مجلدين ضخمين.

وأما أعماله الإدارية فقد تنقل مدة تزيد على اثنين وثلاثين عاما بين التدريس في المساجد وإدارة المكاتب والإشراف على طبع الكتب ونحو ذلك وقد أدى جهدا كبيرا وأنتج ثمرة يانعة لا يزال أثرها باقيا بين المسلمين.

وقبل وفاته بثمان سنين طلب الإحالة للتقاعد، فتفرغ للكتابة وإتمام ما ابتدأ فيه من المؤلفات، وأصيب بألم في الرأس بسبب حادث سيارة لازمه عدة سنوات، حتى وافاه الأجل المحتوم، وذلك لثمان خلت من شعبان عام 1392 هـ، فرحمه الله وأكرم مثواه([2]).

ثانياً: التعريف بالمتن:

هذا المتن هو مقدمة مختصرة في التفسير، مفيدة لمن أراد الدخول في هذا العلم، حوت جملة من علوم القرآن الكريم، ووضع المؤلف عليها حاشية نافعة، ذكر في مقدمتها أنها موافقة لما كان عليه السلف الصالح.

شرحها جماعة من أهل العلم المعاصرين بشروح مطبوعة ومسموعة، ومن شروحها المطبوعة شرح معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري حفظه الله تعالى.

وقد ألف العلماء عدة مؤلفات تُعنى بعلوم القرآن الكريم، منها:

 فنون الأفنان في عيون علوم القرآن لابن الجوزي الحنبلي المتوفى 597ه، والبرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي الشافعي المتوفى 794ه، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي الشافعي المتوفى 911ه، ومناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد الزرقاني المتوفى 1367ه.

وفي كثير من كتب التفسير يقدِّم المفسرون بمقدمات تعنى بهذا العلم، كما فعل ابن جزي المالكي في تفسيره: التسهيل لعلوم التنزيل، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم، وغيرهم.

ومن المؤلفات المختصرة: مقدمة في أصول التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأصول في التفسير للشيخ ابن عثيمين، رحمهم الله تعالى جميعا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ)

ابتدأ المؤلف بالبسملة ثم بالحمدلة اقتداء بكتاب الله عز وجل، فإنه مُبتَدأٌ بالبسملة ثم الحمدلة.

واقتداء بالنبي ﷺ فإنه كان يبتدئ كتبه بالبسملة كما في كتابه لهرقل في الصحيحين.

والبسملة آية من كتاب الله تعالى، يُبتدأ بها في أول كل سورة من القرآن الكريم، إلا براءة، وهي بعض آية من سورة النمل.

بسم: جار ومجرور متعلق بمحذوف، يُقدَّر بفعل متأخر مناسب للمقام، فيكون التقدير هنا: بسم الله أكتب، أو بسم الله أُؤلف.

 وإنما قُدِّر الفعل متأخراً تيمُّناً بالبداءة باسم الله تعالى، ولإفادة الحصر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، فقولك: باسم الله أكتب. يتعين أنك تكتب باسم الله تعالى لا باسم غيره.

والاسم مشتق من السُّمُوّ وهو العُلُو، أو من السِّمَة وهي العلامة.

بسم الله: يعم كل اسم من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم مفرد مضاف للفظ الجلالة، والمفرد المضاف يفيد العموم، فمعنى (بسم الله): أي بكل اسم من أسماء الله الحسنى.

والباء في بسم الله للاستعانة، أي أكتب مستعيناً باسم الله، وقيل الباء للمصاحبة، أي أن اسم الله يصحبه من أول الفعل إلى آخره.

الله: لفظ الجلالة علَم على ربنا جل وعلا، لا يُسمَّى به غيره. وهو أعرف المعارف.

 ومعناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.

والرحمن: اسم من أسماء الله تعالى لا يطلق على غيره، يدل على صفة الرحمة، وهذه الصفة كغيرها من صفات الله تعالى معلومة المعنى لنا، لكن الكيفية غير معلومة.

الرحيم: اسم لله تعالى، يدل على صفة الرحمة.

  والفرق بين الرحيم والرحمن:

  • أن الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يدل على الرحمة الخاصة، لأن الله تعالى يرحم جميع العباد برحمته العامة، وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين كما قال تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما).
  • وقيل: الرحمن يدل على الصفة، والرحيم يدل على الفعل، فالرحمن يعني ذو الرحمة الواسعة، والرحيم بمعنى الذي يرحم عبادة، ويوصل الرحمة إليهم. 

(الحمدُ للهِ) الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما.

(الذي أنزَلَ الكتابَ: تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ) أي الذي أنزل القرآن الكريم، وهذا القرآن فيه البيان الواضح لكل ما يحتاجه الناس، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ

ومعنى ﴿تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ أي في هذا القرآن بيان كل علم نافع، والخبر عن السابقين، والعلم بما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم، ﴿وَهُدٗى أي: للقلوب، ﴿وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ وقال الأوزاعي: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ أي: بالسنة([3]).

(وهُدى للمتقين) أي أن القرآن الكريم هداية لأهل التقوى، الذين فعلوا ما أمر الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه، فجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية.

وفيه أن من كان من المتقين فهو حقيق بهداية الله له، كما قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا.

(وأَشهدُ أن لا إِلهَ إلاَّ الله الملك الحَقّ الْمُبين)

الشهادة تقتضي الإخبار والإقرار، فمعنى أشهد: أي أقر بقلبي ناطقا بلساني أنه لا معبود بحق إلا الله.

الملِك: اسم لله عز وجل، فله سبحانه الملك الحقيقي، كما قال تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ومعنى الملِك: أي النافذ الأمر في ملكه.

الحق: اسم لله عز وجل، قال الله تعالى: ﴿فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّ ومعنى الحق أي الثابت الذي لا شك فيه، فوجود الله حق، وربوبيته حق، وألوهيته حق، وأسماؤه وصفاته حق، وكل ما أخبر به حق.

المبين: اسم لله عز وجل، ثابت بقوله تعالى: ﴿وَيَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِينُ ومعناه: الذي أبان وأوضح لعباده ما يحتاجونه من الأعمال الموجبة لثوابه، والموجبة لعقابه، فأبان لهم طريق الخير والشر، وقيل: المبين: الذي لا يخفى، فهو جل وعلا ليس بخاف على عباده، وقيل: هو البين أمره في وحدانيته وأنه لا شريك له.

(وأَشهدُ أنَّ محمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ)

وُصف ﷺ بهاتين الصفتين العبودية والرسالة دفعاً للإفراط والتفريط في حقه، فهو عبدٌ لا يُعبد، ورسولٌ لا يُكذَّب.

وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي: أن يُطاع فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

وأتى بالتشهد عملاً بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ h عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» رواه أبو داود 4841، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 169.

والمعنى أن كل خطبة لا يؤتى فيها بالشهادتين فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة فيها.

(الصَّادقُ الأَمينُ) الصادق فيما يبلغه عن الله تعالى، وأيده الله تعالى بالآيات الدالة على صدقة.

والأمين: أي على وحيه، وكان النبي ﷺ يسمى قبل البعثة الأمين.

(صَلَّى اللهُ عَليهِ) صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما في أثر أبي العالية رحمه الله تعالى قال: (صلاة الله عز وجل عليه ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه الدعاء)([4])

والصلاة من الآدمي بمعنى الدعاء للنبي ﷺ أن يثني الله عليه في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين.

(وَعَلى آلِهِ) الآل: إذا ذُكر وحده فالمراد جميع أتباعه على دينه، ويدخل فيهم من على دِينه من قرابته.

وأما إذا ذُكر مع الآل الصحب، فالمراد بالآل المؤمنون من قرابته.

(وأَصحابِهِ) جمع صاحب، وهو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا به ومات على ذلك.

(والتَّابعينَ) لهم بإحسان إلى يوم الدين.

(وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً) وسلم: أي سلمه الله من كل نقص وعيب، ومن الآدمي: الدعاء بأن يسلمه الله من كل نقص وعيب.

فائدة: قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص457: (وأما سائر الأنبياء والمرسلين، فيصلى عليهم ويسلم كما قال تعالى: ﴿وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ 78 سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ 79 وكذلك قال في حق إبراهيم وموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام فالذي تركه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم، وحكى غير واحد الإجماع على أن الصلاة على جميع النبيين مشروعة منهم النووي).

(أَمَّا بَعدُ:) قيل هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره. وقيل: هي كلمة يؤتى بها للدخول في الموضوع المراد.

والمعروف في الأحاديث، لفظ: أما بعد، قال البخاري في الصحيح: باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد. ثم ساق عدة أحاديث فيها أن النبي ﷺ قال في خطبه أما بعد.

ومعناها: مهما يكن من شيء بعد.   

وقال ابن حجر في الفتح 2/515: لا تختص بالخطب بل تقال أيضا في صدور الرسائل والكتب. ثم قال: وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ وبعد.

(فَهذهِ مُقدِّمَةٌ في التَّفسيرِ) المقدمة من كل شيء أوله، وفي الكتب ما يُعقَد في أول الكتاب، ومراده هنا أن هذه الرسالة نبذة مختصرة لمن أراد الدخول إلى علم تفسير كلام الله عز وجل.

(تُعينُ على فَهمِ القُرآنِ العَظيمِ) أي أن هذه المقدمة تساعد على فهم كلام الله عز وجل.

والقرآن: اسم علَم على كتاب الله عز وجل.

وهو في اللغة مصدر بمعنى تلا، أو بمعنى جمع، تقول: قرأ قرْءاً وقرآنا، كما تقول غفر غفرا وغفرانا، فعلى المعنى الأول (تلا) يكون مصدرا بمعنى اسم المفعول، أي بمعنى متلو.

وعلى الثاني (جمع) يكون مصدرا بمعنى اسم الفاعل، أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام، ويمكن أن يكون بمعنى اسم المفعول أيضا، أي بمعنى مجموع لأنه جُمع في المصاحف والصدور.

وفي الاصطلاح: القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على محمد ﷺ المتعبد بتلاوته.

كلام الله تعالى: خرج به كلام غيره من الإنس والجن والملائكة.

المنزل: خرج به كلام الله تعالى الذي لم ينزله على أحد من البشر، لأن كلام الله تعالى منه ما ينزل إلى الأنبياء عليهم السلام، ومنه ما استأثر الله بعلمه، قال سبحانه: ﴿قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا.

على محمد: خرج المنزَّل على غيره من الأنبياء عليهم السلام، كالتوراة المنزلة على موسى عليه السلام، والإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام، والزبور المنزل على داود عليه السلام.

المتعبد بتلاوته: خرجت به الأحاديث القدسية، والمراد بالتعبد بتلاوته: أي الذي يُقرأ في الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا به، والذي فضل تلاوته لا يعادله ثواب غيره([5]).

مسألة: الفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي:

الحديث القدسي: هو ما يضيفه النبي ﷺ إلى الله تعالى.

كأن يقول الراوي: قال النبي ﷺ قال الله تعالى. أو يقول: قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى.

وهناك عدة فروق بينهما، منها([6]):

  1. أن القرآن الكريم تحدَّى الله الناس أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فعجزوا، أما الأحاديث القدسية فلم يقع بها التحدي.
  2. أن القرآن الكريم منقول بطريق التواتر، أما الأحاديث القدسية فمنها ما هو متواتر، ومنها ما هو آحاد.
  3. أن القرآن الكريم تحرم روايته بالمعنى، أما الحديث القدسي فلا تحرم روايته بالمعنى.

(الجديرِ بأنْ تُصرَفَ لَهُ الهِمَمُ، ففيهِ الهُدى والنُّورُ) أي القرآن الكريم هو الجدير أي الخليق أن تصرف له الهمم، ويُستمسَك به، ويُعتصَم به، ففيه الهدى والنور، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ وفيه النور، كما قال تعالى: ﴿وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَا.

(ومَن أَخَذَ بِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ) أي من عَمِل بالقرآن الكريم وتمسَّك به هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم، كما قال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ.

وفي حديث زيد بن أرقم h أنه سمع النبي ﷺ يقول: «أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ» رواه مسلم 2408.

وفي الأثر عن علي h: (إن كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)([7]).

وقد حمى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التغيير والزيادة والنقص والتبديل، حيث تكفل عز وجل بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ [الحجر: 9] ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحد من أعداء الإسلام أن يغير فيه، أو يزيد، أو ينقص، أو يبدل، إلا هتك الله ستره، وفضح أمره([8]).

مسألة: الفائدة من دراسة علوم القرآن، أو أصول التفسير:

هناك عدة فوائد، منها([9]):

  1. أن دراسة هذا العلم مما يُعين على فهم القرآن الكريم وتفسيره، ولا يمكن لأحد أن يفسر القرآن الكريم إلا بعد أن يدرس هذا العلم.
  2. الاطلاع على ما قام به السلف الصالح وعلماء هذه الأمة من جهود كبيرة في العناية بهذا الكتاب العظيم وبعلومه.
  3. أن من أراد الدفاع عن القرآن الكريم ودفع الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام حوله لا يتمكن من ذلك إلا بدراسة هذا العلم.

(تَنزيلُ القُرآنِ)

بدأ المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام على مسألة إنزال القرآن، وهي مسألة عقدية، قرر فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.

(أَجمَعوا على أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ حَقيقَةً، مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ)

أي أجمع أهل العلم الذين يُعتدُّ بإجماعهم، وهم أهل السنة والجماعة من لدن الصحابة y والتابعين رحمهم الله تعالى ومن تبعهم بإحسان على أن القرآن كلام الله حقيقة، مُنزَّل من الله عز وجل، غير مخلوق.

ومعنى حقيقة أي لا مجازا، فالقرآن الكريم كلام الله تعالى حقيقة بلفظه ومعناه.

وقوله: (غير مخلوق) ردٌّ على أهل البدع الذين قالوا إن كلام الله تعالى مخلوق، كما ستأتي أقوالهم في هذه المقدمة إن شاء الله تعالى.

والقرآن كلام الله تعالى، وكلامه صفة من صفاته سبحانه، والصفات لها حكم الذات، فإذا كانت الذات غير مخلوقة، فالصفات كذلك غير مخلوقة؛ لأنها تابعة للذات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى 6/543: (هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي أنزله على نبيه كما ثبت ذلك بالنص وإجماع المسلمين).

ومن الأدلة على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وأنه منزَّل:

قوله تعالى: ﴿وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ.

وقال تعالى: ﴿أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِي حَكَمٗا وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٞ مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ.

وقال تعالى: ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ.

وقال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ.

وقال عز وجل: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ.

وقال سبحانه: ﴿تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ.

قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/344 بعد أن سرد أسماء جماعات من السلف: (قالوا كلهم: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر. فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفسا أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام. وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول المحدِّثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة، لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار، ونقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه. ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق جعد بن درهم في سني نيف وعشرين، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك).

(سَمِعَهُ جِبريلٌ مِن اللهِ، وَسَمِعَهُ مُحمَّدٌ مِن جِبريلَ، وسَمِعَهُ الصَّحابَةُ مِن مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم)

فجبريل عليه السلام سمع القرآن من الله عز وجل، ونزل به على قلب محمد ﷺ، قال الله تعالى: ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ وروح القدس هو جبريل عليه السلام، وهو الروح الأمين، كما قال الله عز وجل: ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ فهو أمين على وحي الله لا يزيد فيه ولا ينقص.

وسمع محمد ﷺ القرآن من جبريل عليه السلام لما نزل به، قال الله تعالى: ﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وقال تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ 16 إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ 17 فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ أي قرأه رسولنا ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ أي فاستمع له وأنصت ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ أي نبينه بلسانك.

وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 19 ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ 20 مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ 21 فالمراد بالرسول هنا جبريل عليه السلام، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 40 وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ 41 ... ﴿تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ فالمراد بالرسول هنا محمد ﷺ.

قال ابن كثير في تفسير سورة الحاقة: (﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ 38 وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ 39 إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 40 يعني: محمداً، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسِل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 19 ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ 20 مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ 21 وهذا جبريل، عليه السلام).

وبعد نزول القرآن على النبي ﷺ يقرؤه على الصحابة y، فيسمعونه منه، ويكتبه كتبة الوحي، وبلَّغه الصحابة y لمن بعدهم، وقد قال النبي ﷺ: «بلغوا عني ولو آية» وقال ﷺ: «ليبلغ الشاهد الغائب».

(وَهُوَ الذي نَتلُوهُ بِأَلسِنَتِنا)

أي والقرآن الكريم هو الذي نتلوه بألسنتنا، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله حقيقة.

(وفِيما بَينَ الدَّفتَينِ)

أي القرآن الكريم هو ما بين ضمامتي المصحف، أي ما بين الجلدتين اللَّتين تكونان في أوله وآخره لحفظه، ولا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة.

قال شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: «مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ» رواه البخاري 5019.

(وما في صدورنا)

أي والقرآن الكريم هو ما في صدورنا، أي ما حفظناه عن ظهر قلب، ولا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة.

(مَسموعاً ومَكتوباً ومَحفوظاً)

أي والقرآن الكريم كلام الله حقيقة، هو الذي يُسمَع حال تلاوتنا له، كما قال تعالى: ﴿وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ، وهو المكتوب في المصحف، والمحفوظ في الصدور.

وفي هذا ردٌّ على الأشاعرة الذين يقولون: إن المسموع والمكتوب والمحفوظ ليس هو كلام الله حقيقة، بل هو عبارة عن كلام الله تعالى، وردٌّ على الكُلَّابية الذين يقولون: هو حكاية عن كلام الله تعالى.

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى 12/71: (وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقا. وأيضا فإذا قرأ الناس كلام الله فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام كلام من قاله مبتدئا أمرا يأمر به أو خبرا يخبره ليس هو كلام المبلغ له عن غيره؛ إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين... ومما ينبغي أن يعرف أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به فإذا أنشد المنشد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه مع أن أصوات المنشدين له تختلف وتلك الأصوات ليست صوت لبيد: وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه كقوله: («إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه ويقال لمن رواه: أدى الحديث بلفظه وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه وإذا قرأه القراء فإنما يقرءونه بأصواتهم).

(وكُلُّ حَرفٍ مِنهُ كالباءِ والتَّاءِ كلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ)

أي وكل حرف من القرآن الذي هو لفظه قبل أن ينزل به جبريل عليه السلام وبعدما نزل به كالباء والتاء إلى آخر حروف الهجاء الثمانية والعشرين هي من كلام الله غير مخلوق.

(مِنهُ بَدَأَ وإليهِ يَعودُ)

أي هو من الله تعالى الذي تكلم به، ومنه نزل، لم يُبتدأ من غيره، كما قال تعالى: ﴿تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ، وإليه يعود فلا يبقى في المصاحف منه حرف، ولا في الصدور منه آية، وذلك في آخر الزمان.

فعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ h قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا» فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: «يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ» ثَلَاثًا. رواه ابن ماجه 4049، قال الحافظ في الفتح 13/16: أخرجه ابن ماجه بسند قوي. وصححه الألباني في الصحيحة (87).

ومعنى (يدرس الإسلام) من دَرَسَ الثوب درسا إذا صار عتيقا. (وشى الثوب) نقشه. (وليسرى على كتاب الله) أي يذهب بالليل.

وقال الحافظ في الفتح 13/16: (وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "وَلَيُنْزَعَنَّ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلًا فَيَذْهَبُ مِنْ أَجْوَافِ الرِّجَالِ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ شَيْءٌ" وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ).

(وهُو كلامُ اللهِ حُروفُهُ ومَعانيهِ، ليسَ الحروفُ دونَ الْمَعاني، وَلا الْمَعانِي دُونَ الحروفِ).

أي القرآن كلام الله تعالى، تكلم الله بحروفه ومعانيه، ليس شيئا منه كلاما لغيره لا لجبريل ولا لمحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا لغيرهما، بل كفَّر الله من جعله قول البشر، كما قال تعالى: ﴿فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ 24 إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ 25 سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ 26.

فالقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، تكلم الله به، والمبلِّغ عن الله كلام الله بصوت نفسه، كما أن كلام الرسول ﷺ تكلم به بصوته، والمبلغ عن الرسول ﷺ بلغ كلامه بصوت نفسه.

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ h قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» رواه أبو داود 1468، وصححه الألباني.

فجعل الكلام كلام الباري، وجعل الصوت الذي يقرؤه العبد صوت القاري، وأصوات العباد ليست هي الصوت الذي تكلم الله به، ولا مثله، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، فليس صوته مثل أصواتهم، ولا يلزم إذا كان صوت المبلِّغ مخلوقا، أن يكون كلام الله مخلوقا.

فكلام الله تعالى حروفه ومعانيه، فليس كلام الله تعالى الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.

ويدل لذلك: قوله ﷺ: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» ومع ذلك فإن ما يرد على قلب المصلي من المعاني لا يبطل الصلاة، فدل على أن المعنى لا يسمى كلاما.

وقال النبي ﷺ: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثتْ به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» فدل على أن الكلام مخالف لما في النفس من المعاني.

(وبَدَّعوا مَن قالَ([10]): إنَّه فاضَ على نَفسِ النَّبي ﷺ مِنَ العَقلِ الفَعَّالِ([11])، أو غَيرِهِ، كالفَلاسِفَةِ والصَّابِئِيَّةِ([12]))

أي وبدع السلف من قال: إن القرآن فاض على نفس النبي ﷺ من العقل الفعال، أو غير العقل الفعال، فيقولون: إن كلام الله تعالى هو المعاني التي تفيض على النفس الزكية، والنفس الزكية هي نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت، بل الكلام معنى لا يسمع وإنما هو معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته النفس، وهذا مذهب الفلاسفة والصابئة.

(أَوْ أنَّهُ مَخلوقٌ في جِسمٍ مِنَ الأَجسامِ، كالْمُعتَزِلَةِ والجَهمِيَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن كلام الله تعالى مخلوق، خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام المخلوقة، فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله عز وجل، كما هو قول الجهمية، الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة وغيرهم، والسلف يسمون كل من نفى الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة جهمياً.

(أَوْ في جِبريلَ أو مُحمّدٍ أو جِسمٍ آخرَ غيرِهِما، كالكُلاَّبِيَّةِ والأَشعَرِيَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن الله تعالى خلق القرآن في نفس جبريل أو نفس محمد عليهما الصلاة والسلام، كالكلابية والأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله تعالى صفة ذاتية ملازمة لذات الله، لا تحدث بقدرة الله ولا مشيئته، وهي صفة قديمة في الأزل، والله عز وجل لا يتكلم بعد ذلك، وقالوا إن الكلام معنى نفسي ليس بصوت ولا حرف، وهذا الذي بين أيدينا مخلوق، هو عبارة عن تلك المعاني أو حكاية عنها.

والكلابية هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، المتوفى 240ه.

والأشعرية أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً ثم ترك الاعتزال وسار على طريق ابن كلاب، ثم رجع عن هذا الطريق في آخر حياته وانتسب إلى أهل السنة، وإلى طريق الإمام أحمد.

(أَو أنَّهُ حُروفٌ وأَصواتٌ قَديمةٌ أَزَلِيَّةٌ، كَالكَلاميَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، أي لازمة لذات الرب جل وعلا أزلا وأبدا، لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بها شيئا بعد شيء.

وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة.

(أَو أنَّهُ حادِثٌ قائِمٌ بِذاتِ اللهِ مُمتَنِعٌ في الأَزَلِ، كالهاشِميَّةِ والكَرَّامِيَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن القرآن حادث قائم بذات الله عز وجل بعد أن لم يكن متكلما بكلام، أي أنه قادر على الكلام، وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع، يعني أن الرب جل وعلا في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته.

والهاشمية: أتباع أبي هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي، إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ)([13]).

أو نسبة إلى هِشَام بن الحَكَمِ الكُوْفِيُّ الرَّافِضِيُّ المشبِّه.

والكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني، المتوفى 255ه، اشتهر عنهم التشبيه في صفات الله تعالى، والقول بالإرجاء، وقولهم في كلام الله تعالى كما تقدم([14]).

(ومَن قالَ: لَفظِي بِالقُرآنِ مَخلوقٌ فَجَهمِيٌّ، أَو غَيرُ مَخلوقٍ فَمُبتَدِعٌ)

هذه العبارة جاءت عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، وإنما قال ذلك؛ لأن اللفظ يُراد به أمران: أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد، ولا فعل له.

والثاني: التلفظ به والأداء له وفعله.

فإطلاق الخلق على اللفظ قد يُوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، وهو خطأ، فمُنع من الإطلاقين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 12/74: (ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون: من قال اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع وفي بعض الروايات عنه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ وذلك كلام الله لا كلام القارئ فمن قال إنه مخلوق فقد قال إن الله لم يتكلم بهذا القرآن وإن هذا الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول).

 والحمد لله رب العالمين، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

 

([1]) تنبيه: هذا الشرح مستفاد من بعض شروح هذه المقدمة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([2]) ينظر في ترجمته: حاشية ابن قاسم على الروض المربع 1/3.

([3]) ينظر: تفسير ابن كثير للآية.

([4]) رواه الجهضمي في فضل الصلاة ص80 وقال الألباني في تحقيقه: إسناده موقوف حسن.

([5]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص23، 24.

([6]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص 24، 25.

([7]) جاء هذا الكلام مرفوعا إلى النبي ﷺ عند الترمذي، وقال بعده: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفى حديث الحارث مقال". قال ابن كثير في فضائل القرآن: (لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث "إلّا أنه" إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد "كذبه" بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه يتعمَّد الكذب فى الحديث فلا، والله أعلم، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضى الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح) يعني في معناه.

([8]) أصول في التفسير للشيخ ابن عثيمين ص6.

([9]) ينظر: الرومي 33.

([10]) تنظر أقوال الناس في مسألة كلام الله تعالى في شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص128.

([11]) قال شيخ الإسلام في التسعينية 1/272: (لكن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن كلام الله هو ما يفيض على نفوس الأنبياء الصافية القدسية من العقل الفعال الذي يزعمون أنَّه الروح المفارق للأجسام، الذي هو العقل العاشر كفلك القمر، ويزعمون أنَّه الذي يفيض منه ما في هذا العالم من الصور والأعراض، ويزعم من يزعم من منافقيهم الذين يحاولون الجمع بين النبوة وبين قولهم بأنَّ ذلك هو جبرائيل.

      ويقولون: إن تلك المعاني التي تفيض على نفس النَّبيِّ والحروف التي تتشكل في نفسه هي كلام الله، كما يزعمون أن ما يتصور في نفسه من الصور النورانية هي ملائكة الله، فلا وجود لكلام الله عندهم خارجًا عن نفس النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الملائكة غير العقول العشرة والنفوس التسعة التي هم متنازعون فيها، هل هي جواهر أو أعراض؟ إنَّما الملائكة ما يوجد في النفوس والأبدان من القوى الصالحة، والمعارف والإرادات الصالحة ونحو ذلك. وحقيقة ذلك أن القرآن إنشاء الرسول وكلامه).

      وقال المقريزي في تجريد التوحيد المفيد ص16: (وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون: بأنه لم يصدر عنه إلاّ واحد بسيط، وإن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وإن مصدر هذا العالم عن العقل الفعّال هو ربّ كل ما تحته ومدبّره. وهذا شرّ من شرك عبّاد الأصنام والمجوس والنّصارى، وهو أخبث شرك في العالم).

([12]) والصابئة: هم أصحاب كنعان ونمرود الذين بُعث إليهم الخليل عليه الصلاة والسلام، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، وكان الصابئة إذ ذاك على الشرك، وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركاً. بل مؤمنا بالله واليوم الآخر، كما في الآيتين الكريمتين: ﴿إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ الآية ﴿إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ﴾ الآية. لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً ومشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً ومشركين. ينظر: التحفة المهدية في شرح التدمرية ص38.

([13]) تنظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 15/63.

([14]) تنظر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 11/523.

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله