الدليل

2025-11-19 13:57:09

الأرجوزة المئية_04

شرح الأرجوزة المئية في ذكر حال أشرف البرية

لابن أبي العز الحنفي A 

برنامج دليل 1447هـ

الدرس الرابع

 

الحمد لله .. أما بعد:

فيقول الناظم A:

42 - أَكْمَلَ فِي الْأُولَى صَلاَةَ الْحَضَرِ  *** مِنْ بَعْدِ مَا جَمَّعَ فَاسْمَعْ خَبَرِي 

أي أكمل رسول الله في السنة الأولى من الهجرة صلاة الحضر، أي بزيادة ركعتين على الظهر والعصر والعشاء، فصارت أربعا، وأبقيت صلاة السفر ركعتين على ما كانت عليه قبل الهجرة.

عَنْ عَائِشَةَ J، قَالَتْ: «فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الأُولَى» رواه البخاري 3935، ومسلم 685.

وعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: «قَدْ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ الْمَدِينَةَ زَادَ مَعَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ، فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ لِطُولِ قِرَاءَتِهِا، قَالَ: وَكَانَ إِذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ الْأُولَى» رواه الإمام أحمد 26042، وابن خزيمة في صحيحه 944، قال ابن رجب في الفتح 2/329: (وهذه الرواية إسنادها متصل، وهي تدل على أن إتمام الظهر والعصر والعشاء أربعا تأخر إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة).

وكان إتمام الصلاة الرباعية بعدما (جمَّع) أي أقام عليه الصلاة والسلام أول صلاة جمعة في المدينة، في السنة الأولى من الهجرة، ولم تكن الجمعة فرضت في مكة.

43 - ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ فِي قُبَاءِ *** وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ الْغَرَّاءِ 

أي ثم بنى رسول الله مسجد قباء، ويقع جنوب المسجد النبوي، يبعد عنه نحو ثلاثة كيلو مترات ونصف.

وتسن الصلاة في مسجد قباء، فيخرج إليه متطهراً ويصلي فيه؛ لفعله حيث كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً ويصلي فيه ركعتين. متفق عليه.

وقال النبي : «مَنْ تَطَهَّر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة» رواه النَّسائيّ وابن ماجه.

وبنى أيضا مسجد المدينة، وهو المسجد النبوي، أمر الصحابة M ببنائه، وشاركهم في البناء عليه الصلاة والسلام.

وروى البخاري 3906 في قصة الهجرة: «... فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ المَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى[1]، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ». ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ الغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالاَ: لاَ، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ، وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: «هَذَا الحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ، هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَالمُهَاجِرَهْ».

وجاء في فضل الصلاة في المسجد النبوي قول النبي : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلّا المسجد الحرام» متفق عليه.

44 - ثُمَّ بَنَى مِنْ حَوْلِهِ مَسَاكِنَهْ  ***  ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدُ فِي هَذِي السَّنَةْ 

45 - أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الَّذِينَ سَافَرُوا  *** إِلَى بِلاَدِ الْحُبْشِ حِينَ هَاجَرُوا 

أي ثم بعد فراغه من بناء المسجد بنى حول مسجده مساكنه، وهي حجرات نسائه المتصلة بالمسجد، وكان بناء هذه الحجرات متتابعا بقدر الحاجة، فإنه لم يكن له زوجة حين قدم المدينة إلا سودة J كما تقدم أنه دخل بها في المدينة، وعائشة عقد عليها في مكة ثم دخل بها في المدينة، ثم تزوج غيرهما كما هو معروف في سيرته .

وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنصاري I أَنَّ النَّبِيَّ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ فِي السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، قَالَ: فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ، فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «السُّفْلُ أَرْفَقُ»، فَقَالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ فِي الْعُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ ...» رواه مسلم 2053.

ثم بعد مضي بعض الشهور أتى إلى المدينة في تلك السنة الأولى بعض من هاجر إلى الحبشة من الصحابة M، وكان عددهم أقل من نصف عدد الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة.

46 - وَفِيهِ آخَى أَشْرَفُ الْأَخْيَارِ  *** بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ 

أي وفي العام الأول من هجرة النبي آخى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين من مكة والأنصار، وهم الأوس والخزرج M جميعا، والمؤاخاة هي معاقدة بين الرجلين على النصرة والتعاون فيما بينهما كأنهما أخوين من النسب.

ومن أمثلة المؤاخاة التي حصلت بين المهاجرين والأنصار ما روى البخاري 3781 عَنْ أَنَسٍ I، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ كَثِيرَ المَالِ، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ،[2] فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيْهِ، وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «مَهْيَمْ». قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ «مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟». قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»

47- ثُمَّ بَنَى بِابْنَةِ خَيْرِ صَحْبِهِ *** وَشَرَعَ الْأَذَانَ فَاقْتَدِي بِهِ 

أي ثم (بنى) أي دخل النبي في السنة الأولى من الهجرة بعائشة J، بنت خير الصحابة M، وهو أبو بكر الصديق I،

وقيل لمن دخل على زوجه بنى بها؛ لأن أصله أن الداخل بأهله كان يبني عليها قبة ليلة الدخول، فقيل لكل من دخل على أهله: بنى بأهله.

عَنْ عَائِشَةَ J، قَالَتْ: «تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ، فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي، فَوَفَى جُمَيْمَةً فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ، وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ، وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا، لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لَأُنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي البَيْتِ، فَقُلْنَ عَلَى الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ» رواه البخاري 3894، ومسلم 1422.

ومعنى (تزوجني) عقد علي عقد الزواج وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. (فوعكت) أصابني الوعك وهو الحمى. (فتمرَّق) تقطَّع (فوفى) كثر. (جميمة) مصغر الجمة وهي ما سقط على المنكبين من شعر الرأس. (أم رومان) كنية أم عائشة J واسمها زينب بنت عامر بن عويمر J. (لأُنهج) أتنفس تنفسا عاليا ويغلبني التنفس من الإعياء، والنهج تتابع التنفس من شدة الحركة أو فعل متعب. (خير طائر) قدمت على خير، وقيل على خير حظ ونصيب. (فأصلحن من شأني) أي مشطنها وزينها. (فلم يرعني) لم يفاجئني، ويقال هذا في الشيء الذي لا يتوقع فيأتي فجأة في غير زمانه ومكانه.

وكان دخوله بعائشة J في شوال من السنة الأولى، فعَنْ عَائِشَةَ J قَالَتْ: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟»، قَالَ: «وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ» رواه مسلم 1423.

قال النووي في شرح مسلم 9/209: (وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال وهذا باطل لا أصل له وهو من آثار الجاهلية كانوا يتطيرون بذلك).

ومن أحداث السنة الأولى من الهجرة أن شرع فيها النبي الأذان.

وقوله: (فاقتدي): فعل أمر، والأصل فاقتدِ. لأنه مجزوم بحذف حرف العلة، لكن أثبت الياء هنا لضرورة الشعر، ويحتمل أن يكون ضبطه: (فاقتُدِيْ) على أنه فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله، وتسكين الياء لضرورة الشعر.

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ L أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ : «يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ» رواه مسلم 377.

48 - وَغَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ بَعْدُ فِي صَفَرْ  *** هَذَا وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَزْوُ اشْتَهَرْ 

49 - إِلَى بُوَاطَ ثُمَّ بَدْرٍ وَوَجَبْ *** تَحَوُّلُ الْقِبْلَةِ فِي نِصْفِ رَجَبْ

أي أن غزوة الأبواء - وهو موضع بين مكة والمدينة - في صفر من السنة الثانية من الهجرة، وهي أول غزوات الرسول .

وفي السنة الثانية من الهجرة غزوة بواط، وهي وادي شمال غرب المدينة، يبعد عنها ما يقارب خمسة وسبعين كيلو مترا، خرج إليها رسول الله حين بلغه أن عيراً لقريش راجعة من الشام، فيها أمية بن خلف، ومائة من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فخرج إليهم رسول الله في مائتين من المهاجرين والأنصار، فوصل جيش المسلمين إلى بواط، ولكن عيون قريش علمت بذلك فأسرعت قافلتهم بسيرها، وسلكت طريقا آخر، فلم يلقهم المسلمون، ورجع رسول الله ولم يلق كيدا.

ثم بعدها في السنة الثانية غزوة بدر الأولى، وسببها أن كرز بن جابر الفهري ومعه جماعة من المشركين أغاروا على مراعي ضواحي المدينة، واستاقوا بعض إبل وغنم المسلمين، فخرج رسول الله إليهم في مائتين من المسلمين لمطاردتهم، لكنهم فروا، ورجع المسلمون من غير حرب.

ومن أحداث السنة الثانية من الهجرة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في نصف شهر رجب من تلك السنة. 

عَنِ البَرَاءِ I: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى، أَوْ صَلَّاهَا، صَلاَةَ العَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ» فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ. رواه البخاري 4486، ومسلم 525، واللفظ للبخاري.

50 - مِنْ بَعْدِ ذَا الْعُشَيْرُ يَا إِخْوَانِي *** وَفَرْضُ شَهْرِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانِ 

أي أن تحوُّل القبلة كان بعد غزوة ذي العُشير.

والعشير: وادٍ سمي باسم شجر ينبت فيه اسمه العُشَر، وتصغيره العُشير، ويقال العشيرة، وهو موضع غربي المدينة، يبعد عنها مائة وسبعين كيلو مترا، بالقرب من ينبغ النخل.

خرج رسول الله بجيش المسلمين إلى العشيرة لرصد قافلة لقريش على الطريق بين مكة والشام، فعلمت قريش بذلك، فلم يلقهم، وحالف النبي بني مدلج وحلفاءهم، ورجع من غير قتال.

وفي شعبان من السنة الثانية للهجرة فرض صوم شهر رمضان.

51 - وَالْغَزْوَة الْكُبْرَى الَّتِي بِبَدْرِ  *** فِي الصَّوْمِ فِي سَابِعِ عَشْرِ الشَّهْرِ 

أي ومن أحداث السيرة النبوية في السنة الثانية من الهجرة غزوة بدر الكبرى، وكانت في شهر الصوم شهر رمضان في اليوم السابع عشر منه.

وسميت بدر الكبرى لتمييزها عن بدر الصغرى الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

وبدر بلد تقع في الجنوب الغربي من المدينة، تبعد عنها مائة وخمسة وخمسين كيلو مترا.

ويسمى يوم بدر يوم الفرقان، لأن الله تعالى أعز فيه الإسلام وأهله، وأذل الشرك وأهله، مع ما كان عليه المسلمون من قلة العدد والعدة، وأهي أعظم الغزوات وأشرفها، حتى قال النبي في قصة حاطب بن أبي بلتعة I، وكان ممن شهد بدرا: (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) رواه البخاري 3007، ومسلم 2494، وفي رواية للبخاري 6259: (فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ).

***

52 - وَوَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ  *** مِنْ بَعْدِ بَدْرٍ بِلَيَالٍ عَشْرِ 

أي وفي تلك السنة الثانية من الهجرة فُرضت زكاة الفطر في شهر رمضان، بعد مضي عشر ليال من غزوة بدر الكبرى، أي لثلاث ليال بقين من رمضان.

53 - وَفِي زَكَاةِ الْمَالِ خُلْفٌ فَادْرِ  ***  وَمَاتَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ الْبَرِّ 

54 - رُقَيَّةٌ قَبْلَ رُجُوعِ السَّفْرِ *** زَوْجَةُ عُثْمَانَ وعُرْسُ الطُّهْرِ 

55 - فَاطِمَةٍ عَلَى عَلِيِّ الْقَدْرِ  *** وَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ بَعْدَ الأَسْرِ

في هذه الأبيات عدة حوادث من حوادث السيرة.

الأولى: فرض زكاة المال: وأشار الناظم رحمه الله تعالى إلى أن وقت فرضها فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من قال فرضت بمكة، ومنهم من قال فرضت بالمدينة.

وقال ابن كثير في تفسيره 5/462: (وقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ: الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: ﴿وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦ [الأنعام: 141]).

والثانية: وفاة رقية J ابنة النبي ، بعد مرض ألمَّ بها، وهي بنت ثلاث وعشرين سنة، وكانت وفاتها قبل رجوع السَّفْر، أي المسافرين، أي قبل رجوع رسول الله وأصحابه M من غزوة بدر الكبرى.

ورقية هي زوجة عثمان L، وتخلَّف عثمان I عن بدر لاشتغالها بتمريضها J.

ولما جاء رجل لابن عمر L فقال له: هل تعلم أن عثمان تغيب يوم بدر؟ قال نعم، ثم قال ابن عمر L: (وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ) رواه البخاري 3698.

والثالثة: زواج فاطمة بعلي L، ولهذا قال: (وعرس الطهر) أي فاطمة الطاهرة المطهرة J، بنت رسول الله ، تزوجها ابن عمها علي بن أبي طالب I، وعمرها ثماني عشرة سنة، وعمره خمس وعشرون سنة، وهو (عليُّ القَدْر) أي رفيع القدر عند الله تعالى، وعند المؤمنين.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ L أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: تَزَوَّجْتُ فَاطِمَةَ J، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنِ بِي، قَالَ: «أَعْطِهَا شَيْئًا» قُلْتُ: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟» قُلْتُ: هِيَ عِنْدِي، قَالَ: «فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ» رواه النسائي[3].

ومعنى (الحطمية) أي التي تحطم السيوف.

والرابعة: إسلام العباس بن عبد المطلب I، عم النبي ، بعد أسره في غزوة بدر الكبرى.

56 - وَقَيْنُقَاعُ غَزْوُهُمْ فِي الْإِثْرِ  *** وبعدُ ضحَّى يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ 

أي ومن أحداث السيرة بعد ذلك غزوة بني قينقاع، وبنو قينقاع من قبائل اليهود، كانوا يسكنون بعوالي المدينة، وكان غزوهم في إثر غزوة بدر الكبرى، أي بعدها بأيام قليلة.

قال ابن كثير في الفصول ص142: (ونقض بنو قينقاع ـ أحد طوائف اليهود بالمدينة ـ العهد وكانوا تجاراً وصاغة، وكانوا نحو السبعمائة مقاتل، فخرج النبي لحصارهم، واستخلف على المدينة بشير بن عبد المنذر، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكمه ، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، وهو سيد الخزرج، فشفَّعه فيهم بعد ما ألحَّ على رسول الله ، وكانوا في طرف المدينة).

ثم بعد ذلك في شهر ذي الحجة ضحى النبي بنسك الأضحية في يوم عيد النحر من ذلك العام الثاني من الهجرة.

57 - وَغَزْوَةُ السَّوِيقِ ثُمَّ قَرْقَرَةْ *** وَالْغَزْوُ فِي الثَّالِثَةِ الْمُشْتَهِرَةْ 

58 - فِي غَطَفَانَ وَبَنِي سُلَيْمِ *** وَأُمُّ كُلْثُومَ ابْنَةُ الْكَرِيمِ 

59 - زَوَّجَ عُثْمَانَ بِهَا وَخَصَّهْ *** ثُمَّ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ حَفْصَةْ 

60 - وَزَيْنَبًا ثُمَّ غَزَا إِلَى أُحُدْ *** فِي شَهْرِ شَوَّالٍ وَحَمْراءِ الْأَسَدْ 

61 - فَالْخَمْرُ حُرِّمَتْ يَقِينًا فَاسْمَعَنْ *** هَذَا وَفِيهَا وُلِدَ السِّبْطُ الْحَسَنْ 

في هذه الأبيات عدة أحداث من أحداث السيرة في المدينة.

الأولى: غزوة السويق: والسويق: طعام يُتَّخذ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ[4].

قال ابن كثير في الفصول ص140: (ولما رجع أبو سفيان إلى مكة وأوقع الله في أصحابه ببدر بأسه، نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه بماء حتى يغزو رسول الله ، فخرج في مائتي راكب، فنزل طرف العريض وبات ليلة واحدة في بني النضير عند سلام بن مشكم، فسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم أصبح في أصحابه، وأمر فقطع أصواراً من النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له ثم كر راجعاً.

ونذر به رسول الله فخرج في طلبه والمسلمون فبلغ قرقرة الكدر، وفاته أبو سفيان والمشركون، وألقوا شيئاً كثيراً من أزوادهم، من السويق، فسميت غزوة السويق، وكانت في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، ثم رجع إلى المدينة، وقد كان استخلف عليها أبا لبابة).

الثانية: غزوة قرقرة: غزا فيها النبي بني سليم، وقيل إن قرقرة هي غزوة السويق المتقدم ذكرها، وإلى هذا ذهب ابن كثير رحمه الله تعالى.

الثالثة: غزو غطفان، وهي قبيلة عدنانية، وتسمى هذه الغزوة غزوة ذي أَمَرَّ.

قال ابن كثير في الفصول ص142: (ثم أقام بقية ذي الحجة ثم غزا نجداً يريد غطفان، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان I، فأقام بنجد صفراً من السنة الثانية كله، ثم رجع ولم يلق حرباً).

الرابعة: غزو بني سليم، قبيلة عدنانية، ومساكنهم شمال مكة، على بعد مائة وعشرين كيلو متر منها، وكانت هذه الغزوة في السنة الثالثة، لغزو بني سليم، ولم يقع فيها قتال.

الخامسة: تزوج عثمان I، وعمره خمسون سنة، بأم كلثوم J، ابنة رسول الله ، وعمرها اثنتان وعشرون سنة، وذلك بعد وفاة أختها رقية J، وقد خص النبي عثمان I بتزويجه ابنتيه، فسمي بذي النورين، وهذه الخصوصية له I لا يشركه فيها أحد.

السادسة: زواج النبي في تلك السنة الثالثة بأم المؤمنين حفصة بنت عمر L، بعد وفاة زوجها.

روى البخاري 4005 عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ L، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ «خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ» فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ، إِلَّا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا.

السابعة: زواج النبي في السنة الثالثة بأم المؤمنين زينب بنت خزيمة J.

الثامنة: غزوة أحد، في شوال من السنة الثالثة، نسبة إلى جبل أحد، أشهر جبال المدينة.

التاسعة: غزوة حمراء الأسد، وهو جبل جنوب المدينة، يبعد عنها نحو خمسة عشر كيلو مترا، وقيل في سببها: أن النبي بلغه أن أبا سفيان ومن معه يريدون أن يرجعوا ليستأصلوا المسلمين، فحينئذ خرج النبي بأصحابه M لملاقاته، مع ما فيهم ن الجراج والنصب بعد أحد، ثم إن الله قذف في قلوب المشركين الخوف فرجعوا، ولم يقع قتال.

العاشرة: تحريم الخمر في هذه السنة الثالثة، تحريما قاطعا.

الحادية عشرة: ولادة الحسن بن علي L، في السنة الثالثة، سبط رسول الله ، والسبط ابن البنت.

قال ابن عبد البر في الاستيعاب 1/383: (ولدته أمه فاطمة بنت رسول الله في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، هذا أصح ما قيل في ذلك إن شاء الله).

والحمد لله رب العالمين.

 

[1]   معنى (أسس على التقوى) أي بني من أجل عبادة الله عز وجل الخالصة، وهو مسجد قباء.

 

[2] وفي رواية للبخاري 3937: (فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ)

 

[3]   أخرجه النسائي (3375)، واللفظ له، وأخرجه بنحوه أبو داود (2125)، وأحمد (603)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي.

 

[4] ينظر: المصباح المنير 1/296.

 

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله