شرح مقدمة التفسير لابن قاسم
برنامج دليل 1446هـ
المجلس الثاني([1])
إن الحمد لله ... أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(مَواضِعُ نُزولِه)
أي ذِكْر مواضع نزول القرآن الكريم من الله عز وجل على نبيه محمد r وأوقاته.
(أَجمَعوا على أنَّ القُرآنَ مِئَةٌ وأربَعَ عَشَرَةَ سُورَةً)
أي أجمع الصحابة y في زمن عثمان t على ترتيب سور القرآن في المصحف، وأن عددها مائة وأربع عشرة سورة، وقد كان هناك خلاف بين الصحابة y في عدد السور، ثم استقر الأمر على أنها أربع عشرة سورة.
قال الزركشي في البرهان 1/251: (واعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة كما هي في المصحف العثماني أولها الفاتحة وآخرها الناس).
وتسمية السور بتوقيف وليس اجتهادا.
قال السيوطي في الإتقان 1/186: (وقد ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار).
والسورة سميت بذلك من الإبانة والارتفاع، وقيل: لشرفها وارتفاعها كسور البلد، وقيل: من الجمع والإحاطة لآياتها.
(والْمَشهورُ سَبعٌ وعُشرونَ مَدَنِيٌّ، وباقيهِ مَكِّيٌّ)
أي المشهور أن من هذه السور سبعاً وعشرين سورة مدنية، والباقي من السور مكية، لورود ذلك عن بعض الصحابة y، وقد عدَّ هذه السور المدنية المؤلِّفُ في حاشيته على هذه المقدمة.
والمرجع في معرفة المكي والمدني إلى قول الصحابة y، والتابعين رحمهم الله تعالى، ولم يحفظ في ذلك عن النبي r شيء.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ، تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ» رواه البخاري 5002، ومسلم
قال السيوطي في الإتقان 1/44: (وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ: المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق ثم نظم في ذلك أبياتا) ثم ذكرها.
المراد بالمكي والمدني:
قال السيوطي في الإتقان1/37: (اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة:
أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار.
الثاني: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني.
الثالث: أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة) بتصرف.
وقال ابن كثير في مقدمة تفسيره 1/18: (فالمكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان، حتى ولو كان بمكة أو عرفة. وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأُخر أنها من المدني، واختلفوا في أُخر)
(واستثني آيات)
أي أن بعض السور المكية يستثنى منها بعض الآيات التي نزلت بالمدينة، وبعض السور المدنية يستثنى منها بعض الآيات التي نزلت بمكة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في أثر مجاهد رحمه الله تعالى في سؤاله لابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك.
قال السيوطي في الإتقان 1/39، 40: (وقال أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ: حدثني يموت بن المزرع حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني أنبأنا أبو عبيدة معمر بن المثنى حدثني يونس بن حبيب سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألت مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي فقال: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: "سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ﴾ إلى تمام الآيات الثلاث وما تقدم من السور مدنيات. ونزلت بمكة سورة الأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل - سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرفه من أحد - وسورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج - سوى ثلاث آيات: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ إلى تمام الآيات الثلاث فإنهن نزلن بالمدينة - وسورة المؤمنين والفرقان وسورة الشعراء - سوى خمس آيات من أخراها نزلن بالمدينة: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ إلى آخرها. وسورة النمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان - سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ إلى تمام الآيات - وسورة السجدة سوى ثلاث آيات: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ إلى تمام الآيات الثلاث وسورة سبأ وفاطر ويس والصافات وص والزمر سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ إلى تمام الثلاث آيات والحواميم السبع وق والذاريات والطور والنجم والقمر والرحمن والواقعة والصف والتغابن إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة. والملك ون والحاقة وسأل وسورة نوح والجن والمزمل إلا آيتين: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ﴾ والمدثر إلى آخر القرآن إلا إذا زلزلت وإذا جاء نصر الله وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فإنهن مدنيات. ونزل بالمدينة سورة الأنفال وبراءة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد وما بعدها إلى التحريم".
هكذا أخرجه بطوله وإسناده جيد رجاله كلهم ثقات من علماء العربية المشهورين).
فوائد معرفة المكي والمدني([2]):
والآية: من العلامة على انقطاع الكلام عن الذي قبلها وعن الذي بعدها وانفصالها.
وقيل: لأنها عجب، يعجز البشر عن التكلم بمثلها.
وذكر ابن كثير في مقدمة تفسيره 1/98 أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية، ثم اختُلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات، وقيل: غير ذلك.
ثم قال: (وأما كلماته، فقال الفضل بن شاذان، عن عطاء بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة.
وأما حروفه، فقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد: هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلاثمائة ألف حرف وواحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا . . .
وقال سلام أبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟ قال: فحسَبناه فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف حرف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا).
(ومِنهُ: النَّهارِيُّ والليلِيُّ)
أي ومن القرآن ما نزل على النبي r بالنهار، وهو أكثر القرآن، ومنه ما نزل بالليل، ومنه آية تحويل القبلة.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ» رواه البخاري 403، ومسلم 526.
وآية الثلاثة الذين خلفوا، فقد قال كعب بن مالك t: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ) رواه البخاري 4677.
(والصَّيفِيُّ والشِّتائِيُّ)
أي ومن القرآن ما نزل بالصيف كآية الكلالة.
لقول عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t: . . . مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: «يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟» . . . رواه مسلم 567.
وفي رواية ابن حبان 2091: (... وَقَالَ: يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان.
ومنه ما نزل بالشتاء كآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ... ﴾.
قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنَ العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري 4141.
(وأَوَّل ما أُنزِلَ اقْرَأ، ثُمَّ الْمُدَّثِّرْ، وآخِرُهُ الْمائِدَةُ، وَبَراءَةٌ، والفَتحُ، وآَيَةُ الكَلالَةِ والرِّبا والدَّينِ)
أي أول ما أنزل من القرآن الكريم صدر سورة اقرأ، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله r من الوحي الرؤيا الصادقة، قالت: حتى فاجأه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حتى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وروى الحاكم في المستدرك 3954 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي.
ثم فتر الوحي، ثم نزل عليه صدر سورة المدثر، ثم تتابع الوحي، فعن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الوَحْيُ فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ، حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾" رواه البخاري 3238، ومسلم 161.
(فجئثت) أي رُعبت.
وآخر ما نزل من القرآن سورة المائدة.
فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: «أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ، فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» رواه الحاكم 3210، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده الألباني في الإرواء 1/139.
وروى الترمذي 3063 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفَتْحُ». وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» وقال الألباني: ضعيف الإسناد.
وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: «نَعَمْ، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ»، قَالَ: صَدَقْتَ. رواه مسلم 3024.
وعَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ﴾" [النساء: 176] رواه البخاري 4364.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ «آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا» رواه البخاري 4544. وبوب عليه البخاري رحمه الله تعالى بقوله: بَابُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: 281].
قال الحافظ في الفتح 8/317: (وأصح الْأَقْوَالِ فِي آخِرِيَّةِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ كَمَا تقدم فِي الْبَقَرَة وَنقل بن عَبْدِ السَّلَامِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ فَعَاشَ بَعْدَهَا خَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَة وَالله أعلم).
قال أبو بكر الباقلاني في الانتصار للقرآن 1/245: (وليس في شيءٍ من الرواياتِ ما رُفع إلى النبي عليه السلام، وإنّما هو خَبَر عن القائل به، وقد يجوزُ أن يكونَ قالَ بضربٍ من الاجتهاد، وتغليبِ الظنِّ وبظاهرِ الحال، وليسَ العلمُ بذلك أيضاً من فرائضِ الدين، ولا هو مما نصّ الرسولُ على أمر فيه بيّنه وأشاعه وأذاعَه وقصدَ إلى إيجابه وإقامةِ الحجّة به.
فلذلك لم يَجُزْ ظهورُه عنه وحصولُ الاتفاقِ عليه وثبوتُ العلم به قطعاً يقيناً.
وقد يَحتمِلُ أن يكونَ كلُ قائلٍ ممن ذكرنا يقولُ إن ما حكمَ بأنَّ ما ذكره آخرُ ما نزل لأجل أنّه اَخرُ ما سمعه مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي ماتَ فيه، أو ساعةَ موته على بُعد ذلك، أو قبلَ مرضه الذي ماتَ فيه بيومين أو ساعة، وقد سمع منه غيرُه شيئاً نزل بعدَ ذلك وإن لم يسمعه هو لمفارقته له ونزولِ الوحي بقرآنٍ بعدَه) وذكر وجوها غير ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(إِنْزَالُه)
أي إنزال القرآن العظيم من الله تعالى على النبي r، وما يتعلق بذلك من أحوال نزول الوحي عليه، وكتابته وجمعه.
(أُنزِلَ القُرآن جُملةً في لَيلَةِ القَدرِ إلى بيتِ العِزَّةِ في السَّماءِ الدّنيا، وأُنزِلَ مُنَجَّماً بِحَسَبِ الوقائِعِ)
أي أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾.
ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي r مُنجَّماً أي مُفرقاً، بحسب الوقائع.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا» رواه الحاكم 2881، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي.
وقال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 12/127: (فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله ... ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: ...) ثم ذكرها.
(يُلقيهِ جِبريلُ إلى النَّبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم فِي مِثلِ صَلصَلَةِ الجَرَسِ، وهُو أَشدُّ عليهِ، ويأتيهِ في مِثلِ صُورَةِ الرَّجُلِ يُكَلِّمُهُ)
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى مرتبتين من مراتب الوحي، وقد عدها ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد، وأوصلها إلى سبع مراتب:
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في رَوعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في رَوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته».
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملَك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة y أحيانا.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها. ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء([3]).
(وثَبَتَ أنَّهُ أُنزِلَ على سَبعَة أَحرفٍ، قيلَ: الْمَعانِي الْمُتَّفِقَة بِأَلفاظٍ مُختَلِفَةٍ، كـ(هَلُمَّ) و(أَقْبِلْ))
أي أن القرآن الكريم أنزل على سبعة أحرف([4]).
والحرف يطلق على الحرف من حروف الهجاء، ويطلق الحرف ويُراد به اللغة، فيقال: حرف قريش، وحرف ثقيف، أي لغة قريش ولغة ثقيف.
ويطلق ويُراد به وجه القراءة، فيقال: حرف ابن مسعود t، أي قراءته.
وثبت في الأحاديث أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، والأحاديث فيه متواترة عن النبي r، منها:
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ لِي: «أَرْسِلْهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اقْرَأْ»، فَقَرَأَ، قَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ»، ثُمَّ قَالَ لِي: «اقْرَأْ»، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ» رواه البخاري2419، ومسلم 818.
ومعنى: (كدت أعجل عليه) أي في الإنكار والتعرض له. (حتى انصرف) أي انتهى من القراءة. (لببته بردائه) أي جمعت رداءه عند صدره وجررت به.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» رواه البخاري 3219، ومسلم 819.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t أن النبي r قال له: "يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رواه مسلم 820.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ»، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا. رواه مسلم 821.
(أضاة بني غفار) الأضاة هي الماء المستنقع كالغدير.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أُبَيُّ، إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفٍ، أَوْ حَرْفَيْنِ؟ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ: عَلَى حَرْفَيْنِ، قُلْتُ: عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، قُلْتُ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ "، ثُمَّ قَالَ: " لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ، إِنْ قُلْتَ: سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ " رواه أبو داود 1477، وصححه الألباني.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ: مِنْهُمُ العَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالغُلَامُ، وَالجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ "، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) رواه الترمذي 2944، وقال الألباني: حسن صحيح.
والمراد بالأحرف السبعة محل خلاف كبير بين أهل العلم، حتى ذكر السيوطي في الإتقان 1/164 أن الأقوال فيه تصل إلى أربعين قولا.
قال ابن الجزري في النشر في القراءات العشر 1/26: (ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله).
والمراد بالأحرف السبعة عند جمع من أهل العلم منهم ابن جرير الطبري وغيره أنها سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، فإذا اختلفت لغة العرب في كلمة جاء القرآن بسبع لغات منها.
ولغات العرب كلغة قريش وهذيل وهوازن وتميم وكنانة وثقيف واليمن.
وذلك كقولهم: هلم وأقبل وتعال.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 13/390: (لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي " قراءات القراء السبعة المشهورة " بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام؛ إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة من القرآن وتفسيره والحديث والفقه من الأعمال الباطنة والظاهرة وسائر العلوم الدينية فلما أراد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار؛ ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم...
ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده؛ بل قد يكون معناها متفقا أو متقاربا كما قال عبد الله بن مسعود: إنما هو كقول أحدكم أقبل وهلم وتعال. وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر؛ لكن كلا المعنيين حق وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف إن قلت: غفورا رحيما أو قلت: عزيزا حكيما فالله كذلك ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة»")
(وكُتِبَ فِي الرِّقاعِ وغيرها في عَهدِ النّبوَّةِ، ثُمَّ في الصُّحُفِ في عَهدِ أَبي بَكرٍ)
أي أنه في عهد النبي r كان القرآن يكتب في الرقاع، جمع رقعة، من الجلد أو الورق، وكتب في غير الرقاع كاللخاف والعسب والأضلاع، وغير ذلك، ويحفظ في صدور الرجال.
وقبض النبي r ولم يكن القرآن جمع في مصحف؛ لأنه كان يترقب وورد ناسخ لبعض أحكامه، أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته r ألهم الله تعالى الخلفاء الراشدين لذلك، لأن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه.
وفي عهد الصديق t جُمع القرآن العظيم في الصحف.
فعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: «كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، «فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ»، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، «فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ»، قُلْتُ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟»، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، " فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رواه البخاري 4986.
(ثُمَّ جَمَعَ عُثمانُ النَّاسَ على مُصحَفٍ واحِدٍ)
أي ثم لما كثر اختلاف القراء في وجوه القراءة وخشيت الفتنة جمع عثمان t الناس في خلافته على مصحف واحد، وأجمع الصحابة عليه، وترك ما سواه.
فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ t أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ»، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ"، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ» فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ. رواه البخاري 4987.
(والجُمهورُ أَنَّهُ مُشتَمِلٌ على ما يَحتَمِلُهُ رَسْمُها، ومُتَضَمِّنَتُها العَرضَةُ الأخيرَةُ)
أي ومذهب الجمهور من السلف والخلف على أن مصحف عثمان t مشتمل على ما يحتمله رسم سبعة الأحرف، فعثمان t جمع الناس على حرف واحد، وهو لغة قريش.
قال مكي بن أبي طالب في الإبانة عن معاني القراءات ص34: (وسقط العمل بما يخالف خط المصحف من الأحرف السبعة، التي نزل بها القرآن بالإجماع على خط المصحف.
فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف. إذ لم يكن منقوطا، ولا مضبوطا. فذلك الاحتمال الذي احتمل الخط هو من الستة الأحرف الباقية).
وقال ابن الجزري في منجد المقرئين ص23: (فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاض دون ما كان قبل ذلك مما كان بطريق الشذوذ والآحاد من زيادة، وإبدال وتقديم وتأخير وغير ذلك، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش).
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 13/396: (ذكر محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم يكن واجبا على الأمة وإنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا؛ بل مفوضا إلى اجتهادهم؛ ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد وكذلك مصحف غيره.
وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة لأن ترتيب الآيات مأمور به نصا وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم. قالوا: فكذلك الأحرف السبعة فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور. ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة. ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك. وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة).
(وتَرتيبُ الآياتِ بالنَّصِّ)
أي وترتيب الآيات القرآنية توقيفي، وأنه بالنص إجماعا، فقد ثبت قراءته في الصلاة سورا مرتبة الآيات.
قال السيوطي في الإتقان 1/211: (الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك وأما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الانفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: " ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " فإذا نزلت عليه الآية فيقول: " ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ". وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، فوضعتها في السبع الطول. رواه الترمذي 3294، وقال هذا حديث حسن. وضعفه الألباني.
(والسُّوَرِ بالاجتِهادِ)
هل ترتيب السور توقيفي أو اجتهادي([5]):
الجمهور على أنه باجتهاد من الصحابة y، واستدلوا لذلك باختلاف مصاحف الصحابة y في ترتيب السور، ولو كان توقيفياً لاتفقت مصاحفهم كما اتفقت في ترتيب الآيات.
والقول الثاني أنه توقيفي، واستدلوا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف ... الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ علي حزبي من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه "، فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل من "ق" حتى نختم.
فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأياً كان ترتيب السور بتوقيف أم باجتهاد فقد أجمع الصحابة y عليه، وجرى عليه عمل المسلمين في مصاحفهم، فليس لأحد أن يغير ترتيبه، وأما ترتيب السور في التلاوة فهو مندوب، إلا في تعليم المبتدئ فالأولى أن يبدأ به من آخر المصحف إلى أوله([6]).
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(أَسبابُ نُزولِه)([7])
المراد بسبب النزول أن تقع حادثة في عهد النبي r فينزل آية أو آيات من القرآن الكريم تبين حكمها، أو يُسأل النبي r عن شيء فتنزل آية أو آيات فيها جواب السؤال.
وقد لا يكون نزول الآيات بعد الحادثة مباشرة، بل قد يتأخر عنها بعض الشيء، كما في الآيات التي نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، فقد تأخر نزولها.
وآيات القرآن الكريم تنقسم من حيث سبب النزول وعدمه إلى قسمين:
ومن المؤلفات في ذلك: أسباب النزول للواحدي رحمه الله تعالى (ت: 468ه).
ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي رحمه الله تعالى (ت: 911ه).
والصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل الوادعي رحمه الله تعالى. (ت: 1423ه)
ومعرفة سبب النزول يكون عن طريق الرواية الثابتة عن الصحابة y.
قال الواحدي في أسباب النزول ص8: (ولا يَحِلُّ القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب).
(مَعرِفَةُ سَبَبِ نُزولِ القُرآنِ يُعينُ على فَهمِ الآيةِ)
أسباب نزول السور والآيات مما يعين على فهم المعنى، ويتعين على المفسر معرفته.
عن حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ مَرْوَانَ، قَالَ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ - لِبَوَّابِهِ - إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187] هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ [آل عمران: 188]، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ، إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ، مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ» رواه البخاري 4568، ومسلم 2778.
قال الزركشي في البرهان 1/28: (لا يخفى عن ابن عباس رضي الله عنه أن اللفظ أعم من السبب لكنه بين أن المراد باللفظ خاص).
(فَقَد يَكونُ اللَّفظُ عامّاً والسَّبَبُ خاصّاً، ومنه: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾)
قال الله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾.
وقوله: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أي إن ارتبتم في حكم عدتهن، ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر.
لما رواه أُبيّ بنُ كعب t: يا رسول الله، إن عِددا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال، قال: فأنزل الله عز وجل: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾
فهذا يبين معنى ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أي إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن.
والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ فعموم الآية يقتضي أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة حضرا ولا سفر، وهذا خلاف الإجماع، ويوضح ذلك سبب النزول.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾" رواه مسلم 700.
وعن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ t قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ القِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ: " ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾" رواه الترمذي 345، وحسنه الألباني.
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال السيوطي في الإتقان 1/110: (وقد نزلت آيات في أسباب واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر وآية اللعان في شأن هلال بن أمية وحد القذف في رماة عائشة ثم تعدى إلى غيرهم).
والحمد لله رب العالمين.
([1]) تنبيه: هذا الشرح مستفاد من بعض شروح هذه المقدمة لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ومن مراجع أخرى، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.
([2]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص141 وما بعدها.
([3]) زاد المعاد 1/77- 79.
([4]) ينظر في الأحرف السبعة: دراسات في علوم القرآن الكريم ص370، وما بعدها.
([5]) ينظر: الإتقان 1/216.
([6]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص123.
([7]) ينظر: دراسات في علوم القرآن الكريم ص148، وما بعدها.