الدليل

2025-11-19 13:47:53

شرح مقدمة التفسير لابن قاسم كامل

 

شرح مقدمة التفسير لابن قاسم

برنامج دليل 1446هـ

المجلس الأول([1])

إن الحمد لله ... أما بعد:

مقدمة في التعريف بالمؤلف والمتن:

أولاً: التعريف بالمؤلف:

هو الشيخ العلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، نسبة إلى عاصم، وهو جد القبيلة المشهورة بنجد من قبائل قحطان، ولد رحمه الله سنة 1312 هـ، في بلدة البير القرية المعروفة شمال الرياض، وابتدأ في صغره بحفظ القرآن الكريم حتى أتقنه عن ظهر قلب، ثم قرأ في مبادئ العلوم على مشايخ بلده ومَن بقُرْبه، ثم انتقل إلى الرياض وكانت إذ ذاك حافلة بالعلماء الكبار، فواصل دراسته وجدَّ واجتهد في التعلم بعد أن ذاق حلاوة العلم، وأدرك من نفسه إقبالاً كلياً على القراءة والحفظ والاستفادة حتى فاق أقرانه.

ومن أشهر مشايخه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف والشيخ حمد بن فارس والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ عبد الله العنقري والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ محمد بن مانع وغيرهم من علماء ذلك الزمان.

ولم يزل مُكبَّا على الدراسة والحفظ والاستفادة حتى حصَل على جانب كبير في أكثر العلوم، وتضلَّع في علم التوحيد والفقه والحديث ونحوها من العلوم الدينية، وكان رحمه الله حسن الخط سريع الكتابة، فنسخ بيده شيئاً كثيراً، ورزقه الله الصبر والقوة بحيث لا يعتريه ملل ولا سآمة، فأكبَّ على المطالعة والبحث والاستفادة والتنقيب عن أفراد المسائل وأماكن الأدلة، حتى نال ما تمناه، ثم حرص على العمل والتطبيق، فانطبعت في أخلاقه آثار تلك الفوائد، فلا يخلو حديثه من فائدة دينية، أو مسألة فقهية، أو استشهاد بآية أو حديث.

وكان رحمه الله غيورًا على حرمات الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ثم هو مع ذلك حسن السمت دمث الأخلاق دائم البشر، كريم النفس متعززًا عن رذائل الأمور وسفاسف الأخلاق، وكان متواضعًا لربه لا يستنكف ولا يرفع نفسه عن إجابة الصغير والكبير ومحادثة الغني والفقير، مع ما رزقه الله من الهيبة والاحترام في قلوب الخاص والعام.

وقد نفع الله بعلومه وبارك في أوقاته، فصنف عدة كتب في مختلف الفنون فمنها في الحديث:

1- (أصول الأحكام) مختصر قيِّم انتقى فيه الأدلة الواضحة الصحيحة بإيجاز.

2- (الأحكام شرح أصول الأحكام) وقد طبع في أربعة مجلدات.

ومنها في الفقه.

3- حاشية على كتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع، وتقع في سبعة مجلدات.

4- حاشية على نظم الرحبية في علم الفرائض، في مجلد لطيف.

5- نبذة مفيدة في تحريم حلق اللحى، وقد طبعت مراراً.

6- وظائف رمضان، نبذة لخصها من لطائف المعارف لابن رجب.

ومنها في علوم القرآن:

7- مقدمة التفسير، وهي هذه المقدمة.

8- حاشية مقدمة التفسير. في مجلد لطيف.

ومنها في النحو:

9- حاشية على متن الآجرومية، طبعت في مجلد لطيف.

ومنها في التوحيد:

10- السيف المسلول في الرد على عابد الرسول ﷺ.

11- حاشية ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

12- حاشية كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهي من أنفس ما كتب على هذا الكتاب.

13- الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ترتيب رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام من زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى زمن المؤلف وقد بذل جهدا في استقصائها وتتبعها في مختلف البلاد وصبر على ما لقي من صعوبات ونفقات وأخطار وسهر وتعب في البحث والنسخ والمقابلة والتصحيح ثم قسمها فنونا ورتبها على الكتب والأبواب فجاءت مجموعة ضخمة في عدة مجلدات، وختمها بتراجم لأصحاب تلك الرسائل والأجوبة رحمهم الله تعالى.

15- ترتيب مجموعة رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، عثر على بعضها أثناء جمعه لرسائل علماء نجد فواصل البحث في المكاتب القريبة والبعيدة بمساعدة ابنه محمد وقد تكبَّد في سبيل جمعها من الشدة والمشقة ما يُرجى له به جزيل البر والأجر عند الله، وقد رتبها وقسمها فنونا وأبوابا، وأضاف إليها المطبوع من الرسائل الصغيرة والفتاوى فبلغت خمسة وثلاثين مجلدا، احتوت على علم جمٍّ لا يُقْدَر قدْرُه، ثم عمل عليها ابنه محمد رحمه الله فهرسا مفصلا، كان كالتقريب لها، ويقع في مجلدين ضخمين.

وأما أعماله الإدارية فقد تنقل مدة تزيد على اثنين وثلاثين عاما بين التدريس في المساجد وإدارة المكاتب والإشراف على طبع الكتب ونحو ذلك وقد أدى جهدا كبيرا وأنتج ثمرة يانعة لا يزال أثرها باقيا بين المسلمين.

وقبل وفاته بثمان سنين طلب الإحالة للتقاعد، فتفرغ للكتابة وإتمام ما ابتدأ فيه من المؤلفات، وأصيب بألم في الرأس بسبب حادث سيارة لازمه عدة سنوات، حتى وافاه الأجل المحتوم، وذلك لثمان خلت من شعبان عام 1392 هـ، فرحمه الله وأكرم مثواه([2]).

ثانياً: التعريف بالمتن:

هذا المتن هو مقدمة مختصرة في التفسير، مفيدة لمن أراد الدخول في هذا العلم، حوت جملة من علوم القرآن الكريم، ووضع المؤلف عليها حاشية نافعة، ذكر في مقدمتها أنها موافقة لما كان عليه السلف الصالح.

شرحها جماعة من أهل العلم المعاصرين بشروح مطبوعة ومسموعة، ومن شروحها المطبوعة شرح معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري حفظه الله تعالى.

وقد ألف العلماء عدة مؤلفات تُعنى بعلوم القرآن الكريم، منها:

 فنون الأفنان في عيون علوم القرآن لابن الجوزي الحنبلي المتوفى 597هـ، والبرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي الشافعي المتوفى 794هـ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي الشافعي المتوفى 911هـ، ومناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد الزرقاني المتوفى 1367هـ.

وفي كثير من كتب التفسير يقدِّم المفسرون بمقدمات تعنى بهذا العلم، كما فعل ابن جزي المالكي في تفسيره: التسهيل لعلوم التنزيل، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم، وغيرهم.

ومن المؤلفات المختصرة: مقدمة في أصول التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأصول في التفسير للشيخ ابن عثيمين، رحمهم الله تعالى جميعا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ)

ابتدأ المؤلف بالبسملة ثم بالحمدلة اقتداء بكتاب الله عز وجل، فإنه مُبتَدأٌ بالبسملة ثم الحمدلة.

واقتداء بالنبي ﷺ فإنه كان يبتدئ كتبه بالبسملة كما في كتابه لهرقل في الصحيحين.

والبسملة آية من كتاب الله تعالى، يُبتدأ بها في أول كل سورة من القرآن الكريم، إلا براءة، وهي بعض آية من سورة النمل.

بسم: جار ومجرور متعلق بمحذوف، يُقدَّر بفعل متأخر مناسب للمقام، فيكون التقدير هنا: بسم الله أكتب، أو بسم الله أُؤلف.

 وإنما قُدِّر الفعل متأخراً تيمُّناً بالبداءة باسم الله تعالى، ولإفادة الحصر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، فقولك: باسم الله أكتب. يتعين أنك تكتب باسم الله تعالى لا باسم غيره.

والاسم مشتق من السُّمُوّ وهو العُلُو، أو من السِّمَة وهي العلامة.

بسم الله: يعم كل اسم من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم مفرد مضاف للفظ الجلالة، والمفرد المضاف يفيد العموم، فمعنى (بسم الله): أي بكل اسم من أسماء الله الحسنى.

والباء في بسم الله للاستعانة، أي أكتب مستعيناً باسم الله، وقيل الباء للمصاحبة، أي أن اسم الله يصحبه من أول الفعل إلى آخره.

الله: لفظ الجلالة علَم على ربنا جل وعلا، لا يُسمَّى به غيره. وهو أعرف المعارف.

 ومعناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.

والرحمن: اسم من أسماء الله تعالى لا يطلق على غيره، يدل على صفة الرحمة، وهذه الصفة كغيرها من صفات الله تعالى معلومة المعنى لنا، لكن الكيفية غير معلومة.

الرحيم: اسم لله تعالى، يدل على صفة الرحمة.

  والفرق بين الرحيم والرحمن:

  • أن الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يدل على الرحمة الخاصة، لأن الله تعالى يرحم جميع العباد برحمته العامة، وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين كما قال تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما).
  • وقيل: الرحمن يدل على الصفة، والرحيم يدل على الفعل، فالرحمن يعني ذو الرحمة الواسعة، والرحيم بمعنى الذي يرحم عبادة، ويوصل الرحمة إليهم. 

(الحمدُ للهِ) الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما.

(الذي أنزَلَ الكتابَ: تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ) أي الذي أنزل القرآن الكريم، وهذا القرآن فيه البيان الواضح لكل ما يحتاجه الناس، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ

ومعنى ﴿تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ أي في هذا القرآن بيان كل علم نافع، والخبر عن السابقين، والعلم بما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم، ﴿وَهُدٗى أي: للقلوب، ﴿وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ وقال الأوزاعي: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ أي: بالسنة([3]).

(وهُدى للمتقين) أي أن القرآن الكريم هداية لأهل التقوى، الذين فعلوا ما أمر الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه، فجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية.

وفيه أن من كان من المتقين فهو حقيق بهداية الله له، كما قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا.

(وأَشهدُ أن لا إِلهَ إلاَّ الله الملك الحَقّ الْمُبين)

الشهادة تقتضي الإخبار والإقرار، فمعنى أشهد: أي أقر بقلبي ناطقا بلساني أنه لا معبود بحق إلا الله.

الملِك: اسم لله عز وجل، فله سبحانه الملك الحقيقي، كما قال تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ومعنى الملِك: أي النافذ الأمر في ملكه.

الحق: اسم لله عز وجل، قال الله تعالى: ﴿فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّ ومعنى الحق أي الثابت الذي لا شك فيه، فوجود الله حق، وربوبيته حق، وألوهيته حق، وأسماؤه وصفاته حق، وكل ما أخبر به حق.

المبين: اسم لله عز وجل، ثابت بقوله تعالى: ﴿وَيَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِينُ ومعناه: الذي أبان وأوضح لعباده ما يحتاجونه من الأعمال الموجبة لثوابه، والموجبة لعقابه، فأبان لهم طريق الخير والشر، وقيل: المبين: الذي لا يخفى، فهو جل وعلا ليس بخاف على عباده، وقيل: هو البين أمره في وحدانيته وأنه لا شريك له.

(وأَشهدُ أنَّ محمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ)

وُصف ﷺ بهاتين الصفتين العبودية والرسالة دفعاً للإفراط والتفريط في حقه، فهو عبدٌ لا يُعبد، ورسولٌ لا يُكذَّب.

وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي: أن يُطاع فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

وأتى بالتشهد عملاً بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ h عَنِ النَّبِيِّ ﷺ  قَالَ: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» رواه أبو داود 4841، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 169.

والمعنى أن كل خطبة لا يؤتى فيها بالشهادتين فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة فيها.

(الصَّادقُ الأَمينُ) الصادق فيما يبلغه عن الله تعالى، وأيده الله تعالى بالآيات الدالة على صدقة.

والأمين: أي على وحيه، وكان النبي ﷺ يسمى قبل البعثة الأمين.

(صَلَّى اللهُ عَليهِ) صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما في أثر أبي العالية رحمه الله تعالى قال: (صلاة الله عز وجل عليه ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه الدعاء)([4])

والصلاة من الآدمي بمعنى الدعاء للنبي ﷺ أن يثني الله عليه في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين.

(وَعَلى آلِهِ) الآل: إذا ذُكر وحده فالمراد جميع أتباعه على دينه، ويدخل فيهم من على دِينه من قرابته.

وأما إذا ذُكر مع الآل الصحب، فالمراد بالآل المؤمنون من قرابته.

(وأَصحابِهِ) جمع صاحب، وهو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا به ومات على ذلك.

(والتَّابعينَ) لهم بإحسان إلى يوم الدين.

(وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً) وسلم: أي سلمه الله من كل نقص وعيب، ومن الآدمي: الدعاء بأن يسلمه الله من كل نقص وعيب.

فائدة: قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص457: (وأما سائر الأنبياء والمرسلين، فيصلى عليهم ويسلم كما قال تعالى: ﴿وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ 78 سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ 79 وكذلك قال في حق إبراهيم وموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام فالذي تركه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم، وحكى غير واحد الإجماع على أن الصلاة على جميع النبيين مشروعة منهم النووي).

(أَمَّا بَعدُ:) قيل هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره. وقيل: هي كلمة يؤتى بها للدخول في الموضوع المراد.

والمعروف في الأحاديث، لفظ: أما بعد، قال البخاري في الصحيح: باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد. ثم ساق عدة أحاديث فيها أن النبي ﷺ قال في خطبه أما بعد.

ومعناها: مهما يكن من شيء بعد.   

وقال ابن حجر في الفتح 2/515: لا تختص بالخطب بل تقال أيضا في صدور الرسائل والكتب. ثم قال: وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ وبعد.

(فَهذهِ مُقدِّمَةٌ في التَّفسيرِ) المقدمة من كل شيء أوله، وفي الكتب ما يُعقَد في أول الكتاب، ومراده هنا أن هذه الرسالة نبذة مختصرة لمن أراد الدخول إلى علم تفسير كلام الله عز وجل.

(تُعينُ على فَهمِ القُرآنِ العَظيمِ) أي أن هذه المقدمة تساعد على فهم كلام الله عز وجل.

والقرآن: اسم علَم على كتاب الله عز وجل.

وهو في اللغة مصدر بمعنى تلا، أو بمعنى جمع، تقول: قرأ قرْءاً وقرآنا، كما تقول غفر غفرا وغفرانا، فعلى المعنى الأول (تلا) يكون مصدرا بمعنى اسم المفعول، أي بمعنى متلو.

وعلى الثاني (جمع) يكون مصدرا بمعنى اسم الفاعل، أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام، ويمكن أن يكون بمعنى اسم المفعول أيضا، أي بمعنى مجموع لأنه جُمع في المصاحف والصدور.

وفي الاصطلاح: القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على محمد ﷺ المتعبد بتلاوته.

كلام الله تعالى: خرج به كلام غيره من الإنس والجن والملائكة.

المنزل: خرج به كلام الله تعالى الذي لم ينزله على أحد من البشر، لأن كلام الله تعالى منه ما ينزل إلى الأنبياء عليهم السلام، ومنه ما استأثر الله بعلمه، قال سبحانه: ﴿قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا.

على محمد: خرج المنزَّل على غيره من الأنبياء عليهم السلام، كالتوراة المنزلة على موسى عليه السلام، والإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام، والزبور المنزل على داود عليه السلام.

المتعبد بتلاوته: خرجت به الأحاديث القدسية، والمراد بالتعبد بتلاوته: أي الذي يُقرأ في الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا به، والذي فضل تلاوته لا يعادله ثواب غيره([5]).

مسألة: الفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي:

الحديث القدسي: هو ما يضيفه النبي ﷺ إلى الله تعالى.

كأن يقول الراوي: قال النبي ﷺ قال الله تعالى. أو يقول: قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى.

وهناك عدة فروق بينهما، منها([6]):

  1. أن القرآن الكريم تحدَّى الله الناس أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فعجزوا، أما الأحاديث القدسية فلم يقع بها التحدي.
  2. أن القرآن الكريم منقول بطريق التواتر، أما الأحاديث القدسية فمنها ما هو متواتر، ومنها ما هو آحاد.
  3. أن القرآن الكريم تحرم روايته بالمعنى، أما الحديث القدسي فلا تحرم روايته بالمعنى.

(الجديرِ بأنْ تُصرَفَ لَهُ الهِمَمُ، ففيهِ الهُدى والنُّورُ) أي القرآن الكريم هو الجدير أي الخليق أن تصرف له الهمم، ويُستمسَك به، ويُعتصَم به، ففيه الهدى والنور، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ وفيه النور، كما قال تعالى: ﴿وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَا.

(ومَن أَخَذَ بِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ) أي من عَمِل بالقرآن الكريم وتمسَّك به هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم، كما قال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ.

وفي حديث زيد بن أرقم h أنه سمع النبي ﷺ يقول: «أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ» رواه مسلم 2408.

وفي الأثر عن علي h: (إن كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)([7]).

وقد حمى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التغيير والزيادة والنقص والتبديل، حيث تكفل عز وجل بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ [الحجر: 9] ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحد من أعداء الإسلام أن يغير فيه، أو يزيد، أو ينقص، أو يبدل، إلا هتك الله ستره، وفضح أمره([8]).

مسألة: الفائدة من دراسة علوم القرآن، أو أصول التفسير:

هناك عدة فوائد، منها([9]):

  1. أن دراسة هذا العلم مما يُعين على فهم القرآن الكريم وتفسيره، ولا يمكن لأحد أن يفسر القرآن الكريم إلا بعد أن يدرس هذا العلم.
  2. الاطلاع على ما قام به السلف الصالح وعلماء هذه الأمة من جهود كبيرة في العناية بهذا الكتاب العظيم وبعلومه.
  3. أن من أراد الدفاع عن القرآن الكريم ودفع الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام حوله لا يتمكن من ذلك إلا بدراسة هذا العلم.

(تَنزيلُ القُرآنِ)

بدأ المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام على مسألة إنزال القرآن، وهي مسألة عقدية، قرر فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.

(أَجمَعوا على أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ حَقيقَةً، مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ)

أي أجمع أهل العلم الذين يُعتدُّ بإجماعهم، وهم أهل السنة والجماعة من لدن الصحابة y والتابعين رحمهم الله تعالى ومن تبعهم بإحسان على أن القرآن كلام الله حقيقة، مُنزَّل من الله عز وجل، غير مخلوق.

ومعنى حقيقة أي لا مجازا، فالقرآن الكريم كلام الله تعالى حقيقة بلفظه ومعناه.

وقوله: (غير مخلوق) ردٌّ على أهل البدع الذين قالوا إن كلام الله تعالى مخلوق، كما ستأتي أقوالهم في هذه المقدمة إن شاء الله تعالى.

والقرآن كلام الله تعالى، وكلامه صفة من صفاته سبحانه، والصفات لها حكم الذات، فإذا كانت الذات غير مخلوقة، فالصفات كذلك غير مخلوقة؛ لأنها تابعة للذات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى 6/543: (هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي أنزله على نبيه كما ثبت ذلك بالنص وإجماع المسلمين).

ومن الأدلة على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وأنه منزَّل:

قوله تعالى: ﴿وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ.

وقال تعالى: ﴿أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِي حَكَمٗا وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٞ مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ.

وقال تعالى: ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ.

وقال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ.

وقال عز وجل: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ.

وقال سبحانه: ﴿تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ.

قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/344 بعد أن سرد أسماء جماعات من السلف: (قالوا كلهم: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر. فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفسا أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام. وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول المحدِّثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة، لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار، ونقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه. ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق جعد بن درهم في سني نيف وعشرين، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك).

(سَمِعَهُ جِبريلٌ مِن اللهِ، وَسَمِعَهُ مُحمَّدٌ مِن جِبريلَ، وسَمِعَهُ الصَّحابَةُ مِن مُحمَّدٍ ﷺ )

فجبريل عليه السلام سمع القرآن من الله عز وجل، ونزل به على قلب محمد ﷺ، قال الله تعالى: ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ وروح القدس هو جبريل عليه السلام، وهو الروح الأمين، كما قال الله عز وجل: ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ فهو أمين على وحي الله لا يزيد فيه ولا ينقص.

وسمع محمد ﷺ القرآن من جبريل عليه السلام لما نزل به، قال الله تعالى: ﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وقال تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ 16 إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ 17 فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ أي قرأه رسولنا ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ أي فاستمع له وأنصت ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ أي نبينه بلسانك.

وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 19 ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ 20 مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ 21 فالمراد بالرسول هنا جبريل عليه السلام، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 40 وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ 41 ... ﴿تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ فالمراد بالرسول هنا محمد ﷺ.

قال ابن كثير في تفسير سورة الحاقة: (﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ 38 وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ 39 إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 40 يعني: محمداً، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسِل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ 19 ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ 20 مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ 21 وهذا جبريل، عليه السلام).

وبعد نزول القرآن على النبي ﷺ يقرؤه على الصحابة y، فيسمعونه منه، ويكتبه كتبة الوحي، وبلَّغه الصحابة y لمن بعدهم، وقد قال النبي ﷺ: «بلغوا عني ولو آية» وقال ﷺ: «ليبلغ الشاهد الغائب».

(وَهُوَ الذي نَتلُوهُ بِأَلسِنَتِنا)

أي والقرآن الكريم هو الذي نتلوه بألسنتنا، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله حقيقة.

(وفِيما بَينَ الدَّفتَينِ)

أي القرآن الكريم هو ما بين ضمامتي المصحف، أي ما بين الجلدتين اللَّتين تكونان في أوله وآخره لحفظه، ولا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة.

قال شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أَتَرَكَ النَّبِيُّ ﷺ  مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: «مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ» رواه البخاري 5019.

(وما في صدورنا)

أي والقرآن الكريم هو ما في صدورنا، أي ما حفظناه عن ظهر قلب، ولا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة.

(مَسموعاً ومَكتوباً ومَحفوظاً)

أي والقرآن الكريم كلام الله حقيقة، هو الذي يُسمَع حال تلاوتنا له، كما قال تعالى: ﴿وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ، وهو المكتوب في المصحف، والمحفوظ في الصدور.

وفي هذا ردٌّ على الأشاعرة الذين يقولون: إن المسموع والمكتوب والمحفوظ ليس هو كلام الله حقيقة، بل هو عبارة عن كلام الله تعالى، وردٌّ على الكُلَّابية الذين يقولون: هو حكاية عن كلام الله تعالى.

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى 12/71: (وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقا. وأيضا فإذا قرأ الناس كلام الله فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام كلام من قاله مبتدئا أمرا يأمر به أو خبرا يخبره ليس هو كلام المبلغ له عن غيره؛ إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين... ومما ينبغي أن يعرف أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به فإذا أنشد المنشد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه مع أن أصوات المنشدين له تختلف وتلك الأصوات ليست صوت لبيد: وكذلك من روى حديث النبي ﷺ  بلفظه كقوله: («إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» كان هذا الكلام كلام رسول الله ﷺ  لفظه ومعناه ويقال لمن رواه: أدى الحديث بلفظه وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه وإذا قرأه القراء فإنما يقرءونه بأصواتهم).

(وكُلُّ حَرفٍ مِنهُ كالباءِ والتَّاءِ كلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ)

أي وكل حرف من القرآن الذي هو لفظه قبل أن ينزل به جبريل عليه السلام وبعدما نزل به كالباء والتاء إلى آخر حروف الهجاء الثمانية والعشرين هي من كلام الله غير مخلوق.

(مِنهُ بَدَأَ وإليهِ يَعودُ)

أي هو من الله تعالى الذي تكلم به، ومنه نزل، لم يُبتدأ من غيره، كما قال تعالى: ﴿تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ، وإليه يعود فلا يبقى في المصاحف منه حرف، ولا في الصدور منه آية، وذلك في آخر الزمان.

فعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ h قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا» فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: «يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ» ثَلَاثًا. رواه ابن ماجه 4049، قال الحافظ في الفتح 13/16: أخرجه ابن ماجه بسند قوي. وصححه الألباني في الصحيحة (87).

ومعنى (يدرس الإسلام) من دَرَسَ الثوب درسا إذا صار عتيقا. (وشى الثوب) نقشه. (وليسرى على كتاب الله) أي يذهب بالليل.

وقال الحافظ في الفتح 13/16: (وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "وَلَيُنْزَعَنَّ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلًا فَيَذْهَبُ مِنْ أَجْوَافِ الرِّجَالِ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ شَيْءٌ" وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ).

(وهُو كلامُ اللهِ حُروفُهُ ومَعانيهِ، ليسَ الحروفُ دونَ الْمَعاني، وَلا الْمَعانِي دُونَ الحروفِ).

أي القرآن كلام الله تعالى، تكلم الله بحروفه ومعانيه، ليس شيئا منه كلاما لغيره لا لجبريل ولا لمحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا لغيرهما، بل كفَّر الله من جعله قول البشر، كما قال تعالى: ﴿فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ 24 إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ 25 سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ 26.

فالقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، تكلم الله به، والمبلِّغ عن الله كلام الله بصوت نفسه، كما أن كلام الرسول ﷺ تكلم به بصوته، والمبلغ عن الرسول ﷺ بلغ كلامه بصوت نفسه.

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ h قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» رواه أبو داود 1468، وصححه الألباني.

فجعل الكلام كلام الباري، وجعل الصوت الذي يقرؤه العبد صوت القاري، وأصوات العباد ليست هي الصوت الذي تكلم الله به، ولا مثله، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، فليس صوته مثل أصواتهم، ولا يلزم إذا كان صوت المبلِّغ مخلوقا، أن يكون كلام الله مخلوقا.

فكلام الله تعالى حروفه ومعانيه، فليس كلام الله تعالى الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.

ويدل لذلك: قوله ﷺ: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» ومع ذلك فإن ما يرد على قلب المصلي من المعاني لا يبطل الصلاة، فدل على أن المعنى لا يسمى كلاما.

وقال النبي ﷺ: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثتْ به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» فدل على أن الكلام مخالف لما في النفس من المعاني.

(وبَدَّعوا مَن قالَ([10]): إنَّه فاضَ على نَفسِ النَّبي ﷺ مِنَ العَقلِ الفَعَّالِ([11])، أو غَيرِهِ، كالفَلاسِفَةِ والصَّابِئِيَّةِ([12]))

أي وبدع السلف من قال: إن القرآن فاض على نفس النبي ﷺ من العقل الفعال، أو غير العقل الفعال، فيقولون: إن كلام الله تعالى هو المعاني التي تفيض على النفس الزكية، والنفس الزكية هي نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت، بل الكلام معنى لا يسمع وإنما هو معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته النفس، وهذا مذهب الفلاسفة والصابئة.

(أَوْ أنَّهُ مَخلوقٌ في جِسمٍ مِنَ الأَجسامِ، كالْمُعتَزِلَةِ والجَهمِيَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن كلام الله تعالى مخلوق، خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام المخلوقة، فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله عز وجل، كما هو قول الجهمية، الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة وغيرهم، والسلف يسمون كل من نفى الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة جهمياً.

(أَوْ في جِبريلَ أو مُحمّدٍ أو جِسمٍ آخرَ غيرِهِما، كالكُلاَّبِيَّةِ والأَشعَرِيَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن الله تعالى خلق القرآن في نفس جبريل أو نفس محمد عليهما الصلاة والسلام، كالكلابية والأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله تعالى صفة ذاتية ملازمة لذات الله، لا تحدث بقدرة الله ولا مشيئته، وهي صفة قديمة في الأزل، والله عز وجل لا يتكلم بعد ذلك، وقالوا إن الكلام معنى نفسي ليس بصوت ولا حرف، وهذا الذي بين أيدينا مخلوق، هو عبارة عن تلك المعاني أو حكاية عنها.

والكلابية هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، المتوفى 240ه.

والأشعرية أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً ثم ترك الاعتزال وسار على طريق ابن كلاب، ثم رجع عن هذا الطريق في آخر حياته وانتسب إلى أهل السنة، وإلى طريق الإمام أحمد.

(أَو أنَّهُ حُروفٌ وأَصواتٌ قَديمةٌ أَزَلِيَّةٌ، كَالكَلاميَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، أي لازمة لذات الرب جل وعلا أزلا وأبدا، لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بها شيئا بعد شيء.

وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة.

(أَو أنَّهُ حادِثٌ قائِمٌ بِذاتِ اللهِ مُمتَنِعٌ في الأَزَلِ، كالهاشِميَّةِ والكَرَّامِيَّةِ)

أي وبدَّع السلف من قال إن القرآن حادث قائم بذات الله عز وجل بعد أن لم يكن متكلما بكلام، أي أنه قادر على الكلام، وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع، يعني أن الرب جل وعلا في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته.

والهاشمية: أتباع أبي هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي، إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ)([13]).

أو نسبة إلى هِشَام بن الحَكَمِ الكُوْفِيُّ الرَّافِضِيُّ المشبِّه.

والكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني، المتوفى 255ه، اشتهر عنهم التشبيه في صفات الله تعالى، والقول بالإرجاء، وقولهم في كلام الله تعالى كما تقدم([14]).

(ومَن قالَ: لَفظِي بِالقُرآنِ مَخلوقٌ فَجَهمِيٌّ، أَو غَيرُ مَخلوقٍ فَمُبتَدِعٌ)

هذه العبارة جاءت عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، وإنما قال ذلك؛ لأن اللفظ يُراد به أمران: أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد، ولا فعل له.

والثاني: التلفظ به والأداء له وفعله.

فإطلاق الخلق على اللفظ قد يُوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، وهو خطأ، فمُنع من الإطلاقين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 12/74: (ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون: من قال اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع وفي بعض الروايات عنه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ وذلك كلام الله لا كلام القارئ فمن قال إنه مخلوق فقد قال إن الله لم يتكلم بهذا القرآن وإن هذا الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول).

 والحمد لله رب العالمين، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

 

المجلس الثاني([15])

إن الحمد لله ... أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(مَواضِعُ نُزولِه)

أي ذِكْر مواضع نزول القرآن الكريم من الله عز وجل على نبيه محمد r وأوقاته.

(أَجمَعوا على أنَّ القُرآنَ مِئَةٌ وأربَعَ عَشَرَةَ سُورَةً)

أي أجمع الصحابة y في زمن عثمان t على ترتيب سور القرآن في المصحف، وأن عددها مائة وأربع عشرة سورة، وقد كان هناك خلاف بين الصحابة y في عدد السور، ثم استقر الأمر على أنها مئة وأربع عشرة سورة.

قال الزركشي في البرهان 1/251: (واعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة كما هي في المصحف العثماني أولها الفاتحة وآخرها الناس).

وتسمية السور بتوقيف وليس اجتهادا.

قال السيوطي في الإتقان 1/186: (وقد ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار).

والسورة سميت بذلك من الإبانة والارتفاع، وقيل: لشرفها وارتفاعها كسور البلد، وقيل: من الجمع والإحاطة لآياتها.

(والْمَشهورُ سَبعٌ وعُشرونَ مَدَنِيٌّ، وباقيهِ مَكِّيٌّ)

أي المشهور أن من هذه السور سبعاً وعشرين سورة مدنية، والباقي من السور مكية، لورود ذلك عن بعض الصحابة y، وقد عدَّ هذه السور المدنية المؤلِّفُ في حاشيته على هذه المقدمة.

والمرجع في معرفة المكي والمدني إلى قول الصحابة y، والتابعين رحمهم الله تعالى، ولم يحفظ في ذلك عن النبي r شيء.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ، تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ» رواه البخاري 5002، ومسلم

قال السيوطي في الإتقان 1/44: (وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ: المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق ثم نظم في ذلك أبياتا) ثم ذكرها.

المراد بالمكي والمدني:

قال السيوطي في الإتقان1/37: (اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة:

أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار.

الثاني: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني.

الثالث: أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة) بتصرف.

وقال ابن كثير في مقدمة تفسيره 1/18: (فالمكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان، حتى ولو كان بمكة أو عرفة. وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأُخر أنها من المدني، واختلفوا في أُخر)

(واستثني آيات)

أي أن بعض السور المكية يستثنى منها بعض الآيات التي نزلت بالمدينة، وبعض السور المدنية يستثنى منها بعض الآيات التي نزلت بمكة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في أثر مجاهد رحمه الله تعالى في سؤاله لابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك.

قال السيوطي في الإتقان 1/39، 40: (وقال أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ: حدثني يموت بن المزرع حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني أنبأنا أبو عبيدة معمر بن المثنى حدثني يونس بن حبيب سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألت مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي فقال: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: "سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ﴾ إلى تمام الآيات الثلاث وما تقدم من السور مدنيات. ونزلت بمكة سورة الأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل - سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرفه من أحد - وسورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج - سوى ثلاث آيات: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ إلى تمام الآيات الثلاث فإنهن نزلن بالمدينة - وسورة المؤمنين والفرقان وسورة الشعراء - سوى خمس آيات من أخراها نزلن بالمدينة: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إلى آخرها. وسورة النمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان - سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ إلى تمام الآيات - وسورة السجدة سوى ثلاث آيات: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا إلى تمام الآيات الثلاث وسورة سبأ وفاطر ويس والصافات وص والزمر سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى تمام الثلاث آيات والحواميم السبع وق والذاريات والطور والنجم والقمر والرحمن والواقعة والصف والتغابن إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة. والملك ون والحاقة وسأل وسورة نوح والجن والمزمل إلا آيتين: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ والمدثر إلى آخر القرآن إلا إذا زلزلت وإذا جاء نصر الله وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فإنهن مدنيات. ونزل بالمدينة سورة الأنفال وبراءة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد وما بعدها إلى التحريم".

هكذا أخرجه بطوله وإسناده جيد رجاله كلهم ثقات من علماء العربية المشهورين).

فوائد معرفة المكي والمدني([16]):

  1. تمييز الناسخ من المنسوخ، لأن المتأخر ينسخ المتقدم.
  2. الاستعانة بمعرفة مكان النزول على فهم معنى الآية.
  3. معرفة التدرج في التشريع، فقد نزل بمكة أحكام مناسبة لحال المسلمين فيها، ثم نزل بالمدينة أحكام أخرى تناسب حال المسلمين فيها، وهذا يزيد في إيمان العبد، وأن هذا التشريع لا يكون إلا من عليم خبير.

والآية: من العلامة على انقطاع الكلام عن الذي قبلها وعن الذي بعدها وانفصالها.

وقيل: لأنها عجب، يعجز البشر عن التكلم بمثلها.

وذكر ابن كثير في مقدمة تفسيره 1/98 أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية، ثم اختُلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات، وقيل: غير ذلك.

ثم قال: (وأما كلماته، فقال الفضل بن شاذان، عن عطاء بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة.

وأما حروفه، فقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد: هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلاثمائة ألف حرف وواحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا . . .

وقال سلام أبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟ قال: فحسَبناه فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف حرف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا).

(ومِنهُ: النَّهارِيُّ والليلِيُّ)

أي ومن القرآن ما نزل على النبي r بالنهار، وهو أكثر القرآن، ومنه ما نزل بالليل، ومنه آية تحويل القبلة.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ  قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ» رواه البخاري 403، ومسلم 526.

وآية الثلاثة الذين خلفوا، فقد قال كعب بن مالك t: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ ، حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ) رواه البخاري 4677.

(والصَّيفِيُّ والشِّتائِيُّ)

أي ومن القرآن ما نزل بالصيف كآية الكلالة.

لقول عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t: . . . مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ  فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: «يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟» . . . رواه مسلم 567.

وفي رواية ابن حبان 2091: (... وَقَالَ: يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان.

ومنه ما نزل بالشتاء كآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ... ﴾.

قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنَ العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري 4141.

(وأَوَّل ما أُنزِلَ اقْرَأ، ثُمَّ الْمُدَّثِّرْ، وآخِرُهُ الْمائِدَةُ، وَبَراءَةٌ، والفَتحُ، وآَيَةُ الكَلالَةِ والرِّبا والدَّينِ)

أي أول ما أنزل من القرآن الكريم صدر سورة اقرأ، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله r من الوحي الرؤيا الصادقة، قالت: حتى فاجأه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ وروى الحاكم في المستدرك 3954 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي.

ثم فتر الوحي، ثم نزل عليه صدر سورة المدثر، ثم تتابع الوحي، فعن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ ، يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الوَحْيُ فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ، حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾" رواه البخاري 3238، ومسلم 161.

(فجئثت) أي رُعبت.

وآخر ما نزل من القرآن سورة المائدة.

فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: «أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ، فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» رواه الحاكم 3210، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده الألباني في الإرواء 1/139.

وروى الترمذي 3063 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفَتْحُ». وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» وقال الألباني: ضعيف الإسناد.

وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: «نَعَمْ، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ»، قَالَ: صَدَقْتَ. رواه مسلم 3024.

وعَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ﴾" [النساء: 176] رواه البخاري 4364.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ «آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ  آيَةُ الرِّبَا» رواه البخاري 4544. وبوب عليه البخاري رحمه الله تعالى بقوله: بَابُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: 281].

قال الحافظ في الفتح 8/317: (وأصح الْأَقْوَالِ فِي آخِرِيَّةِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ كَمَا تقدم فِي الْبَقَرَة وَنقل بن عَبْدِ السَّلَامِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ فَعَاشَ بَعْدَهَا خَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَة وَالله أعلم).

قال أبو بكر الباقلاني في الانتصار للقرآن 1/245: (وليس في شيءٍ من الرواياتِ ما رُفع إلى النبي عليه السلام، وإنّما هو خَبَر عن القائل به، وقد يجوزُ أن يكونَ قالَ بضربٍ من الاجتهاد، وتغليبِ الظنِّ وبظاهرِ الحال، وليسَ العلمُ بذلك أيضاً من فرائضِ الدين، ولا هو مما نصّ الرسولُ على أمر فيه بيّنه وأشاعه وأذاعَه وقصدَ إلى إيجابه وإقامةِ الحجّة به.

فلذلك لم يَجُزْ ظهورُه عنه وحصولُ الاتفاقِ عليه وثبوتُ العلم به قطعاً يقيناً.

وقد يَحتمِلُ أن يكونَ كلُ قائلٍ ممن ذكرنا يقولُ إن ما حكمَ بأنَّ ما ذكره آخرُ ما نزل لأجل أنّه اَخرُ ما سمعه مِن رسولِ الله - ﷺ  - في اليوم الذي ماتَ فيه، أو ساعةَ موته على بُعد ذلك، أو قبلَ مرضه الذي ماتَ فيه بيومين أو ساعة، وقد سمع منه غيرُه شيئاً نزل بعدَ ذلك وإن لم يسمعه هو لمفارقته له ونزولِ الوحي بقرآنٍ بعدَه) وذكر وجوها غير ذلك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(إِنْزَالُه)

أي إنزال القرآن العظيم من الله تعالى على النبي r، وما يتعلق بذلك من أحوال نزول الوحي عليه، وكتابته وجمعه.

(أُنزِلَ القُرآن جُملةً في لَيلَةِ القَدرِ إلى بيتِ العِزَّةِ في السَّماءِ الدّنيا، وأُنزِلَ مُنَجَّماً بِحَسَبِ الوقائِعِ)

أي أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ.

ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي r مُنجَّماً أي مُفرقاً، بحسب الوقائع.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ ، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا» رواه الحاكم 2881، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي.

وقال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 12/127: (فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله ... ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: ...) ثم ذكرها.

(يُلقيهِ جِبريلُ إلى النَّبي ﷺ  فِي مِثلِ صَلصَلَةِ الجَرَسِ، وهُو أَشدُّ عليهِ، ويأتيهِ في مِثلِ صُورَةِ الرَّجُلِ يُكَلِّمُهُ)

ذكر المؤلف رحمه الله تعالى مرتبتين من مراتب الوحي، وقد عدها ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد، وأوصلها إلى سبع مراتب:

إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه ﷺ ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

الثانية: ما كان يلقيه الملك في رَوعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي ﷺ : «إن روح القدس نفث في رَوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته».

الثالثة: أنه ﷺ  كان يتمثل له الملَك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة y أحيانا.

الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها. ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها.

الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.

السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.

السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن، وثبوتها لنبينا ﷺ  هو في حديث الإسراء([17]).

(وثَبَتَ أنَّهُ أُنزِلَ على سَبعَة أَحرفٍ، قيلَ: الْمَعانِي الْمُتَّفِقَة بِأَلفاظٍ مُختَلِفَةٍ، كـ(هَلُمَّ) و(أَقْبِلْ))

أي أن القرآن الكريم أنزل على سبعة أحرف([18]).

والحرف يطلق على الحرف من حروف الهجاء، ويطلق الحرف ويُراد به اللغة، فيقال: حرف قريش، وحرف ثقيف، أي لغة قريش ولغة ثقيف.

ويطلق ويُراد به وجه القراءة، فيقال: حرف ابن مسعود t، أي قراءته.

وثبت في الأحاديث أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، والأحاديث فيه متواترة عن النبي r، منها:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ  أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ لِي: «أَرْسِلْهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اقْرَأْ»، فَقَرَأَ، قَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ»، ثُمَّ قَالَ لِي: «اقْرَأْ»، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ» رواه البخاري2419، ومسلم 818.

 ومعنى: (كدت أعجل عليه) أي في الإنكار والتعرض له. (حتى انصرف) أي انتهى من القراءة. (لببته بردائه) أي جمعت رداءه عند صدره وجررت به.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، قَالَ: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» رواه البخاري 3219، ومسلم 819.

وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t أن النبي r قال له: "يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ﷺ " رواه مسلم 820.

وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ  كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ»، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا. رواه مسلم 821.

(أضاة بني غفار) الأضاة هي الماء المستنقع كالغدير.

وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : "يَا أُبَيُّ، إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفٍ، أَوْ حَرْفَيْنِ؟ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ: عَلَى حَرْفَيْنِ، قُلْتُ: عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، قُلْتُ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ "، ثُمَّ قَالَ: " لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ، إِنْ قُلْتَ: سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ " رواه أبو داود 1477، وصححه الألباني.

وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ  جِبْرِيلَ، فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ: مِنْهُمُ العَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالغُلَامُ، وَالجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ "، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) رواه الترمذي 2944، وقال الألباني: حسن صحيح.

والمراد بالأحرف السبعة محل خلاف كبير بين أهل العلم، حتى ذكر السيوطي في الإتقان 1/164 أن الأقوال فيه تصل إلى أربعين قولا.

قال ابن الجزري في النشر في القراءات العشر 1/26: (ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله).

والمراد بالأحرف السبعة عند جمع من أهل العلم منهم ابن جرير الطبري وغيره أنها سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، فإذا اختلفت لغة العرب في كلمة جاء القرآن بسبع لغات منها.

ولغات العرب كلغة قريش وهذيل وهوازن وتميم وكنانة وثقيف واليمن.

وذلك كقولهم: هلم وأقبل وتعال.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 13/390: (لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي ﷺ  أن القرآن أنزل عليها ليست هي " قراءات القراء السبعة المشهورة " بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام؛ إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة من القرآن وتفسيره والحديث والفقه من الأعمال الباطنة والظاهرة وسائر العلوم الدينية فلما أراد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار؛ ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم...

ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده؛ بل قد يكون معناها متفقا أو متقاربا كما قال عبد الله بن مسعود: إنما هو كقول أحدكم أقبل وهلم وتعال. وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر؛ لكن كلا المعنيين حق وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي ﷺ  في هذا حديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف إن قلت: غفورا رحيما أو قلت: عزيزا حكيما فالله كذلك ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة»")

(وكُتِبَ فِي الرِّقاعِ وغيرها في عَهدِ النّبوَّةِ، ثُمَّ في الصُّحُفِ في عَهدِ أَبي بَكرٍ)

أي أنه في عهد النبي r كان القرآن يكتب في الرقاع، جمع رقعة، من الجلد أو الورق، وكتب في غير الرقاع كاللخاف والعسب والأضلاع، وغير ذلك، ويحفظ في صدور الرجال.

وقبض النبي r ولم يكن القرآن جمع في مصحف؛ لأنه كان يترقب وورد ناسخ لبعض أحكامه، أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته r ألهم الله تعالى الخلفاء الراشدين لذلك، لأن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه.

وفي عهد الصديق t جُمع القرآن العظيم في الصحف.

فعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: «كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ؟» قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، «فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ»، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، «فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ»، قُلْتُ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ؟»، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، " فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رواه البخاري 4986.

(ثُمَّ جَمَعَ عُثمانُ النَّاسَ على مُصحَفٍ واحِدٍ)

أي ثم لما كثر اختلاف القراء في وجوه القراءة وخشيت الفتنة جمع عثمان t الناس في خلافته على مصحف واحد، وأجمع الصحابة عليه، وترك ما سواه.

فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ t أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ»، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ"، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ» فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ. رواه البخاري 4987.

(والجُمهورُ أَنَّهُ مُشتَمِلٌ على ما يَحتَمِلُهُ رَسْمُها، ومُتَضَمِّنَتُها العَرضَةُ الأخيرَةُ)

أي ومذهب الجمهور من السلف والخلف على أن مصحف عثمان t مشتمل على ما يحتمله رسم سبعة الأحرف، فعثمان t جمع الناس على حرف واحد، وهو لغة قريش.

قال مكي بن أبي طالب في الإبانة عن معاني القراءات ص34: (وسقط العمل بما يخالف خط المصحف من الأحرف السبعة، التي نزل بها القرآن بالإجماع على خط المصحف.

فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف. إذ لم يكن منقوطا، ولا مضبوطا. فذلك الاحتمال الذي احتمل الخط هو من الستة الأحرف الباقية).

وقال ابن الجزري في منجد المقرئين ص23: (فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي ﷺ  واستفاض دون ما كان قبل ذلك مما كان بطريق الشذوذ والآحاد من زيادة، وإبدال وتقديم وتأخير وغير ذلك، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش).

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 13/396: (ذكر محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم يكن واجبا على الأمة وإنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا؛ بل مفوضا إلى اجتهادهم؛ ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد وكذلك مصحف غيره.

وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة لأن ترتيب الآيات مأمور به نصا وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم. قالوا: فكذلك الأحرف السبعة فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور. ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة. ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك. وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة).

(وتَرتيبُ الآياتِ بالنَّصِّ)

أي وترتيب الآيات القرآنية توقيفي، وأنه بالنص إجماعا، فقد ثبت قراءته في الصلاة سورا مرتبة الآيات.

قال السيوطي في الإتقان 1/211: (الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك وأما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الانفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله ﷺ ، مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: " ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " فإذا نزلت عليه الآية فيقول: " ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ". وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله ﷺ ، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، فوضعتها في السبع الطول. رواه الترمذي 3294، وقال هذا حديث حسن. وضعفه الألباني.

(والسُّوَرِ بالاجتِهادِ)

هل ترتيب السور توقيفي أو اجتهادي([19]):

الجمهور على أنه باجتهاد من الصحابة y، واستدلوا لذلك باختلاف مصاحف الصحابة y في ترتيب السور، ولو كان توقيفياً لاتفقت مصاحفهم كما اتفقت في ترتيب الآيات.

والقول الثاني أنه توقيفي، واستدلوا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف ... الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله ﷺ : "طرأ علي حزبي من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه "، فسألنا أصحاب رسول الله ﷺ  قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل من "ق" حتى نختم.

فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله ﷺ .

وأياً كان ترتيب السور بتوقيف أم باجتهاد فقد أجمع الصحابة y عليه، وجرى عليه عمل المسلمين في مصاحفهم، فليس لأحد أن يغير ترتيبه، وأما ترتيب السور في التلاوة فهو مندوب، إلا في تعليم المبتدئ فالأولى أن يبدأ به من آخر المصحف إلى أوله([20]).

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(أَسبابُ نُزولِه)([21])

المراد بسبب النزول أن تقع حادثة في عهد النبي r فينزل آية أو آيات من القرآن الكريم تبين حكمها، أو يُسأل النبي r عن شيء فتنزل آية أو آيات فيها جواب السؤال.

وقد لا يكون نزول الآيات بعد الحادثة مباشرة، بل قد يتأخر عنها بعض الشيء، كما في الآيات التي نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، فقد تأخر نزولها.

وآيات القرآن الكريم تنقسم من حيث سبب النزول وعدمه إلى قسمين:

  1. قسم نزل من الله تعالى ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة، وإنما هو مرتبط بالسبب العام لنزول آيات القرآن الكريم، وهو هداية الناس، وهذا القسم هو أكثر آيات القرآن الكريم.
  2. قسم نزل مرتبطا بسبب من الأسباب الخاصة، ويسميه العلماء: سبب نزول الآية. وآيات هذا القسم هي الأقل، وقد أفردها العلماء بالتأليف لأهميتها.

ومن المؤلفات في ذلك: أسباب النزول للواحدي رحمه الله تعالى (ت: 468ه).

ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي رحمه الله تعالى (ت: 911ه).

والصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل الوادعي رحمه الله تعالى. (ت: 1423ه)

ومعرفة سبب النزول يكون عن طريق الرواية الثابتة عن الصحابة y.

قال الواحدي في أسباب النزول ص8: (ولا يَحِلُّ القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب).

(مَعرِفَةُ سَبَبِ نُزولِ القُرآنِ يُعينُ على فَهمِ الآيةِ)

أسباب نزول السور والآيات مما يعين على فهم المعنى، ويتعين على المفسر معرفته.

عن حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ مَرْوَانَ، قَالَ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ - لِبَوَّابِهِ - إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187] هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ [آل عمران: 188]، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ  عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ، إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ، مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ» رواه البخاري 4568، ومسلم 2778.

قال الزركشي في البرهان 1/28: (لا يخفى عن ابن عباس رضي الله عنه أن اللفظ أعم من السبب لكنه بين أن المراد باللفظ خاص).

(فَقَد يَكونُ اللَّفظُ عامّاً والسَّبَبُ خاصّاً، ومنه: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾)

قال الله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.

وقوله: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أي إن ارتبتم في حكم عدتهن، ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر.

لما رواه أُبيّ بنُ كعب t: يا رسول الله، إن عِددا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال، قال: فأنزل الله عز وجل: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾

فهذا يبين معنى ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أي إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن.

والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ فعموم الآية يقتضي أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة حضرا ولا سفر، وهذا خلاف الإجماع، ويوضح ذلك سبب النزول.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾" رواه مسلم 700.

وعن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ t قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ  فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ القِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ ، فَنَزَلَ: " ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾" رواه الترمذي 345، وحسنه الألباني.

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال السيوطي في الإتقان 1/110: (وقد نزلت آيات في أسباب واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر وآية اللعان في شأن هلال بن أمية وحد القذف في رماة عائشة ثم تعدى إلى غيرهم).

والحمد لله رب العالمين.

 

 

المجلس الثالث

الحمد لله ... أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:

(عامُّ القُرآنِ وخاصُّهُ)

العام لغة: الشامل.

واصطلاحاً: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.

مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ يعم جميع الأبرار.

فخرج بـ: «المستغرق لجميع أفراده»؛ ما لا يتناول إلا واحداً كالعَلَم والنكرة في سياق الإثبات؛ كقوله تعالى: ﴿فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ [المجادلة: 3] لأنها لا تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول، وإنما تتناول واحداً غير معيَّن.

وخرج بـ: «بلا حصر»؛ ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد: مائة وألف ونحوهما.

وللعام ألفاظ منها: كل، الذي، التي، أي، ما، متى، حيثما، والنكرة في سياق النفي والنهي والشرط.

والخاص لغة: ضد العام.

واصطلاحاً: اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد، كأسماء الأعلام والإشارة والعدد.

(العامُّ أَقْسامٌ: مِنهُ الباقِي على عُمُومِهِ، كَــ "حُرِّمَت عليكُم أُمَّهاتُكُم")

العام ثلاثة أقسام:

الأول: العام الباقي على عمومه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡ‍ٔٗا وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ، فهذه النصوص العامة باقية على عمومها لم يرد عليها تخصيص.

(والعامُّ المُرادُ بهِ الخُصوصُ، كَــ "الذينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ")

أي والقسم الثاني من أقسام العام: العام المراد به الخصوص، وليس عمومه مرادا، ومنه قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ والقائل واحد.

وقال تعالى: ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ أي رسول الله .

وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وليس المراد عموم الناس.

وقال تعالى: ﴿فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ والمراد جبريل عليه السلام.

(والثالث: العامُّ الْمَخصوصُ، وهُو كَثيرٌ، إِذْ ما مِن عامٍّ إِلاَّ وَقَدْ خُصَّ)

أي القسم الثالث من أقسام العام، العام المخصوص، وهو مرادٌ عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، وتناوله للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله لها بلا تخصيص.

وهذا القسم كثير، فما من لفظ عام في القرآن الكريم إلا وقد خص بالقرآن أو بالسنة أو بالقياس.

والفرق بين العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص:

أن العام الذي أريد به الخصوص لم يكن عمومه مرادا من أول الأمر، أما العام المخصوص فكان عمومه مرادا من أول الأمر لجميع أفراده فيحتاج إلى مخصص لإخراج بعض الأفراد.

(الْمُخَصِّصُ: إِمَّا مُتَّصلٌ، وهُو خَمسَهٌ، أحدها: الاسْتِثناءُ)

والمخصِّص - بكسر الصاد -: فاعل التخصيص وهو الشارع، ويطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص، وهو المراد هنا.

والمخصص إما متصل أو منفصل، والمتصل خمسة أنواع:

النوع الأول: الاستثناء: وتعريفه في الاصطلاح: إخراج بعض أفراد العام بإلا أو إحدى أخواتها. كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ [العصر:2] ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ [العصر:3]

فخرج بـ «بإلا أو إحدى أخواتها»؛ التخصيص بالشرط وغيره.

النوع الثاني: الشرط، والمراد به هنا: تعليق شيء بشيء وجوداً، أو عدماً بإن الشرطية أو إحدى أخواتها.

والشرط مخصص سواء تقدم أم تأخر.

مثال المتقدم قوله تعالى في المشركين: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ [التوبة: من الآية 5]

ومثال المتأخر قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗا [النور: من الآية 33].

النوع الثالث: الصفة وهي: ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام.

مثاله قوله تعالى: ﴿فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [النساء: من الآية 25]

وقوله تعالى: ﴿وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ

والرابع: الغاية، نحو ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ إلى قوله: ﴿حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَ وقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ الآية.

والخامس بدل البعض من الكل نحو ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗا.

(والمُنفَصِل: كَآيَةٍ أُخرى، أَو حديثٍ، أَو إجماعٍ)

أي والتخصيص المنفصل يكون بآية أخرى أو بحديث أو بأجماع يخصص الآية العامة.

مثال تخصيص القرآن بالقرآن: قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖ [لبقرة: من الآية 228]. خص بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَا [الأحزاب: من الآية 49]).  المطلقات: يعم المطلقة بعد الدخول بها، وقبل الدخول بها، فيجب عليها العدة ثلاثة قروء، لكن خُص هذا العموم بالآية الأخرى، والتي تدل على أن من طلق المرأة قبل أن يمسها أي قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها، فبمجرد طلاقه لها يحل لها أن تنكح من شاءت.

ومثال تخصيص القرآن بالسنة: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: من الآية 11] أولادكم: يعم الذكر والأنثى والمسلم والكافر فإنه يرث بناء على هذا العموم، لكنه مخصوص بقوله ﷺ: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» متفق عليه، فأخرج بعض أفراد العام من الحكم، فلا توارث بين المسلم والكافر.

ومثال تخصيص القرآن بالإجماع: مثل له بعض الأصوليين([22]) بقوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ خص بالإجماع على أن المراد الأخ لأم والأخت لأم. 

(وَمِن خاصِّ القُرآنِ: ما كانَ مُخَصِّصاً لِعُمومِ السُّنَّةِ، كَــ "حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ"، خُصَّ بِقَولِهِ ﷺ: «أُمِرتُ أَن أُقاتِلُ النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ»).

ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: ﴿وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا الآية خَص عموم قوله: «ما أبين من حي فهو كميتته».

وقوله: ﴿وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ خَص عموم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».

وقوله: ﴿فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي خَص عموم قوله: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار».

(الناسخ والمنسوخ)

(يَرِدُ النَّسخُ بِمَعنَى الإِزالةِ، ومِنهُ "فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيطانُ")

النسخ في اللغة بمعنى الإزالة، تقول العرب: نسخت الشمس الظل إذا أزالته.

ونسخت الريح الأثر، بمعنى أزالته.

ومنه قوله تعالى: ﴿فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ فالنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الله، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ، وقد يكون في فهمه قال تعالى: ﴿ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ وإحكامه: رفع ما يتوهم فيه من المعنى، الذي ليس بمراد.

ويأتي بمعنى النقل، ومنه نسخت ما في الكتاب. إذا نقلت ما فيه.

(وبِمَعنَى التَّبديلِ "وإذا بَدَّلنا آيةً مكانَ آيَةٍ")

أي يأتي النسخ بمعنى التبديل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ أي إذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم أخرى ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ أي والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه، فيما يبدله ويغير من أحكامه.

لكن هذه الآية ليس فيها ذكر النسخ، والأولى أن تذكر الآية الأخرى وهي قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآ فإن النسخ هنا بمعنى التبديل ([23]).

وهذه الآية ذكرها المؤلف في الحاشية. والمعنى ما ننسخ من حكم آية فنبدله ونغيره.

والنسخ في الشرع: رفع الحكم الشرعي الثابت بخطاب متقدم بواسطة خطاب متراخ عنه.

ومن أمثلة النسخ: آية المصابرة، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ...

ولا يجوز لأحد أن يفسر القرآن إلا بعد أن يعرف منه الناسخ من المنسوخ.

الحكمة من النسخ:

للنسخ حِكَمٌ متعددة منها:

1 - مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم بحسب أحوالهم، فقد يكون الحكم في وقت أو حال أصلح للعباد، ثم يكون غيره من الأحكام أصلح في وقت أو حال أخرى.

2 - التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال، فالصلاة أول ما فرضت ركعتان، وبعد الهجرة زيد في صلاة الحضر.

3 - اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك، ولذا قال الله تعالى في آية تحويل القبلة: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ.

4 - اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف، ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل الأخبار

شروط النسخ:

  1. ألا يمكن الجمع بين الدليلين، بحيث يكون بينهما تعارض حقيقي.
  2. العلم بالتاريخ، بأن يعلم الدليل المتأخر من المتقدم، ويُعلَم ذلك إما بالنص أو بخبر الصحابي أو بالتاريخ.

مثال ما علم تأخره بالنص: قوله ﷺ: «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة».

ومثال ما علم بخبر الصحابي: قول عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات.

ومثال ما علم بالتاريخ: قوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ الآية؛ فقوله: «الآن» يدل على تأخر هذا الحكم. وكذا لو ذكر أن النبي ﷺ حكم بشيء قبل الهجرة، ثم حكم بعدها بما يخالفه، فالثاني ناسخ.

(وهُو ثَلاثَةٌ: ما نُسِخَ تِلاوَتُهُ وحُكمُهُ، كَعَشرِ رَضَعاتٍ)

أي النسخ ثلاثة أقسام:

الأول: ما نسخ تلاوته وحكمه، ومثاله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " رواه مسلم 1452.

قال النووي في شرح مسلم 10/29: (وقولها (فتوفي رسول الله ﷺ وهن فيما يقرأ) هو بضم الياء من يقرأ ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى إنه ﷺ توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى).

والحكمة في نسخ الحكم واللفظ أن يعلم الناس تدرج الأحكام الشرعية.

(أو تِلاوَتُهُ دُون حُكمُهُ، كَآيَةِ الرَّجمِ)

القسم الثاني: ما نسخت تلاوته دون حكمه، ومن أمثلته آية الرجم.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ، إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ قَرَأْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ «رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ» رواه ابن ماجه 2553، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 2913. وقال: وقد أخرجه البخاري ومسلم إلا أنهما لم يقولا: "وقد قرأتها ..." إلخ.

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: لَقَدْ أَقَرَأَنَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ آيَةَ الرَّجْمِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ» رواه النسائي في السنن الكبرى 7108، وقال ابن كثير في تحفة الطالب ص330: بإسناد جيد.

وعن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ قال: قال لِي أُبَىُّ بنُ كَعبٍ رضي الله عنه: كأيِّن تَعُدُّ أو كأيِّن تَقرأُ سورَةَ "الأحزابِ"؟ قُلتُ: ثَلاثًا وسَبعينَ آيَةً. قال: أقَطُّ! لَقَد رأيتُها وإِنَّها لَتَعدِلُ سورَةَ "البَقَرَةِ"، وإِنَّ فيها: (الشيخُ والشَّيخَةُ إذا زَنَيا فارجُموهُما البَتَّةَ نكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ) رواه البيهقي في السنن الكبرى 16994.

قال البيهقي في السنن الكبرى 17/150 ت: التركي: (في هذا وما قَبلَه دَلالَةٌ على أن آيَةَ الرَّجمِ حُكمُها ثابِتٌ وتِلاوَتُها مَنسوخَةٌ، وهَذا ممّا لا أعلمُ فيه خِلافًا).

وحِكمة نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن، وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى، عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة.

(أو حُكمُهُ دُون تِلاوَتُهُ)

القسم الثالث: ما نسخ حكمه، ولم تنسخ تلاوته، وهو الأكثر، ومن أمثلته: قوله تعالى ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖ نُسخت بقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗا

وعن ابْن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قال: قُلْتُ: لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا [البقرة: 234] قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ» رواه البخاري 4530.

وآية المصابرة، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ ..

وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗ

قال ابن كثير في تفسيره 8/49: (يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله ﷺ ، أي: يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: ﴿ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُ ثم قال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ أي: إلا من عجز عن ذلك لفقده ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ فما أمر بها إلا من قدر عليها. ثم قال: ﴿ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖ أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، ﴿فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ فنسخ وجوب ذلك عنهم. وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه).

وحِكمة نسخ الحكم دون اللفظ، بقاء ثواب التلاوة، وتذكير الأمة بحكمة النسخ.

وينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أربعة أقسام:

الأول: نسخ القرآن بالقرآن؛ ومثاله آيتا المصابرة.

الثاني: نسخ القرآن بالسنّة؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الأصول من علم الأصول: (ولم أجد له مثالاً سليماً).

الثالث: نسخ السنة بالقرآن: ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة، باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ.

الرابع: نسخ السنة بالسنة، ومثاله قوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكراً».

(وصُنِّفَت فيه الكُتُب، وهُوَ قليلٌ)

أي وصنفت الكتب الكثيرة فيما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، كأبي عبيد وأبي داود وأبي جعفر النحاس وابن الأنباري وابن العربي والبن الجوزي وغيرهم.

وهو قليل، وإن كان بعضهم أكثر من تعديد الآيات التي قيل فيها بالنسخ، ولكنه من حيث الواقع قليل، فأكثر آيات القرآن الكريم محكمة، حكمها باق، وتلاوتها باقية.

إلا أن بعض السلف قد اصطلحوا على تسمية كل رفع نسخا.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين 1/29: (مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر).

(وَلا يَقَعُ إِلاَّ في الأَمرِ والنَّهيِ، ولَو بِلَفظِ الخَبَرِ)

أي لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، سواء أكان الأمر والنهي صريحا، أم كان بصيغة الخبر، ومثال الأمر الذي بصيغة الخبر آية المصابرة كما تقدم، ومثال النهي الذي بصيغة الخبر قوله تعالى: ﴿ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ ..

أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلم يدخله النسخ، فإن النسخ إنما يكون فيما يَتعبد اللهُ به عباده، لأن الله يتعبدهم بالأوامر والنواهي بما شاء، إلى الوقت الذي يشاء، ثم إن شاء نسخ ذلك، وتعبدهم بغيره.

فالخبر لا يقع فيه النسخ، لأنه يلزم من نسخ الخبر الأول بالخبر الثاني أن يكون الخبر الأول كذبا، وكلام الله تعالى منزه عن ذلك.

ولا يقع النسخ في الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان: كالتوحيد، وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف، والكرم والشجاعة، ونحو ذلك؛ فلا يمكن نسخ الأمر بها، وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.

طرق معرفة الناسخ من المنسوخ:

إما بدلالة النص الشرعي، كما تقدم في آية المصابرة، وآية الصدقة، وقوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».

وإما أن ينعقد إجماع العلماء على أن هذا النص ناسخ للنص الآخر.

وبناء على هذا فمن ادعى النسخ لنص من نصوص الكتاب والسنة فعليه أن يقيم الدليل على النسخ، إما بدلالة النص أو الإجماع، فلا يقبل فيه مجرد الاجتهاد.

 

 

(المحكم والمتشابه)

وصف الله عز وجل القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.

فالأول، وهو أن القرآن كله محكم، كما في قوله تعالى: ﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ [لقمان: 2] والمراد بالإحكام هنا: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان والفصاحة والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني وأجلها وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار، وكمال الرشد والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115].

والثاني، وهو أن القرآن كله متشابه، كما في قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا [الزمر: 23].

والمراد بالتشابه هنا: هو تشابه القرآن في الكمال والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار، كما قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا [النساء: 82].

ووصفُ القرآن جميعه بالإحكام، ووصفُه جميعه بالتشابه لا يتعارضان، فهو كلام محكم متقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق، فلا يتناقض في أحكامه، ولا كذب في أخباره.

والثالث، وهو أن بعضه محكم وبعضه متشابه، كقوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞ [آل عمران: 7].

والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو: الوضوح والظهور بحيث يكون معناه واضحاً بيناً لا يشتبه على أحد، وهذا كثير في الأخبار والأحكام.

مثاله في الأخبار قوله تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ [البقرة: 185]. فكل أحد يعرف شهر رمضان، وكل أحد يعرف القرآن.

ومثاله في الأحكام قوله تعالى: ﴿وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا [الإسراء: 23]. فكل أحد يعرف والديه، وكل أحد يعرف الإحسان.

وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.

وهذا القسم وهو أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه اختلف الناس فيه على قسمين:

فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالاً أو تناقضاً، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام.

وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك فضلوا وأضلوا، وتوهموا بهذا المتشابه ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله.

مثال ما لا يليق بالله عز وجل: قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ [يس: 12]. وقوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ [الحجر: 9]... ونحوهما مما أضاف الله فيه الشيء إلى نفسه بصيغة الجمع.

فاتَّبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد، كقوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ﴿إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ.

وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، فكلمة (إنا) و (نحن) تأتي في اللغة للواحد المعظم نفسه، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى: ﴿وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 163] ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت - بما وقع لك من الاشتباه - قد كفرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ [المائدة: 73] ؛ أي كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة.

ومثال ما لا يليق بالقرآن: قوله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ [القصص: 56]. وقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ [الشورى: 52].

ففي الآيتين موهم تعارض فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضاً وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض.

وأما الراسخون في العلم؛ فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره. والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة، وهذه تكون من الله تعالى ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين.

ومثال الثالث ما لا يليق برسول الله ﷺ: قوله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡ‍َٔلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ [يونس: 94].

ففي الآية ما يوهم وقوع الشك من النبي ﷺ مما أنزل إليه فيتبعه من في قلبه زيغ فيدعي أن النبي ﷺ وقع منه ذلك فيطعن في رسول الله ﷺ.

وأما الراسخون في العلم؛ فيقولون: إن النبي ﷺ لم يقع منه شك ولا امتراء فيما أنزل إليه، كيف وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦ [البقرة: 285]. وقوله: ﴿فَ‍َٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ [لأعراف: 158] ؟!

ويقولون: إن مثل هذا التعبير - ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ [يونس: 94] - لا يلزم منه وقوع الشرط، بل ولا إمكانه كقوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ [الزخرف: 81]؛ فإن وجود الولد لله عز وجل ممتنع غاية الامتناع كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 91]. فكذلك الشك والامتراء من رسول الله ﷺ فيما أنزل إليه ممتنع غاية الامتناع، ولكن جاءت العبارة بهذه الصيغة الشرطية لتأكيد امتناع الشك والامتراء من رسول الله ﷺ فيما أنزل إليه من الله عز وجل.

التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي ونسبي:

- فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا - وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار - لا نعلم حقائقها وكنهها كما قال الله تعالى عن نفسه: ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا [طه: 110]. وقال: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَ [الأنعام: 103]. وقال عما في اليوم الآخر: ﴿فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ [السجدة: 17]. وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي ﷺ أن الله قال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير ... ونحو ذلك.

ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات ليس مماثلاً في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله.

كما نعلم أن في الجنة لحماً، ولبناً، وعسلاً، وماء، وخمراً ... ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.

وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه.

- وأما النسبي؛ فهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم.

وهذا النوع يُسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه، إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، كيف وقد قال الله عز وجل: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ [النحل: 89]. وقال: ﴿هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ [آل عمران: 138]. وقال: ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ 19 [القيامة: 18-19]. وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا [النساء: 174]. وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ [البقرة: 185].

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(الْمُحْكَمُ: يُمَيِّزُ الحَقيقَةَ الْمَقصُودَةَ)

المحكم يميز الحقيقة المقصودة من غيرها، حتى لا تشتبه بغيرها.

فالمحكم هو الواضح الدلالة.

(والْمُتشَابِهُ: يُشبِهُ هذا ويُشبِهُ هذا)

والمتشابه هو الذي فيه اشتباه على كثير من الناس.

(والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ "ابتغاء الفتنة" لِيَفتِنُوا النَّاسَ؛ إِذْا وَضَعُوهُ عَلَى غيرِ مَواضِعِهِ)

الذين في قلوبهم زيع: أي عدول عن الحق، فإنهم يتركون المحكم الذي لا اشتباه فيه، ويتبعون المتشابه، الذي يشبه هذا ويشبه هذا، ومن أمثلة ذلك - وقد تقدم -: المحكم في قوله تعالى: ﴿وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وقوله سبحانه: ﴿إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وقوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ فيتركون هذا المحكم الدال على وحدانية الله، وأنه الإله وحده، ويتبعون المتشابه في قوله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ على اعتبار أن كلمة (إنَّا) و (نحن) للجمع، فيتأولها النصارى بأن الآلهة ثلاثة؛ لأن (إنا) و (نحن) كل منهما ضمير جمع.

ومن المعلوم أن (إنا) و (نحن) تأتي في اللغة للجمع، وللواحد المعظم نفسه، فهي من التشابه، والمتشابه يرد إلى المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۗ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ» رواه البخاري4547، ومسلم 2665.

ومعنى ﴿مُّحۡكَمَٰتٌ مبينات مفصلات أحكمت عبارتها ووضحت وحفظت من احتمال التأويل والاشتباه. ﴿أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ أصل الكتاب والعمدة منه ﴿مُتَشَٰبِهَٰتٞ محتملات في معانيهن للتأويل. ﴿ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ أي يريدون أن يفتنوا الناس عن دينهم ويوقعوهم في الشك. ﴿وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦ أي تفسيره حسبما يشتهون (الذين سمى الله) أي ذكرهم في كتابه بأنهم في قلوبهم زيغ.

ولما جاء صبيغ بن عِسْل إلى عمر رضي الله عنه، فسأله عن متشابه القرآن، فسأله عن ﴿الذَّٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا أمر عمر رضي الله عنه بجلده عدة مرات، ثم جلاه إلى أبي موسى رضي الله عنه، وأمر ألا يجالسه الناس، حتى تاب وأظهر توبته. وقصة صيبغ ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في ترجمة صبيغ في الإصابة، وحكم على إسنادها بالصحة.

("وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ" وهُو الحَقيقَةُ التي أَخبَرَ عَنْها، كالقِيامَةِ وَأَشرَاطِها، "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ" وقته، وصفته "إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" وَلَم يَنفِ عَنهُم عِلمَ مَعناهُ، بل قال: "لِيَدَّبَّروا آياتِهِ")

في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۗ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ [آل عمران: 7] قولان للسلف في الوقف في هذه الآية:

أحدهما: الوقف عند قوله: ﴿إِلَّا ٱللَّهَ وهو قول جمهور السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ [آل عمران: 7] الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، لا التفسير الذي هو بيان المعنى. فتأويل آيات الصفات - على هذا - هو حقيقة تلك الصفات وكنهها، وهذا من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل ولم يرد بها السمع فلا يعلمها إلا الله.

الثاني: الوصل فلا يقفون على قوله: ﴿إِلَّا ٱللَّهَ وهو قول جماعة من السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ [آل عمران: 7] التفسير الذي هو بيان المعنى. وهذا معلوم للراسخين في العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله". وقال مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها؟ ".

وبهذا تبين أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم معناه إلا الله تعالى، وإنما تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل([24]).

(قال شَيخُ الإِسلامِ: "وثَبَتَ أَنَّ اتِّباعَ الْمُتشابِهِ ليسَ في خُصوصِ الصِّفاتِ)

هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد قال كما في مجموع الفتاوى 13/311: (قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات؛ بل في صحيح البخاري «أن النبي ﷺ قال لعائشة يا عائشة إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذريهم» وهذا عام. وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن ﴿الذَّٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا فقال: ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ فقال: وأنا عبد الله عمر وضربه الضرب الشديد. وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ. وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه» وكما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد).

 (ولا أَعلَمُ أنَّ أحداً مِنَ السَّلفِ جَعَلَها مِنَ الْمُتَشابِهِ الدَّاخِلِ في هِذهِ الآيَةِ") أي أنه لا يعلم أحدا من سلف الأمة المتقدمين جعل آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه، فمعانيها معلومة لنا، ويحملونها على ظاهرها وحقيقتها، ولكن كيفيتها لا نعلهما.

(وعِندَهُم قِراءَتُها: تَفسيرُها، وتُمَرُّ كَما جاءَت، دَالَّةٌ على ما فِيها مِنْ الْمَعانِي، لا تُحَرَّف وَلا يُلْحَدُ فِيها) وتفسيرها هو المعنى الذي دلت عليها بظاهرها، وتمر كما جاءت بلا تأويل، ولا تحريف، بل نثبت المعنى الذي دلت عليه.

وفيه الرد على المفوضة لمعاني صفات الله عز وجل.

(وَكُلُّ ظاهِرٍ: تُرِكَ لِمُعارِضٍ رَاجِحٍ، كَتَخصيصِ العامِّ، وتَقييدِ الْمُطلَقِ، فَإنَّهُ مُتشابِهٌ لاحتِمالِهِ مَعنَيَينِ، وكذا الْمُجمَلُ)

الظاهر هو اللفظ الدال على معنيين فأكثر، هو في أحدهما أظهر. فهو متشابه لاحتماله لأكثر من معنى، فمثلا العام الأصل فيه أن يُحمل على عمومه، وقد يخص منه بعض أفراده، فالظاهر هو حمله على جميع أفراده حتى يقوم الدليل على التخصيص.

وكذا يقال في تقييد المطلق.

(وإحكامُهُ: رَفعُ ما يُتَوَهَّمُ فيهِ مِن المعنَى الذي ليسَ بِمرادٍ)

أي إحكام المتشابه يكون بإبطال المعنى المرجوح، وبيان أنه غير مراد كما تقدم في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(التَّأْويلُ)([25])

التأويل مصدر أوّل يؤول تأويلا، وآل يؤول أي عاد إلى كذا ورجع إليه.

وفي الاصطلاح: ردُّ الكلام إلى الغاية المرادة منه بشرح معناه أو حصول مقتضاه.

ويطلق على ثلاث معان:

الأول: التفسير: وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓ [يوسف: 36] أي بتفسيره، وقوله: ﴿وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِيلِ ٱلۡأَحۡلَٰمِ بِعَٰلِمِينَ أي بتفسير الأحلام.

وقول النبي ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين "تأويل قوله تعالى" أي: تفسيره.

والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم.

المعنى الثاني: مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبراً فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه - وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره - وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب.

مثال الخبر: قوله تعالى: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥ [الأعراف: 53] أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗا [يوسف: 100] فتأويل رؤياه هو وقوعها وتحققها.

ومثال الطلب: قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن؛ أي: يمتثل ما أمره الله به في قوله: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ 1 وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا 2 فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا 3 [النصر: 1-3].

والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعاً.

فأما قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]. فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل.

فعلى قراءة الوقف عند قوله: ﴿إِلَّا ٱللَّهَ؛ يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته؛ لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله عز وجل.

وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير، لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم فلا يختص علمه بالله تعالى.

فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها، وهذا هو التأويل المجهول لنا.

وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ونحو ذلك.

ونعلم أن الحياة ليس هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة، وأن القدرة ليس هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر ... وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله عز وجل.

وهذا المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب والسنة وكلام السلف.

* المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه. وإن شئت فقل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه.

وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل هو حق أو باطل؟

والتحقيق: أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير؛ لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره، أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم.

مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ [النحل: 1]. فإن الله تعالى يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله: ﴿فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ.

ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ [النحل: 98] ؛ فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة، والمراد إذا أردت أن تقرأ؛ لأن النبي ﷺ كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ لا إذا فرغ من القراءة.

وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلاً مذموماً، وجديراً بأن يسمى تحريفاً لا تأويلاً.

مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ [طه: 5]. فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علواً يليق بالله عز وجل، وهذا هو المراد، فتأويله إلى أن معناه "استولى" تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(التَّأويلُ فِي القُرآنِ: نَفسُ وُقوعِ الْمُخبَرِ بِهِ)

هذا هو المعنى الثاني للتأول، كما تقدم.

(وَعِندَ السَّلَفِ: تَفسيرُ الكلامِ وَبيانُ مَعناهُ) وهذا هو المعنى الأول المتقدم.

(وَعِندَ الْمُتَأَخِّرينَ مِن الْمُتَكَلِّمَةِ والْمُتَفَقِّهَةِ ونَحوِهِم، هُوَ: صَرفُ اللفظِ عَنِ الْمَعنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعنَى الْمَرْجوحِ، لِدليلٍ يَقتَرِنُ بِهِ، أَوْ حَمْلُ ظاهِرٍ عَلى مُحتَمَلٍ مَرجوحٍ)

وهذا هو المعنى الثالث للتأويل كما تقدم.

(وما تَأَوَّلَهُ القَرامِطَةُ والباطِنِيَّةُ لِلأَخبارِ والأَوامِرِ، والفَلاسِفَةُ للإخبارِ عَنِ اللهِ واليومِ الآخرِ، والجَهمِيَّةُ والْمُعتَزِلَةُ وغَيرُهُم في بَعضِ ما جاء في اليوم الآخِرِ، وَفي آياتِ القَدَرِ، وآياتِ الصِّفاتِ، هُوَ مِن تَحريفِ الكَلِمِ عَن مَواضِعِهِ)

القرامطة والباطنية يدَّعون أن للقرآن باطنا يخالف الظاهر، فيقولون مثلا: الصلاة المأمور بها، ليست هذه الصلاة المعروفة، هذه يؤمر بها عامة الناس، أما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا.

ويقولون في الأخبار الغيبية كالجنة والنار إنه لا يراد بها حقيقتها، بل المراد بالنار تخويف الناس ليجتنبوا المعصية، والمراد بالجنة الترغيب ليعملوا بالطاعة، وإلا فليس هناك جنة ولا نار، وهذا منهم تأويل حيث صرفوا اللفظ عن ظاهره إلى غير الظاهر بلا دليل فيكون باطلا.

ومثلهم كذلك الفلاسفة والجهمية والمعتزلة في تأويل بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات الصفات، فيقولون هي على غير حقيقتها، ويؤولونها بلا دليل، فهو تأويل باطل، ومن تحريف الكلام عن مواضعه.

(قَالَ الشَّيخُ: وَطَوائِفُ مِن السَّلَفِ أَخطَؤا في مَعنَى التَّأويلِ الْمَنفِيِّ؛ وَفي مَعنَى التَّأويلِ الذي أَثْبَتُوهُ)

المراد بالشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والخطأ الواقع في معنى التأويل المنفي يعني في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ما هو التأويل المنفي في الآية؟ قال بعضهم هو التفسير، أي وما يعلم تفسيره إلا الله. وهذا معناه أن في القرآن ما لا يعلم تفسيره أحد من العلماء، وهذا خطأ، لأن الله عز وجل خاطبنا بما نعلم، وأمرنا بتدبر القرآن، فليس منه شيء لا يعلم أحد من أهل العلم معناه، والصواب أن معنى التأويل المنفي هو حقيقة المخبر به([26]).

والخطأ في معنى التأويل الذي أثبتوه قال عنه المؤلف في حاشيته: كتأويل اليد بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء، ونحو ذلك.

(والتَّأويلُ الْمَردودُ: هُوَ صَرفُ الكَلِمِ عَن ظاهِرِهِ إِلَى ما يُخالِفُ ظاهِرَهُ)

وهذا هو المعنى الثالث للتأويل، وهو التأويل الذي لا دليل عليه، وهو مردود كما تقدم.

بل نقل المؤلف في حاشيته أنه قد حكى غير واحد إجماع السلف على عدم القول به.

(قال: وَلَم يَقُل أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ: ظاهِرُ هذا غَيرُ مُرادٍ. وَلا قالَ: هَذهِ الآيَةُ أَو هَذا الحديثُ مَصروفٌ عَن ظاهِرِهِ. مَعَ أنَّهُم قَد قَالُوا مِثلَ ذلكَ في آياتِ الأَحكامِ الْمَصروفَةِ عَن عُمُومِها وظَواهِرِها، وتَكَلَّمُوا فِيما يُسْتَشْكَلُ مِمَّا قَد يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُتَناقِضٌ)

أي لم يقل أحد من السلف في نصوص الصفات: ظاهر هذا النص غير مراد، أو هو مصروف عن ظاهره، مع أنهم كانوا يقولون ذلك في نصوص الأحكام، فقالوا هذا النص العام مخصوص بنص آخر، كما تقدم معنا ذكر أمثلة ذلك، وقالوا في بعض نصوص الأحكام إنها على غير ظاهرها، مع بيان الدليل على أنها على غير الظاهر، وبينوا ما يستشكل من النصوص، فمثلا قوله ﷺ: «إن الميت يعذب ببكاء أهله» فهذا يشكل عليه، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ فتكلموا على الحديث بأن المراد به اليهود، كما جاء عن بعض السلف، وقيل يعذب بمعنى يتألم، كما جاء في الحديث «السفر قطعة من عذاب» والمقصود أنهم تكلموا في هذه النصوص، أما نصوص الصفات فلم يتعرضوا لها بتأويل بل سلموا بها وآمنوا.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

المجلس الرابع

الحمد لله . . أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(نَفْيُ الْمَجازِ)

المجاز خلاف الحقيقة، وذلك أن الكلام ينقسم من حيث الاستعمال إلى حقيقةٍ ومجاز. والمجاز هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، مثل: أسد للرجل الشجاع. والحمار للبليد.

والحقيقة هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له، مثل: أسد. للحيوان المفترس. والحمار للحيوان المعروف.

(صَرَّحَ بِنَفْيِهِ الْمُحَقِّقونَ)

أي صرح المحققون من أهل العلم أنه لا مجاز في اللغة العربية، وأن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث بعد القرون الثلاثة، وأنه ليس معروفا في عهد الصحابة y ولا التابعين ولا تابعيهم، وهذا قول أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي علي الفارسي، وصرح به المحققون من أصحاب الإمام أحمد كابن حامد وابن وهب، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وأفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز([27]).

والقول الثاني: أن الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز، أي أن المجاز واقع في اللغة العربية، وفي القرآن الكريم، وهو المشهور عند أكثر المتأخرين.

ومن ادعاه في لغة العرب، لزمه أن يقوله في كتاب الله، وإلا تناقض لنزوله بلغتهم.

ويشترط لصحة استعمال اللفظ في مجازه عند القائلين بالمجاز: وجود ارتباط بين المعنى الحقيقي والمجازي، ليصح التعبير به عنه، وهو ما يسمى في علم البيان بالعلاقة.

فإن لم يكن هناك علاقة فلا يصح المجاز، فلو عبرت عن البيت بالشاة فإنه لا يصح المجاز هنا لعدم العلاقة، لكن لو عبرت عن النفس بالرقبة فإنه يصح المجاز؛ لوجود العلاقة، وهي أن الرقبة إذا قُطعت ذهبت النفس، لكن لا يعبر عن الإنسان بالظفر لعدم العلاقة، وهكذا.

ومن أمثلة المجاز عند القائلين به: قوله تعالى: ﴿وَسۡ‍َٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ﴾ [يوسف: 82] أي: واسأل أهل القرية؛ فحذفت «أهل» مجازاً؛ لأن أبناء يعقوب u لم يريدوا من أبيهم u أن يسأل أبنية القرية، وإنما مرادهم أهل القرية، فحذت كلمة أهل مجازا، وهو مجاز مرسل.

وعند القائلين بنفي المجاز يقولون إنه حقيقة وليس مجازا، وذلك بالنظر إلى السياق والقرائن لا إلى مجرد اللفظ، ففي لغة العرب إذا قيل: اسأل القرية. فهو حقيقة في سؤال أهلها.

وأيضا مثل: رأيت أسدا في المعركة يقاتل. هو حقيقة في الرجل الشجاع، ولا يمكن أن يقول أحد: إن المراد بالأسد هنا الحيوان المفترس.

ولأن اللغة العربية يختلف فيها معنى الكلمة بحسب السياق، فمثلا: رغبتُ فيه. المعنى أردته. ورغبتُ عنه. المعنى لم أرده. وكلمة (رغبت) واحدة، اختلف معناها بحسب السياق، فهي في كلا السياقين حقيقة.

(ولَم يُحفَظُ عن أحد من الأئمة القول به)

وقال الشيخ: لم ينطق به السلف، ونفس هذا التقسيم باطل، وقال ابن القيم: لم يرد الشرع بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولا دل عليه، ولا أشار إليه، وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغتها إلى حقيقة ومجاز، ولا قال أحد من العرب قط، هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز، ولا وجد في كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة، ولا بواسطة ذلك، ولهذا لا يوجد في كلام الخليل، وسيبويه والفراء وأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي وأمثالهم، كما لم يوجد ذلك في كلام رجل واحد، من الصحابة، ولا من التابعين، ولا تابعي التابعين ولا في كلام أحد من الأئمة الأربعة.

(وإِنَّما حَدَثَ تَقسِيمُ الكَلامِ إِلى حَقيقَةٍ ومَجازٍ، بعد القرون المفضلة)

وقال ابن القيم: هو اصطلاح حدث، بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص، وكان منشأه من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، من المتكلمين.

وأشهر ضوابطهم: أن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً.

قال: وتقسيمهم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إما أن يكون عقليا أو شرعيا أو لغويا أو اصطلاحيا والأقسام الثلاثة الأُوَل باطلة فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ على معناه، والشرع لم يرد بهذا التقسيم، وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى حقيقة ومجاز، وإذا علم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا، فهو اصطلاح حادث محض غير منضبط ولا مطرد ولا منعكس بل متضمن للتفريق بين المتماثلين من كل وجه.

(فَتَذَرَّعَ بِهِ الْمُعتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ إِلَى الإِلحادِ في الصفات)

أي تذرع المعتزلة والجهمية بالقول بالمجاز وجعلوه ذريعة ووسيلة إلى الإلحاد في صفات الله عز وجل، ومعنى الإلحاد أي الميل عن الحق.

فأبطلوا حقيقة آيات الصفات، وعطلوا ألفاظها عن دلالتها على المعاني، ومن ذلك قولهم في قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ قالوا: هو من مجاز اللغة، تقديره: وجاء أمر ربك. وقولهم في اسمه ﴿ٱلرَّحۡمَٰنِ﴾ وصفه بالرحمة مجاز؛ لأن الرحمة رقة تعتري القلب. وقولهم في استوائه على العرش، أنه بمعنى استولى، وهذا من مجاز اللغة، وقالوا في صفة اليدين: هي مجاز في النعمة، أو القدرة. وفي الوجه، أي: يبقى ربك أو ثوابه. وغير ذلك من صفات الرب جل وعلا وتقدس، وقالوا: يمتنع حمل آيات الصفات على الحقيقة. وهذا منهم تأويل باطل لا دليل عليه.

والواجب حمل آيات الصفات على ظاهرها وحقيقتها، ولا يجوز حملها على المجاز.

(قالَ الشَّيخُ: وَلَم يَتَكَلَّمِ الرَّبُّ بِهِ، ولا رَسُولُهُ، ولا أَصحابُهُ، ولا التَّابِعون لَهُم بِإحسانٍ)

هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو من أهم الأدلة على منع وجود المجاز، لأنه لم يتكلم به ربنا سبحانه ولا رسوله r، ولا أصحابه ولا سلف الأمة y.

(ومَن تَكَلَّمَ بهِ مِن أَهلِ اللغَةِ، يَقُولُ في بَعضِ الآياتِ: هذا مِنْ مَجازِ اللغَةِ: ومُرادُهُ: أَنَّ هذا مِمَّا يَجوزُ في اللغَةِ، لم يُرِدْ هذا التَّقسيمُ الحادثِ)

كما جاء في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى رحمه الله تعالى، أي ما يجوز فيه من المعاني، ولا يريد به المجاز الحادث.

(لا سِيَّما وقد قالُوا: إنَّ الْمَجازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ)

القائلون بالمجاز يقولون من الفروق بين الحقيقة والمجاز أن المجاز يصح نفيه، فمثلا إذا قلت رأيت أسدا في المعركة يقاتل الأعداء. تريد الرجل الشجاع، فيجوز أن يقال: هذا ليس بأسد، بل رجل شجاع. أما الحقيقة فلا يصح نفيها، فإذا قلت: رأيت رجلا شجاعا في المعركة. لم يصح نفي كونه رجلا.

(فَكَيفَ يَصِحُّ حَملُ الآياتِ القُرآنِيَّةِ على مِثلِ ذلك)

أي إذا كان المجاز يصح نفيه فكيف تحمل الآيات القرآنية على المجاز؛ لأن معنى ذلك أنه يصح نفي شيء من كلام الله تعالى، وهذا باطل.

والقرآن كله حق، فلا يجوز أن يدعى أن فيه ما ليس بحقيقة.

(وَلا يهولنك إطباق المتأخرين عليه، فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه)

أي لا يفزعك أن كثيرا من المتأخرين قد أخذوا بالقول بالمجاز، فإن الحق لا يعرف بكثرة قائليه، وإنما يعرف الحق بالأدلة والبراهين عليه، فإن المتأخرين قد أطبقوا على ما هو شر من المجاز، كالشرك في الربوبية والألوهية، فيوجد في كثير من البلاد من يقصد القبور ويدعو أصحابها من دون الله تعالى، ويذبح لها وينذر ويستغيث بها، وغير ذلك من أنواع الشرك بالله تعالى.  

(وَذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ: خَمسِينَ وَجهاً في بُطلانِ القول بالمجاز، وكلام الله وكلام رسوله منزه عن ذلك)

أي ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الصواعق المرسلة في بيان بطلان المجاز خمسين وجها أي دليلا على بطلانه، وسماه طاغوتا، والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(الإعجاز)

أي ذكر إعجاز القرآن، وهو أعظم معجزات نبينا محمد - ﷺ  - لم يقدر أحد على معارضته قال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ﴾ فأخبر تعالى: أنه كاف في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(الْمُعجِزَةُ: أَمرٌ خارِقٌ للعادَةِ، مَقرونٌ بالتَّحَدِّي، سَالِمٌ عَنِ الْمُعارَضَةِ)

هذا تعريف المعجزة المتحدى بها، وهي أمر من الأمور المهولة خارق للعادة المألوفة مما يعتاده الإنسان، سالم من المعارضة أي يعجز البشر أن يأتوا بمثله، ويناقضوه ويقاوموه.

(والقُرآن مُعجِزٌ أَبداً)

أي: والقرآن العزيز، معجز أبدا إلى يوم القيامة وكان أكثر معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل محمد - ﷺ  - حسية انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة هذه الأمة عقلية باقية، لبقاء هذه الشريعة، فلا يمر عصر من الأعصار، إلا وكتاب الله، آية من آيات الله، يظهر شيء مما أخبر به أنه سيكون يراه أولو البصائر دال على صحته إلى يوم القيامة.

وعن أبى هريرة t قال: قال النبي -ﷺ -: "ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيت وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه البخاري ومسلم.

قال ابن كثير: (معنى الحديث: ما من نبي إلا أُعطي -أي: من المعجزات- ما آمن عليه البشر، أي: ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به، واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم تبق لهم معجزةٌ بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهدوه في زمانه.

وأما الرسول الخاتم للرسالة محمد -ﷺ ، فإنما كان معظمُ ما آتاه الله وحيا منه إليه، منقولا الى الناس بالتواتر، ففي كل حينٍ هو كما أنزل، فلهذا قال: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". وكذلك وقع؛ فإن أتباعه أكثرُ من أتباع الأنبياء لعموم رسالته، ودوامها الى قيام الساعة واستمرار معجزته. ولهذا قال الله تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1])([28]).

(أَعجَزَ الفُصحاءَ مَعَ حِرصِهِم على مُعارَضَتِهِ)

أي: أعجز هذا القرآن العظيم الفصحاء على أن يأتوا بمثله، مع حرصهم على معارضته وإطفاء نوره وإخفاء أمره، ولو كان في مقدرتهم معارضتُه لفعلوا، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه حدَّث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه، بل عدلوا إلى العناد والاستهزاء.

(وقَد تَحَدَّاهُم تَعالَى على أن يَأتُوا بِحديثٍ مِثلِهِ، أو عَشرِ سُوَرٍ، أو سُورَةٌ)

أي: وقد تحدى الله تعالى العرب، وكانوا أهل الفصاحة والبلاغة والبيان على أن يأتوا بحديث مثل القرآن كما قال تعالى: ﴿فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ﴾ ثم تحداهم بعشر سور منه، كما في قوله تعالى: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ 13 فَإِلَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلۡمِ ٱللَّهِ﴾ ثم تحداهم بسورة كما قال تعالى: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ﴾ وقال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ﴾ فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه، على كثرة الخطباء فيهم، والبلغاء، والحرص على المعارضة نادى عليهم بإظهار العجز، وإعجاز القرآن فقال: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا﴾.

(وَذَكَرَ العُلَماءُ وُجوهاً مِن إعجازِهِ: مِنها: أُسلُوبُهُ، وبَلاغَتُهُ)

أي وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى، وجوها كثيرة من دلائل إعجازه وما بلغوا عشر معشارها، منها: حسن أسلوبه الذي فاق أساليب كلام العرب، مع قوة فصاحتها، وبلاغته الخارقة لعادة العرب، مع أنهم فرسان البلاغة، وكل واحد من هذين النوعين من الإعجاز - وهما: الأسلوب والبلاغة - لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منها، إذ كل واحد منها خارج عن قدرتها مباين لفصاحتها.

(وبَيانُهُ، وفَصاحَتُهُ)

أي ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم: بيانه الظاهر الذي هو في أعلى درجات البيان وفصاحته التي هي في الغاية القصوى من الفصاحة، ولا يقدر على ذلك أحد من البشر وبذلك قامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب البيان والفصاحة ومظنة المعارضة للقرآن فلم يستطيعوا معارضته.

(وحُسنُ تألِيفِهِ)

أي ومن وجوه إعجازه: حسن تأليفه ومخالفته لنظم ما عداه، والبليغ إذا سمع القرآن فرَّق بينه وبين ما عداه من النظم، ونبَّه تعالى على أن تأليفه ليس على هيئة ما يتعاطاه البشر، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ 41 لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ 42﴾.

(وإِخبارُهُ عَنِ الْمُغَيَّباتِ)

أي ومن وجوه إعجازه أيضا: ما فيه من الإخبار عن المغيبات المستقبلة، ولم يكن ذلك من شأن العرب، وما تضمنه أيضا من قصص الأولين، وسائر المتقدمين، حكاية من شاهدها، وحضرها وما تضمنه أيضا: من الإخبار عن الضمائر كقوله: ﴿إِذۡ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمۡ﴾، ﴿وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ﴾ وغير ذلك.

(والرَّوعَةُ في قُلوبِ سامِعيه، وغَيرُ ذلكَ)

أي: وذكر بعضهم من وجوه إعجازه: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه، والتأثير في نفوسهم والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، بل لا تستمع كلاما غير القرآن إذا قرع سمعك خلص إلى قلبك من اللذة والحلاوة ما يخلص منه إليه، قال تعالى: ﴿لَوۡ أَنزَلۡنَا هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلٖ لَّرَأَيۡتَهُۥ خَٰشِعٗا مُّتَصَدِّعٗا مِّنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِ﴾ وقال: ﴿تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾

ومن وجوه إعجازه: كون سامعه لا يمله، وكونه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين، وعلى ألسنة القارئين.

ومنها: جمعه بين الجزالة، والعذوبة كونه آخر الكتب، غنيا عن غيره.

وذكروا غير ذلك من وجوه إعجازه، لما اشتمل عليه من التركيب المعجز، الذي تحدى به الجن والإنس، والمعاني الصحيحة، الكاملة التي هي من أعظم التحدي عند كثير من العلماء.

وذكر ابن كثير في تفسيره 1/160 في تفسير أول سورة البقرة الحكمة من إيراد الحروف المقطعة في أوائل السور، مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها، وذكر الأقوال في ذلك، واختار منها: أن هذه الحروف ذُكرتْ في أوائل السور التي ذُكرتْ فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه تركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.

ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: ﴿الٓمٓ 1 ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِ﴾ [البقرة: 1، 2] . ﴿الٓمٓ 1 ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ 2 نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ﴾ [آل عمران: 1-3] . ﴿الٓمٓصٓ 1 كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ﴾ [الأعراف: 1، 2] . ﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ﴾ [إبراهيم: 1] ﴿الٓمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 2﴾ [السجدة: 1، 2] . ﴿حمٓ 1 تَنزِيلٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ 2﴾ [فصلت: 1، 2] . ﴿حمٓ 1 عٓسٓقٓ 2 كَذَٰلِكَ يُوحِيٓ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ 3﴾ [الشورى: 1-3] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة هذا القول لمن أمعن النظر.

(حتَّى قالَ الوَليدُ: "إِنَّ لَقوله لَحَلاوَةٌ، وإنَّ عَلَيهِ لَطَلاوَةٌ")

أي الوليد بن المغيرة المخزومي وهو من سادات قريش، فقد جاء في كتب التفسير أن قتادة رحمه الله تعالى قال: زعموا أنه يعني الوليد - قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل - يعني النبي r - فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطَلاوة، وإنه ليعلو وما يُعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله: ﴿فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ﴾ الآية([29]).

ومعنى: وإن عليه لطلاوة. أي حُسنٌ وبهجة.

(ومَن تَأَمَّلَ حُسنَهُ وَبَديعَهُ وبَيانُهُ وَوُجوهَ مُخاطَباتِهِ: عَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ مِن وُجوهٍ كَثيرَةٍ)

أي ومن تأمل حسن كلام الله عز وجل وفضله، وتأمل بديعه، كالتمثيل، والتشبيه، والإيجاز وغير ذلك، وتأمل بيانه، وفصاحته، وبلاغته علم أنه معجز من وجوه كثيرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(الأمثال)([30])

(أَمثالُ القُرآنِ: مِنْ أَعظَمِ عِلمِهِ، وعَدَّهُ الشَّافعِيُّ مما يَجِبُ على الْمُجتَهِدِ مَعرِفَتُه، ضَرَبَها اللهُ تَذكيراً وَ وَعظاً، وهِيَ: تُصَوُّرُ الْمَعانِي بِصُورَةِ الأَشخاصِ)

أَفْرَدَهُ بالتصنيف أبو الْحَسَنُ الْمَاوَرْدِيُّ، وهو مطبوع، ذكر فيه الأمثال مرتبة على ترتيب سور القرآن الكريم، مع الكلام عليها.

وتكلم عن الأمثال في القرآن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين 2/270 وما بعدها، واستلت من إعلام الموقعين وطبعت بعنوان: الأمثال في القرآن.

 قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ﴾.

وقَدْ عَدَّهُ الإمام الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ.

وضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ له فوائد كثيرة: منها:

التَّذْكِيرُ وَالْوَعْظُ، وَالْحَثُّ وَالزَّجْرُ وَالِاعْتِبَارُ، وَالتَّقْرِيرُ وَتَقْرِيبُ الْمُرَادِ لِلْعَقْلِ وَتَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ الْمَحْسُوسِ فَإِنَّ الْأَمْثَالَ تُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ بِصُورَةِ الْأَشْخَاصِ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتُ فِي الْأَذْهَانِ لِاسْتِعَانَةِ الذِّهْنِ فِيهَا بِالْحَوَاسِّ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ والغائب بالشاهد.

وأَمْثَالُ الْقُرْآنِ قِسْمَانِ:

ظَاهِرٌ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَكَامِنٌ لَا ذِكْرَ لِلْمَثَلِ فِيهِ.

فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا﴾ الْآيَاتُ ضَرَبَ فِيهَا لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ مَثَلًا بِالنَّارِ وَمَثَلًا بِالْمَطَرِ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا﴾ الْآيَةَ وغيرها كثير.

وَأَمَّا الْكَامِنَةُ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُضَارِبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ تُخْرِجُ أَمْثَالَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مِنَ الْقُرْآنِ فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ" خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا"؟ قَالَ: نَعَمْ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا﴾

قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ. قَالَ نَعَمْ فِي مَوْضِعَيْنِ: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ﴾ ﴿وَإِذۡ لَمۡ يَهۡتَدُواْ بِهِۦ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَآ إِفۡكٞ قَدِيمٞ﴾

قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ "فِي كِتَابِ اللَّهِ احْذَرْ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ"؟ قَالَ: نَعَمْ ﴿وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦ﴾

قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعَيَانِ"؟ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِي﴾

. . . قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"؟ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ﴾

. . . قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ فِيهِ "لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ"؟ قَالَ: ﴿هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ﴾

فَائِدَةٌ:

ذكر بعض أهل العلم أَلْفَاظاً مِنَ الْقُرْآنِ جَارِيَة مَجْرَى الْمَثَلِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْبَدِيعِيُّ الْمُسَمَّى بِإِرْسَالِ الْمَثَلِ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:

﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾

﴿ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ﴾

﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ﴾

﴿قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ﴾

﴿أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ﴾

﴿وَحِيلَ بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ مَا يَشۡتَهُونَ﴾

﴿وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦ﴾

﴿قُلۡ كُلّٞ يَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ﴾

﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ﴾

﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ﴾

﴿مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾

﴿مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖ﴾

﴿هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ﴾

﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ﴾

﴿تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰ﴾

﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ﴾

﴿وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾

﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾

﴿وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡ﴾

﴿فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ﴾.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(الإقسام)([31])

هذا النوع من علوم القرآن الكريم أفرده ابن القيم رحمه الله تعالى بالتصنيف في مجلد سماه "التبيان في أقسام القرآن" وهو مطبوع.

(القَسَمُ تَحقيقٌ للخَبَرِ وتَوكيدٌ لهُ، ولا يَكونُ إلاَّ بِمُعَظَّمٍ؛ وهُوَ اللهُ تَعَالَى)

المقصود من القسم تحقيق صدق الخبر وتوكيده.

ولذا لا بد في المقسَم عليه أن يكون مما يحسُن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أُقسم على ثبوتها، فأما الأمور المشهودة الظاهرة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض فهذه لا يُقسم عليها لظهورها.

ولا يكون القسَم إلا باسم معظَّم عند الحالف.

ولا أعظم عند المؤمن من الله عز وجل، وقد أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في سبعة مواضع:

في قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ﴾ وقوله:﴿قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ﴾، وقوله: (قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) وقوله:﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ﴾ وقوله:﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسۡ‍َٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ وقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ وقوله: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَٰرِقِ وَٱلۡمَغَٰرِبِ﴾.

والباقي كله قسم بمخلوقاته كقوله تعالى: ﴿وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ﴾ ، ﴿وَٱلصَّٰٓفَّٰتِ﴾ ﴿وَٱلشَّمۡسَ﴾ ﴿وَٱلَّيۡلِ﴾ ﴿وَٱلضُّحَىٰ﴾ ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ﴾.

فإن قيل: كيف أقسم بالمخلوق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟

فالجواب: أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما المخلوق فلا يقسم إلا بالله تعالى أو صفة من صفاته.

قال الحسن رحمه الله تعالى: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله.

مسألة: حذف جواب القسم (المقسم عليه):

الغالب أن الله سبحانه وتعالى يذكر جواب القسم، وتارة يحذفه، كما يحذف جواب "لو" كثيرا؛ للعلم به.

وأكثر ما يحذف الجواب إذا كان في نفس المقسم به دلالة على المقسم عليه، فإن المقصود يحصل بذكره، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز، كقوله: ﴿صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ﴾ فإنه في القسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه والشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقول الكافرون، وتقدير الجواب: "إن القرآن لحق" وهذا مطرد في كل ما شابه ذلك كقوله: ﴿قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ﴾([32]) وقوله: ﴿لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ فإنه يتضمن إثبات المعاد.

(يُقسِمُ بِنَفسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوصُوفَةِ بِصِفاتِهِ، وبِآياتِهِ الْمُستَلزِمةِ لِذاتِهِ وَصِفاتِهِ)

أي أنه سبحانه وتعالى يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو يقسم بآياته المستلزمة لذاته وصفاته.

وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنها من عظيم آياته.

(تارَةً على التَّوحيدِ، وَتارَةً على أنَّ القُرآنَ حَقٌّ، وَتارَةً على أنَّ الرَّسولَ حَقٌّ، وَتارَةً على الجَزاءِ وَالوَعدِ والوَعيدِ، وَتارَةً على حالِ الإنسانِ)

أي أنه سبحانه وتعالى يقسم على أصول الإيمان التي تجب على الخلق معرفتها، فتارة يقسم على التوحيد كقوله تعالى: ﴿وَٱلصَّٰٓفَّٰتِ صَفّٗا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ إِلَٰهَكُمۡ لَوَٰحِدٞ﴾.

وتارة يقسم على أن القرآن حق، كقوله تعالى: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ 75 وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ 76 إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ 77﴾.

 وتارة يقسم على أن الرسول r حق كقوله تعالى: ﴿يسٓ 1 وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ 2 إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ 3﴾ ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ 1 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ 2﴾ الآيات.

وتارة يقسم على الجزاء والوعد والوعيد كقوله تعالى: ﴿وَٱلذَّٰرِيَٰتِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٞ 5 وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٞ 6﴾ وقوله: ﴿وَٱلۡمُرۡسَلَٰتِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ﴾.

وتارة يقسم على حال الإنسان كقوله تعالى: ﴿وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ سَعۡيَكُمۡ لَشَتَّىٰ﴾ الآيات، وقوله: ﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٞ﴾، وقوله: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ 1 إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ 2﴾، وقوله: ﴿وَٱلتِّينِ﴾ إلى قوله: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾ الآيات، وقوله: ﴿لَآ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ﴾ إلى قوله: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ﴾.

(والقَسَمُ: إِمَّا ظاهِرٌ، وَإِمَّا مُضمَرٌ؛ وَهُوَ قِسمان: قِسمٌ دَلَّت عَلَيهِ اللاَّم؛ نَحوُ: (لَتَبْلُوُنَّ)، وَقِسمٌ دَلَّ عليهِ الْمَعنَى؛ نَحوُ: (وَإِنْ مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُها))

والقسم نوعان:

الأول: القسم الظاهر، ومن أمثلته ما تقدم من الآيات:

والثاني: القسم المضمر، وهو قسمان:

  • قسم دلت عليه اللام نحو: ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ﴾ فاللام في (لتبلون) موطئة للقسم، والتقدير: والله لتبلون . .

ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعۡتَدَوۡاْ مِنكُمۡ فِي ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِ‍ِٔينَ﴾ فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ﴾ اللام موطئة للقسم، والتقدير: والله لقد علمتم . .

  • قسم دل عليه المعنى نحو: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ تقديره "والله".

إشكال: قيل: ما معنى القسم منه تعالى؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده!

وأُجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتها القسم إذا أرادات أن تؤكد أمرا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(الْخَبَرُ وَالإِنْشاءُ([33])

الكَلامُ نَوعانِ: خَبَرٌ، وَإِنْشاءٌ، الخَبَرُ: دائِرٌ بَينَ النَّفيِ والإِثباتِ، وَالإِنشاءُ: أَمرٌ أَو نَهيٌ أَو إِباحَةٌ، والخَبَرُ: يَدخُلُهُ التَّصديقُ وَالتَّكذيبُ، وَالإِنشاءُ: لا)

ينقسم الكلام باعتبار إمكان وصفه بالصدق وعدمه إلى قسمين: خبر وإنشاء.

1 - فالخبر: ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته.

فخرج بـ: «ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب»؛ الإنشاء؛ لأنه لا يمكن فيه ذلك، فإن مدلوله ليس مخبراً عنه حتى يمكن أن يقال: إنه صدق أو كذب.

وخرج بـ: «لذاته»؛ الخبر الذي لا يحتمل الصدق، أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به، وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام:

الأول: ما لا يمكن وصفه بالكذب؛ كخبر الله تعالى ورسوله r الثابت عنه.

الثاني: ما لا يمكن وصفه بالصدق؛ كالخبر عن المستحيل شرعاً أو عقلاً، فالأول: كخبر مدعي الرسالة بعد النبي ﷺ ، والثاني: كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد.

الثالث: ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب إما على السواء، أو مع رجحان أحدهما، كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه.

وقول المؤلف رحمه الله تعالى عن الخبر أنه يدخله الصدق والكذب.

أُورد عليه خبر الله تعالى ورسوله r الثابت عنه فإنه لا يكون إلا صدقا.

والتعريف المتقدم سالم من هذا الإيراد.

2 - والإنشاء: ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب، ومنه الأمر والنهي. كقوله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا﴾ [النساء: من الآية 36].

وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء لفائدة.

مثاله قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖ﴾ [البقرة: من الآية 228] فقوله: يتربصن بصورة الخبر والمراد بها الأمر، وفائدة ذلك تأكيد فعل المأمور به، حتى كأنه أمر واقع، يتحدث عنه كصفة من صفات المأمور.

ومن أمثلة الخبر الذي بمعنى الأمر قوله تعالى: ﴿وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِ﴾.

وقد يرد الخبر بمعنى النهي نحو: ﴿لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ﴾

وقد يرد الخبر بمعنى الدعاء نحو: ﴿وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ أي أعنَّا، ومنه: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ﴾ فإنه دعاء عليه، وكذا ﴿غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾.

مسألة: الفرق بين النفي والجحد:

من أقسام الخبر النفي بل هو شطر الكلام كله، والفرق بينه وبين الجحد: أن النافي إن كان صادقا سمي كلامه نفيا ولا يسمى جحدا، وإن كان كاذبا سمي جحدا ونفيا أيضا، فكل جحد نفي وليس كل نفي جحدا.

مثال النفي قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ﴾

ومثال الجحد نفي فرعون وقومه آيات موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ 13 وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ﴾.

(والإخبارُ: إِمَّا إِخبارٌ عَن الخالِقِ، وإِمّا إخبارٌ عَن الْمَخلوقِ، فالإخبار عَنِ الخالِقِ: هُوَ التَّوحيدُ؛ وما يَتَضَمَّنُهُ مِن أسماءِ اللهِ وَصِفاتِهِ)

فالله عز وجل أخبرنا عن نفسه وأنه المستحق لأن يوحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والنبي r أخبرنا عن ذلك في سنته.

(وَالإخبارُ عَنْ الْمَخلوقِ: هُوَ القَصَصُ؛ وهُوَ: الخَبَرُ عَمَّا كانَ وما يَكونُ)

فإن الله تعالى قد قص علينا في كتابه العزيز ما كان من قصص الأمم السابقة، وأخبرنا عما يكون في المستقبل في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

(ويَدخُلُ فيهِ: الخَبَرُ عَن الْرُّسُلِ وَأُمَمِهِم وَمَن كَذَّبَهُم)

أي ويدخل في الخبر ما أخبر الله به عن الرسل عليهم الصلاة والسلام في عدة مواضع من كتابه، وعن أممهم الذين كذبوهم، وكيف عاقبهم الله تعالى، وذلك لأخذ العظة العبرة من هذه القصص، كما قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).

(والإِخبارُ عَن الجَنَّةِ والنَّارِ والثّواب والعِقابِ)

أي ويدخل في الخبر الخبر عن الجنة وما أُعدَّ فيها من النعيم، وعن النار وما أعد فيها من العذاب، وعن الثواب لمن أطاعه، والعقاب لمن عصاه، ولا ريب أنه سبحانه بيَّن في القرآن كل ما يحتاج إليه في أصول الدين، فقرر فيه التوحيد والنبوة والمعاد بالبراهين الواضحة، وأخبر عن عقوبات مكذبي الرسل ومن عصاهم، ونصر الرسل وأتباعهم، وإكرامه سبحانه لأهل طاعته، وجعل العاقبة لهم، وانتقامه من أهل معصيته، وجعل الدائرة عليهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(طُرُقُ التفسير)

أي: بيان طرق تفسير القرآن، وأوجه التفسير، وغير ذلك.

(أَصَحُّ طُرُقُ التَّفسيرِ: أَنْ يُفَسِّرَ القُرآنُ بِالقِرآنِ، فَما أُجمِلَ فِي مَكانٍ فَإنَّهُ قَد فُسِّرَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ، وَما اُختُصِرَ فِي مَكانٍ فَقَد بُسِطَ في مَوضِعٍ آخَرَ)

فأصح طرق التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن، فمن أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولاً من القرآن.

وممن ألَّف في تفسير القرآن بالقرآن العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى (ت: 1393ه) في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، قال في مقدمته ص8: (واعلم أن أهم المقصود بتأليفه أمران:

أحدهما: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إذ لا أحد أعلم بكلام الله جل وعلا من الله جل وعلا . . .

والثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات . . . فإننا نبين ما فيها من الأحكام وأدلتها من السنة، وأقوال العلماء في ذلك، ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب . . ).

ومن أمثلة تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى في الفاتحة: (صراط الذين أنعمت عليهم) لم يبين في هذه الآية من هم الذين أنعم عليهم، وبين ذلك في سورة النساء، في قوله تعالى: (فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)([34]).

(فَإنْ لَم تَجِدْهُ فِي القُرآنِ فَبِالسُّنَّةِ، فَإنَّها شَارِحَةٌ للقُرآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ)

أي فإن لم تجد تفسير القرآن في القرآن، فيفسر بسنة النبي r الثابتة عنه، قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾.

ولحديث معاذ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ  لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَه إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟»، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟»، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ  صَدْرَهُ، وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ، رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ» رواه أبو داود 3592، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 13/364: (وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد).

ومن أمثلة تفسير القرآن بالسنة تفسير الحساب اليسير بالعرض.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - ﷺ  -: "ليس أحد يحاسب إلا هلك"، قالت: قلت يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ 7 فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا 8﴾؟ قال: "ذاك العَرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك" متفق عليه.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 13/331: (يجب أن يعلم أن النبي ﷺ  بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ  عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا)

(فَإنْ لم تَجِدهُ؛ فَارجِعْ إِلى أَقوالِ الصَّحابَةِ) أي: فإن لم تجد تفسير القرآن في القرآن والسنة، فارجع إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فقد أخذوا القرآن عن رسول الله - ﷺ  - ألفاظه ومعانيه.

(فَإنَّهُم أَدرَى بِذلكَ؛ لِما شاهَدوهُ) أي: فإن الصحابة رضي الله عنهم، أدرى بمعاني القرآن، لما شاهدوه من التنزيل والقرائن والأحوال التي اختصوا بها.

(ولِما لَهُم مِن الفَهمِ التَّامِّ والعِلمِ الصَّحيحِ) ما ليس لمن جاء بعدهم.

(لا سِيَّما كُبَراؤُهُم؛ كـالخُلَفاءِ الرَّاشدينَ، والأَئمَّةُ الْمَهديينَ؛ كَابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ)

أي: لا سيما كبراء الصحابة كالخلفاء الراشدين، المنوه بذكرهم في قوله - ﷺ  -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ».

والأئمة المهديين، كعبد الله بن مسعود t الذي يقول: ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا، لأتيته وقال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.

وكترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي قال فيه رسول الله - ﷺ  -: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»، وقال فيه ابن مسعود t: نِعْم الترجمان للقرآن. وتوفي ابن مسعود t سنة اثنتين وثلاثين وعُمِّر بعده ابن عباس رضي الله عنهما ستا وثلاثين سنة، ومنهم أُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأنس وأبو هريرة وجابر وغيرهم y.

ونص الإمام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة في تفسر القرآن ما لم يخالفه غيره منهم، وطائفة من أهل الحديث: يجعلون تفسيره في حكم الحديث المرفوع.

(وإِذا لَم تَجِدْهُ فَقَدْ رَجَعَ كَثيرٌ مِن الأَئمَّةِ في ذلكَ إِلى أَقوالِ التّابعينَ)

أي: وإذا لم تجد معاني القرآن في القرآن، لا فيما رواه الثقات عن الرسول - ﷺ  - ولا فيما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فقد رجع كثير من الأئمة في تفسير القرآن إلى أقوال التابعين، الذين تلقَّوا التفسير عن الصحابة y، وقال - ﷺ  -: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» فكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر.

(كَمُجاهدٍ ، وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ ، وعِكرِمَةَ ، وعَطاءٍ ، والحَسَنِ ، ومَسروقٍ ، وسَعيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ)

وكان مجاهد بن جبر المكي، مولى ابن مخزوم، آية في التفسير، وقال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، أسأله عنها فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟.

وقال سفيان: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

وكان سعيد بن جبير: أعلم التابعين بالتفسير، وقال سفيان: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك.

وقال عكرمة، كل شيء أحدثكم به في القرآن، فهو عن ابن عباس، وعطاء أيضا ممن أخذ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والحسن البصري، وعطاء بن أبي سلمة الخراساني، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو العالية، والضحاك، وعطية العوفي وقتادة وزيد بن أسلم، ومرة الهمداني، وأبي مالك وغيرهم وغالب أقوالهم تلقوها من الصحابة رضي الله عنهم، وقال أحمد: لا يكاد يجيء شيء عنهم إلا ويوجد فيه شيء عن أصحاب رسول الله - ﷺ  -.

وقال شيخ الإسلام: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء، وعكرمة، وكطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وكذا أهل الكوفة، من أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير وابن وهب، وذكر أيضا: من لهم لسان صدق في الأمة مثل سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وعلقمة، والأسود والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم من التابعين.

(وَكَمالكٍ ، والثَّوريِّ ، والأَوزاعيِّ ، والحَمَّادَينِ ، وأَبي حَنيفَة، وغَيرِهِم مِنْ تابِعيْ التَّابعينَ)

فهم تلقوا معانيه عن التابعين، عن الصحابة y، وأثنى عليهم رسول الله - ﷺ  - فقال: «خير القرون: قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، والناس محتاجون لمعرفة معاني ألفاظ القرآن عنهم، وهم الواسطة بين التابعين وأتباع تابعي التابعين.

(وكَالشَّافِعي ، وأحمدَ ، وإسحاقَ ، وأبي عُبيد وأَمثالِهِم مِن أَتباعِ تابِعِي التَّابعينَ)

فهم أئمة هدى وداخلون في المثنى عليهم، والمسلمون محتاجون لأخذ معاني القرآن عنهم، وعن غيرهم من أئمة المسلمين، وبهم حُفظت الشريعة المطهرة.

(قَالَ الشَّيخُ: وقَد يَقَعُ في عِباراتِهِم تَبايُنٌ في الأَلفاظِ، يَحسَبُها مَن لا عِلمَ عِندَهُ اختِلافاً؛ وليسَ كَذلكَ، فإنَّ مِنهُم مَن يُعَبِّر عَن الشَّيءِ بِلازِمِهِ، أَو نَظيرِهِ، ومِنهُم مَن يَنُصُّ عَلى الشَّيءِ بِعَينِهِ)

أي قد يقع في عبارات المفسرين من السلف تباين في العبارة، يظنها من لا علم عنده اختلافا، وليس الأمر كذلك.

والخلاف بين السلف قليل، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد، كأن يُعبِّر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، كقوله تعالى: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾ فبعضهم فسره بالقرآن، وبعضهم فسره بالإسلام، والقولان متفقان، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر.

ومن الأقوال الموجودة عنهم، ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة، كما إذا فسر بعضهم قوله تعالى: ﴿أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ﴾ تبسل: أي تُحبس، وبعضهم فسرها بقوله: تُرتهن؛ لأن كلاً منهما قريب من الآخر.

(ويُرْجَعُ إِلى لُغَةِ القُرآنِ)

أي: ويرجع فيما احتمل معان ووقع في عباراتهم تباين إلى لغة القرآن في ذلك، فإن اللفظ في القرآن يكون له نظائر، يعرف معناه باطراد ذلك المعنى في تلك النظائر، وعموم المعنى لموارد استعمال ذلك اللفظ، ولهذا تسمى تلك الألفاظ النظائر، وفيها صنف ابن الجوزي كتابه نزهة الأعين النواظر في الوجوه والنظائر.

قال ابن الجوزي في مقدمة كتابه هذا ص83: (وَاعلم أَن معنى الْوُجُوه والنظائر أَن تكون الْكَلِمَة وَاحِدَة، ذكرت فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن على لفظ وَاحِد، وحركة وَاحِدَة، وَأُرِيد بِكُل مَكَان معنى غير الآخر، فَلفظ كل كلمة ذكرت فِي مَوضِع نَظِير للفظ الْكَلِمَة الْمَذْكُورَة فِي الْموضع الآخر، وَتَفْسِير كل كلمة بِمَعْنى غير معنى الأخرى هُوَ الْوُجُوه.

فَإِذن النَّظَائِر: اسْم للألفاظ، وَالْوُجُوه: اسْم للمعاني، فَهَذَا الأَصْل فِي وضع كتب الْوُجُوه والنظائر، وَالَّذِي أَرَادَ الْعلمَاء بِوَضْع كتب الْوُجُوه والنظائر أَن يعرفوا السَّامع لهَذِهِ النَّظَائِر أَن مَعَانِيهَا تخْتَلف، وَأَنه لَيْسَ المُرَاد بِهَذِهِ اللَّفْظَة مَا أُرِيد بِالْأُخْرَى)

وَذكر أهل التَّفْسِير أَن الْأمة فِي الْقُرْآن على خَمْسَة أوجه:

أَحدهَا: الْجَمَاعَة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ﴾ ، وفيهَا: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡ﴾ ، وَفِي آل عمرَان: ﴿أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ﴾ ، وَفِي الْمَائِدَة: ﴿مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞ﴾ ، وَفِي الْأَعْرَاف: ﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ﴾ .

وَالثَّانِي: الْملَّة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ﴾ ، وَفِي يُونُس: ﴿وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ﴾ ، (وَفِي النَّحْل: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ﴾ ) ، وَفِي الْأَنْبِيَاء، وَالْمُؤمنِينَ: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ﴾ .

وَالثَّالِث: الْحِين. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي هود: ﴿وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ﴾ ، وَفِي يُوسُف: ﴿وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ﴾ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن غَيرهمَا. وَأَرَادَ بالحين فِي الْآيَتَيْنِ السنين.

وَالرَّابِع: الإِمَام. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي النَّحْل: ﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا﴾ .

يَعْنِي إِمَامًا يقْتَدى بِهِ، فَسُمي أمة لِأَنَّهُ سَبَب الِاجْتِمَاع. وَيجوز أَن يكون سمي أمة؛ لِأَنَّهُ اجْتمع فِيهِ من خلال الْخَيْر مَا يكون مثله فِي الْأمة.

وَالْخَامِس: الصِّنْف. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْأَنْعَام: ﴿وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُم﴾ ، أَي: أَصْنَاف، فَكل صنف من الطير وَالدَّوَاب مثل بني آدم فِي طلب الْغذَاء، وتوقي المهالك وَنَحْو ذَلِك([35]).

(أَو السَّنَّةِ، أَو لُغَةِ العَرَبِ)

أي: ويرجع في تفسير القرآن فيما احتمل معان، ووقع في عبارات السلف فيه تباين إلى لغة السنة في ذلك، أو يرجع إلى لغة العرب، فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين.

(ومَن تَكَلَّمَ بِما يَعْلَمُ مِن ذلكَ لُغَةً وَشَرعاً فَلا حرجَ عليهِ)

أي ومن تكلم بما يعلم من مقتضى لغة القرآن والسنة ولغة العرب فلا حرج عليه في ذلك، لأنه تكلم في التفسير بعلم.

(ويَحرُمُ بِمُجرَّدِ الرَّأيِ).

أي يحرم أن يفسر القرآن الكريم بمجرد الرأي، من غير علم بأصول التفسير، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ﴾ وقال: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾

وعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» رواه الترمذي 2952، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. والحديث ضعفه الألباني.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ، قَالَ: «. . . وَمَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رواه الترمذي2951، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ».

ومن أعظم الغلط في كلام الله تعالى، وكلام رسوله r، أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله تعالى، وكلام رسوله r، بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها لا بمقتضى اللغة.

(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: التَّفسيرُ على أَربَعَةِ أَوجُهٍ: وَجهٌ تَعرِفُهُ العَرَبُ مِن كَلامِها)

نقل المؤلف أثر ابن عباس رضي الله عنهما في أن التفسير على أربعة أوجه.

وجه تعرفه العرب من كلامها، وهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك اللغة والإعراب، أما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها، وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلاً للمعنى وجب عليه تعلمه، ليصل به إلى معرفة الحكم، وإلا لم يجب، لوصوله إلى المقصود بدونه.

(وتَفسيرٌ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجهالَتِهِ)

وهو ما يتبادر معناه إلى الأفهام، من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام، ودلائل التوحيد، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله: ﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ وأن مقتضى ﴿أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ ونحوه: طلب إيجاد المأمور به فما كان من نحو هذا، فلا يعذر أحد بجهله بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد.

(وتَفسيرٌ يَعلَمُهُ العُلماءُ)

وهو: استنباط الأحكام، وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فيرجع في ذلك إلى اجتهادهم وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، وإذا كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي.

(وتَفسيرٌ لا يَعلَمُهُ إلاَّ اللهُ)

وهو ما يجري مجرى الغيوب، وهو نحو ما تقدم في المتشابه، الذي لا يعلمه إلا الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(التَّفاسيرُ)

أي: بيان ذكر بعض التفاسير المقبولة، كتفاسير أئمة الإسلام؛ والمردودة كتفاسير أهل البدع.

(أَحسَنُ التَّفاسيرِ؛ مِثلُ: تَفسيرُ عَبدِ الرَّزَّاقِ ، وَ وَكيعٍ ، وَعبدٍ بنِ حُميدٍ ، وَ دُحَيمٍ)

أي أحسن التفاسير التي لا يكاد يوجد فيها الخطأ لا من جهة الدليل ولا من جهة الاستدلال، مثل تفسير عبد الرزاق بن همام، بن نافع الصنعاني، الحافظ الحميري مولاهم.

وتفسير وكيع بن الجراح، أبي سفيان الحافظ الكوفي، مات سنة مائة وسبع وتسعين.

وتفسير عبدٍ - بغير إضافة - بن حميد بن نصر، ثقة حافظ مات سنة مائتين وتسع وأربعين له مسند كبير وتفسير مشهور.

وتفسير دحيم، هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو، العثماني مولاهم الدمشقي الحافظ المتوفى سنة مائتين وخمس وأربعين.

(وتَفسيرُ أَحمدَ ، وإِسحاقَ ، وبَقِيِّ بنِ مَخلَدٍ وابنِ الْمُنذِرِ ، وسُفيانَ بنِ عُيَينَةَ ، وسُنَيدٍ)

أحمد هو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني العالم الرباني، ناصر السنة وقامع البدعة، ولد ببغداد، له المسند والتفسير وغيرهما، توفي سنة مائتين وإحدى وأربعين.

وإسحاق هو ابن إبراهيم بن مخلد التميمي النيسابوري المعروف بابن راهويه، أحد أئمة التفسير توفي سنة مائتين وتسع وثلاثين.

وبقي بن مخلد هو الأندلسي القرطبي الحافظ المفسر، مات سنة مائتين وست وسبعين.

وابن المنذر هو: محمد بن إبراهيم النيسابوري، الإمام المشهور، صاحب التصانيف المتوفى سنة ثلاث مائة وتسع عشرة.

وسفيان بن عيينة هو ابن أبي عمران ميمون الهلالي كوفي ثم مكي ثقة حافظ مشهور في التفسير، مات سنة ثمان وتسعين ومائة.

وكذا سفيان بن سعيد، بن مسروق الثوري.

وسنيد وهو: حسين بن داود المصيصي إمام مشهور مات سنة مائتين وست وعشرين، ومثل: تفسير شعبة ويزيد بن هارون، وابن أبي إياس، وروح بن عبادة وابن أبي شيبة وغيرهم، جمعوا فيها أقوال الصحابة والتابعين y.

(وتَفسيرُ ابنِ جَريرٍ ، وابنِ أبي حاتمٍ ، وأَبي سَعيدٍ الأَشجِّ ، وابنِ ماجةَ ، وابنِ مَردَوَيهِ ، والبَغَويِّ ، وابنِ كَثيرٍ)

أي: ومثل تفسير ابن جرير، الإمام الحافظ، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، صاحب التفسير المشهور وغيره، وهو إمام المفسرين، توفي سنة ثلاثمائة وعشرة.

وابن أبي حاتم، وهو عبد الرحمن بن محمد، بن إدريس الحنظلي له التفسير وغيره مات سنة ثلاثمائة وسبع وعشرين.

وأبو سعيد الأشج هو عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي، إمام أهل زمانه كوفي ثقة أخذ عنه ابن جرير وغيره مات سنة سبع وخمسين ومائتين.

وابن ماجه هو محمد بن يزيد الربعي، مولاهم أبو عبد الله بن ماجه القزويني الحافظ صاحب السنة وغيرها توفي سنة مائتين وثلاث وسبعين.

وابن مردويه، هو أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني الحافظ له كتب منها التفسير وغيره، توفي سنة إحدى وأربعمائة.

والبغوي هو الإمام الجليل محيي السنة أبو محمد الحسين بن سعيد الفراء، المتوفى سنة خمسمائة، وست عشرة قال الشيخ: تفسير البغوي، مختصر من تفسير الثعلبي، لكنه صان تفسيره، عن الأحاديث الموضوعة، والآراء المبتدعة.

وابن كثير هو الحافظ عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن كثير القرشي، الدمشقي، المتوفى سنة سبعمائة، وأربع وسبعين.

ولا ريب أن الاشتغال بتفاسير أهل السنة وكتبهم الذين لا تروج عليهم البدع المحدثة وسيلة إلى سلوك سبيلهم، والسير على طريقهم.

(وَحَدَثَ طَوائِفٌ مِن أَهلِ البِدَعِ تَأوَّلوا كَلامَ اللهِ على آرائِهِم)

أي وحدث بعد زمان السلف طوائف من أهل البدع، الذين ضلوا عن الحق، ومنهم من يعلم الحق ويتعمد خلافه، ويبتدع ما يخالف كتاب الله، ويقول: هو من عند الله، إما أحاديث مفتريات وإما تفسير وتأويل للنصوص باطل، وقد أخطئوا في الدليل والمدلول حيث اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه السلف، وعمدوا إلى القرآن، فتأولوه على آرائهم الباطلة.

(تارَةً يَستَدِلُّونَ بِآياتِ اللهِ على مَذهَبِهِم)

أي أحيانا يستدلون ببعض الآيات على مذاهبهم البدعية، وليس فيها دلالة على ما يزعمون، بل يتعسفون بكل طريق، حتى يجعلوا القرآن تبعا لمذاهبهم وتقوية لقولهم.

(وَتارَةً يَتَأوَّلونَ ما يُخالِفُ مَذهَبَهُم)

أي وأحيانا يتأولون الأدلة التي تخالف مذهبهم، فيحرفون الكلم عن مواضعه، والمبتدع يقصد تحريف الآيات، وتسويتها على مذهبه الفاسد.

(كالخوارجِ والرَّافِضةِ والجَهمِيَّةِ والْمُعتَزِلَةِ والْمُرجِئَةِ وغَيرِهِم)

فتفاسير هؤلاء المبتدعة غير مأمونة، لما فيها من الباطل الكثير، وفيها حق ملبوس بباطل،

وقلَّ من يتصور مرادهم.

ومن شرط المفسر الذي يؤخذ عنه التفسير أن يكون صحيح الاعتقاد، سليماً في دينه، فإن من كان مغموصا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا، فكيف يؤتمن على الدين، وهو لا يؤتمن في الدين على الإخبار عن عالم فكيف يؤتمن في الإخبار عن تفسير كلام الله تعالى، ولأنه لا يؤمن أن يكون متهماً بالإلحاد أن يبغي الفتنة، ويغري الناس بخداعه كدأب الباطنية وغلاة الرافضة.

وإن كان المفسر متهما بهوى وبدعة لم يؤمن أن يحمله هواه، على ما يوافق بدعته، كدأب القدرية فإن أحدهم يصنف الكتاب في التفسير ومقصوده منه نشر بدعته، ليصد الناس عن اتباع السلف ولزوم طريق الهدى.

(قَال الشَّيخُ: وأَعظَمُهُم جَدَلاً الْمُعتَزِلَةُ)

أي قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فالمعتزلة أعظم أهل البدع جدلاً، ولهم عبارات مزخرفة تتضمن الداء العضال، قال: وكثير من المتأخرين غلب عليهم مذهب الأشاعرة، الذي حاصله نفي العلو وتأويل الآيات بالتأويلات الموروثة عن المبتدعة، وبعضهم يذكر ما عليه السلف، وما عليه أهل البدع ويختار قول المبتدعة ويقرره ولا خير في تكبير حجم تفسير بمذهب أهل البدع.

(وَقد صَنَّفُوا تَفاسيرَ على أُصولِ مَذهبهِم)

فصنفت الرافضة وتأولت آيات من كتاب الله على مذهبها، وكذا الجهمية تأولت آيات الصفات والأسماء، وأنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، والقدرية كنفيهم علم الله بما هو كائن، وكذا غيرهم من أهل البدع.

(مِثلَ تَفسيرِ ابنِ كَيسانَ الأَصَمِّ، والجُبَّائِيِّ)

ابن كيسان، هو محمد بن أحمد المعروف بابن كيسان، له كتب منها: معاني القرآن وتوفي سنة مائتين وتسع وتسعين.

والجبائي هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي البصري من أئمة المعتزلة، ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه تنسب الطائفة الجبائية مات سنة ثلاث وثلاث مائة.

(وعَبدُ الجَبَّارِ الهَمَدانِيِّ ، والرُّمَّانِيِّ ، والكشاف)

عبد الجبار هو ابن أحمد بن عبد الجبار شيخ المعتزلة في عصره له تنزيه القرآن عن المطاعن.

والرماني هو: علي بن عيسى النحوي البغدادي له كتاب التفسير وغيره توفي سنة ثلاثمائة وأربع وسبعين.

والكشاف للزمخشري المعتزلي محمود بن عمر الخوارزمي المتوفى سنة خمسمائة وثمان وثلاثين وأشهر كتبه الكشاف في تفسير القرآن.

(ووافَقَهُم مُتاخِّرو الشِّيعَةِ: كالمفيدِ، وأبي جَعفَرِ الطُّوسيِّ)

أي: ووافق المعتزلة متأخرو الشيعة، وصنفوا تفاسير على أصول مذهبهم وتأولوا آيات الصفات، وحرفوها عن مواضعها، وألحدوا فيها.

والمفيد هو محمد بن النعمان رئيس الإمامية في وقته، له مصنفات منها: الكلام في وجوه إعجاز القرآن توفي سنة أربعمائة وثلاث عشرة.

وأبو جعفر الطوسي هو: محمد بن الحسن بن علي، من أكابر فقهاء الشيعة، له التبيان الجامع لعلوم القرآن المتوفى سنة أربعمائة وستين.

(اعتقَدوا رَأياً ثُمَّ حَمَلُوا القُرآنَ عليهِ)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى 17/306: (وأهل البدع ... ابتدعوا ألفاظا ومعاني إما في النفي وإما في الإثبات وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم الذي يجب اعتقاده والبناء عليه، ثم نظروا في الكتاب والسنة فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا هذا من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها. فجعلوا بدعهم أصلا محكما، وما جاء به الرسول فرعا له ومُشْكلا إذا لم يوافقه، وهذا أصل الجهمية والقدرية وأمثالهم وأصل الملاحدة من الفلاسفة الباطنية جميع كتبهم توجد على هذا الطريق ومعرفة الفرق بين هذا وهذا من أعظم ما يعلم به الفرق بين الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله وبين السبل المخالفة له ... فالواجب أن يُجعل ما أنزله الله من الكتاب والحكمة أصلا في جميع هذه الأمور، ثم يُردُّ ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويبين ما في الألفاظ المجملة من المعاني الموافقة للكتاب والسنة فتقبل، وما فيها من المعاني المخالفة للكتاب والسنة فتُردّ).

(ومِنهم حَسَنُ العِبارة يَدُسُّ البِدَعَ في كَلامِهِ ؛ كَصاحبِ الكَشَّافِ ، حتَّى إِنَّهُ يَروجُ على خَلقٍ كَثيرٍ)

أي: ومن أهل البدع، من يكون حسن العبارة فصيحا، ويدس البدع في كلامه، كالزمخشري صاحب الكشاف وأمثاله من تفاسير المبتدعة، وأكثر الناس لا يعلمون.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 13/359: (وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالِم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ﴾ هما أبو بكر وعمر . . . و ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗ﴾ هي عائشة، و ﴿فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ﴾ طلحة والزبير و ﴿مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ﴾ علي وفاطمة و ﴿ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ﴾ الحسن والحسين ﴿وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ﴾ في علي بن أبي طالب و ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ ﴿عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ علي بن أبي طالب و ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ﴾ هو علي، ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة وكذلك قوله ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞ﴾ نزلت في علي لما أصيب بحمزة.

ومما يقارب هذا من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: ﴿ٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ﴾ أن الصابرين رسول الله، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين علي، وفي مثل قوله: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ﴾ أبو بكر ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ﴾ عمر ﴿رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡ﴾ عثمان ﴿تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا﴾ علي. وأعجب من ذلك قول بعضهم: ﴿وَٱلتِّينِ﴾ أبو بكر ﴿وَٱلزَّيۡتُونَ﴾ عمر ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ عثمان ﴿وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ﴾ علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص . . . وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرا في شخص واحد كقوله: إن قوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ أريد بها علي وحده، وقول بعضهم: أن قوله: ﴿وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ﴾ أريد بها أبو بكر وحده).

قال البلقيني في تفسير الزمخشري: استخرجت من الكشاف اعتزالا بالمناقيش، من قوله، في تفسير: ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَ﴾ وأي فوز أعظم من دخول الجنة، أشار به إلى عدم الرؤية، وعلى هذا وأمثاله يحمل خبر: «إن في أمتي قومًا يقرءون القرآن، ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله» .

وفي صحيح البخاري 9/160 معلقا: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ... ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ «يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ، يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ»).

(وذَكَرَ أنَّ تَفسيرَ ابنِ عَطِيَّةَ وأَمثالِهِ - وَإن كانَ أَسلَمَ مِن تَفسيرِ الزَّمخشَريِّ - لَكِنَّه يَذكُرُ ما يَزعُمُ أَنَّهُ مِن قَولِ المُحَقِّقينَ، وإنما يَعني طائِفةٌ مِن أهلِ الكلامِ الذين قَرَّروا أُصولَهُم بِطُرُقٍ مِن جِنسِ ما قَرَّرت بهِ الْمُعتَزِلَة).

قال شيخ الإسلام كما الفتاوى 13/361: (وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ...)

وابن عطية هو: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحيم، الغرناطي صاحب المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، المتوفى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.

(وَذكَرَ الذين أَخطَؤا في الدَّليلِ؛ مِثلَ كَثيرٍ مِن الصّوفيَّةِ والوُعَّاظِ والفُقَهاءِ وغيرِهِم؛ يُفَسِّرون القُرآنَ بِمعانٍ صَحيحةٍ ولكنَّ القُرآن لا يَدلُّ عَلَيها. مِثلَ كثيرٍ مما ذَكَرَهُ أَبو عبدِ الرَّحمن السُّلَميِّ في حَقائِقِ التَّفسيرِ)

أبو عبد الرحمن السلمي هو محمد بن الحسين، بن محمد، بن موسى، الأزدي، النيسابوري من علماء الصوفية وتفسيره على طريقتهم: يستدل عليها بألفاظ لم يرد بها القرآن، وهو الذي يسمونه الإشارات.

(وَإن كانَ فيما ذَكروهُ ما هو مَعانٍ باطِلَةٍ ؛ فإنَّ ذلكَ يَدخلُ في الخطإِ في الدَّليلِ والمدلولِ جَميعاً ، حيث يكون الْمَعنى الذي قَصَدوه فاسِداً)

أي فإن ما فسروا به الآية على ما لا يدل على مرادهم وأخطئوا في معنى الآية يدخل ذلك في الخطأ في الدليل، إذ لم يدل على مرادهم، وفي المدلول إذ أخطئوا في المعنى.

(وَبِالجُملَةِ: مَن عَدَلَ عَن مَذاهبِ الصَّحابَةِ وَالتَّابعين وَتَفسيرِهِم إلى ما يُخالِفِ ذلكَ كان مُخْطِئاً في ذلكَ، بل مُبتَدِعاً - وإن كانَ مُجتَهِداً مَغفوراً لَهُ خَطَؤُهُ - فالْمَقصودُ: بيانُ طُرُقِ العِلمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوابِ)

هذا من كلام شيخ الإسلام كما في الفتاوى 13/361، وهو قاعدة فيمن يؤخذ عنه علم التفسير، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان y، ومن خالف طريقهم فهو مبتدع.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

المجلس الخامس

الحمد لله . . أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:

(سَبَبُ الاخْتِلافِ)

أي: ذكر سبب الاختلاف بين الناس في تفسير القرآن.

(مِنهُ: ما مُستَنَدُهُ النَّقلُ، أَوِ الاسْتِدلالُ)

أي: من الاختلاف في التفسير: ما مستنده النقل، والمرجع فيه إلى الصحة، ومن يُقبل منه، ومنه: ما يُعلم بغير النقل، وهو: ما مستنده الاستدلال، والمرجع فيه إلى صحة الاستدلال، إذ العلم إما نقل مصدق، وإما استدلال محقق.

(والْمَنقُولُ: إِمَّا عَن الْمَعصومِ أَوْ لا)

أي: والمنقول في التفسير وغيره إما أن يكون عن المعصوم ﷺ  أو عن غيره من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم.

ومن المنقول ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، وما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله نصَب على الحق دليلا، وما لا يمكن فلا طريق بالجزم بالصدق منه، فالبحث عنه مما لا فائدة فيه.

ومثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه: الاختلاف في أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح، وفي اسم الغلام الذي قتل الخَضِر، ونحو ذلك، فهذا طريقة العلم به النقل، فما كان منقولا نقلا صحيحا، عن المعصوم، كاسم صاحب موسى أنه الخضر، فمعلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب فلا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، وكذا ما نُقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون، لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض.

(فالْمَقصودُ: وَإذا جاء عنهُ مِن جِهتين أو جِهاتٍ - مِن غَيرِ تَواطُءٍ فَصَحيحٌ)

أي وإذا جاء التفسير عن المعصوم ﷺ  من جهتين، من غير تواطؤ فصحيح، لاعتضاد أحدهما بالآخر، أو جاء عن المعصوم من جهات، وقد عُلم أن المخبرين لم يتواطئوا على اختلافه وعلم أن ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقا بلا قصد، فهو صحيح.

(وكَذا الْمَراسيلُ إذا تَعَدَّدَت طُرُقُها)

المراسيل: جمع مُرسَل، وهو قول التابعي: قال رسول الله كذا أو فعل كذا.

أي وكذا المراسيل إذا تعددت طرقها، وخلت عن المواطأة قصدا أو الاتفاق بغير قصد، كانت صحيحة قطعا.

(وخَبَرُ الواحِدِ إذا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبولِ أوجَبَ العِلمَ)

جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له وعملا به أنه يوجب العلم، إلا فرقة من المتأخرين اتبعوا طائفة من أهل الكلام، وقالوا إنه لا يفيد العلم.

وقال في مختصر الصواعق المرسلة: (فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة بإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم)([36]).

ومن له إلمام بالسنة، والتفات إليها، يعلم ذلك.

(والْمُعتَبَرُ في قَبولِ الخَبَرِ: إِجماعُ أَهلِ الحديثِ)

كما أن المعتبر في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة، ولا تجتمع الأمة على خطأ فإذا أجمعوا على حكم جزمنا بأنه ثابت، فكذلك في قبول الأحاديث يرجع إلى كلام المختصين به من أهل الحديث.

(ولَهُ أدِلَّةٌ يُعرَفُ بِها أنَّهُ صِدقٌ)

أي وللخبر الوارد من طريق أو طرق أدلة شرعية، يُعرف بها أنه صدق لموافقته الأصول الشرعية.

(وعليه أدلّةٌ يُعرَفُ بِها أَنَّهُ كَذِبٌ)

لمناقضته الأصول الشرعية، يَعلم ذلك من له إلمام بأصول الشرع، وإطلاع تام، وذهن ثاقب، وفهم قوي، ومعرفة بالقرائن الدالة على ذلك.

(كما في تَفسيرِ الثَّعلَبي)

الثعلبي هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، المتوفى سنة سبع وعشرين وأربعمائة، له التفسير الكبير، اختصره البغوي، قال الشيخ: هو نفسه فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.

(والواحِدِيِّ، والزَّمَخشَري)

الواحدي: هو علي بن أحمد بن محمد بن علي، معروف بالواحدي، له البسيط والوسيط والوجيز في التفسير.

والزمخشري، هو محمود بن عمر صاحب الكشاف.

وذكر الشيخ: أن في كتب التفسير، من الموضوعات شيء كثير، وقال: مثل ما يرويه الثعلبي، والواحدي، والزمخشري في فضائل سور القرآن، سورة سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم.

(وهُو قليلٌ في تَفسيرِ السَّلفِ)

أي والخبر الذي عليه أدلة يُعرف بها أنه كذب، قليل في تفاسير السلف، وأكثرهم يوضح ذلك، كابن كثير، ويورده بسنده ليُعلم ذلك.

(وما نُقِلَ عَن بَعضِ الصّحابَةِ نَقلاً صَحيحاً فالنَّفسُ إِليهِ أَسكَنُ مِما نُقِلَ عَن بَعضِ التّابعينَ)

لأن الصحابة رضي الله عنهم، أخذوا القرآن عن رسول الله ﷺ  ألفاظه ومعانيه، وكانت عنايتهم بأخذ المعاني أعظم من عنايتهم بالألفاظ، ورأوا من الأحوال المشاهدة، وعلموا بقلوبهم من مقاصده ما يتعذر على من بعدهم مساواتهم فيه.

(والإسرائِيلِيّات: تُذكَرُ للاستِشهادِ لا للاعتمادِ)

ففي شرع محمد ﷺ  غنية عنها، وشريعته ناسخة لشريعة من قبله.

(وما عُلِمَت صِحَّتُهُ مما شَهِدَ لَهُ الشَّرعُ فَصَحيحٌ)

يعرفه من له بصر بشريعة محمد ﷺ .

(وما خالَفَهُ: فَيُعتَقَدُ كَذِبُهُ)

لما تقرر من تحريفهم وتبديلهم.

(ومَا لَم يُعلَم حُكمُهُ في شَرعِنا لا يُصَدَّقُ وَلا يُكَذَّبُ)

إلا بحجة لقوله ﷺ : «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»، قال الشيخ: وكذا ما نقل عن بعض التابعين، ولو لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب.

(وَغالِبُهُ لا فائِدَةَ فيهِ)

أي: وغالب ما في الإسرائيليات لا فائدة فيه.

(وَالخَطَأُ الواقِعُ في الاستِدلالِ مِن جِهَتَينِ: قِسْمٌ مِمَّن تَقَدَّمَ ذِكرُهُم مِن الْمُبتَدِعَةِ بَعدَ تَفسيرِ الصَّحابِةِ والتَّابعينَ وتابِعيهِم حَمَلُوا أَلفاظَ القُرآنَ عَلَيها)

أي: قسم ممن جاء بعد الصحابة والتابعين، اعتقدوا معاني، ثم حملوا ألفاظ القرآن عليها، وراعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، وهم تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يُرَد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا تفسيره أو إثباته من المعنى باطلا.

(أَوْ فَسَّرُوهُ بِمُجَرَّدِ ما يَسوغُ أَن يُرِيدُوهُ مِمَّا لا يَدُلُّ على المرادِ مِن كلامِ اللهِ بِحالٍ)

أي والقسم الثاني فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريدوه بكلامه، ممن كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به، وهو مما لا يدل على المراد من كلام الله بحال، وإنما راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به وسياق الكلام.

(وَتَبِعَهُم كَثيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ؛ لِضَعفِ آثارِ النُّبُوَّةِ) فيهم، ولضعف الهمم، وتشعبها والاشتغال بما لا يجدي.

(والعَجزِ والتَّفريطِ، حتَّى كانوا يَرْوُونَ ما لا يَعلمونَ صِحَّتَهُ)

أي والعجز عن معرفة معاني القرآن العزيز، والتفريط في التحصيل حتى أخطئوا في الاستدلال.

(وقد يكون الاختِلافُ لِخَفاءِ الدَّليلِ والذّهولِ عَنهُ)

لما بهم من الوهن عن التفتيش عنه.

(وَقدْ يكونُ لِعدَمِ سَماعِهِ، وَقد يكونُ للغَلَطِ في فَهمِ النَّصِّ، وَقَد يَكونُ لاعِتقادِ مُعارِضٍ راجحٍ)

وغير ذلك مما هو من أسباب الاختلاف، قال الشيخ: وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها نجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة، كمسألة القرآن، والرؤية والصفات، والمعاد، وحدوث العالم وغير ذلك، يذكر أقوالا متعددة والقول الذي جاء به الرسول، وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب، ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(التَفسير)

أي: ذكر أحكام التفسير وما لا بد للمفسر منه، والتفسير هو البيان والكشف.

(التَّفسيرُ: كَشفُ مَعانِي القُرآنِ وبَيانُ المرادِ مِنهُ)

فهو علم يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد ﷺ  وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحِكَمه.

(قيلَ: بَعضُهُ يكون مِن قِبَلِ([37]) الألفاظِ الوجيزة وكَشفِ معانيها، وبَعضُهُ مِن قِبَلِ ترجيحِ بَعضِ الاحتمالاتِ على بعضٍ)

فالتفسير قد يكون لمعنى لفظ غير واضح، فالمفسر يبين معناه، وقد يكون للمفسرين في معنى الآية أقوال متعارضة فيرجح المفسر بينها على ضوء قواعد هذا العلم.

(وأجمَعوا: على أنَّ التَّفسيرَ مِن فُروضِ الكِفاياتِ)

للحاجة إليه، وما أُنزل القرآن الكريم إلا ليُفهم، وقال الشيخ: معرفة معنى كل آية فرض على الكفاية، ولا يجب على كل مسلم معرفة معنى كل آية، بل معرفة ما لا بد منه.

(وهُو أجلُّ العلومِ الشَّرعِيَّةِ)

بالإجماع بل القرآن أصل العلوم، وفضله وفضل حامله مشهور معلوم، فإيضاحه وبيانه أجل العلوم، وأشرفها وأعلاها بل به عصمتنا، وسعادتنا في الدنيا والآخرة.

(وأَشرَفُ صِناعَةٍ يَتَعاطاها الإنسانُ)

وكان أصحاب رسول الله ﷺ  إذا تعلموا عشر آيات، لم يجاوزوهن حتى يتعلموا معانيهن، والعمل بهن، وفي الخبر: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وقال تعالى لنبيه ﷺ : ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ وشرف كلام الله لا يخفى، فبيانه أشرف بيان وأفضله، وقال ابن عباس: الذي يقرأ القرآن، ولا يحسن تفسيره كالذي يهذ الشعر هذا.

(والْمُعتني بِغريبه لا بُدَّ لَهُ مِن مَعرِفَةِ الحروفِ، وأكثَرُ مَن تكلَّمَ فيها النُّحاةُ)

أي: والمعتني بتفسير القرآن لا بد له من معرفته معنى الكلمة، وصيغتها ومحلها، ومعرفة الحروف، لاختلاف مواقعها، قال ابن عباس: الحمد لله الذي قال: ﴿عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ ولم يقل: في صلاتهم.

وقال في: ﴿إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ﴾ الآية، فالأربعة الأُول يملكونها ملكا مطلقا، والأربعة الأخيرة ملكا مراعى، كما هو معروف في موضعه، والمراد هنا بالحروف: حروف المعاني، التي هي قسيمة الأسماء والأفعال، وباعتبار معانيها: إلى حروف استفهام وحروف نفي، وحروف تحضيض وغير ذلك.

وأكثر من تكلم في معاني الحروف النحاة، فيرجع في ذلك إلى كتبهم، وهي كثيرة مشهورة.

ومن هذه الكتب:

حروف المعاني والصفات؛ لأبي القاسم الزجاجي (ت: 337هـ)، ومما ورد فيه:

(أَو، بِمَعْنى: التَّخْيِير، قَوْله تَعَالَى ﴿فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖ﴾، وَتَكون بِمَعْنى: بل ﴿لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖ﴾ وَمِنْه (إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)).

 وكتاب: الجَنى الداني في حروف المعاني، لبدر الدين المرادي (ت: 749هـ)، ومن أمثلة ما ورد فيه:

(ألَا، حرف، يَرِد لثلاثة معان: الأول: استفتاح الكلام وتنبيه المخاطب. وهي تدخل على الجملة الأسمية، نحو " ألا إن أو لياء الله لا خوف عليهم " والفعلية نحو " ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم ". وعلامتها صحة الكلام بدونها. . .

الثاني: العرض. وهذه مختصة بالأفعال، نحو: ألا تنزل عندنا فتَحدَّث. . .

الثالث: الجواب. كقول القائل: ألم تقم. فتقول: ألا فتكون حرف جواب بمعنى: بلى. ذكره صاحب رصف المباني، وقال: إنه قليل شاذ).

(والأَسماءِ والأَفعالِ، وأَكثَرُ مَن تكلَّمَ فيها اللُّغَوِيّونَ)

أي وينبغي للمفسر معرفة معاني الأسماء والأفعال، وكذا الظروف.

وأكثر من تكلم في معاني الأسماء والأفعال أهل اللغة، فيرجع في ذلك إلى كتبهم، كالمحكم لابن سِيْده، وتهذيب اللغة للأزهري، والصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروزأبادي، وأمثالها من كتب اللغة.

(ومِنهُ: معرفةُ ما وُضِعَ لهُ الضَّميرُ، وما يَعودُ عليه)

أي ومن معرفة غريب القرآن معرفة ما وضع له الضمير، وأصل وضعه للاختصار، قال تعالى: ﴿أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ الضمير (لهم) وضع للمذكورين في الآية، وهم: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ...).

ومنه: معرفة ما يعود إليه الضمير، فإنه لا بد له من مرجع يعود إليه ويكون ملفوظا به سابقا، نحو ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ﴾، فالضمير في (ابنه) وهو الهاء يعود على مذكور، وهو نوح عليه الصلاة والسلام.

(والتَّذكيرِ والتَّأنيثِ، والتَّعريفِ والتَّنكيرِ)

أي على المفسر أن يعرف المذكر من المؤنث، والمعرفة من النكرة، وهذا يرجع إلى العلم بلغة العرب.

(والخِطابِ بالاسمِ والفِعلِ)

أي على المفسر أن يعرف الاسم والفعل، والاسم يدل على الثبوت والاستمرار، والفعل: يدل على التجدد والحدوث، وكذا يعرف السؤال، والجواب، والمصدر، والعطف، وغير ذلك.

(وأولى ما يُرجَعُ في غريبهِ إلى: تَفسير ابنِ عبَّاسٍ وغيره من الصَّحابَةِ)

أي وأولى ما يرجع إليه في غريب القرآن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه ما يستوعب أكثر غريب القرآن، وتقدم أن أصح الطرق عنه طريق مجاهد، ولذلك اعتمده البخاري وغيره.

(ودواوين العرب)

لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا﴾ وقال سبحانه: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ﴾ وقد احتج الصحابة، والتابعون رضي الله عنهم على غريب القرآن ومُشْكِله بشعر العرب، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الشعر ديوان العرب. فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه، وروي عنه من ذلك كثير، وتُقدَّم لغة قريش، ثم أهل الحجاز.

(ويُبحَثُ عن كونِ الآيةِ مُكمّلةً لِما قبلَها، أو مُستقلّةً)

أي: ويَبحث المفسر عن كون الآية من القرآن مكملة للآية التي قبلها ومرتبطة بها، لأن الكلام قد يتعلق بعضه ببعض، ولا يتم معنى الآية إلا بما بعدها، وكذا إذا كانت الآية الثانية تأكيدا للآية الأولى، أو مفسرة لها، ونحو ذلك، وقد تكون الآية الثانية مستقلة، غير ظاهرة الارتباط بالآية قبلها.

(وما وجه مُناسَبَتِها لِما قبلَها وكذا السور)

أي ويَبحث المفسر عن وجه مناسبة الآية لما قبلها من الآيات، وكذا السور يبحث عن وجه مناسبتها لما قبلها من السور، ووجه اتصالها بها.

(وَعن القراءة الْمُتواترةِ الْمَشهورَةِ والآحادِ وكَذا الشَّاذَّةِ؛ فَإنّها تُفسّر المَشهورةِ، وتُبيِّن معانيها)

أي على المفسر أن ينظر في القراءات، فقد تكون قراءة تفسر قراءة أخرى، وخير ما فسر به القرآن هو القرآن، فالقراءة المتواترة يمكن أن تفسرها قراءة متواترة مشهورة أو قراءة آحادية، أو حتى قراءة شاذة، لكن القراءة الشاذة لا يقرأ بها، وإنما يفسر بها القرآن.

(وإن كان لا تَجوزُ القِراءةُ بالشَّاذةِ إجماعاً)

فالقراءة الشاذة تعتبر في التفسير والإيضاح، وأما القراءة بها، فحكى ابن عبد البر وغيره: الإجماع على أنه لا تجوز القراءة بالشاذة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(التِلاوَةُ)

أي: ذكر أحكام تلاوة القرآن العزيز، وتحسينها وبيان ما صُرف عنه الأكثر من فهم كتاب الله تعالى، والخشوع عند تلاوته، بتكلف المخارج ونحو ذلك وذكر بعض أحكام المصحف.

(تُستَحَبُّ تلاوة القرآن على أكملِ الأحوالِ، والإكثار منها)

أي يستحب أن يتلو المؤمن القرآن الكريم، وأن يكثر من تلاوته؛ ومن الأدلة الدالة على فضل قراءته:

عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أن النبي ﷺ  قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ» رواه البخاري 4937، ومسلم 798، واللفظ للبخاري.

ومعنى (حافظ له) أي حافظ للقرآن عن ظهر قلب.

(مع السفرة الكرام البررة) السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب، والسافر الرسول، والسفرة الرسل؛ لأنهم يُسفرون إلى الناس برسالات الله.

(يتعاهده) يضبطه ويتفقده ويكرر قراءته حتى لا ينساه.

(فله أجران) لتلاوته؛ ولتحمل المشقة فيها.

ولفظ مسلم: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ». وفي رواية لمسلم «وَالَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ»

(الماهر بالقرآن) هو الحاذق الكامل الحفظ، الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة؛ لجودة حفظه وإتقانه.

(ويتتعتع فيه) هو الذي يتردد في تلاوته؛ لضعف حفظه، فله أجران: أجر بالقراءة وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته.

قال أبو العباس القرطبي في المفهم 2/425: (قال المهلَّب: المهارة في القرآن: جودة التلاوة، بجودة الحفظ، ولا يتردّد فيه؛ لأنه يسره الله تعالى عليه؛ كما يسره على الملائكة، فهو على مثلها في الحفظ والدرجة، والسفرة: جمع سافر، وهم ملائكة الوحي، سُمُّوا بذلك لأنهم يسفرون بين الله وبين خلقه. وقيل: هم الكتبة، والكاتب يسمى: سافرًا، ومنه أسفار الكتاب. وعلى هذا فيكون وجه كونهم مع الملائكة: أن حملة القرآن يبلغون كلام الله إلى خلقه، فهم سفراء بين رسل الله، وبين خلقه، فهم معهم؛ أي: في مرتبتهم في هذه العبادة. ويستفيد من هذا حملة القرآن: التحرُّز في التبليغ والتعليم، والاجتهاد في تحصيل الصدق، وإخلاص النية لله؛ حتى تصح لهم المناسبة بينهم وبين الملائكة.

وقوله: يتتعتع فيه؛ أي: يتردد في تلاوته عِيًّا وصعوبة. والتعتعة في الكلام: العِيُّ. وإنما كان له أجران؛ من حيث التلاوة؛ ومن حيث المشقة، ودرجات الماهر فوق ذلك كله؛ لأنه قد كان القرآن متعتعًا عليه، ثم ترقَّى عن ذلك إلى أن شُبِّه بالملائكة).

وأخرج البخاري 5027 بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ  قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، قَالَ: وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ، حَتَّى كَانَ الحَجَّاجُ قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا.

قوله: (وذاك) إشارة إلى هذا الحديث الذي رواه عثمان رضي الله عنه في فضل تعلم القرآن وتعليمه.

(مقعدي هذا) لأعلِّم الناس القرآن حتى أحصل على تلك الفضيلة.

ورواه البخاري 5028 أيضا بلفظ: «أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».

وقد كان أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي أحد أئمة الإسلام ومشايخهم ممن رَغِب في هذا المقام، فقعد يعلِّمُ الناس من إمارة عثمان إلى أيام الحجاج، قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث يعلم فيه القرآن سبعين سنة، رحمه الله تعالى.

وتعلم القرآنِ وتعليمُه يشمل تعلم قراءته وحفظه، كما يشمل تعلم معانيه وتفسيره، وما دل عليه من أصول الإيمان وأحكام الشريعة، بل إن التدبر والفهم لكلامه الله تعالى والعمل به هو المقصود الأعظم، لقول الله تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ﴾ وقال سبحانه: ﴿أَفَلَمۡ يَدَّبَّرُواْ ٱلۡقَوۡلَ﴾ وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ﴾.

 ويدخل في تعليم القرآن، مَن يعلم القرآن بماله، كمن ينفق على حلق القرآن ومدارسه ويدعمها فهو داخل بإذن الله تعالى في هذا الحديث.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى: (وفي صحيح البخاري «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وتعليمه يتناول: تعليم معانيه وما دل عليه من الأصول الإيمانية، والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود) الدرر السنية 9/38.

وعن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ، يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» قَالَ مُعَاوِيَةُ - أحد رواة هذا الحديث -: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ. أخرجه مسلم (804).

(الزهراوين) سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما.

(كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان) قال أهل اللغة الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه سحابة وغيرة وغيرهما قال العلماء المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين.

(كأنهما فرقان من طير صواف) وفي الرواية الأخرى كأنهما حزقان من طير صواف الفرقان والحزقان معناهما واحد وهما قطيعان وجماعتان يقال في الواحد فرق وحزق وحزيقة.

(من طير صواف) جمع صافة وهي من الطيور ما يبسط أجنحتها في الهواء.

(تحاجان عن أصحابهما) أي تدافعان الجحيم والزبانية وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة.

(ولا يستطيعها) أي لا يقدر على تحصيلها.

وأخرج الترمذي في جامعه 2910 عن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» وصححه الألباني.

(قوله (من قرأ حرفا من كتاب الله) أي القرآن (والحسنة بعشر أمثالها) أي مضاعفة بالعشر وهو أقل التضاعف الموعود بقوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا﴾ والله يضاعف لمن يشاء، والحرف يطلق على حرف الهجاء والمعاني والجملة المفيدة والكلمة المختلف في قراءتها وعلى مطلق الكلمة، ولذا قال رسول الله ﷺ : «لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»)([38]).

وأخرج الترمذي 2914 من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ  قَالَ: «يُقَالُ - يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ -: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا» وقال الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وقال الألباني: حسن صحيح. ورواه أيضا أبو داود 1464. والنسائي وابن ماجه.

قوله (يقال) أي عند دخول الجنة (لصاحب القرآن) أي من يلازمه بالتلاوة والعمل (وارق) أمر من رقي يرقى أي اصعد إلى درجات الجنة، وفي رواية أبي داود: اقرأ وارتق.

(ورتل) أي اقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة (كما كنت ترتل في الدنيا) من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف (فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها)([39]).

وروى الإمام أحمد 11360، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال نبي الله ﷺ : " يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه ".

قال محققو المسند: (صحيح لغيره . . . قال السندي: قوله: "اقرأ واصعد"، أي: ارتق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من القرآن، فمن استوفى جميع آياته استوى على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جزءا منها كان صعوده في الدرج على قدر ذلك، وهذا معنى ما جاء في بعض الروايات: "فإن منزلتك آخر آية").

وعن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ  فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ». قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا» رواه الإمام أحمد (22950) وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره 1/152: وهذا إسناد حسن. وقال البغوي في شرح السنة 4/454: وهذا حديث حسن غريب.

(كالرجل الشاحب) الشاحب المتغير اللون والجسم لعارض من مرض أو سفر ونحوهما وقد شحب يشحب شحوبا.

(وإن كل تاجر من وراء تجارته) أي يبتغي الربح من وراء تجارته.

(وإنك اليوم من وراء كل تجارة) معناه وأن ربحك اليوم أعظم من ربح كل تجارة.

(حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا) أي لا يمكن أهل الدنيا تحديد قيمتها.

(فهو في صعود ما دام يقرأ هذَّا كان أو ترتيلا) أي سواء كانت القراءة هذَّاً بتشديد المعجمة أي بسرعة أو ترتيل([40]).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» رواه ابن ماجه 215، والإمام أحمد 12292، قال البوصيري في مصباح الزجاجة 1/29: (هَذَا إِسْنَاد صَحِيح رِجَاله موثقون) وصححه الألباني.

وأخرجه النسائي في السنن الكبرى 7977.

(هم أهل القرآن) أي حفظته العاملون به.

(أهل الله) بتقدير أنهم أهل الله أي أولياؤه المختصون به اختصاص أهل الإنسان به.

ويستحب أن يقرأه على أكمل الأحوال، بأن يكون متطهرا من الحدث الأصغر إن كان يقرأ من حفظه، ومستقبل القبلة، وليس عنده ما يشغله عن التلاوة، متحريا أفضل الأوقات، كبعد الفجر، لقوله ﴿إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا﴾ قال الشيخ: قراءة القرآن بعد الفجر، أفضل من قراءته آخر النهار، ومتهجدا آخر الليل أفضل لقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡ‍ٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا﴾.

ولا بأس بالقراءة في كل حال، قائما، وقاعدا ومضطجعا وراكبا وماشيا، وتكره في المواضع القذرة، والأسواق التي يصيح فيها أهل الأسواق بالنداء، والبيع ويكره الجهر بها مع الجنازة.

وأما إن كان يمسك المصحف ليقرأ منه، فيجب أن يتطهر من الحدثين الأصغر والأكبر، وكذا لو كان محدثا حدثا أكبر فلا يجوز له قراءة شيء من القرآن الكريم.

(وهو أفضلُ من سائِرِ الذكرِ)

أفضل الذكر تلاوة كتاب الله عز وجل، بل هو أفضل ما يذكر الله به بعد الصلاة([41])، وقد رتب العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ما يُذكر الله به على مراتب أربع:

  • الصلاة، فهي أفضل الذكر، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾ وهي مشتملة على قراءة القرآن والذكر بالتسبيح والتحميد والتهليل وغيره، وعلى الدعاء.
  • تلاوة القرآن الكريم.
  • الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره.
  • الدعاء([42]).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» رواه الترمذي 2926، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ» وضعفه الألباني. وانظر: الضعيفة 4989.

وبعض القرآن أفضل من بعض، فما تكلم به في وصف نفسه المقدسة أفضل مما تكلم به في وصف خلقه، وصح أن الفاتحة هي أعظم سورة في كتاب الله عز وجل، و﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن، وأعظم آية فيه: آية الكرسي.

(والترتيلُ: أَفضلُ من السُّرعةِ مع تبين الحروفِ)

وأما السرعة مع عدم تبيين الحروف فتكره أو تحرم، ومن الناس من إذا حدر كان أخف عليه، وإذا رتل أخطأ، ومنهم من لا يحسن الحدر، والناس في ذلك على ما يخف عليهم، فيستحب لكل إنسان ملازمة ما يوافق طبعه، ويخف عليه، فربما تكلف ما يشق عليه فيقطعه عن القراءة، والإكثار منها، ولا خلاف أن الأفضل الترتيل لمن تساوى في حالته الأمران.

(وأشدُّ تأثيراً في القلبِ)

أي أن الترتيل أكثر تأثيرا في قلب القارئ، فينتفع بقراءته أكثر من الإسراع، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاة القرآن وقال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾ وهكذا كانت قراءته ﷺ  والسلف من بعده، وهذا هو أصل صلاح القلب.

(وينبغي إعطاء الحروفِ حَقَّها وتَرتيبُها)

حالة النطق بها، ورد الحرف إلى مخرجه، وأصله.

(وتلطيفِ النّطقِ بها)

على كمال الهيئة فإن التجويد حلية القراءة، وفي الحديث: «من أحب أن يقرأ القرآن غضا، كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد»، يعني ابن مسعود رضي الله عنه، وكان قد أعطي حظا عظيما في حسن الأداء، وكما أن الأمة متعبدة بفهم معاني القرآن، وإقامة حدوده فهي متعبدة بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه.

(من غيرِ إسرافٍ ولا تَعسُّفٍ ولا تكلُّفٍ)

ولا إفراط في مخارج الحروف ونحوها.

(ويُسنُّ تَحسينُ الصَّوتِ، والتَّرَنُّمُ بِخشوعٍ وحُضورِ قلبٍ وتَفكّرٍ وتَفهّمٍ، يُنفِذ اللفظ إلى الأسماعِ والمعاني إلى القلوبِ، قال الشيخُ في «زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصواتِكُمْ» هو: التَّحسينُ والتَّرَنُّمُ بِخشوعٍ وحُضورُ قلبٍ)

يسن لقارئ القرآن الكريم تحسين صوته به، حتى وإن لم يكن صوته حسنا فيحسنه ما استطاع، ولا يخرج بتحسينه عن حد القراءة إلى التمطيط المخرِج له عن حدوده، فما كان طبيعة وسجية فهو محمود، وما كان تكلفا وتصنعا فهو مذموم، وهو الذي كرهه السلف.

ومن أدلة تحسين الصوت بالقرآن:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله -ﷺ : "لم يأذن الله لشيء، ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن يجهر به" متفق عليه.

ومعناه: أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبيٍّ يجهر بقراءته ويحسِّنُها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام طيب الصوت لكمال خَلْقهم وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك، وهو -سبحانه وتعالى- يسمع أصوات العباد كلِّهم برهم وفاجرهم.

والأَذَن بمعنى الاستماع، كما قال تعالى: ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ 1 وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ 2 وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ 3 وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ 4 وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ﴾ [الانشقاق: 1-5]. أى: استمعت لربها وحقت، أي: وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه، فالأَذَن هنا، هو: الاستماع.

وعن فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ : «لله أشد أَذَنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه» قال ابن كثير: رواه ابن ماجه بسند جيد([43]).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ  قال له: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» رواه مسلم 793.

وفي رواية: (والله لو علمتُ أنك تسمع قراءتي، لحبَّرتُها لك تحبيرًا).

وقد كان أبو موسى رضي الله عنه كما قال عليه الصلاة والسلام: قد أعطى صوتا حسنا، مع خشية تامة ورقة أهل اليمن، فدلَّ على أن تحسين الصوت بالقرآن أمر مطلوب، لكن مع مراعاة عدم التكلف في تحسين الصوت، وإخلاص النية لله تعالى، وأن يقصد بتحسين صوته امتثال السنة، وترغيب السامعين لقراءته بسماع القرآن وتدبره، فيؤجر بذلك.

وعن أَبي لُبَابَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ  يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ: «يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ» رواه أبو داود 1471، وقال الألباني: حسن صحيح.

وفي عون المعبود 4/240: («لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْسِينُ الصَّوْتِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَيُقَالُ تَغَنَّى الرَّجُلُ بِمَعْنَى استغنى).

وفي شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى 4/665: (قال العلماء وهذه الكلمة لها معنيان الأول (من لم يتغن به) أي من لم يستغن به عن غيره بحيث يطلب الهدى من سواه فليس منا فهذا لا شك أن من طلب الهدى من غير القرآن أضله الله والعياذ بالله.

والمعنى الثاني (من لم يتغن) أي من لم يحسن صوته بالقرآن فليس منا فيدل على أنه ينبغي للإنسان أن يحسن صوته بالقرآن وأن يستغنى به عن غيره).

وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (وحُضورِ قلبٍ وتَفكّرٍ وتَفهّمٍ) هذا هو المقصود الأعظم، وهو تدبر القرآن وفهمه، كما قال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾.

(لا صرفُ الهِمَّةِ إلى ما حُجِبَ به أكثرُ الناسِ من الوسوسةِ في خروجِ الحروفِ، وترقيقِها وتفخيمِها وإمالتِها، والنّطقِ بالمدِّ الطّويلِ والقَصيرِ والمتوسّطِ وشَغلهِ بالوَصلِ والفَصلِ)

أي أن بعض القراء قد انصرفت همته إلى المبالغة في إخراج الحروف، وترقيقها وتفخيمها ونحو ذلك، وهذا مما لا ينبغي، وإنما يُعتنى بأحكام التجويد من غير مبالغة، وتصرف الهمم إلى فهم كلام الله تعالى وتدبره والعمل به.

(والإضجاعِ والإرجاعِ)

الإضجاع في الحركات كالإمالة، والإرجاع: الإعادة والترديد.

(والتَّطريب، وغيرِ ذلكَ مما هو مُفضٍ إلى: تغييرِ كتابِ اللهِ والتَّلاعُبِ بهِ، حائل للقلوب، قاطع عن فَهمِ مُرادِ الرِّبِّ من كلامِهِ)

التطريب هو تحسين الصوت، فيمد القارئ صوته ويرجع فيه ويزينه، والمقصود ما ترتب عليه تغيير كلام الله تعالى، فقد يشبع الحركة فتصير حرفا، فيكون قد زاد في كلام الله تعالى ما ليس منه، أو يمد ما لا يمد من الحروف مراعاة للحن، فيحصل بذلك التلاعب بالقرآن، وهذا مما يصرف القلوب عن فهم كلام الله عز وجل.

وأما التغني بما تقتضيه الطبيعة وتسمح به القريحة، من غير تكلف ولا تمرين فممدوح.

(ومن تأمَّل هدي رسول الله ﷺ  وإقرارَهُ أهل كُلِّ لِسانٍ على قِراءَتِهِم تبيَّن له: أنَّ التنطّعَ بالوَسوسةِ في إخراجِ الحروفِ ليسَ من سُنّتهِ)

أي من تأمل هدي النبي ﷺ  في قراءته للقرآن، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم مع اختلاف ألسنتهم في نطق الأحرف تبين له أن ما يحصل من بعض القراء تنطع وتكلف، ليس من هدي النبي ﷺ  في شيء.

(وقال: يُكرَهُ التَّلحين الذي يُشبهُ الغِناءَ)

وقال الشيخ: الألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها، هي التي تتضمن قصر الحرف الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك ونحو ذلك، يفعلون ذلك، لموافقة نغمات الأغاني المطربة، فإن حصل مع ذلك تغيير نظم القرآن، وجعل الحركات حروفا، فهو حرام.

(واستحبَّ بَعضُهُم القِراءةَ في المُصحَفِ)

لأن النظر إليه عبادة، ولعله: ما لم يكن من الحفظ أحضر وأخشع.

(ويُستحبُّ الخَتمُ كُلَّ أُسبوعٍ، والدّعاءُ بَعدَهُ)

أي: ويستحب ختم القرآن كل أسبوع، لقوله ﷺ  لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «اقرأ القرآن كل أسبوع، ولا تزد على ذلك» ، وإن قرأه في ثلاث فحسن، لقوله ﷺ  لابن عمرو رضي الله عنهما، وقد قال أجد بي قوة، قال: «اقرأه في ثلاث» ، وللترمذي وصححه، (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)، ولا بأس فيما دونه أحيانا، وفي الأزمنة والأمكنة الفاضلة، كرمضان خصوصًا الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، وكمكة، واغتناما للزمان، والمكان، ويتقدر بالنشاط وعدم المشقة، فمن السلف من يختمه في ليلة، ويكره تأخير الختم فوق أربعين بلا عذر، ويحرم إن خاف نسيانه.

ويستحب أن يدعو بعد ختم القرآن الكريم، لفعل أنس رضي الله عنه، وأما دعاء الختم في الصلاة ففيه خلاف مشهور بين أهل العلم.

(وتَحسينُ كِتابَةِ المُصحَفِ،)

أي ويستحب تحسين كتابة المصحف الشريف، وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط.

(ولا يُخالِفُ خَطَّ مُصحَفِ عُثمانَ في واوٍ أو ياءٍ أو ألفٍ أو غيرِ ذلكَ)

وقاله: أحمد وغيره، وسئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، وقال الدارمي: لا مخالف له من علماء الأمة، وقال البيهقي: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علمًا، وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.

(ويَحرُمُ على المُحدِثِ مَسُّهُ)

أي: ويحرم على المحدث حدثا أكبر، أو أصغر: مس المصحف الشريف وكتب ﷺ  لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر»، وقال ابن عبد البر: أشبه التواتر، وقال أحمد: لا شك أن النبي ﷺ  كتبه له.

وقال الشيخ: مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، وذكره الوزير، إجماعا، وقال الزركشي: إذا كتب بعض القرآن مفردا عن تفسير وغيره، فإنه لا يجوز للمحدث مسه وإن لم يسم مصحفا، وسواء حصل المس بيد، أو غيرها من أعضائه بلا حائل، ولو بصدره، اتفاقا.

(وسَفَرٌ بهِ لِدارِ حربٍ) أي: ويحرم سفر بالمصحف لدار حرب، لما في الصحيحين: نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ لأنه عرضة إلى استيلاء الكفار عليه، واستهانتهم به.

(ويَجب احترامُهُ)

أي: ويجب احترام المصحف، وحيث كتب كلام الله تعالى، قال النووي: أجمعوا على وجوب صيانة المصحف واحترامه فلو ألقاه والعياذ بالله، في قاذورة كفر، ولكن لو خاف المحدث على المصحف، من حرق أو غرق، أو وقوع نجاسة عليه، أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث، بل يجب ذلك صيانة له.

ويحرم توسده، واستناد إليه وجلوس عليه إجماعا ويكره: مد رجل إليه إذا لم يقصد إهانته، وإلا حرم وذكر بعضهم أنه يكفر بذلك.

ويكره استدباره، وتخطيه ورميه إلى الأرض بلا وضع، قال الشيخ، وجعله عند القبر منهي عنه، ومذهب الجمهور: أنه يكره تحليته، بذهب أو فضة وجزم الشيخ بالتحريم، ككتب علم، ويكره، استفتاح الفأل فيه، اختاره الشيخ، وحكى ابن العربي تحريمه.

(وصلَّى اللهُ على محمدٍ وآلِهِ وصَحبِهِ وسَلِّم).

 

([1]) تنبيه: هذا الشرح مستفاد من بعض شروح هذه المقدمة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([2]) ينظر في ترجمته: حاشية ابن قاسم على الروض المربع 1/3.

([3]) ينظر: تفسير ابن كثير للآية.

([4]) رواه الجهضمي في فضل الصلاة ص80 وقال الألباني في تحقيقه: إسناده موقوف حسن.

([5]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص23، 24.

([6]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص 24، 25.

([7]) جاء هذا الكلام مرفوعا إلى النبي ﷺ عند الترمذي، وقال بعده: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفى حديث الحارث مقال". قال ابن كثير في فضائل القرآن: (لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث "إلّا أنه" إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد "كذبه" بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه يتعمَّد الكذب فى الحديث فلا، والله أعلم، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضى الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح) يعني في معناه.

([8]) أصول في التفسير للشيخ ابن عثيمين ص6.

([9]) ينظر: الرومي 33.

([10]) تنظر أقوال الناس في مسألة كلام الله تعالى في شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص128.

([11]) قال شيخ الإسلام في التسعينية 1/272: (لكن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن كلام الله هو ما يفيض على نفوس الأنبياء الصافية القدسية من العقل الفعال الذي يزعمون أنَّه الروح المفارق للأجسام، الذي هو العقل العاشر كفلك القمر، ويزعمون أنَّه الذي يفيض منه ما في هذا العالم من الصور والأعراض، ويزعم من يزعم من منافقيهم الذين يحاولون الجمع بين النبوة وبين قولهم بأنَّ ذلك هو جبرائيل.

      ويقولون: إن تلك المعاني التي تفيض على نفس النَّبيِّ والحروف التي تتشكل في نفسه هي كلام الله، كما يزعمون أن ما يتصور في نفسه من الصور النورانية هي ملائكة الله، فلا وجود لكلام الله عندهم خارجًا عن نفس النَّبيِّ وكذلك الملائكة غير العقول العشرة والنفوس التسعة التي هم متنازعون فيها، هل هي جواهر أو أعراض؟ إنَّما الملائكة ما يوجد في النفوس والأبدان من القوى الصالحة، والمعارف والإرادات الصالحة ونحو ذلك. وحقيقة ذلك أن القرآن إنشاء الرسول وكلامه).

      وقال المقريزي في تجريد التوحيد المفيد ص16: (وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون: بأنه لم يصدر عنه إلاّ واحد بسيط، وإن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وإن مصدر هذا العالم عن العقل الفعّال هو ربّ كل ما تحته ومدبّره. وهذا شرّ من شرك عبّاد الأصنام والمجوس والنّصارى، وهو أخبث شرك في العالم).

([12]) والصابئة: هم أصحاب كنعان ونمرود الذين بُعث إليهم الخليل عليه الصلاة والسلام، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، وكان الصابئة إذ ذاك على الشرك، وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركاً. بل مؤمنا بالله واليوم الآخر، كما في الآيتين الكريمتين: ﴿إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ الآية ﴿إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ﴾ الآية. لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً ومشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً ومشركين. ينظر: التحفة المهدية في شرح التدمرية ص38.

([13]) تنظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 15/63.

([14]) تنظر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 11/523.

([15]) تنبيه: هذا الشرح مستفاد من بعض شروح هذه المقدمة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([16]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص141 وما بعدها.

([17]) زاد المعاد 1/77- 79.

([18]) ينظر في الأحرف السبعة: دراسات في علوم القرآن الكريم ص370، وما بعدها.

([19]) ينظر: الإتقان 1/216.

([20]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص123.

([21]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص148، وما بعدها.

([22]) ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ص356.

([23]) ينظر: شرح الشيخ سعد الشثري.

([24]) ينظر: تقريب التدمرية للشيخ ابن عثيمين ص71.

([25]) ينظر: تقريب التدمرية للشيخ ابن عثيمين ص75.

([26]) ينظر: مجموع الفتاوى 13/284، و 17/400.

([27]) ينظر فتاوى إسلامية جمع المسند 4/46، 4/47.

([28]) فضائل القرآن لابن كثير ص42.

([29]) ينظر: تفسير ابن كثير 8/267.

([30]) ذكره السيوطي في الإتقان 4/44-52، تحت النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ.

([31]) ينظر: الإتقان للسيوطي، النوع السابع والستون: في أقسام القرآن.

([32]) قال في إعراب القرآن وبيانه 9/281: (الجواب محذوف يدل عليه ما بعده وتقديره: أنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا . . . وقدَّره أبو البقاء: لتبعثنّ أو لترجعنّ. على ما دلّ عليه سياق الآيات).

([33]) ينظر: الإتقان، النوع السابع والخمسون: في الخبر والإنشاء. من 3/256- 283.

([34]) ينظر: أضواء البيان 1/51.

([35]) ينظر: نزهة الأعين النواظر ص143.

([36]) مختصر الصواعق المرسلة ص553.

([37]) سقط كلمة (بسط) أي: من قبل بسط الألفاظ الوجيزة. من شرح الشيخ سعد الشثري.

([38]) تحفة الأحوذي 8/183.

([39]) انظر: تحفة الأحوذي 8/186، 187.

([40]) ينظر: الفتح الرباني للساعاتي 18/69، 70.

([41]) في شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 2/199: (القراءة وهي أفضل الذكر).

([42]) ينظر: الوابل الصيب ص92، وينظر أيضا مجموع الفتاوى 22/478.

([43]) ينظر: فضائل القرآن لابن كثير ص180.

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله