شرح عمدة الأحكام
المجلس الخامس من الحديث 48- 60
برنامج دليل 1447هـ
إن الحمد لله . . أما بعد:
الحديث الثامن والأربعون
عَنْ عَلِىٍّ I أنَ النَبيَّ ﷺ قالَ يَوْمَ الخَنْدَق: «مَلأ الله قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نارا، كَمَا شَغلُونَا عن الصلاةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ».
وفي لفظ لمسلم: «شَغَلُونَا عَنِ الصلاةِ الوُسْطَى - صَلاةِ الْعصْرِ- ثم صلاها بين المغرب والعشاء».
وله عن عبد الله بن مسعود قال : حَبَس اْلمُشركُون رسول الله ﷺ عن صَلاةِ العصْرِ حتَى احْمَرَّتِ الشمس أو اصْفَرَّت فَقال رسول الله ﷺ: «شَغَلُونَا عن الصَّلاةِ الوُسْطَى - صَلاةِ العصَر- مَلأ الله أجْوَافَهُمْ وقبُورَهُمْ نَارا» أو «حَشا الله أجْوَافَهُمْ وقُبُورهُمْ نَارا».
يوم الخندق: يوم الأحزاب، الذي تحزبوا على المسلمين بالمدينة، وكانت سنة خمس من الهجرة.
الوسطى: أوسط الشيء: خياره ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا﴾ أي خياراً.
والمراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ﴾ أي صلاة العصر كما دل عليه هذا الحديث وغيره.
ملأ . . أو حشا: شك من الراوي، وحشا أبلغ؛ لأنه ملءٌ مع تراكم وكثرة.
فحديث علي I فيه أن المشركين شغلوا النبي ﷺ عن صلاة العصر حتى صلاها بعد خروج الوقت بين المغرب والعشاء.
وفي حديث ابن مسعود I فيه أن المشركين شغلوا النبي ﷺ عن صلاة العصر حتى صلاها بعد خروج وقتها المختار وهو اصفرار الشمس أو حمرتها.
وهذا يحمل أن الشغل منهم حصل في يومين، يوم شغلوه حتى غربت الشمس، وفي يوم آخر شغلوه حتى اصفرت الشمس أو احمرت؛ لأن غزوة الخندق استمرت قرابة الشهر.
أو يحمل على أنه كان في يوم واحد، وكان انتهاء الاشتغال عند اصفرار الشمس أو حمرتها، لكن لم يصلوا العصر إلا بعد الغروب لاشتغالهم قبل الغروب بالوضوء والتأهب للصلاة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر، وسميت الوسطى، لأنها أفضل الصلاة وأعظمها أجرا، ولذلك خصت بالمحافظة عليها.
2- أن من ذهل عن الصلاة في وقتها يصليها إذا ذكرها.
3- جواز الدعاء على الظالم بقدر ظلمه، لأنه قصاص، والأولى بيان سبب الدعاء عليه؛ لتنفي عنه تهمة العدوان.
4-فيه المبادرة بقضاء الصلاة الفائته، وأنها تصلى جماعة.
5- اهتمام النبي ﷺ بأمر الصلاة، وتأثره بفواتها.
6- أن وقت الاختيار للعصر ما قبل اصفرار الشمس.
الحديث التاسع والأربعون
عن عَبدِ الله بْنِ عَبَّاس L قال: أعْتَمَ النبي ﷺ، فَخَرَجَ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلاةَ يَا رَسولَ اللَه، رَقَدَ النسَاءُ وَالصبْيَانُ. فَخَرَجَ وَرَأسُه يَقْطُرُ يَقُول: لولا أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي -أوْ عَلَى النّاس- لأمَرْتُهُمْ بِهذِه الصّلاةِ هذِهِ السّاعَةَ».
أعتم بالعشاء: أي أخَّرها إلى العتمة، وهي: ظلمة الليل، والمراد أنه ﷺ أخَّر صلاة العشاء بعد ذهاب الشفق، فصلاها في ظلمة الليل.
وقول عمر I: الصلاةَ. منصوب بفعل محذوف تقديره: صلِّ الصلاة. أو أقم الصلاة. أو نحوه.
رقد النساء والصبيان: يحتمل أن يكون راجعا إلى من حضر منهم إلى المسجد، ويحتمل أن يكون راجعا إلى من خلَّفه المصلون في البيوت منهم.
وإنما قال عمر I: (رقد النساء والصبيان) للاعتذار عن طلبه من النبي ﷺ الحضور للصلاة.
ورأسه يقطر ماء: أي شعر رأسه، وكان ذلك من أثر اغتساله، ويبعد أن يكون من الوضوء.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن الأفضل في العشاء التأخير، ولولا ما في ذلك من المشقة على كثير من الناس.
2- أن المشقة تسبب اليسر والسهولة في هذه الشريعة السمحة.
3- أنه قد يكون ارتكاب العمل المفضول أولى من الفاضل، إذا اقترن به أحوال وملابسات.
4- كمال شفقة النبي ﷺ ورحمته بأمته.
5- جواز حضور النساء والصبيان صلاة الجماعة في المسجد.
6- صراحة عمر I مع النبي ﷺ، لثقته من خُلق النبي ﷺ.
7- فيه دليل على تنبيه الأكابر لاحتمال غفلة أو تحصيل فائدة.
8-أنه يستحب للإمام أو العالم أن يعتذر إلى أصحابه إذا تأخر عنهم، أو جرى منه ما يُظَن أنه يشق عليهم، ويبين لهم وجه المصلحة فيه.
9-جواز النوم قبل صلاة العشاء لمن غلبه النوم، وأمن من فواتها.
الحديث الخمسون
عن عَائِشَةَ J عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: «إذَا أقيمت الصلاة وَحَضَرَ العشَاءُ فَابْدَأوا بِالعشَاءِ» وعن ابن عمر، نحوه.
معنى الحديث: أنه إذا نودي بإقامة الصلاة وقد قُدِّم العَشاء وهو الطعام الذي يؤكل بالعشي في آخر النهار فإنه يبدأ به قبل الصلاة.
وعن ابن عمر L نحوه: ولفظه: (إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه).
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن الطعام والشراب إذا حضرا وقت الصلاة، قُدِّما عليها مالم يضق وقتها فتُقدَّم على أيَّة حال.
2- ظاهر الحديث تقديم الطعام على الصلاة، سواء أكان محتاجا للطعام أم غير محتاج، لكن قيده كثير من العلماء بالحاجة، وأخْذاً من العلة التي فهموها من مقصد الشارع.
والعلة هي التشويش المفضي إلى عدم الخشوع، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فحيث أمِنَّا التشويش قُدِّمت الصلاة.
3- أن حضور الطعام للمحتاج إليه عذر في ترك الجماعة، على ألا يُجعَل وقتُ الطعام هو وقت الصلاة دائما وعادة مستمرة.
4- أن الخشوع وترك الشواغل مطلوب في الصلاة ليحضر القلب للمناجاة.
5- فيه تقديم فضيلة حضور القلب على فضيلة أول الوقت، وهذا وجه مناسبة الحديث للباب.
الحديث الحادي والخمسون
ولمُسلِمٍ عَنْ عَائِشَة J قَالتْ: سَمِعتُ رَسول الله صلى الله عليه يَقولُ: «لا صَلاة بِحَضْرَةِ الطعَام، ولا وَهُوَ يدَافِعُهُ الأخبَثَان».
لا صلاة: لا: نافية، والنفي يتضمن النهي، أي لا يُصلِّ الإنسان.
والنهي إذا جاء بصيغة النفي فهو أبلغ في المنع، كأنه أمر لا يمكن أن يكون.
والمعنى: لا صلاة كاملة بحضرة طعام؛ لأن الصلاة بحضرة الطعام صحيحة عند الجمهور مع الكراهة.
يدافعه الأخبثان: هما البول والغائط، ومعنى مدافعتهما: أنه يدفعهما عن الخروج، ويدفعانه عن الشغل بغيرهما ليخرجا.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كراهة الصلاة عند حضور الطعام المحتاج إليه، وفي حال مدافعة الأخبثين، ما لم يضق الوقت فتُقدَّم الصلاة مطلقاً.
2- أن لفظ: صلاة. نكرة في سياق النفي فتفيد عموم الصلوات الخمس، وإن كان هذا العموم يخص منه من لا تَشوُّف له إلى الطعام، ولا يشتهيه.
3- يُلحَق بالأخبثين ما في معناهما من كل ما يُشغل قلب المصلي، ويُذهب كمال خشوعه، كما أُلحق بقوله ﷺ : (لا يقضي القاضي وهو غضبان) متفق عليه، ما في معناه من الجوع المؤلم والعطش الشديد والغم والفرح ونحو ذلك.
4- ينبغي للمصلى إبعاد كل ما يشغله في صلاته.
5- أن الحاجة إلى الطعام أو الشراب أو التبول أو التغوط كل هذه أعذار في ترك الجمعة والجماعة، بشرط ألا يجعل أوقات الصلوات مواعيد دائمة للطعام.
6- أن تقديم الطعام ونحوه مما يشغل على الصلاة ليس من تقديم حق العبد على حق الله تعالى، بل هو صيانة لحق الله تعالى، لئلا يدخل في عبادته بقلب غير مقبل على مناجاته.
7- وجه مناسبة الحديث لباب المواقيت أن فيه تقديم الطعام وقضاء الحاجة على الصلاة وإن فات أول الوقت.
8-في قوله: (يدافعه الأخبثان) أنه إذا أحس بالبول أو الغائط ولم يصل إلى حد المدافعة أنه لا كراهة في الصلاة في هذه الحال.
الحديث الثاني والخمسون
عن عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس L قَال «شَهدَ عِنْدي رِجَال مَرْضيونَ وأرْضَاهُمْا عِنْدِي عُمَرُ: أن رَسُوَل الله ﷺ نَهَى عن الصلاةِ بَعْدَ الصبحِ حَتى تَطْلُع الشمس، وبَعْدَ العصر حَتى تَغْرُبَ».
الحديث الثالث والخمسون
عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي I عن رَسُول الله ﷺ قَاَل: «لا صَلاةَ بَعدَ الصّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشمس ، وَلا صلاَةَ بَعْدَ العصْرِ حَتَى تَغِيبَ الشمسُ».
قال المصنف: وفى الباب عن على بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وكعب بن مرة، وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عَبَسَةَ السُلمِّي، وعائشة M والصُّنابحى، ولم يسمع من النبي ﷺ فحديثه مُرْسل.
راوي الحديث العاشر هو أبو سعيد سعدُ بنُ مالك الأنصاري صحابي ابن صحابي ممن بايع تحت الشجرة، وشهد الخندق واستصغر يوم أحد، والخدري نسبة إلى خدرة جد من أجداده، وخدره بطن من الأنصار، وكان I من علماء الصحابة M ومن المكثرين روى أكثر من ألف حديث، وكان ممن بايع النبي ﷺ ألا تأخذه في الله لومة لائم، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين، وهو ابن أربع وتسعين. I وأرضاه.
شهد: أي أخبر. لا بمعنى الشهادة عند القاضي.
نهى عن الصلاة: أي النافلة.
حتى تطلع الشمس: أي وترتفع كما جاء في الرواية الثانية، لا مجرد ظهور قرصها.
لا صلاة: أي لا صلاة شرعية.
ووجه مناسبة الحديث لباب المواقيت أن المؤلف لما أورد الأحاديث التي فيها الأوقات المأمور بالصلاة فيها ذكر الأوقات التي ينهى عن الصلاة فيها، من باب الجمع بين الشيء ومقابله.
هذان الحديثان يتعلقان بأوقات النهي عن الصلاة، وأوقات النهي ثلاثة:
الأول: من صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس عن الأرض قِيد رمح.
الثاني: حين تبلغ الشمس نهايتها في الارتِفاع، حتى تبدأ في الزوال.
الثالث: من صلاة العصر إلى غروب الشمس.
من فوائد الحديثين
1-في هذين الحديثين، النهي من النبي ﷺ عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تشرق الشمس وترتفع في نظر العين قدر طول رمح، ويقدر بالزمن بعشر أو خمس عشرة دقيقة تقريبا.
2-النهى عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس. والنهي في هذا الحديث للتحريم.
3-أن العلة في النهي عن الصلاة في هذين الوقتين التشبه بالمشركين الذين يعبدونها عند طلوعها وغروبها وقد نهينا عن مشابهتهم في عباداتهم، لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
4-فيه سد الذرائع التي قد توصل إلى الشرك، وحماية جناب التوحيد.
5-فيه الرد على الروافض الذين ينتقصون عمر I، فهذا ابن عباس L يثني على عمر I بأنه أرضى مَن أخبره بهذا الحديث.
6- متى يبدأ وقت النهي في الصبح والعصر؟
أما في الصبح ففيه خلاف، والأقرب والله أعلم أنه يبدأ من دخول وقت صلاة الصبح، ويستثنى من ذلك ركعتي الفجر، أي الراتبة القبلية، وفي العصر يبدأ الوقت من الفراغ من صلاة العصر، لما جاء في حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه الآتي: (فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس) ومتى ما أخَّر صلاة العصر بعض الشيء فإن وقت النهي لا يدخل في حقه.
وبناء على هذا فمن جمع بين الظهرين تقديما فإن النهي يدخل في حقه من حين فراغه من صلاة العصر، وإن كان لا يزال في وقت الظهر، لكن يستثنى من ذلك سنة الظهر التي بعدها.
7-لم يذكر في هذين الحديثين علة النهي، وقد جاءت في أحاديث أخرى منها حديث عمرو بن عبسة I في مسلم برقم (832) قال النبي ﷺ : (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان[1] وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار).
8-في هذا الحديث تأكيد الخبر بكثرة ناقليه، وقوة الثقة بهم.
ويستثنى من النهي عن الصلاة في أوقات النهي ما كان من التطوعات له سبب، كتحية المسجد، وسنة الوضوء، لأن الأحاديث الواردة في هذه الصلوات تخصص عموم أحاديث النهي. وهذا اختيار جماعة من المحققين كشيخ الإسلام وغيره، وبناء عليه فالنهي يتعلق بالتطوع المطلق.
فائدة:
المؤلف لم يتعرض للثالث من أوقات النهي؛ لأنه ليس على شرطه في هذا الكتاب، فحديثه ليس متفقا عليه، بل في مسلم، وهو وقت ضئيل قليل، يبتدئ حين تنتهي الشمس بالارتفاع ، حتى تزول . وقد ثبت تحريم الصلاة فيه بأحاديث.
منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر «ثَلاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ الله ﷺ أنْ نُصَلّىَ فِيهنَّ، وَأن نَقبُرَ فِيهنَّ مَوْتَانَا- إحداها: حِينَ يَقُومُ قائِمُ الظَّهِيرَةِ».
ومنها: ما رواه مسلم أيضاً عن عمرو بن عَبَسَة، ومنه «ثُمَّ صَلّ حَتى يَستقل الظل بِالرمْح، ثم أقصِرْ عَنِ الصّلاة، فَإنَه حينَئِذِ تُسْجَرُ جَهَنم».
لطيفة:
في تذكرة الحفاظ للذهبي 3/229: (قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي: أخبرني ابن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة فدخل المسجد فجلس ولم يركع, فقال له رجل: قم فصلِّ تحية المسجد، وكان ابن ست وعشرين سنة؛ قال: فقمت وركعت فلما رجعنا من الجنازة جئت المسجد فبادرت بالتحية فقال لي: اجلس ليس ذا وقت صلاة, يعني بعد العصر، فانصرفت حزينًا وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون, فقصدته وأعلمته بما جرى عليَّ فدلني على الموطأ فبدأت عليه قراءة, ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره ثلاثة أعوام وبدأت بالمناظرة).
الحديث الرابع والخمسون
عَن جَابر بْنِ عَبْدِ الله L: أنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ I، جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشمس فَجَعَل يَسُبّ كُفَّارَ قُرَيْش، وَقَالَ: يَا رسول الله، مَا كِدتُ أصَلي العَصر حَتَّى كَادَتِ الشمسْ تَغْرُبُ. فَقَاَل النَبيُّ ﷺ: «والله مَا صَليْتُهَا».
قَالَ: فَقُمْنَا إِلى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأ للصّلاةَ وتوضأنا لَهَا، فصَلّى العَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، ثُم صَلّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ.
يوم الخندق: هو غزوة الأحزاب التي قدم فيها كفار قريش مع قبائل من نجد فحاصروا المدينة.
يسب كفار قريش: أي يشتمهم ويعيبهم.
ما كدت أصلي العصر: «كاد» من أفعال المقاربة، ومعناها، قُرب حصول الشيء الذي لم يحصل .
والمعنى: أنه I صلى العصر قُرب غروب الشمس.
والله ما صليتها: التأكيد بالقسم منه ﷺ تطمينا لعمر I، وإشعارا بعظم التأخير.
بُطْحان: بضم الباء وسكون الطاء، وادٍ بالمدينة. يسمى الآن وادي أبي جيدة.
ما يؤخذ من الحديث
1-وجوب قضاء الفوائت من الصلوات الخمس.
2-أن قضاءها يكون على الترتيب الأُولى فالأُولى.
3- فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء، وإذا ضاق وقت الحاضرة فعند ذلك تقدم كيلا تكثر الفوائت.
4- جواز الدعاء على الظالم، لأن النبي ﷺ لم ينكر ذلك. وقال ابن الملقن: فيه دليل على جواز سب المشركين للتقرير عليه، والمراد ما ليس بفحش إذ هو اللائق هنا بمنصب عمر I.
5- مشروعية تهوين المصائب على المصابين. لأنه قد قيل إن النبي ﷺ إنما حلف تطييبا لقلب عمر I؛ لأنه لما شق عليه تأخير الصلاة عن وقتها أخبره ﷺ بأنه لم يصلها، ليتسلى به ﷺ ثم أكد ذلك باليمين ليكون أبلغ.
6-فيه دليل على جواز الحلف بغير استحلاف إذا ترتب على ذلك مصلحة دينية، وهو كثير في القرآن.
7-ظاهر الحديث أنه صلاهما في جماعة، فيكون فيه دليل للجماعة في الفائتة.
باب فضل الصلاة في الجماعة ووجوبها
الحكمة من مشروعية صلاة الجماعة ما يحصل بها من التواصل والتواد، والتآلف بين المسلمين، والتعاون على الطاعة، وتعليم الجاهل، وتفقد المسلمين حاجات إخوانهم، وغير ذلك من المصالح العظيمة.
الحديث الخامس والخمسون
عَن عَبْدِ الله بن عُمَرَ L: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أفضَل مِنْ صَلاةِ الفذ بِسَبْع وعِشرِيِنَ دَرَجَةً».
الفذ: أي الفرد. أي من يصلي وحده.
أفضل: صيغة أفضل للتفضيل بصفتي الاشتراك غالبا حيث لا مانع منه، وقد لا تقتضي الاشتراك في الصفة لمانع كقوله تعالى: ﴿أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا﴾ يعني من أهل النار، ومعلوم أن النار لا خير فيها.
درجة: أي مرة.
كل درجة بثواب صلاة الفرد؛ لما روى أحمد (3567) عن عبد الله بن مسعود I: أن نبي الله - ﷺ - قال: «صلاة الجميع تفضل على صلاة الرجل وحده خمسةً وعشرين ضعفاً، كلها مثلُ صلاته». قال أحمد شاكر : إسناده صحيح.
ما يؤخذ من الحديث
1- فيه بيان فضل الصلاة مع الجماعة، ومضاعفتها لصلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
2- صحة صلاة المنفرد وإجزاؤها عنه، لأن لفظ «أفضل» في الحديث يدل عن أن كلا الصلاتين فيها فضل ولكن تزيد إحداهما على الأخرى ، وهذا في حق غير المعذور.
أما المعذور فقد دلت النصوص على أن أجره تام، لحديث: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما» رواه مسلم.
3-أن صلاة الجماعة تتحقق باثنين، إمام ومأموم، لقوله: «أفضل من صلاة الفذ».
4-استدل به من يرى استحباب الجماعة في الصلاة، ووجهه أن تفضيل فعل على آخر يشعر بتفضيلهما، فدل على أن صلاة المنفرد فيها فضل، فلا يكون فعله محرما.
وهذا يجاب عنه بما تقدم من أنه لا يلزم من المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفرد عدم وجوب الجماعة، وإنما في هذا الحديث الدليل على أن صلاة الفرد صحيحة وفيها فضل، لكنه فضل ناقص، ولا يلزم من ذكر فضل الشيء عدم وجوبه.
وذلك لورود عدة أدلة واضحة في وجوب صلاة الجماعة، منها:
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ..﴾
فأمر جل وعلا بصلاة الجماعة حال الخوف ففي غيره أولى.
ولحديث أبي هريرة I أن النبي ﷺ قال: «أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه.
ولو كانت سنة لم يهدد النبي ﷺ المتخلف عنها.
وحديث الأعمى الذي طلب أن يصلي في بيته، فقال له النبي ﷺ: (أتسمع النداء بالصلاة؟) قال: نعم، قال: (فأجب) رواه مسلم.
وقال ابن مسعود I: (.. ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ..) رواه مسلم.
الحديث السادس والخمسون
عَنْ أبى هريرة I قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «صَلاةُ الرجل في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ في بَيْتهِ وَفي سُوقِهِ خَمْسا وَعِشرِينَ ضِعْفاً، وَذلِكَ أنَهُ إذا تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوضوء. ثم خَرَجَ إِلى اْلمَسْجدِ لا يُخْرِجُهُ إِلاّ الصلاةُ. لم يَخْطُ خُطْوَةً إلاَّ رُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ، وَحُط عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة، فَإذا صَلى لَمْ تَزَلِ اْلمَلائِكَةُ تُصَلِّى عَلَيْهِ مَا دَام في مُصلاّهُ : اللهُمَّ صَلّ عَلَيهِ، اللهم اغْفِرْ له، اللهُمَّ ارحَمْهُ، وَلا يَزَال في صَلاةٍ مَا انْتَظر الصلاةَ» متفق عليه واللفظ للبخاري .
تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه: لأن الغالب أن صلاته في بيته وسوقه منفردا، والغالب أن الجماعة تكون في المسجد.
توضأ فأحسن الوضوء: أي أكمله، وأتى به على وفق سنة النبي ﷺ.
فإذا صلى: أي تحية المسجد، أو غيرها مما يبادر به عند دخول المسجد.
لم تزل الملائكة تصلي عليه: أي أن الملائكة تستمر في الدعاء له. لأن الصلاة هنا بمعنى الدعاء.
اللهم صل عليه: أي اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى.
اللهم اغفر له: أي استر ذنوبه وتجاوز عنها.
ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة: أي لا يزال في ثواب الصلاة مدة انتظاره الصلاة التي جاء للمسجد من أجلها.
مسألة: في هذا الحديث ذَكَر المضاعفة بخمس وعشرين درجة، وفي الحديث السالف بسبع وعشرين، واختلف العلماء في الجمع بين الحديثين، وذهب بعض الشراح إلى أن العدد القليل لا ينافي العدد الكثير، بل نأخذ بالزائد، وهو السبعة والعشرون، لأنه لا يحصل به إلغاء الناقص، لدخوله فيه بخلاف الأخذ بالناقص، قلا يدخل في الزائد.
من فوائد الحديث
1-فضيلة صلاة الجماعة ومضاعفتها، وهذه الفضيلة تحصل بأي عدد من الجماعة، إلا أن العدد إذا كثر زاد الأجر، لحديث: «صَلَاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى» رواه أبو داود (554) وحسنه الألباني.
2-أن الجماعة ليست شرطا لصحة الصلاة، بل تصح للمفاضلة بينها وبين صلاة المنفرد، لكن مع الإثم، لوجوب الصلاة جماعة في المسجد مع الإمكان.
3-أن كل هذا الفضل من رفعة الدرجات وحط الخطايا واستغفار الملائكة مرتب على إحسان الوضوء والخروج من البيت إلى المسجد لقصد الصلاة بنية خالصة، فالثواب المذكور مرتب على مجموع الأعمال، فلو خلا منه جزء لم يترتب عليه ما ذكر من الأجر.
4-إن لمنتظر الصلاة ثواب من هو في الصلاة.
5-فضيلة التبكير للصلاة، لما يترتب عليه من أجور عظيمة، وثواب جزيل.
6-فضيلة التطهر بطهارة كاملة قبل الذهاب إلى المسجد.
7-فضيلة الإخلاص في الذهاب إلى الصلاة.
8-إثبات وجود الملائكة عليهم السلام، وأنهم يحبون أهل الطاعة، ويدعون لهم، كما في هذا الحديث، ولقوله تعالى في سورة غافر: ﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ ...﴾.
الحديث السابع والخمسون
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: «أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : صَلاةُ الْعِشَاءِ , وَصَلاةُ الْفَجْرِ . وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا . وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ , ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ , ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ , فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ».
لو يعلمون ما فيهما: أي لو يعلمون علم إيمان ويقين، ما في فعلهما مع الجماعة من الثواب.
حبوا: الحبو: أن يمشى على يديه وركبتيه. والتقدير: ولو كان الإتيان حبوا.
هذا الحديث من أدلة القائلين بأن صلاة الجماعة فرض عين، وقد تقدمت بقية أدلة هذا القول، وهو قول الإمام أحمد، وأهل الحديث، وجماعة من المحققين.
لكنها ليست بشرط لصحة الصلاة كما ذهب إليه بعض أهل العلم.
وأما حديث ابن عباس L أن النبي ﷺ قال: «من سَمِعَ الندَاءَ فَلَمْ يأتِ، فَلا صَلاةَ لَهُ إِلا مِن عُذْر». فالجواب عنه أن معناه: لا صلاة كاملة إلا في المسجد ، جمعا بينه وبين الأحاديث التي تدل على صحة صلاة المنفرد كحديث «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» فأثبت للمنفرد صلاة، وأن لها فضلا، فدل على صحتها، لكن دلت الأدلة الأخرى على أنه آثم بترك الجماعة.
بل إن الواجب أداء الجماعة في المسجد لمن يسمع النداء، لهذا الحديث: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً» أي في المسجد.
ولحديث الأعمى المتقدم.
ولهذا قال ابن القيم في كتاب الصلاة ص118: (ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر, وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار ...).
ما يؤخذ من الحديث
1- أن صلاة الجماعة فرض عين، على الرجال البالغين.
2- أن من ترك الجماعة بلا عذر، آثم يستحق العقوبة.
3- أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح، فإنه لم يمنعه من تعذيبهم بهذه الطريق إلا خوف تعذيب من لا يستحق العذاب، كالنساء والصغار.
4- فضل صلاتي العشاء والفجر في المساجد.
5-أن ثقل الصلاة مع الجماعة على الإنسان يدل على أن فيه خصلة من خصال المنافقين الذين تثقل عليهم الصلاة، فليبادر إلى تدارك نفسه وإصلاحها.
الحديث الثامن والخمسون
عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ L عَنِ النبيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا استَأذَنت أحَدَكُمُ امرأتُه إلى المسجد فَلا يَمْنَعْهَا» قال: فقال بلال بْنُ عَبْدِ الله: والله لَنَمْنَعُهُنَ. قالَ: فأقبل عَلَيْهِ عَبْدُ اللّه فَسَبَّهُ سَبّاً سَيّئاً، ما سَمِعْتُهُ سَبهُ مِثْلَهُ قَط، وَقال: أخْبِرُكَ عن رَسُول اللّه ﷺ وتقول: والله لَنمنَعُهُن؟!.
وفي لفظ «لمسلم»: «لا تَمْنَعُوا إمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله».
قوله: فقال بلال: هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب تابعي ثقة.
امرأته: المراد زوجته وكل امرأة له عليها ولاية.
إلى المسجد: أي للصلاة ونحوها.
فسبّه: أي شتمه وعابه، سيئا: أي يسوء من وُجِّه إليه.
قط: ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان، مبني على الضم، والمعنى ما سمعته سبه مثله فيما مضى من الزمان.
إماء الله: أي مملوكاته. وفي إضافة الإماء والمساجد إلى الله إشارة إلى حكمة النهي عن منعهن، أي إن إماء الله تعالى لا ينبغي أن يمنعن مساجده.
المعنى الإجمالي
روى ابن عمر L أن النبي ﷺ قال- مبيناً حكم خروج المرأة إلى المسجد للصلاة-: إذا استأذنت أحدَكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، لئلا يحرمها فضيلة الجماعة في المسجد.
وكان أحد أبناء عبد الله بن عمر حاضراً حين حدث بهذا الحديث، وكان قد رأى الزمان قد تغير عن زمن النبي ﷺ بتوسع النساء في الزينة حملته الغيرة على صون النساء، على أن قال- من غير قصد الاعتراض على المشرع-: والله لنمنعهن.
ففهم أبوه من كلامه أنه يعترض- برده هذا- على سنة النبي ﷺ فحمله الغضب لله ورسوله، على أن سبه سباً شديداً. وقال: أخبرك عن رسول الله ﷺ، وتقول: والله لنمنعهن.
ما يؤخذ من الحديث
1-الحديث صريح في النهي عن منع النساء من المساجد عند استئذانهن الأزواج، لكن قال النووي: إن النهي للتنزيه.
قال ابن حجر في فتح الباري: (وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذَن مخيرا في الإجابة أو الرد).
2-الحديث عام في النساء، لكن الفقهاء خصصوه بشروط وحالات، للأحاديث الواردة في نهي المرأة عن الخروج متطيبة ومتجملة، فهو من باب تخصيص العموم بالمعنى.
وفي مسلم: «لا تمنعوا النساء الخروج إلى المساجد بالليل» وكأن اختصاص الليل بذلك لكونه استر.
وعند أحمد برقم 21674: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات» وصححه ابن الملقن. ومعنى تفلات أي تاركات للطيب.
وفي مسلم: «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» وفي الحديث الآخر: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا» أخرجه مسلم.
قال ابن دقيق: ويلحق بالطيب ما في معناه، لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة، كحسن الملبس والحلي الذي يظهر أثره والزينة الفاخرة.
-عن عائشة J: (لو أن رسول الله ﷺ رأى ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) رواه مسلم.
3-هذا الحديث وإن دل على جواز خروج المرأة لصلاة الجماعة في المسجد إلا أن الأفضل لها أن تصلي في بيتها، لما جاء في بعض الروايات: (وبيوتهن خير لهن).
4-لا تجوز معارضة قول النبي ﷺ بمثل قول بلال بن عبد الله لما فيه من الجفاء في التعبير، ولو كان القصد حسنا، ولمنافاة ذلك للتعظيم الواجب للنبي ﷺ.
5-فيه جواز منع الرجل امرأته إذا استأذنت لغير المسجد، لكن لا ينبغي منعها من الخروج لما فيه مصلحة، كصلة الرحم ونحو ذلك، لكون هذا من المعاشرة بالمعروف، مادامت ملتزمة بالضوابط الشرعية عند الخروج.
6-شدة الإنكار على من اعترض على سنة النبي ﷺ.
7-فيه تأديب المعترض على السنن برأيه، وتعزيز الوالد ولده وإن كان كبيرا.
8-فيه تأديب العالم من يتعلم عنده إذا تكلم بما لا ينبغي.
9-فيه القول بالحق وتقديم حق الله تعالى ورسوله ﷺ على غيرهم ولو كان المقول له قريبا.
10-وفيه ثبوت ولاية الرجل على المرأة، ورعايته لها.
11-وفيه فضيلة لعبد الله بن عمر L، وشدة غيرته على سنة النبي ﷺ.
الحديث التاسع والخمسون
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ L قال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول الله ﷺ رَكعَتَين قَبلَ الظهر، وَرَكعَتَين بَعدَهَا، وَرَكَعَتينِ بَعدَ الجُمعَة، وَرَكعتَين بَعْدَ المغرب وَرَكَعَتَين بَعْدَ العِشَاء.
وفي لفظ: فأما المَغْرِبُ وَالعِشَاءُ وَالفَجْرُ وَالجُمعَةُ فَفي بَيْتهِ.
وفي لفظ للبخاري: «أن ابن عمر قال: حَدثَتْنِي حَفْصَةُ: أنَّ النَّبي ﷺ كَانَ يُصَلي سَجْدَتَيْن خَفِيفتَيْن بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الفَجْرُ وكَانتْ سَاعَةً لا أدْخُلُ عَلى النبي ﷺ فيها.
حفصة: هي أم المؤمنين J بنت عمر بن الخطاب I ولدت قبل البعثة بخمس سنين، تزوجها رسول الله ﷺ سنة ثلاث من الهجرة، قيل توفيت سنة خمسين للهجرة.
صليت مع رسول الله ﷺ : أي في صحبته لا مؤتما به.
قبل الظهر: أي قبل صلاة الظهر، لا أنه قبل دخول وقت الظهر.
وكان يصلي سجدتين: المراد بهما ركعتا الفجر. من باب إطلاق الجزء على الكل.
هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب، والحكمة من مشروعيتها تكميل الفرائض إن عرض فيها نقص كما ثبت عن أبي هريرة I قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز و جل انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي برقم 143 وصححه الألباني.
وسميت بالرواتب لأن النبي ﷺ داوم عليها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب هذه الرواتب المذكورة، والمواظبة عليها.
2- أن «العصر» ليس لها راتبة من هذه المؤكدات. لكن جاء فيها أنه يسن صلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ L قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» رواه أبو داود (1271) وحسنه الألباني.
3- أن راتبة المغرب والعشاء والفجر والجمعة الأفضل أن تكون في البيت.
4-ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، أن للظهر أربعا قبلها وركعتين بعدها. فقد جاء في الترمذي حديث أم حبيبة مرفوعا «أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها» وهذا هو الأقرب أن الرواتب اثنتا عشرة ركعة.
5- بعض هذه الرواتب تكون قبل الفريضة لتهيئة نفس المصلي للعبادة قبل الدخول في الفريضة. وبعض الرواتب تكون بعدها لتجبر ما وقع فيها من نقصان.
6-فيه أن سنة الفجر لا يدخل وقتها إلا بطلوع الفجر.
7-فيه استحباب تخفيف ركعتي الفجر.
وصح أنه ﷺ قرأ فيهما بـ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.
8- لم يبين في هذا الحديث أين يصلي الظهر، لكن جاء في صحيح مسلم عن عائشة J أنه ﷺ كان يصلي قبل الظهر أربعا في بيتها. وفي الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) فهذا عام في جميع النوافل إلا سنة الجمعة القبلية، ويستثني من ذلك النوافل التي تشرع لها الجماعة كالتراويح والاستسقاء.
الحديث الستون
عن عائِشَةَ J قَالَتْ: لَمْ يَكن النبي ﷺ عَلَى شيء مِنَ النَّوَافِلِ أشَدَّ تعَاهُداً مِنْهُ عَلى رَكعَتي الفجْرِ.
وفي لفظ لـ «مسلم»: «رَكْعتَا الْفجْرِ خَير من الدنيَا ومَا فِيها».
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث بيان لما لركعتي الفجر من الأهمية والتأكيد، فقد ذكرت عائشة J أن النبي ﷺ أكدهما وعظم شأنهما، بفعله. وقوله، حيث قالت: لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا ومواظبة منه على ركعتي الفجر، وأنه ﷺ قال: إنهما خير من الدنيا وما فيها، يعني من المال والأهل والبنين وغيرها من زينة الدنيا وزهرتها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الاستحباب المؤكد في ركعتي الفجر. فلا ينبغي إهمالهما.
2- فضلهما العظيم، حيث جعلا خيراً من الدنيا وما فيها.
3- أن النبي ﷺ كان يتعاهد النوافل عموما، إلا أن تعاهده لركعتي الفجر أشد من غيرهما.
4- أن إهمال من أهملهما -على سهولتهما وعظم أجرهما وحث الشارع عليهما- يدل على حرمانه من الخير العظيم.
5- أن مِن تعاهُدِه ﷺ لركعتي الفجر أنه لم يكن يدعهما لا حضرا ولا سفرا، بخلاف بقية السنن الرواتب فكان لا يصليها في السفر.
5- فيه أنهما غير واجبتين لقولها J: من النوافل، ففيه الرد على من قال بوجوبهما.
والحمد لله رب العالمين
[1] ومعنى قرني شيطان: فيه أقوال:
1-أن هذا من الألفاظ التي يجب علينا التصديق بها، والإقرار بصحتها دون اعتقاد تكييف، والله ورسوله أعلم بالمراد منها.
2-أن المراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها، وكذا عند طلوعها، لأن الكفار يسجدون لها حينئذٍ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له.
وليس المراد بالقرن ما يتصور في الذهن من قرون البقر أو الشاء وإنما القرن حرفا الرأس وللرأس قرنان أي حرفان وجانبان.