الدليل

2025-11-19 14:03:25

كتاب عمدة الأحكام 36 - 47

شرح عمدة الأحكام
المجلس الرابع من الحديث 36- 47

برنامج دليل 1447هـ

إن الحمد لله . . أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:

بَــابُ التيـمّم

التيمم في اللغة: القصد، يقال تيمَّمتُ الشيء إذا قصدته، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ.

وفي الشرع: مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب بدلا من طهارة الماء عند تعذر استعماله.

والتيمم من خصائص هذه الأمة، شرعه الله تعالى تخفيفا عن الأمة، ورفعا للحرج عنها، ورحمة بعباده. 

 

الحديث السادس والثلاثون

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَين h أنَّ رسول الله رَأى رَجُلا مُعْتَزِلا لَمْ يُصَلِّ في القَوْم فقالَ: «يَا فُلان مَا مَنَعَك أنْ تُصَلِّيَ في الْقَوْم؟» فقال يَا رَسُولَ الله أصابتني جَنَابة وَلا مَاءَ، فقال: «عَلَيْكَ بالصعِيِدِ فًإنَّهُ يَكْفِيكَ» رواه البخاري.

راوي الحديث:

هو عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، أسلم عام خيبر، من فقهاء الصحابة وفضلائهم، بعثه عمر h على البصرة ليعلم أهلها، مات فيها سنة 52، h.

غريب الحديث:

رأى رجلا معتزلا: أي أبصر رجلا منفردا متنحيا عنهم، وهو خلاد بن رافع h، وكان ممن شهد بدراً.

لم يُصلِّ في القوم: أي مع القوم صلاة الجماعة.

أصابتني جنابة: أي حصل له جنابة، والظاهر أنه احتلام، لقوله: أصابتني.

ولا ماء: أي ليس عنده ماء، ولا حوله ماء.

عليك بالصعيد: عليك: اسم فعل أمر بمعنى اقصد، أي اقصد ما على وجه الأرض، وهو الصعيد، وقيل الصعيد التراب خاصة.

وهذا الحديث مختصر من حديث طويل مفاده أن النبي صلى صلاة الصبح بأصحابه في السفر، فرأى رجلا معتزلا عن الجماعة، فسأله ما الذي منعك أن تصلي معنا؟ فأخبره بأنه قد أصابته جنابة، ولم يجد ماء يغتسل به، فلم يصل لأجل ذلك، فأمره النبي أن يتيمم من الجنابة وأخبره أن ذلك يغنيه عن الماء ما دام عادما له، فتيمم الرجل وصلى ثم سار النبي في سفره، فلما وجدوا الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: «اذهب فأفرغه عليك». رواه البخاري (344).

ما يؤخذ من الحديث:

1- التيمم ينوب مناب الغسل في التطهير من الجنابة، لمن تعذر عليه استعمال الماء.

2-لا ينبغي لمن رأى مقصرا في عمل، أن يبادره بالتعنيف أو اللوم، حتى يستوضح عن السبب في ذلك، فلعل له عذراً لا تعلمه.

3-أن السفر لا يُسقط صلاة الجماعة، حيث صلاها في السفر.

4-أن من تيمم لعدم الماء ثم وجده وجب عليه التطهر به.

 

 

الحديث السابع والثلاثون

عَنْ عمار بن يَاسِر k قَال: بَعَثنِي رَسُولُ اللَه في حَاجَةٍ فَأجْنَبْتُ فَلَمْ أجدِ الْمَاءَ فَتَمَرغْتُ في الصعِيدِ كمَا تَمَرَغُ الدَّابة ثمً أتيْتُ النًبيَّ فَذَكَرْتُ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إنَّما كان يَكْفِيكَ أن تَقولَ بِيَدَيْكَ هكَذَا» ثمَّ ضَرَبَ بيَدَيْهِ الأرْض ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُم مَسَح الشِّمَالَ عَلى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَيهِ ووَجهَهُ.

راوي الحديث:

هو عمار بن ياسر بن عامر العنسي، مولى بني مخزوم، أسلم قديما، وعذبه بنو مخزوم على إسلامه، هو وأبوه وأمه j  فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» رواه الحاكم 5646، وصححه الألباني في صحيح السيرة ص154. شهد المغازي كلها مع النبي وقتل مع علي h في صفين، سنة 37هـ وقد صح عنه أنه قال: «تقتل عمارا الفئة الباغية» h.

غريب الحديث:

فلم أجد الماء: أي لم أحصل عليه بعد طلبه.

فتمرَّغتُ في الصعيد: تقلَّبَ في الأرض حتى عمَّ بدنَه التراب.

أن تقول بيديك: يُراد بالقول الفعل، وهو كثير في لسان الشرع ولغة العرب.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية التيمم للغسل من الجنابة لمن لم يجد الماء.

2- أنه لابد من طلب الماء قبل التيمم.

3- أنه يكفي في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.

4-صفة التيمم، وهو أن ينوي ثم يضرب الأرض مرة واحدة، ثم يمسح الوجه ثم الكفين بعضهما ببعض.

5- أن التيمم للحدث الأكبر، كالتيمم للحدث الأصغر، في الصفة والأحكام.

6-أن المجتهد إذا أدَّاه اجتهاده إلى غير الصواب، وفعل العبادة، ثم تبين له الصواب بعد ذلك فإنه لا يعيد تلك العبادة.

تنبيه:

في هذا الحديث تقديم الكفين على الوجه (وظاهر كفيه ووجهه) والذي في القرآن الكريم تقديم الوجه على الكفين، ﱩ¿ À Á فيكون المقدم هو مسح الوجه على مسح الكفين؛ لأنه ظاهر القرآن، وقد قال : «ابدأوا بما بدأ الله به» ولأن أكثر الروايات في حديث عمار h تقديم الوجه، ولأنه الموافق للترتيب في الوضوء.

ولا يعارض هذا الرواية بتقديم اليدين؛ لأن العطف بالواو لا يلزم أن يكون للترتيب في كل المواضع.

جاء هذا الحديث عند مسلم (368) عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً فَقَالَ: لَا تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ، وَكَفَّيْكَ» فَقَالَ عُمَرُ: « اتَّقِ اللهَ يَا عَمَّارُ قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ « . . . فَقَالَ عُمَرُ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ.

وفي رواية لمسلم: قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شِئْتَ لِمَا جَعَلَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ حَقِّكَ لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا.

 

الحديث الثامن والثلاثون

عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله k: أنَّ النبي قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسَا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنبياء، قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْر وَجُعِلَت لي الأرض مسجدا وطَهُوراً فَأيُمَا رَجُل مِنْ أمتِي أدْرَكَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصَل. وأحِلَّتْ لي الغنائمُ،َ لَمْ تَحلَّ  لأحَد قَبلي. وَأعْطيتُ الشفَاعَةَ. وَكَانَ النبيُّ يُبْعَثُ إِلى قَوْمِه خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إِلى النَاس كَافّةً».

 غريب الحديث:

أُعطيت خمسا: أعطاني ربي عز وجل خمس خصال، أو خصائص.

نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر: أي أعانني الله على أعدائي بالخوف والذعر في قلوبهم مسافة شهر.

والمعنى: أن عدوه يصاب بالخوف منه ولو كان بينه وبينه مسافة شهر.

قال بعض العلماء: إنما خص مسافة الشهر، دون مسافة أبعد منه، لأنه لم يكن آنذاك بينه وبين من أظهر العداوة له أكثر من هذه المسافة.

جُعلت لي الأرض مسجدا: أي صير الله لي الأرض مكانا للسجود، أي للصلاة.

فأيما رجل أدركته الصلاة: ذكر الرجل لشرفه، وإلا فالمرأة مثله في الحكم.

الغنائم: هي ما يؤخذ من أموال الكفار في الجهاد.

وأُعطيتُ الشفاعة: أي أعطاني الله الشفاعة، والشفاعة هي التوسط للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه.

والمراد بها هنا الشفاعة العظمى، وهي شفاعة النبي لأهل الموقف في الفصل بينهم.

ما يؤخذ من الحديث:

هذا حديث عظيم، وفيه عدة فوائد منها:

1- تفضيل نبينا على سائر الأنبياء، وتفضيل أمته على سائر الأمم .

2- مشروعية التحدث بنعم الله تعالى، لا على وجه الفخر، وإنما إظهارا لنعمة الله تعالى واستجلابا لشكره.

3-نصرة النبي بالرعب مسيرة شهر من عدوة، وهذا ثابت أيضا للمؤمنين المهتدين بهديه ظاهرا وباطنا. 

4- أن الله تعالى جعل لهذه الأمة الأرض مسجدا وطهورا، فمتى ما حَلَّت الصلاة في أي مكان لا يوجد به ماء فعندهم طهورهم وهو التراب ومسجدهم وهو الأرض، أما الأمم السابقة فكانوا لا يحل لهم التطهر إلا بالماء، ولا يُصلُّون إلا في أمكنة معينة كالكنائس.

ويستثنى من كون الأرض مسجدا وطهورا ما جاء النهي عن الصلاة فيه كالمقبرة والحمام وأعطان الإبل والأمكنة النجسة.

5- أن الأصل في الأرض الطهارة للصلاة والتيمم.

6- أن الغنائم حلَّتْ له ولأمته، وكانت في الأمم السابقة تُجمع فتنزل نار من السماء فتحرقها.

7- أن الله أكرم نبيه محمدا باختصاصه بالشفاعة العظمى يوم القيامة.

8- أن كل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يُبعث إلى قومه خاصة، واختص نبينا محمد بالبعثة إلى الناس كافة، لأن رسالته هي الرسالة الباقية إلى يوم القيامة، فلا نبي بعده.

بَــابُ الحَيْـض

الحيض: في اللغة: السيلان، يقال حاض الوادي إذا سال.

وفي الشرع: سيلان دم طبيعي يَعتاد الأنثى في أوقات معلومة عند بلوغها وقابليتها للحمل.

وهو دم، جعله الله تعالى -من رحمته وحكمته- في رحم المرأة، غذاءً لجنينها إذا حملت، فإذا وضعت، تحوّل إلى لبن، لغذاء طفلها.

فإذا كانت غير حامل ولا مرضع، برز الزائد منه في أوقات معلومة. لهذا يندر أن تحيض الحامل، أو المرضع.

 

الحديث التاسع والثلاثون

عَن عَائِشَةَ i: أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أبي حُبَيْش سَألتِ النَّبيَّ ، فقالت: إِني أُسْتَحَاضُ فلا أطْهُرُ، أفَأدَعُ الصَّلاةَ؟ قالَ: لا، إنَّ ذَلِكِ عِرْق، وَلَكن دَعِي الصَّلاةَ قَدْرَ الأيام، الَّتي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغتَسِلي وَصَلي.

وفي رواية « وَلَيْسَتْ بِالْحيْضَةِ، فإذا أقْبَلَت الْحيْضَةُ فاتركي الصَلاةَ، فإذا ذَهب قَدْرُهَا فاغسلي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».

فاطمة بنت أبي حبيش من المهاجرات، وجدُّها المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، i.

غريب الحديث:

أُستحاض: أي يصيبني حيض كثير. فالألف والسين للمبالغة.

والاستحاضة: استمرار خروج دم المرأة كل وقت أو أكثره.

ذلكِ: بكسر الكاف، خطاباً للمرأة السائلة.

عِرْق: أي عرق انفجر. ويقال لهذا العرق: العاذل. وهو في أدنى الرحم دون قعره، ودم الحيض يخرج من قعر الرحم.

إذا أقبلت الحَيضة: أي جاء وقتها.

ما يؤخذ من الحديث:

1- حرص الصحابيات رضي الله عنهن على العلم، والسؤال عما يُشكِل، وهكذا ينبغي أن تكون المرأة المسلمة.

2-الفرق بين دم الاستحاضة ودم الحيض، فدم الاستحاضة هو المطْبِق أي المستمر، وأما دم الحيض فله وقت خاص.

3-أن دم الاستحاضة لا يمنع من الصلاة وسائر العبادات.

4-أن دم الحيض، يمنع من الصلاة، ولا يجب على المرأة قضاؤها بعد طهرها.

5-أن المستحاضة التي تعرف قدر عادة حيضها تحسبها، ثم تغتسل بعد انقضائها، لتؤدي بعد ذلك ما يجب عليها من العبادات.

فمثلا لو كانت المرأة المستحاضة تعرف عادتها، وأنها سبعةُ أيام من أول كل شهر هلالي، فإنه مع بداية كل شهر تجلس سبعة أيام لا تصلي ولا تصوم إن كان في رمضان، ثم بعدها تغتسل وتصلي وتصوم إن كان في رمضان، ولو كان دم الاستحاضة مستمرا معها.

6-أن دم الحيض نجس يجب غسل كثيره وقليله.

7-أنه لا يجب على المستحاضة تكرار الغُسل لكل دخول وقت صلاة.

8-حسن تعليم النبي ، حيث قرن الحكم بحكمته ليزداد المؤمن طمأنينة، يؤخذ من قوله: «لا، إن ذلك عرق».

 

الحديث الأربعون

عَنْ عَائِشَة i أنَ أمَّ حَبيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنَينَ، فَسَألتْ رَسُولَ الله عن ذلكَ فأمرَهَا أنْ تَغْتَسِل. قالت: فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لكل صَلاةٍ.

غريب الحديث:

أم حبيبة: هي بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف h وعنها.

استحيضت: أي أصابتها الاستحاضة.

سبع سنين: بيان لمدة الاستحاضة، ولا يلزم أن يكون السؤال بعد سبع سنين، إذ يبعد أن تبقى هذه المدة ولا تسأل النبي ماذا تصنع في عباداتها.

فأمرها أن تغتسل: أي عند انتهاء مدة حيضها كما تفيده رواية مسلم (334) عَنْ عَائِشَةَ i أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَفْتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ رَسُولَ اللهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ صَلِّي» فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ».

وفي رواية أخرى لحديثها عند مسلم (334) فَقَالَ لَهَا: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي» فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ «

لكل صلاة: أي مفروضة.

ما يؤخذ من الحديث:

1-وجوب الغسل على المستحاضة عند انتهاء مدة حيضها، ثم تصلي.

وأما غسلها لكل صلاة فلا يجب؛ لأن النبي لم يأمرها به، والأصل براءة الذمة حتى يقوم الدليل على الوجوب، وإنما أمرها بالغسل عند انتهاء مدة حيضها، إلا أن أم حبيبة i كانت تغتسل هي لكل صلاة احتياطا وتورعا منها i.

2-أن الاستحاضة قد تنقطع وتبرأ منها المرأة، وهذا يؤخذ من قولها: استحيضت سبع سنين.

 

الحديث الحادي والأربعون

عَنْ عَائِشَةَ i قَالتْ: كُنْتُ أغْتَسِل أنَا ورَسُول الله من إنَاء واحِدٍ، كِلانَا جُنُب فَكَانَ يَأمرُني فَأتزرُ فيباشرني وَأنَا حَائِض، وَكَانَ يُخرِجُ رأسه إليَّ وَهُوَ معْتَكِفٌ فَأغْسِلُهُ وأنا حَائِضٌ.

غريب الحديث:

يأمرني فأتّرز: أي يطلب منها أن تلبس إزارا.

فيباشرني وأنا حائض: أي يستمتع بها بالمباشرة حال كونها حائضا.

وكان يُخرج رأسه إليّ: أي يخرج رأسه وهو معتكف في المسجد إليها وهي في حجرتها الملاصقة لمسجده .

وهو معتكف: الاعتكاف: لزوم مسجد لعبادة الله تعالى.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز اغتسال الرجل وامرأته من إناء واحد؛ لما في ذلك من حسن المعاشرة.

2- جواز مباشرة الحائض فيما دون الفرج، مع استحباب لبسها الإزار وقت المباشرة.

على خلاف ما كان عليه اليهود من أنهم لا يؤاكلونها ولا يضاجعونها.

 3- طهارة بدن المرأة الحائض.  

4-اتخاذ الأسباب المانعة من الوقوع في المحرم؛ لأمرها بالاتزار.

5-جواز التصريح بما يستحيا منه للمصلحة، وهي هنا نشر العلم. 

6-أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد لا يعد خارجا منه، ويقاس عليه غيره من الأعضاء، إذا لم يخرج جميع بدنه. 

7-أن الحائض لا تمكث في المسجد؛ لأنه أخرج إليها رأسه لتغسله في حجرتها، ولم يأمرها بدخول المسجد لتغسله؛ لأنه يؤدي إلى مكثها فيه.

8-جواز غَسل المعتكف رأسه.

 

الحديث الثاني والأربعون

عَنْ عَائِشَةَ i قَالتْ: كَانَ رَسُولُ الله يَتَّكِئُ في حِجْري وَأنَا حَائِض فَيَقْرأ القرآن.

 غريب الحديث:

حجري: يجوز الفتح والكسر في الحاء، وهما لغتان، ومعناه: حضني.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز قراءة القرآن في حجر الحائض، لأنها طاهرة البدن والثياب.

2- جواز استماع الحائض للقرآن.

3- حسن معاشرة النبي لأهله.

 

 

الحديث الثالث والأربعون

عَنْ مُعَاذَةَ قالت: سَألْتُ عَائِشَةَ i فَقُلْتُ: مَا بالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلا تَقْضِى الصلاةَ؟ فقالت: أحَرُورِيَّةٌ أنْتِ؟ فَقُلْتُ: لسْتُ بِحَرُورِيَّة.  وَلكِنْ أسْألُ. فَقَالَتْ: كَانَ يُصيبُنَا ذلكَ فنؤمَر بِقَضَاءِ الصَّوْم وَلا نُؤمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ.

معاذة بنت عبد الله العدوية، زوجة صلة بن أشيم، تابعية ثقة فقيهة، ماتت سنة 80 هـ رحمها الله تعالى.

 غريب الحديث:

ما بال الحائض: أي ما شأنها.

أحرورية أنت: نسبة إلى بلدة قُرب الكوفة، اسمها «حروراء» خرجتْ منها أول فرقة من الخوارج على عليّ بن أبي طالب h، فصار الخوارج يُعرفون بالحرورية.

المعنى الإجمالي:

سألت معاذة عائشة عن السبب الذي من أجله جعل الشارع أن الحائض تقضى أيام حيضها التي أفطرتها، ولا تقضى صلواتها زمن الحيض، مع اشتراك العبادتين في الفرضية، بل إن الصلاة أعظم من الصيام.

وكان عدم التفريق بينهما في القضاء هو مذهب الخوارج المبنى على الشدة الحرج.

فقالت لها عائشة -رضي الله عليها-: أحرورية أنتِ تعتقدين مثل ما يعتقدون، وتشددِين كما يُشدون؟

فقالت: لست حرورية، ولكنى أسأل سؤال متعلم مسترشد.

فقالت عائشة: كان الحيض يصيبنا زمن النبي ، وكنا نترك الصيام والصلاة زمنه، فيأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة، ولو كان القضاء واجباً، لأمر به ولم يسكت عنه.

فكأنها تقول: كفى بامتثال أوامر الشارع والوقوف عند حدوده حكمة ورشداً.

  ما يؤخذ من الحديث:

1- أن الحائض يجب أن تقضي الصيام دون الصلاة، لأن الصلاة تتكرر كل يوم خمس مرات، فهي عبادة مستمرة ويحصل من إعادتها وقضائها مشقة أيضاً، والمشقة تجلب التيسير.

2-أن ترك الأمر بالشيء مع وجود ما يقتضي الأمر به يدل على عدم وجوبه؛ لأن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم فإن الحيض يتكرر فلو وجب قضاء الصلاة لوجب بيانه، فلما لم يبين دل على عدم وجوبه.

3-الاكتفاء بذكر الدليل الشرعي عن ذكر الحِكمة، لأن المؤمن يقتنع به، حيث إن الشرع متضمن للحكمة بكل حال.

4-أن النص أبلغ وأقوى في الرد على المخالف، بخلاف ذكر الفرق المعنوي فإنه عرضة للمعارضة.

5-الإنكار على كل من سأل سؤال تعنت ومجادلة.

6-حرص السلف عن السؤال عن حكمة التشريع.

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

كِتَابُ الصلاة

الصلاة في اللغة الدعاء.

وفي الشرع: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم مع النية.

قوله:

بَابُ المَواقِيت

المواقيت: جمع «ميقات» والمراد هنا الميقات الزماني، وهو: الزمن المحدد لفعل الصلاة فيه.

لأن المواقيت قد تكون زمانية وقد تكون مكانية، كما في المواقيت المكانية للحج والعمرة.

ودخول الوقت شرط من شروط صحة الصلاة.

وبدأ المؤلف بالمواقيت؛ لأنها أهم شروط الصلاة.

 

الحديث الرابع والأربعون

عَن أبِى عَمْرو الشَّيْباني - واسمه سعد بن إياس - قال: حدثني صَاحِبُ هذا الدَّار - وَأشَار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود - قال: سَألْتُ رَسُولَ الله أُيّ الأعمالِ أحبُّ إِلى الله عزَّ وجل قال: “الصَّلاة عَلَى وَقْتِها”، قلت: ثم أيٌّ؟ قال «بِر الوالِدَين» قلت: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: «الْجِهَادُ في سبِيلِ الله» قال: حدثني بهن رسول الله ، ولو استزدته لزادني.

قوله: (عن أبي عمرو الشيباني) تابعي مخضرم أدرك ظهور النبي ولم يسلم إلا بعد وفاته، وهو مجمع على ثقته، رحمه الله تعالى.

وقوله: (حدثني صاحب هذه الدار) يعني دار ابن مسعود h، سبب ذكره لذلك إما لأنه حدثه في هذه الدار، أو للإشارة إلى ضبطه للحديث، أو لغير ذلك.

وابن مسعود هو عبد الله بن مسعود الهذلي أبو عبد الرحمن أحد السابقين الأولين، وأمه أم عبد بنتُ عبد الهذلية شهد بدرا والمشاهد، وأجهز على أبي جهل ببدر، واحتز رأسه، وهاجر الهجرتين، وصلى القبلتين، أسلم قبل عمر h، قال ابن مسعود: رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرُنا، وهو صاحب سِواد رسول الله يعني سره، لأنه قال له: (إذنك علي أن ترفع وتسمع سِوادي حتى أنهاك) فأباح له أن يسمع سره، وهو صاحب وساده يعني فراشه، وسواكه ونعليه وطَهوره، شهد له النبي بالجنة فيما ذكر في حديث العشرة بإسناد قال عنه ابن عبد البر: حسن جيد، وحسنه ابن الملقن.

وهو ممن جمع القرآن على عهد رسول الله وأحد الأربعة الذين أُمر بأخذ القرآن عنهم، وبقيتهم معاذ وأُبيّ وسالم مولى أبي حذيفة j.

وكان h رجلا قصيرا نحيفا يكاد طوال الرجال يوازيه جلوسا وهو قائم، وكان دقيق الساقين كثير العلم فقيه النفس كبير القدر، قال h: إني لأعلمهم بكتاب الله تعالى وما أنا بخيرهم وما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيم نزلت ومتى نزلت. ولم ينكر هذا القول عليه أحد. مات سنة 32هـ وقيل بعدها، ودفن بالبقيع h وأرضاه[1].

قوله: (أيّ الأعمالِ أحبُّ إِلى الله عزَّ وجل)

هذا السؤال عن الأفضل من الأعمال لتشتد المحافظة عليه، ويقدم العبد الأفضل منها ليكون أكثر لثوابه عند الله تعالى.

ويقصد بهذا السؤال الأعمال البدنية، بقرينة تخصيص الجواب بالصلاة وبر الوالدين والجهاد ولم يدخل في السؤال ولا جوابه شيء من أعمال القلوب التي أعلاها الإيمان.

وفيه  إثبات صفة المحبة لله تعالى، إثباتا يليق بجلاله.

قوله: (الصَّلاة عَلَى وَقْتِها)

فيه أن أحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة في وقتها، لكن هل في هذا الحديث ما يدل على أفضلية أول الوقت؟. جاء في رواية ابن خزيمة لهذا الحديث (1/169): (الصلاة لأول وقتها) وصححها ابن الملقن، وهو ظاهر في الاستدلال على أفضلية أول الوقت.

كما أن (على) للاستعلاء، فالمراد إيقاعها على أول الوقت.

ويستثنى من تفضيل أول الوقت صلاة الظهر عند اشتداد الحر، وصلاة العشاء عند عدم المشقة بتأخيرها.

قوله: (قلت: ثم أيٌّ؟ قال « بِر الوالِدَين)

البِر خلاف العقوق، وبر الوالدين: الإحسان إليهما، وفعل الجميل معهما، وفعل ما يسرهما، ويدخل فيه الإحسان على صديقهما، لقوله : (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) رواه مسلم.

وقوله: (ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: « الْجِهَادُ في سبِيلِ الله »)

الجهاد قد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية، ففرض العين يقدم على حق الوالدين، وفرض الكفاية لا يجوز إلا بإذنهما.

والأصل في جهاد الأعداء أنه من فروض الكفايات، إذا قام به من يكفى من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، وإنما يكون فرض عين في أربعة أحوال:

أولها: إذا تقابل الجيشان، حرُم على من حضر أن ينصرف، ووجب عليه الجهاد، لقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ لكن متى كان الكفار أكثر من مثلي عدد المسلمين لم يجب الجهاد عليهم، لقول الله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ.

الثاني: إذا داهم الكفار بلدا من بلدان المسلمين، وجب على أهله قتالهم ودفعهم.

الثالث: إذا استنفر ولي الأمر بعض المسلمين للجهاد، لزمهم أن ينفروا معه، لقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ولقوله : «وإذا استنفرتم فانفروا» رواه البخاري.

الرابع: إذا احتيج إلى أحد من المسلمين بعينه في الجهاد، صار الجهاد عليه واجباً.

فهذه أربعة أحوال يكون فيها الجهاد فرض عين، وفي غيرها يكون من فروض الكفايات.

وأنبه هنا إلى أن الجهاد الشرعي الذي يحبه الله تعالى ورسوله لا بد له من شروط، منها:

1- أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة على جهاد أعدائهم، لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة، لقوله سبحانه: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا، أما إذا كانوا في حال ضعف فلا يجوز لهم قتال الأعداء؛ لما في ذلك من التغرير بدماء المسلمين.

2- أن يكون تحت راية إمام المسلمين، فلا يجوز الجهاد إلا بإذنه، يدل لذلك ما رواه أبو هريرة h قال سمعت رسول الله يقول: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ» متفق عليه. البخاري 2957، ومسلم 1841 واللفظ للبخاري. وإنما أخرج مسلم منه : وإنما الإمام جنة . . . إلخ.

وقال السندي في حاشية النسائي 7/156: ((يقاتل من ورائه) المراد أنه يقاتل على وفق رأيه وأمره ولا يخالف عليه في القتال، فصار كأنهم خَلْفه في القتال . . . (ويُتَّقى به) أي يُعتصَم برأيه أو يَلتجئ إليه من يحتاج إلى ذلك).

ولأن الجهاد بلا إذن إمام المسلمين، يؤدي إلى أن يكون الأمر فوضى، وربما أدى إلى مفاسد وإضرار بالمسلمين.

وقال الموفق ابن قدامة: (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه) المغني 13/16.

3- إذن الوالدين، فلا يجوز الجهاد إذا لم يأذنا أو أحدهما، متى كان الجهاد فرض كفاية، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء، لما روى عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو k، قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ. فَقَالَ: «أَحَيُّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» متفق عليه. وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ: أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: « هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ ». قَالَ : أَبَوَاىَ. قَالَ : «أَذِنَا لَكَ». قَالَ : لاَ. قَالَ: « ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا »رواه أبو داود 2532، وصححه الألباني.

قوله: (ولو استزدته لزادني)

يعني من مراتب الأعمال وتفضيل بعضها على بعض، ويحتمل لزادني عما أسأله عنه مطلقا، وإنما ترك سؤاله خشية التطويل عليه.

إشكال:

سئل النبي عن المفاضلة في الأعمال في عدة أحاديث، وكانت الإجابات منه مختلفة، فمن ذلك:

حديث أبي هريرة h أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال حج مبرور. متفق عليه.

وفي حديث ابن عمر k: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. رواه البخاري

وفي حديث أبي موسى وابن عمرو j: أي الإسلام خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. رواه البخاري.

والجواب عن ذلك أن هذه الإجابات اختلفت لاختلاف حال السائلين، فأجاب كل واحد بما يناسب المقام، وبما يصلح له، وقد يكون الأفضل في حق قوم أو شخص مخالفا للأفضل في حق آخرين بحسب المصلحة اللائقة بالوقت والحال والشخص.

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم:

1- أن أحب الأعمال إلى الله تعالى، الصلاة في أوقاتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وذلك بعد وجود أصل الإيمان. فإن العبادات فروعه وهو أساسها.

2- أن بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى.

3- فضل السؤال عن العلم، خصوصاً الأشياء الهامة، فقد أفاد هذا السؤال نفعاً عظيماً.

4- ترك بعض السؤال عن العلم لبعض الأسباب كالرفق بالمسؤول والهيبة منه.

 

 الحديث الخامس والأربعون:

عن عَائشَةَ قالت: لقَدْ كَانَ النبي يصلَيِ الْفجر فَتَشْهَد مَعَهُ نسَاء من الْمُؤْمنَات متَلَفعاتٍ بِمُروطِهِن، ثمَ يرجعن إِلَى بُيُوتِهنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ
من الْغَلَسِ.

قال: المروط: أكسية معلمة تكون من خَزٍّ، وتكون من صوف.

ومتلفعات: ملتحفات. والغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل.

قولها: (بمروطهن): المرط -بكسر الميم- كساء مخطط بألوان. يشبه العباءة.

ومعنى «متلفعات» : متلففات، أي غطين أبدانهن ورؤوسهن.  

وقولها: (لقد كان . . ) اللام موطئة للقسم، وقد للتحقيق.

وكان: تفيد الملازمة والاستمرار على الشيء، ومن عادته أن يصلي الصبح وقت الغلس.

ومعنى الحديث:

أن نساء الصحابة رضي الله تعالى عنهن كن يلتحفن بأكسيتهن ويشهدن صلاة الفجر مع النبي ، ويرجعن بعد الصلاة إلى بيوتهن، وقد اختلط الضياء بالظلام، إِلا أن الناظر إليهن لا يعرفهن، لوجود بقية الظلام المانعة من ذلك.

وفي هذا الحديث الدلالة على أن النبي كان يصلي الفجر في وقت الغلس، وهو قول الجمهور لهذا الحديث وغيره.

وأجابوا عن حديث «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» بأجوبة كثيرة، وأحسنها جوابان:

1- أن يراد بالأمر بالإسفار تحقق طلوع الفجر عند خفائه في مبتدا طلوعه، حتى لا يتعجلوا، فيوقعونها في أعقاب الليل، ويكون « أفعل التفضيل « الذي هو « أعظم « جاء على غير بابه، وهو يأتي لغير التفضيل كثيراً.

2- وإما أن يراد بالإسفار إطالة القراءة في الصلاة، فإنها مستحبة، وبإطالة القراءة، لا يفرغون من الصلاة، إلا وقت الإسفار.

بل إن التغليس بالفجر كان آخر الأمرين من رسول الله فقد روى أبو داود من حديث ابن مسعود h أن النبي صلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد بالغلس حتى مات ولم يعد إلى أن يسفر. صححه ابن حبان وقال الخطابي: صحيح الإسناد.

قوله: (ما يعرفهن أحد من الغلس) مِن: للتعليل، أي بسبب الغلس.

وتقدم أن الغلس اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل مع غلبة الظلمة.

ومن فوائد الحديث:

1- استحباب المبادرة إلى صلاة الصبح في أول وقتها.

2- جواز إتيان النساء إلى المساجد لشهود الصلاة مع الرجال، مع عدم خوف الفتنة، ومع تحفظهن من إشهار أنفسهن بالزينة.

قال ابن الملقن رحمه الله تعالى بعد بيان شروط خروج المرأة من بيتها: والذي ينبغي في هذه الأزمان المنع مطلقا إلا أن تكون عالمة عاملة لا يفتتن بها، وذلك أن صلاتها في بيتها أفضل من المسجد مطلقا.

3-فيه دليل على خروجهن قبل الرجال اغتناما لظلمة الغلس، ومبادرة بحقوق أزواجهن. وفي رواية مالك في الموطأ (1/5) (فينصرف النساء متلفعات . . ) ظاهرة في ذلك، لأن الفاء تفيد التعقيب، وأما الرواية التي ذكرها المصنف ففيها (ثم) التي تفيد التراخي.

 

الحديث السادس والأربعون

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله k قال: كَان النَّبيُ يُصَلى الظهْرَ بالْهَاجرَةِ، وَالعَصْرَ والشمسُ نَقِية، وَالمغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالعشَاءَ أحياناً وأحْيَاناً، إِذا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عجَّلَ، وَإذا رآهُم أبْطَأوا أخَّرَ، والصبْحَ كَانَ النبي يُصَليهَا بِغَلَس.

الهاجرة: هي شدة الحر بعد الزوال. مأخوذة من هجر الناس أعمالهم لشدة الحر.

نقية: صافية، لم تدخلها صفرة ولا تغيُّر.

إذا وجبَت: سقطت وغابت، يعنى الشمس.

الغلس: اختلاط ظلام آخر الليل مع ضياء الصبح.

يفهم من هذا الحديث أفضلية المبادرة بصلاة الظهر مطلقا، ولكنه مخصص بحديث أبي هريرة h أن النبي قال: «إِذَا اشتَدَّ الْحَرُّ فَأبرِدُوا بِالصلاة فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ من فَيْح جَهَنمَ» متفق عليه.

من فوائد الحديث:

1- أفضلية المبادرة بالصلاة في أول وقتها إلا ما يستثنى.

2- أن الأفضل في العشاء، التأخير، ويكون إلى نصف الليل ، كما صحت به الأحاديث، إلا إذا اجتمع المصلون فتصلى خشية المشقة عليهم بالانتظار.

3- حسن رعاية النبي لأمته، واجتنابه ما يشق عليهم.

4- في الحديث دليل على التغليس في الفجر، وهو حجة على من يرى الإسفار كما تقدم.

5- في الحديث دليل على أن الصلاة في جماعة مقدم على الإتيان بالصلاة في أول وقتها، وذلك لمراعاة الجماعة في صلاة العشاء.

6-فيه دليل على أن سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب، لكن إن كان في مكان يوجد فيه ما يحول بينه وبين رؤية القرص كالجبال ونحوها، فإنه لا يكتفي بغياب القرص عن العين، بل يستدل على غروبها بظهور ظلمة الليل من المشرق، لقوله : «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» متفق عليه

 

الحديث السابع والأربعون

عَنْ أبي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ قالَ: «دَخَلْتُ أنَا وَأبي عَلَى أبي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أبي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله يُصَلي الْمَكْتُوبَةَ؟

فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّى الهجير الَّتي تَدْعُونَهَا الأوَلى، حِينَ تَدْحَضُ الشًمْسُ، وَيُصَلى الْعَصْرَ، ثُمّ يَرْجِعُ أحَدُنَا إِلى رَحْلِهِ في أقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشًمْسُ حَيّة. وَنَسِيت مَا قَال في الْمَغْرِبِ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخرَ مِنَ العشَاءِ التي تَدعُونَهَا الْعَتَمَةَ. وَكَانَ يَكْرَهُ النَوْمَ قبلَهَا وَاْلحدِيث بَعْدَهَا. وَكَان يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ اْلَغدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَجُلُ جَلِيسَهُ. وَكَانَ يَقْرأ بالستينَ إِلى الْمائَةِ».

سيار بن سلامة تابعي ثقة مات سنة تسع وعشرين ومائة رحمه الله تعالى.

وأبو بَرزة الأسلمي h هو نَضلة بن عبيد شهد فتح مكة، وغزى مع النبي غزوات، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة مات بعد سنة أربع وستين للهجرة.

قوله: كيف: اسم استفهام عن الكيفية، وهي هنا بمعنى: متى. للاستفهام عن الوقت، بدليل الجواب.

كان يصلي . .: تقدم أن (كان) تشعر بالدوام.

الهجير: أي الهاجرة، تقدم في الحديث السابق أن الهاجرة : هي شدة الحر بعد الزوال. مأخوذة من هجر الناس أعمالهم في ذلك الوقت؛ لشدة الحر.

الأولى: أي صلاة الظهر، لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي O.

تَدْحَض الشمس: أي تزول عن وسط السماء. إلى جهة الغرب. وهو الدلوك، والمَيْل.

يرجع أحدنا إلى رحله: أي منزله.

والشمس حية: أي نقية بيضاء، لا تزال حرارتها وإنارتها باقية، قبل أن تصفر أو تتغير.

ونسيت ما قال في المغرب: الناسي أبو المنهال، نسي ما قال أبو برزة h في المغرب.

العَتَمة: ظلمة الليل حين يغيب الشفق، ويمضى من الليل ثلثه، ويراد هنا، صلاة العشاء.

ينفتل من صلاة الغداة: ينصرف من صلاة الصبح.

من فوائد الحديث:

1- حرص السلف على السؤال عن سنة النبي لأجل اتباعها.

2- أن الوتر ليس من الصلوات المكتوبة، لأنه ذكر الصلوات الخمس ولم يذكر الوتر، خلافا للحنفية الذين يقولون بوجوبه.

3- أن النبي كان يصلي الصلوات الخمس في أول وقتها، عدا العشاء.

4- أن الأفضل في العشاء التأخير إلى آخر وقتها المختار، وهو نصف الليل لكن تقيد أفضلية تأخير العشاء بعدم المشقة على المصلين كما تقدم.

5- كراهة النوم قبل صلاة العشاء، لئلا تفوته صلاة العشاء أو أداؤها مع الجماعة.

6- كراهة الحديث بعدها لئلا ينام عن صلاة الليل، أو تفوته صلاة الفجر، أو لئلا يقع في اللغط واللغو وما لا ينبغي أن يختم به يقظته. لأن الصلاة تكفر خطاياه فينام على سلامة، وقد ختم كتاب صحيفته بالعبادة.

لكن كراهة الحديث بعد العشاء يستثنى منها ما يلي:

أ- مذاكرة العلم النافع:

قال البخاري: باب السمر في العلم. ثم ساق حديث (116) عبد الله بن عمر h قال: صلى بنا النبي العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على الأرض أحد».

ب- الاشتغال بمصالح المسلمين: لما روى عمر h قال: «كان رسول الله يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمر المسلمين وأنا معه» رواه الترمذي

ج- حديث الرجل مع أهله:

فعن ابن عباس k قال: وفدت في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله عندها لأنظر كيف صلاة رسول الله بالليل، قال: فتحدث النبي مع أهله ساعة ثم رقد. رواه مسلم

ومن ذلك الاشتغال بإكرام الضيف ونحوه.

7- في قوله : «التي تدعونها العتمة»: دليل على كراهة تسمية صلاة العشاء بالعتمة، وقد جاء في صحيح مسلم مرفرعاً «لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، فإنها في كتاب الله العشاء».

وورد ما يدل على الجواز، وأن الغضب من التسمية للكراهة فقط، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً «لو تعلمون ما في العتمة والفجر».

وجمع بعضهم بأن المكروه أن يغلب عليها اسم العتمة بحيث يهجر تسميتها بالعشاء.

8- أن يوقع صلاة الفجر في غلس، حيث ينصرف منها، الرجل لا يعرف إلا من بجانبه مع أنه يقرأ في صلاتها من ستين آية إلى المائة. لأن ابتداء معرفة الرجل جليسه يكون مع بقاء الغلس.

وليس في قوله: (حين يعرف الرجل جليسه) مخالفة لقوله في الحديث الآخر: (ما يعرفهن أحد من الغلس) لأنه إخبار عن رؤية جليسه وذلك إخبار عن رؤية النساء من بُعْد.

9- فضيلة تطويل القراءة في صلاة الصبح .

10- أن الأَولى تسمية الشيء باسمه الشرعي الوارد فيه؛ لئلا يُهجر فيجهل، ثم يوضح باسمه المشهور بين الناس.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

[1]   ابن الملقن وانظر الاستيعاب برقم 1391.

 

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله