شرح عمدة الأحكام
للحافظ عبد الغني المقدسي( )
برنامج دليل 1447هـ
المجلس الأول من الحديث 1-7
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، آله وصحبه، أما بعد.
المقدمة الأولى: التعريف بالمؤلف:
هو الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، العَابِدُ، الأَثَرِيُّ تَقِيُّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرِ المَقْدِسِيُّ، الجُمَّاعِيْليُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، الصَّالِحيُّ، الحَنْبَلِيُّ.
وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِمائَةٍ بِجُمَّاعِيلَ من أرض نابلس، في ربيع الآخر، وهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الشَّيْخِ المُوَفَّقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالمُوَفَّقُ وُلِدَ فِي شَعْبَان.
ونسب إلى بيت المقدس؛ لقرب جُمَّاعيل من بيت المقدس.
ثم انتقل مع أسرته إلى دمشق، فنسب إليها.
والصالحي نسبة إلى ناحية بسفح جبل قاسيون، حيث انتقل إليها أهله ونزلوها، وابتنوا فيها دارا ومدرسة، وكانوا أهل علم وصلاح، فسميت: الصالحية.
نشأ في بيت علم وتقى، فأخذ عن علماء بلده، ثم رحل في طلب العلم.
سَمِعَ الكَثِيْرَ بِدِمَشْقَ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَبَيْتَ المَقْدِسِ، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَحَرَّانَ، وَالمَوْصِلَ، وَأَصْبَهَانَ، وَهَمَذَانَ، وَكَتَبَ الكَثِيْرَ.
سَافرَ إِلَى بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ خَالِهِ الشَّيْخُ المُوَفَّقُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ، فَكَانَا يَخْرُجَانِ مَعاً، وَيَذْهَبُ أَحدُهُمَا فِي صُحْبَة رفِيقِهِ إِلَى دَرْسِهِ وَسَمَاعِهِ، كَانَا شَابَّيْنِ، وَكَانَ الحَافِظُ مَيْلُهُ إِلَى الحَدِيْثِ، وَالمُوَفَّقُ يُرِيْدُ الفِقْهَ، فَتفقَّهَ الحَافِظُ، وَسَمِعَ المُوَفَّقُ مَعَهُ الكَثِيْرَ.
وكان رحمه الله تعالى كثير العبادة، زاهدا، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكان كريما باذلا ما يأتيه من مال في وجوه الخير، ومساعدة الفقراء.
يصدع باعتقاد السلف، منكرا على أهل البدع، فأوذي لأجل ذلك، وشنع عليه بعض فقهاء عصره ممن ليسوا على عقيدة السلف، ووشوا به إلى السلطان، فطلب أن يحضر عنده وأن يكتب عقيدته: فكتب أقول كذا لقول الله كذا، وأقول كذا لقول رسول الله ﷺ كذا، حتى فرغ من المسائل التي شنعوا بها عليه، فلما رأى السلطان ما كتب، قال: أيش أقول في هذا، يقول بقول الله وقول رسوله ﷺ، فخلَّى عنه.
وَلَمْ يَزَلْ يَطلبُ، وَيعلم، وَيَأْمرُ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنَهى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَتقِي اللهَ، وَيَتعبَّدُ، إِلَى أَنْ مَاتَ.
توفي سنة 600هـ، وله 59 سنة، رحمه الله تعالى.
***
مؤلفاته: كثيرة جدا، تقارب المائة مؤلف، منها:
الكمال في معرفة رجال الكتب الستة. والذي هذبه المزي في تهذيب الكمال.
الأحكام الكبرى. (860 حديثا) انتخبها من الصحيحين والسنن الأربع وغيرها من كتب الحديث.
عمدة الأحكام (الأحكام الصغرى)، وهو هذا الكتاب الذي نتدارسه.
سيرة النبي ﷺ.
ينظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء 21/443.
المقدمة الثانية: التعريف بالكتاب:
هذا الكتاب جمع فيه مؤلفه جملة من أحاديث الأحكام، انتقاها مما اتفق عليه الإِمامانِ البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما.
وأحاديث الأحكام: هي ما دل على الأحكام الشرعية من السنة النبوية.
فجمع في هذا الكتاب ما يزيد على الأربعمائة حديث، فسهَّل على طلبة العلم حفظه ودراسته.
ويعد الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى من أوائل من صنف في جمع أحاديث الأحكام (الحلال والحرام) بكتابيه عمدة الأحكام، والأحكام الكبرى، ثم تتابع العلماء بعده في التصنيف في ذلك.
وقد انفردت عمدة الأحكام عن الأحكام الكبرى (89 حديثا)
***
عناية العلماء بعمدة الأحكام:
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد.
العدة على إحكام الأحكام، حاشية للصنعاني.
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لأبي حفص عمر بن الملقن الشافعي 804هـ.
العدة في معرفة رجال العمدة، لابن الملقن. عرف فيه برواة أحاديث العمدة.
تصحيح العمدة للزركشي.
رياض الأفهام شرح عمدة الأحكام، لتاج الدين الفاكهاني المالكي 734ه.
العدة في إعراب العمدة لابن فرحون.
كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، لمحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي 1188هـ.
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للشيخ البسام.
تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام، للعلامة ابن عثيمين.
وكلها مطبوعة.
أنبه إلى طريقة التعليق على هذه الأحاديث:
1- بيان معاني الكلمات المشكلة.
2- الأحكام والفوائد المستنبطة من الحديث بعينه باختصار، لا الأحكام المتعلقة بالباب مما لا تستنبط من الحديث.
قال ابن الملقن في الإعلام 1/73: (وأعرض عما فعله بعض الشراح من إيراد مسائل لا تستنبط من ألفاظ الحديث، كمن يأتي إلى حديث يدل على جواز مسح الخف مثلًا، فيأتي بمسائل ذلك الباب من غير أن تكون مستنبطة من الحديث الذي تكلَّم عليه، وإن أمكن فبطريق مستبعد).
3- ما يتعلق بالحديث من جمع بين حديثين متعارضين في الظاهر، أو الإشارة إلى خلاف قوي في مسألة مستنبطة من الحديث، ونحو ذلك مما يقتضيه المقام.
ﮣ ﮣ ﮣ
مقدمة المؤلف
(الحمد لله الملك الجبار، الواحد القهار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار. أما بعد:
فإن بعض إخواني سألني اختصار جملة في أحاديث الأحكام، مما اتفق عليه الإمامان: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ومسلم بن الحجاج بن مسلم القُشَيريُّ النيسابوري، فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به.
وأسأل الله أن ينفعنا به، ومن كتبه أو سمعه أَو قرأَه أَو حفظه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً للفوز لديه في جنات النعيم. فإنه حسبنا ونعم الوكيل).
***
في هذه المقدمة مسائل:
1- بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بالحمد والثناء على الله تعالى؛ اقتداء بكتاب الله ، فإنه مفتتح بسورة الفاتحة: (الحمد لله رب العالمين).
الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما. فإن كان وصفه بالكمال لا محبة وتعظيما فهو المدح. كمن يصف شخصا بالكمال خوفا منه ورهبة.
2- أتى بالشهادتين، عملاً بقوله ﷺ: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) رواه أبو داود.
والمعنى أن كل خطبة لا يؤتى فيها بالشهادتين فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة فيها.
3- في معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما في أثر أبي العالية رحمه الله تعالى قال: (صلاة الله عليه ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه الدعاء)( )
والصلاة من الآدمي بمعنى الدعاء للنبي ﷺ أن يثني الله عليه في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين.
وأما السلام عليه من الله تعالى فهو بمعنى أن الله يُسلِّمه من كل نقص وعيب.
ومن الآدمي: الدعاء بأن يسلمه الله من كل نقص وعيب.
4- اقتصر المؤلف رحمه الله تعالى على الصلاة، ولم يأتي بالسلام. قال ابن الملقن في الإعلام 1/105: (وكان ينبغي للمصنف أن يقرن الصلاة بالتسليم، وقد نص العلماء على كراهة إفراد أحدهما)
5- الآل: إذا ذكر وحده فالمراد جميع أتباعه على دينه، ويدخل فيهم من على دينه من قرابته، وأما إذا ذكر مع الآل الصحب، فالمراد بالآل المؤمنون من قرابته.
والصحب جمع صاحب، وهو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا به ومات على ذلك.
6- أما بعد: قيل هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره. وقيل: هي كلمة يؤتى بها للدخول في الموضوع المراد.
وقول أما بعد. هو السنة وهو المعروف في الأحاديث، قال البخاري في الصحيح: باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد. ثم ساق عدة أحاديث فيها أن النبي ﷺ قال في خطبه أما بعد.
ومعناها: مهما يكن من شيء بعد.
وقال ابن حجر في الفتح: لا تختص بالخطب بل تقال أيضا في صدور الرسائل والكتب. ثم قال: وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ وبعد. الفتح 2/515.
وذكر بعض أهل العلم أن (وبعد) لم يثبت عن النبي ﷺ .
7- ذكر في المقدمة سبب تأليف هذا الكتاب، وهو استجابة لطلب بعض طلبة العلم في أن يجمع لهم مختصرا في أحاديث الأحكام.
وهذه عادة كثير من أهل العلم أنهم لا يؤلفون إلا لسبب يقتضي التأليف، كسؤال بعض طلاب العلم العالمَ أن يؤلف لهم كتابا يحتاجون إليه، أو يرى العالم أن الناس بحاجة إلى مؤلَّف ما في موضوع معين، ولو لم يسألوه التأليف، ونحو ذلك من الأسباب.
8- هذه الأحاديث التي جمعها المؤلِّف في هذا الكتاب مما اتفق عليه الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى ليلة عيد الفطر 256ه، ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري 261ه.
وإنما اقتصر على هذين الكتابين لأنهما أصح الكتب المصنفة.
قال ابن الملقن في الأعلام 1/127: (واتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز صحيح البخاري وصحيح مسلم)
فما اتفق عليه الشيخان هو أعلى درجات الصحيح، وصحيح البخاري أصح من صحيح مسلم عند الجمهور.
لكن المؤلف رحمه الله تعالى قد خالف شرطه فذكر أحاديث انفرد بها البخاري، وأحاديث انفرد بها مسلم، إلا أنها قليلة، وإن شاء الله يأتي التنبيه عليها في موضعها.
9- قوله: (فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به، وأسأل الله أن ينفعنا به، ومن كتبه أو سمعه أَو قرأَه أَو حفظه أو نظر فيه ...)
فيه إخلاص النية في التأليف ورجاء النفع به، ودعاء الله بذلك، وقد تحقق للمؤلف ما يرجو بفضل الله تعالى ثم بحسن نيته فيما نحسبه، فنفع الله بهذا الكتاب نفعا عظيما، فإن المؤلف وإن كان حنبلي المذهب إلا أن أصحاب المذاهب اعتنوا بكتابه هذا، قال ابن الملقن في مقدمة شرحه 1/71، 72: (وخصصت الكلام عليها؛ لإكباب جميع المذاهب عليها).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (كتاب الطهارة)
الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة.
وفي الاصطلاح: ارتفاع الحدث وزوال النجس.
والطهارة على قسمين: طهارة حسية، وهي ما تقدم.
وطهارة معنوية، وهي طهارة العقيدة والأخلاق والأعمال، ومنها قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وقد بدأ المصنفون في الفقه وأحاديث الأحكام بالطهارة؛ لأنها مفتاح الصلاة، التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
ﮣ ﮣ ﮣ
الحديث الأول
عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ أبي حَفْصِ «عُمَرَ بْنِ الخَطَاب» قَال: سَمِعت رسُولَ الله ﷺ يَقُول: «إنَّمَا الأعْمَالُ بَالْنيَاتِ – وفي رواية: بالنية - وَإنَّمَا لِكل امرئ مَا نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرتُهُ لِدُنيا يُصيبُهَا، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُه إلَى مَا هَاجَرَ إليهِ».
راوي الحديث:
هو أبو حفص عمر بن الخطاب القرشي، ثاني الخلفاء الراشدين، أسلم في السنة الخامسة أو السادسة بعد البعثة، فكان إسلامه عزا للمسلمين.
روى الترمذي برقم 3681 عن ابن عمر : أن رسول الله ﷺ قال: (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب) قال: وكان أحبهما إليه عمر.
واتفقوا على تسميته بالفاروق لفرقانه بين الحق والباطل بإسلامه وظهور ذلك، ففي صحيح البخاري (3863) قال ابن مسعود : مازلنا أعزة منذ أسلم عمر.
وهو أول من سمي أميرا على عموم المسلمين. بويع له بالخلافة يوم مات الصديق بوصاية من الصديق إليه، فسار بأحسن سيرة.
وقال له النبي ﷺ: (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك) رواه البخاري، شهد المشاهد كلها مع النبي ﷺ، قتله أبو لؤلؤة المجوسي في ذي الحجة سنة 23هـ، ودفن مع النبي ﷺ وأبي بكر .
غريب الحديث:
«إنما الأعمال بالنيات» كلمة: إنما، تفيد الحصر، والحصر تخصيص شيء بشيء، ونفيه عما عداه، فهو في قوة (ما الأعمال إلا بالنيات).
ومعنى: (إنما الأعمال بالنيات) أي: إنما الأعمال، وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية.
و (إنما لكل امرئ ما نوى) يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه، فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يُراد بها الثواب على العمل.
والأعمال: جمع عمل، وهو ما يقوم به الإنسان من القول والفعل والترك المقصود، كقراءة القرآن، والطهارة، وترك السرقة قصدا.
«بالنيات» جمع نية، وهي لغة: القصد. وشرعا: العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى.
والمعنى أن كل عمل لا بد فيه من نية، إذا وقع من عاقل له.
«وإنما لكل امرئ ما نوى» أي ليس لكل إنسان إلا ما قصد بعمله، فإن قصد به عبادة الله فهو عبادة يثاب عليها، وإن قصد سوى ذلك فله ما قصد.
«فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» هذه جملة شرطية، واتحد الشرط والجواب لأنهما على تقدير « من كانت هجرته إلى الله ورسوله - نية وقصداً- فهجرته إلى الله ورسوله- ثوابا وأجراً».
والهجرة: في اللغة الترك. وفي الشرع: الانتقال من السكنى في بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام.
وهي باقية إلى قيام الساعة لمن قدر عليها.
إلى الله: أي إلى دينه ورضوانه.
ورسوله: الهجرة إلى الرسول في حياته: تكون بالانتقال إلى المدينة ليكون في معيته ويقوم بنصره، ويتعلم منه.
والهجرة إليه ﷺ بعد موته تكون إلى أتباعه ومكان إقامة شريعته.
(ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) من متاع الدنيا كالمال والشرف ونحوه.
«أو امرأة ينكحها» أي يتزوجها، وخص المرأة مع كونها داخلة في متاع الدنيا لكثرة تعلق الرغبات فيها، فكأنها في كفة وسائر متاع الدنيا في كفة، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ...)
«فهجرته إلى ما هاجر إليه» أي من دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، ولم يذكرهما كما ذكر الهجرة تحقيرا لشأنهما في أن تكون مراد المهاجر، الذي ينبغي ألا تكون هجرته إلا إلى الله ورسوله ﷺ.
مكانة الحديث:
صدَّر به البخاري كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة له، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا، ولا في الآخرة.
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: لو صنفت كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فعن الإمام الشافعي أنه قال: هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه. وعن الإمام أحمد قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، حديث عمر: «إنما الأعمال بالنيات» وحديث عائشة: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وحديث النعمان بن بشير: «الحلال بين والحرام بيّن».
وللنية في الشرع حالتان:
أحدها: الإخلاص في العمل لله وحده، وهو المعنى الأسمى، وهذا يتحدث عنه علماء التوحيد، والسير، والسلوك.
الثاني: تمييز العبادات عن العادات، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا يتحدث عنه الفقهاء.
وبهذا يتبين أن الفقهاء يجعلون النية على مرتبتين:
1- تمييز العادات عن العبادات، فالصوم مثلا فيه ترك للأكل والشرب في النهار، هذا الترك قد يكون عادة أو لأجل الحمية، وقد يكون عبادة، والمميز بينهما النية.
ومثله أيضا الاغتسال قد يكون من الجنابة أو لأجل الجمعة فيكون عبادة، وقد يكون للتبرد والتنظف فيكون عادة، والمميز لذلك النية. وإلا فصورة العمل واحدة.
2- تمييز العبادات بعضها من بعض، فبعض العبادات فرض وبعضها نفل، وهل هي أداء أو قضاء، وهل هي ظهر أو عصر؟ وهكذا فمثلا: صلاة ركعتين بعد أذان الفجر إما أن تكون فرضا أو راتبة الفجر، والمميز لذلك النية.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إن مدار الأعمال على النيات، فإن صحت النية صح العمل وأثيب عليه صاحبه، وإن فسدت النية فسد العمل.
2- أن النية شرط في العمل، ولكن بلا غُلُوّ في استحضارها يفسد على المتعبد عبادته. فإن مجرد قصد العمل يكون نِية له بدون تكلف استحضارها وتحقيقها.
3- أن النية مَحلُّها القلب، والتلفظ بها بدعة، لأنه لا يعرف ثبوت ذلك عن النبي ﷺ.
4- وجوب الحذر من الرياء والسمعة والعمل لأجل الدنيا، وأهمية العناية بأعمال القلوب، وتصحيح النية لله .
5-هذا الحديث دليل لأحد شرطي قبول العمل، وهو الإخلاص، والثاني: المتابعة، ويدل له قوله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّه﴾ وحديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وقد اجتمع هذان الشرطان في قوله ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾.
6-أن الطهارة من الأعمال، فلا تكون إلا بنية، ولكل متطهر ما نوى بتطهره، وهذا وجه إيراد المؤلف هذا الحديث في كتاب الطهارة، وإن كان الحديث يدخل في كل أبواب العلم.
7-أن الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام من أفضل العبادات إذا قصد بها وجه الله تعالى.
8-حسن تعليم النبي ﷺ لأمته، حيث ذكر قاعدة أن الأعمال بالنيات ...، ثم ضرب عليها مثالا يوضحها، وهو في قوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ...
ﮣ ﮣ ﮣ
الحديث الثاني
عَنْ أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسولُ الله ﷺ: «لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ أحَدكُمْ إذَا أحْدَثَ حَتَى يَتَوضًأ».
راوي الحديث:
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي أسلم عام خيبر، ولازم النبي ﷺ على شبع بطنه، واعتنى بحديث رسول الله ﷺ غاية العناية، وحدَّث بعده سنين طويلة، فصار أكثرَ الصحابة رواية للحديث، له في الكتب الستة أكثر من خمسة آلاف وثلاثمائة حديث. توفي سنة 57 وقيل: 58، وقيل: 59ه بالمدينة .
غريب الحديث:
«لا يقبل اللّه» بصيغة النفي، وهو أبلغ من النهي، لأنه يتضمن النهي، وزيادة نفى حقيقة الشيء.
فالله لا يقبل الصلاة بغير وضوء أي لا يرضاها من العبد، ولا تبرأ بها ذمته، ولا يثيبه عليها، بل إنه إذا صلى بغير وضوء متعمدا فإنه يأثم؛ لما في ذلك من محادة الله .
«أحدث» أي حصل منه أحد نواقض الوضوء، كالخارج من أحد السبيلين وغيره، وهذا في الحدث الأصغر.
وكذا لو حصل منه الحدث الأكبر، كمن صلى وهو جنب، فإن صلاته لا تقبل، ولو جاهلا أو ناسيا.
وقوله: (صلاة أحدكم) يعم كل صلاة فرضا كانت أو نفلا بما في ذلك صلاة الجنازة، فكلها لا بد فيها من الطهارة.
والحدث: وصف حكمي يقوم بالبدن، يمنع وجوده من صحة العبادة التي تشترط لها الطهارة، كالصلاة ومس المصحف والطواف ونحوها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فيه الدلالة على عظيم شأن الصلاة حيث لا يقبلها الله تعالى إلا بطهارة.
2- الحديث يدل على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة.
3- الحدث ناقض للوضوء ومبطل للصلاة، إن كان فيها.
4- أن صلاة المحدِث لا تُقبل حتى يتطهر من الحدثين الأكبر والأصغر، حتى وإن كان ناسيا أو جاهلا.
لأن الطهارة مأمور بها، والقاعدة أن ما كان من باب المأمورات فإنه لا يُعذر فيه بالجهل والنسيان، بخلاف ما كان من باب التروك فيعذر فيه بالجهل والنسيان، كإزالة النجاسة.
5- المراد بعدم القبول هنا: عدم صحة الصلاة وعدم إجزائها.
ﮣ ﮣ ﮣ
الحديث الثالث
عَنْ عَبْد الله بْن عَمْرو بْنِ الْعَاص، وَأبـي هُرَيرةَ، وَعَائِشَةَ رَضِى اللّه تَعَالَى عَنْهم قالوا: قالَ رَسُولُ الله ﷺ: «وَيْلٌ لِلأَعْقابِ مِنَ النَّار».
راوي الحديث:
ابن عمرو: هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي، كان كثير العبادة، روى كثيرا من الأحاديث عن رسول الله ﷺ، قيل توفي سنة 63هـ وعن أبيه.
وأبو هريرة تقدمت ترجمته.
وعائشة هي أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، وأبو بكر هو عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي، ولدت في الإسلام، وتزوجها رسول الله ﷺ في مكة بعد موت خديجة ، وقبل زواجه بسودة ، ولها ست سنين، ودخل بها في المدينة ولها تسع سنين، وتوفي عنها ولها ثماني عشرة سنة، وكانت عالمة فاضلة ذات رأي وفهم مكثرة من الرواية عن رسول الله ﷺ، قال فيها النبي ﷺ: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» متفق عليه، والثريد أن يثرد الخبز بمرق اللحم وقد يكون معه لحم، توفيت في المدينة سنة 58هـ.
سب ورود الحديث:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ ﷺ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا - وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ - وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا رواه البخاري (60)
أرهقتنا الصلاة: أي أعجلتنا لضيق الوقت.
نمسح: أن نغسل غسلا خفيفا كأنه مسح.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ». رواه مسلم (241).
غريب الحديث:
الويل: العذاب والهلاك. وقيل الويل واد في جهنم، وقيل كلمة تهديد ووعيد.
الأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر القدم، ويسمى العرقوب والمراد أصحاب الأعقاب.
و (ألـ) في «الأعقاب» للعهد، أي الأعقاب التي لا ينالها الماء في الوضوء.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الاعتناء بأعضاء الوضوء، وعدم الإخلال بشيء منها، وقد نص الحديث على القدمين وبقية الأعضاء مقيسة عليهما.
2- الوعيد الشديد لمن نقص في وضوئه، حيث توعده النبي ﷺ بالنار، وهذا يدل على أنه من الكبائر.
3- أن الواجب في الرجلين الغَسل في الوضوء إذا كانتا مكشوفتين، وهو ما تضافرت عليه الأدلة الصحيحة، وإجماع الأمة، خلافا لشذوذ الشيعة الذين خالفوا به جماهير الأمة، وخالفوا به الأحاديث الثابتة في فعله وتعليمه ﷺ للصحابة إياه، كما خالفوا القياس المستقيم من أن الغَسل للرجلين أنقى من المسح، فهو أشد مناسبة وأقرب إلى المعنى.
4- فيه أن الجزاء من جنس العمل، وهي قاعدة مطردة في الشريعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى: ﴿جَزَآءٗ وِفَاقًا﴾ أي وفق أعمالهم). تهذيب السنن 12/176.
ففي الخير قوله ﷺ: «من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» متفق عليه، وفي الشر: قول النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا» رواه مسلم.
ﮣ ﮣ ﮣ
الحديث الرابع
عَنْ أبى هريرة رَضىَ اللَه عَنْهُ: أن رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: «إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ مَاءً ثم ليَسْتَنْثِرْ وَمَن اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ. وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِل يَدَيْهِ قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ ثَلاثاً، فَإن أحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَاتت يَدُه».
وفي لفظ لمسلم: «فَلْيَسْتَنْشقْ بِمِنْخَرَيْهِ من الماء».
وفي لفظ: «مَنْ تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْشِقْ».
غريب الحديث:
فليجعل في أنفه ماء: أي ليضع في أنفه ماء، والمقصود أن يستنشق، كما يفسره اللفظ الذي في مسلم (فليستنشق بمنخريه من الماء). والاستنشاق: أن يجذب الماء بنَفَسِه إلى داخل الأنف.
ثم لينتثر: أي يخرج من أنفه الماء الذي استنشقه.
استجمر: الاستجمار مسح القبل أو الدبر من أثر البول أو الغائط بالجمار، وهي الحصا.
فليوتر: أي يجعل استجماره وترا، ثلاثا أو خمسا أو سبعا . . . بحسب ما يحصل به الإنقاء.
أين باتت يده: أي أين كانت يده حال نومه.
***
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الاستنشاق والاستنثار؛ للأمر به في هذا الحديث في قوله: (فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر).
والسنة أن يكون الاستنشاق والاستنثار قبل غسل الوجه.
2- فيه الأمر بقطع الاستجمار على وتر، لقوله: (ومن استجمر فليوتر) وهذا الأمر على الوجوب في الثلاث مسحات، حتى لو أنقى بأقل منها؛ لحديث سلمان : نهانا – يعني النبي ﷺ - أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. رواه مسلم.
أما إذا مسح ثلاث مسحات فلم ينق وجب أن يزيد في المسح حتى ينقي، فإن أنقى على وتر كفى، وإلا استحب أن يزيد واحدة يوتر بها، لحديث: (ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج عليه) رواه أبو داود (35) وحسنه الحافظ في الفتح 1/257.
3- وجوب غسل كفي القائم من نوم الليل قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاث مرات؛ لقوله (باتت) والبيتوتة لا تكون إلا في الليل.
والحكمة في ذلك أن النائم لا يدري أن باتت يده.
4- حسن تعليم النبي ﷺ حيث ربط الحكمة ببيان علته، ليزداد المؤمن إيمانا، ويظهر سمو الشريعة وكمالها.
ﮣ ﮣ ﮣ
الحديث الخامس
عَنْ أبى هريرة أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: «لا يَبولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ».
ولمسلم «لا يَغْتَسِلْ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُب».
غريب الحديث:
«الذي لا يجرى»: تفسير للدائم، وهو المستقر في مكانه كالغُدْرَان في البرية، أو نقع الماء، ومثلها خزانات المياه.
«ثم يغتسل فيه»: أي لا يبولن في هذا الماء مع أن آخر أمره أنه يغتسل فيه، وفيه الإشارة إلى حكمة النهي.
4- «لا يغتسلْ»: مجزوم بـ (لا) الناهية.
5- «وهو جنب»: الجملة في موضع نصب على الحال.
ما يؤخذ من الحديث:
1- ظاهر النهى تحريم البول وكذا الاغتسال في الماء الدائم القليل والكثير، لئلا يلوثها ويُكرِّه الناس في الانتفاع بها، ويُخص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء.
2- أن الماء الذي بيل فيه إن كان قد تغير بالنجاسة فإنه يكون نجسا بالإجماع، قليلا كان أو كثيرا، وإن لم يتغير بالنجاسة فلا يخلو إن كان كثيرا فهو طهور بالإجماع، وإن كان قليلا، أي دون القلتين، فهو محل خلاف فمذهب الحنابلة على أنه نجس، واحتجوا بأدلة منها هذا الحديث.
والقول الثاني أنه باق على طهوريته، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لكن ينبغي التحرز في الماء القليل إذا أصابته نجاسة فكثيرا ما يتغير، أما إن لم يتغير فهو باق على طهوريته، لحديث «الماء طهور لا ينجسه شيء» رواه أبو داود.
وأجابوا عن حديث الباب بأن النهى عن البول في الماء الدائم؛ لتكريهه على السقاة والواردين لا لتنجيسه.
وأيضا الماء المغتسَل فيه باق على طهوريته على القول الراجح سواء أكان قليلا أم كثيرا.
3-في هذا الحديث النهْيُ عن البول في الماء الذي لا يجري، وأولى بالنهي التغوط سواء أكان الماء قليلا أم كثيرا، دون المياه المستبحرة فإن ماءها لا يتنجس بمجرد الملاقاة، بل ينتفع به لحاجات كثيرة غير التطهر به من الأحداث.
4-النهى عن الاغتسال في الماء الدائم بالانغماس فيه، لاسيما الجنب ولو لم يبُلْ فيه كما في رواية مسلم، لما في ذلك من تقذير الماء بأوساخ الجنابة، والمشروع أن يتناول منه تناولا.
5-جواز البول والاغتسال في الماء الجاري، لأن البول يجري مع الماء ولا يستقر، مع أن الأحسن تجنيبه البول لعدم الفائدة في ذلك وخشية التلويث، وضرر الغير.
6-النهى عن كل شيء من شأنه الأذى والاعتداء.
7-جاء في بعض روايات الحديث «ثم يغتسل منه» وجاء في بعضها: «ثم يغتسل فيه» ومعنياهما مختلفان، إذ أن «في» ظرفية فتفيد الانغماس في الماء المتبول فيه، و«من» للتبعيض فتفيد معنى التناول منه.
الحديث السادس
عَنْ أبي هريرة أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قالَ: «إذَا شَرِبَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدكم فْليَغسِلْهُ سَبْعاً» ولمسلم « أولاهُنَ بِالتَرابِ».
وله في حديث عبد الله بنِ مُغَفَل أن رسول الله ﷺ قال: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَا وَعَفرُوه الثًامِنَةَ بِالتراب».
عبد الله بن مغفل: هو عبد الله بن مغفل المزني، بايع النبي ﷺ بيعة الرضوان تحت الشجرة، وقد قال الله تعالى: ﴿لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ﴾ وجاء في فضل هذه البيعة:
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ»، وقَالَ جَابِرٌ : «لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ لَأَرَيْتُكُمْ مَوْضِعَ الشَّجَرَةِ» رواه مسلم (1856)
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» رواه أبو داود (4653)
توفي بالبصرة سنة 59هـ .
غريب الحديث:
«إذا ولغ» مضارعه يلَغ بالفتح فيهما، أي شرب بطرف لسانه. وهو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع، فيحركه ولو لم يشرب. فالشرب أخص من الولوغ.
الكلب: ال فيه لاستغراق الجنس، فيعم جميع الكلاب.
«عفروه» التعفير، التمريغ في العفر، وهو التراب.
ما يؤخذ من الحديث:
1- التغليظ في نجاسة الكلب، لشدة قذارته، ولذا فإنه يعد نجسا وإن لم تظهر فيه آثار النجاسة.
ففي هذا الحديث نجاسة لعابه أي ريقه، وكذا كل ما يخرج من بدنه من عرق وبول وعذرة وغيره فهو نجس، لأنه إذا وجب التطهير من ولوغه فبوله وعذرته ونحوهما أولى.
2- إن ولوغ الكلب في إناء، ومثله أكله من الإناء، يُنجّس الإناء. وينجس ما فضل منه.
3- وجوب غسل ما ولغ فيه سبع مرات.
4-وجوب استعمال التراب مرة، والأَولى أن يكون مع الأُولى ليأتي الماء بعدها، وتكون هي الثامنة المشار إليها في الرواية الأخرى، فلا تعارض بين رواية (أولاهن) ورواية (وعفروه الثامنة) فالمراد بالثامنة أنها ثامنة باعتبار زيادتها على الغَسَلات السبع بالماء، لا باعتبار أنها الأخيرة.
ولا فرق بين أن يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء أو أن يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيغسل به أما مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزئ.
ﮣ ﮣ ﮣ
الحديث السابع
عن حُمْرانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ، أنه رَأى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضوء فَأفرَغ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ فَغَسَلهُمَا ثَلاثَ مَرات، ثُمَّ أدْخَلَ يَميِنَهُ في الوَضُوءِ، ثم تمضْمَضَ وَاستَنْشَق واسثتَنْثَرَ، ثُم غَسَلَ وَجهَهُ ثَلاثَاً، وَيَدَيْهِ إلَىِ الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً، ثُّمَ مَسَحَ برأسه ثُم غَسَل كِلْتَا رجْلَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَ قَالَ: رَأيتُ النبي ﷺ توَضًأ نحْوَ وُضوئي هذَا وَقَالَ: «من تَوَضًأ نَحْوَ وُضُوئي هذَا ثُمَّ صَلَى رَكْعَتَين لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
راوي الحديث:
حمران: هو حمران بن أبان بن خالد من ثقات التابعين، أعتقه عثمان ، مات بالبصرة سنة 75هـ رحمه الله تعالى.
عثمان: هو عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي الأموي، أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين، أسلم قديما بمكة على يد أبي بكر ، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، زوجه النبي ﷺ ابنته رقية فلما توفيت زوجه ابنته أم كلثوم ، فلُقِّب بذي النورين، بايع عنه النبي ﷺ بيعة الرضوان بيده الكريمة، تولى الخلافة بمبايعة أهل الشورى وهم الستة الذين اختارهم عمر ، بشَّره النبي ﷺ بالجنة، فقتل شهيدا صابرا مظلوما سنة 35هـ، ودفع بالبقيع .
غريب الحديث:
«وَضوء»: بفتح الواو. الماء الذي يتوضأ به. يقال: الوُضوء والطُهور -بضم أولهما- إذا أريد الفعل الذي هو المصدر، وبفتح أولهما، إذا أريد الماء الذي يتطهر به.
تمضمض: أي أدار الماء في فمه.
«إلى المرفقين»: مثنى مرفق، وهو مفصل العضد من الذراع، و(إلى) بمعنى (مع) يعنى مع المرفقين.
«ثم»: لم يقصد بها هنا التراخي كما هو الأصل في معناها، وإنما قصد بها مجرد الترتيب.
«نحو وضوئي» : جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث «مثل وضوئي هذا».
«لا يحدِّث فيهما نفسه»: حديث النفس، هو الوساوس والخطرات. والمعنى لا يفكر في شيء خارج عن صلاته، يعنى، فلا يسترسل في ذلك، وإلا فالأفكار يتعذر السلامة منها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فضيلة أمير المؤمنين عثمان حيث حرص على تعليم سنة النبي ﷺ.
2- أنه ينبغي للمعلم أن يسلك أفضل الطرق لإيصال العلم، ومن ذلك التعليم بالفعل كما في هذا الحديث، فإنه أقرب إلى الفهم وثبات العلم.
3- أن من فعل العبادة لله وقصد مع ذلك تعليم الناس لم ينقص إخلاصه.
4-مشروعية غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما في ماء الوضوء عند التوضؤ، وهو سنة، إلا في حق القائم من نوم الليل كما تقدم فيجب.
5- أن من السنة التيامن في تناول ماء الوضوء لغسل الأعضاء. لقوله: «ثُمَّ أدْخَلَ يَميِنَهُ في الوَضُوءِ».
6- مشروعية التمضمض، والاستنشاق، والاستنثار على هذا الترتيب. ولا خلاف في مشروعيتهما، وإنما الخلاف في وجوبهما، والصحيح وجوبهما لورود الأمر بهما فيما تقدم.
7- غسل الوجه ثلاثا، وحدُّه: من منابت شعر الرأس إلى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وكذلك يثلث في المضمضة والاستنشاق، لأن الأنف والفم من مسمى الوجه. فالوجه عند العرب. ما حصلت به المواجهة.
8- غسل اليدين مع المرفقين ثلاثاً.
9- قوله: (ثم مسح برأسه) ظاهر في كونه مسح جميع الرأس، وعلى هذا دلت السنة، ففي الصحيحين في صفة وضوئه ﷺ: «مَسِحَ رأسه بيدَيْهِ فَاْقْبَلَ بِهِمَا وَأدْبِرَ، بَدَأ بُمَقدَّم رَأسِهِ، ثُمً ذَهَبَ بِهِمَا إِلى قَفاه، ثُم ردهما إِلَى المَكَانِ الذي بَدَأ مِنْهُ «. ليعم المسح ظاهر الشعر وباطنه.
قال ابن القيم: (وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ الْبَتَّةَ) زاد المعاد 1/186.
10- غسل الرجلين مع الكعبين ثلاثا.
11- وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، لأنه عطفها في هذا الحديث بثم، وهي تفيد الترتيب كما تقدم.
12- إن هذه الصفة هي صفة وضوء النبي ﷺ الكاملة.
13- مشروعية الصلاة بعد الوضوء، وهي المعروفة بسنة الوضوء، وهي من ذوات الأسباب.
14- إن سبب تمام الصلاة وكمالها، حضور القلب بين يدي الله تعالى وفيه الترغيب بالإخلاص، والتحذير من عدم قبول الصلاة ممن لهى فيها بأمور الدنيا، ومن طرأت عليه الخواطر الدنيوية وهو في الصلاة فطردها يرجى له حصول هذا الثواب.
15- يسر أسباب المغفرة، فمن توضأ وضوءا كاملا ثم صلى ركعتين يخشع فيهما غُفر له ما تقدم من ذنبه، فالمغفرة في هذا الحديث مرتبة على حصول الأمرين: الوضوء والصلاة.
وقد خص جمهور العلماء الغفران الذي هنا بصغائر الذنوب، أما الكبائر فلابد لغفرانها من التوبة منها.
والحمد لله رب العالمين.
ﮣ ﮣ ﮣ