الدليل

2025-11-19 13:25:26

شرح الأربعين النووية لبرنامج دليل الأحاديث من 8-19 المجلس الثالث

 

شرح الأربعين النووية([1])

برنامج دليل

المجلس الثالث 14/7/1446ه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

(أمرت أن أقاتل الناس) الآمر له هو الله عز وجل.

والأمر بالقتال إنما يكون بعد الدعوة إلى الإسلام، وبيانه لهؤلاء الكفار.

والمراد بالناس هنا الكفار، والكفار منهم أهل ذمة، وهم اليهود والنصارى والمجوس، ومنهم من ليسوا من أهل الذمة، وهم بقية الكفار.

فأما أهل الذمة فيخيرون بين ثلاثة أمور: إما الإسلام، أو دفع الجزية مع الكف عنهم وبقائهم على دينهم، فإن أبوا الإسلام أو دفع الجزية قوتلوا.

وأما غير أهل الذمة من سائر الكفرة فإما أن يسلموا أو يقاتَلوا.

ولا يخفى أن أمر قتالهم راجع إلى ولي الأمر، وما يرى فيه من المصلحة.

(حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله . . .) أي حتى يشهدوا بألسنتهم معتقدين بقلوبهم، معلنين بها، فمن شهد بلسانه عُصم دمُه وماله، ونَكِلُ سريرته إلى الله عز وجل، ونكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.

حتى لو قالها وظاهر حاله أنه ما أراد الإسلام فإنه يكف عنه معاملةً له بالظاهر، كما جاء في قصة أسامة رضي الله عنه لما أراد قتل ذلك الكافر فقال: لا إله إلا الله. فظن أنه قالها خوفا من السيف فقتله، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله. فما زال يكررها عليه حتى قال أسامة رضي الله عنه حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) ظاهره أنه لا تعصم دماؤهم إلا إذا شهدوا الشهادتين وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، ولكن قد انعقد الإجماع على أنه لا يشترط في الكف عن قتال الكافر أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، بل يكفي النطق بالشهادة، كما تقدم في حديث أسامة رضي الله عنه.

فَإِذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَقَامَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَلَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةً قاتلهم الإمام على تركها.

وَأَمَّا قَتْلُ الْوَاحِدِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الصلاة، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَيَدُلُّ لذَلِكَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَقَالَ: " لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي ".

وَأَمَّا قَتْلُ الواحد الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فالجمهور أنه لا يقتل.

(إلا بحق الإسلام) يعني: إلا أن تباح دماؤهم وأموالهم بحق الإسلام، مثل: زنا الثيب، والقصاص وما أشبه ذلك، يعني: إلا بحق يوجبه الإسلام.

«وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " أي أن من نطق بالشهادتين فيعامل بمقتضى الظاهر، فيعصم دمه وماله، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا، أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وفي رواية لمسلم (1337) ذكر سبب هذا الحديث، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ "، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»

قوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أي ابتعدوا عنه، فكونوا في جانب وهو في جانب.

(وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) يعني افعلوا منه ما قدرتم عليه.

والفرق بين المنهيات والمأمورات: أن المنهيات قال فيها: فاجتنبوه ولم يقل ما استطعتم، ووجهه: أن النهي كف وكل إنسان يستطيعه، وأما المأمورات فإنها إيجاد قد يستطاع وقد لا يستطاع، ولهذا قال في الأمر: فأتوا منه ما استطعتم.

(فإنما أهلك من كان قبلكم) يعم جميع الأمم التي قبلهم، كاليهود والنصارى وغيرهم، فالذي أهلكهم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم.

واليهود أشد في كثرة المساءلة، ولذلك لما قال لهم نبيهم موسى عليه السلام: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) تعنتوا، وجعلوا يسألون: ما هي؟ وما لونها؟ . . إلخ ما قص الله علينا من خبرهم.

ويدخل في السؤال المنهي عنه السُّؤَالُ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعَبَثِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ ففِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}.

وَمِنْ ذَلِكَ السُّؤَالُ عَمَّا أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِ، كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنِ الرُّوحِ.

وَمن ذلك نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ، كما تقدم في السؤال عَنِ الْحَجِّ: هَلْ يَجِبُ كُلَّ عَامٍ أَمْ لَا؟

وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» لكن هذا قد زال بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

 «وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللِّعَانِ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى ابْتُلِيَ السَّائِلُ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِذَلِكَ فِي أَهْلِهِ»

«وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» .

ولا يدخل في النهي عن المسائل ما يحتاج الناس إليه، مما يشكل عليهم في أمور دينهم، فإنهم مأمورون بالسؤال، كما في قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)

وأما عند عدم الحاجة إلى معرفة حكم المسألة، كما لو كانت لم تقع بعد، فلا ينبغي السؤال عنها، ولهذا كره كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم السُّؤَالَ عَنِ الْحَوَادِثِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَكانوا لَا يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ، روي عن بعضهم إِذَا سُئِلَ، عَنِ الشَّيْءِ يَقُولُ: كَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُوهُ حَتَّى يَكُونَ.

 وإن كانت مما يتوقع وقوعه فلا حرج من السؤال عنها، ليكون عالما بالحكم إذا وقعت. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَسْأَلُونَهُ عَنْ حُكْمِ حَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، لَكِنْ لِلْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، كَمَا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَعَنْ طَاعَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَسَأَلَهُ حُذَيْفَةُ عَنِ الْفِتَنِ، وَمَا يَصْنَعُ فِيهَا.

(واختلافُهم على أنبيائهم) يعني وأهلكهم اختلافهم على أنبيائهم أي بمعارضتهم ومخالفتهم.

ففيه التحذير من مخالفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن مخالفته سبب للهلاك في الدنيا والآخرة.

وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان له استطاعة وقدرة، لقوله: (ما استطعتم) ففيه الرد على الجبرية الذين يقولون إن الإنسان لا استطاعة له، لأنه مجبر على عمله.

وفيه أن الإنسان إذا لم يقدر على فعل الواجب كله فيجب عليه أن يفعل منه ما يستطيع، فمثلا: من عجز عن بعض أركان الصلاة وقدر على بعضها الآخر، سقط عنه ما يعجز عنه، ولزمه أن يأتي بما يقدر عليه.

ومن عجز عن غَسل جميع البدن من الجنابة، وقدر على غَسل بعضه لزمه غَسل بعضه، وتيمم عن الباقي، وهكذا.

وفي الحديث حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما يحتج بالقرآن الكريم، فإن ما أمر به صلى الله عليه وسلم تجب طاعته، وما نهى عنه تحرم مخالفته.

وفيه التحذير من الاختلاف على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه سبب للهلاك، لأن الواجب اتباعهم لا الاختلاف عليهم.

فائدة: قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 249: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، تَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ جَوَابِ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ غَالِبًا، لِأَنَّ أُصُولَهَا تُوجَدُ فِي تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا)

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وقد تقدم أن أبا داود رحمه الله تعالى جعله ربع العلم.

"إن الله تعالى طيب" طيب بمعنى طاهر منزه عن النقائص، لا يعتريه النقص بأي حال من الأحوال، فهو عز وجل طيب في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، وفي كل ما يصدر منه، وليس فيها نقص بأي وجه.

وفيه إثبات اسم الطيب لله عز وجل.

"لا يقبل إلا طيبا" فهو سبحانه وتعالى، لا يقبل إلا الطيب من الأعمال، والعمل الطيب ما تحقق فيه الإخلاص والمتابعة.

 وكل ما ليس بطيب فهو مردود عند الله عز وجل، فلا يَقبل الله الشرك؛ لأنه ليس بعمل طيب، ولا يقبل الصدقة من مال حرام؛ لأنها ليست من مال طيب.

ولذا فمن دخل عليه مال حرام فيجب عليه أن يتخلص منه، فيخرجه من ماله ويصرفه في وجوه الخير بنية التخلص من هذا المال الحرام، لا بنية الصدقة، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.

ومن أمثلة ذلك نسبة الحرام في شركات المساهمة المختلطة، فيجب التخلص منها بصرفها في وجوه الخير ولا ينوي بها الصدقة، ولا يحل له أن ينتفع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع.

وإن كان هذا المال الحرام يُعرف مالكه، كالمال المسروق والمغصوب وجب رده إليه إن كان حياً أو لوارثه إن كان ميتا، ولو بطريق غير مباشر، فإن لم يَعرف المالك تصدق به بالنية عنه، فيكون لمالكه الأجر يوم القيامة، ثم إن ظهر مالكه يوما من الدهر خيَّره بين إمضاء الصدقة له، أو ردِّ المال له، فإن رد المال لمالكه صار أجر الصدقة لهذا الذي طهَّر ماله من الحرام.

"وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" فيه رفع لشأن المؤمنين، وأنهم أهل لأن يؤمروا بما أمر به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقال عز وجل في أمر المرسلين: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (المؤمنون: الآية51)

فأمر الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يأكلوا من الطيبات، والطيبات هي: التي أحلها الله عز وجل، واكتُسبت من طريق شرعي.

فإن لم يُحلَّها الله كالخنزير فإنه لا يحل أكله لأنه ليس من الطيبات، وإن أحله الله ولكن اكتسب عن طريق محرم كما لو سرق فواكه، فلا يحل أكلها، لأنها ليست من الطيبات.

" واعملوا صالحا " أي اعملوا عملا صالحا، والعمل الصالح ما جمع الإخلاص والمتابعة.

وقال تعالى في أمر المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (البقرة: الآية172) كما قال للرسل: (كلوا من الطيبات) فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.

وقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) المراد بالشكر العمل الصالح؛ لقوله تعالى في الآية الأولى: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) فدل على وجوب شكر النعم بالعمل بطاعة الله تعالى.

"ثم ذكر الرجل يطيل السفر " والسفر من أسباب إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث، وَمَتَى طَالَ السَّفَرُ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِ انْكِسَارِ النَّفْسِ بِطُولِ الْغُرْبَةِ عَنِ الْأَوْطَانِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَالِانْكِسَارِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ.

"أشعث أغبر" يعني أشعث في شعره أغبر من التراب.

وحُصُولُ التَّبَذُّلِ فِي اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ بِالشَّعَثِ وَالِاغْبِرَارِ مِنَ الْمُقْتَضِيَاتِ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ([2])، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» - صحيح الترغيب 3/252 - «وَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، خَرَجَ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا»

"يمد يديه إلى السماء" ومد اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» رواه أبو داود.

فرفع اليدين عند الدعاء مستحب، إلا ما ورد في الشرع عدم الرفع فيه.

وذلك أن رفع اليدين في الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما ورد فيه رفع اليدين، كما إذا دعا الخطيب باستسقاء، فإنه يرفع يديه والمأمومون كذلك، لما رواه البخاري في حديث أنس رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة أن يستسقي فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون.

ومما جاء في السنة رفع اليدين في القنوت في النوازل. وكذلك رفع اليدين على الصفا وعلى المروة، وفي عرفة، وما أشبه ذلك فالأمر في هذا واضح.

القسم الثاني: ماورد فيه عدم الرفع كالدعاء بغير الاستسقاء حال خطبة الجمعة، فلو دعا الخطيب للمؤمنين والمؤمنات في خطبة الجمعة فإنه لا يرفع يديه، لأنه خلاف السنة.

وكذلك رفع اليدين في دعاء الصلاة كالدعاء بين السجدتين، والدعاء بعد التشهد الأخير، وما أشبه ذلك، هذا أيضا أمره ظاهر.

القسم الثالث: ما لم يرد فيه الرفع ولا عدمه: فالأصل الرفع لأنه من آداب الدعاء ومن أسباب الإجابة، للحديث المتقدم: "إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا".

"يا رب يا رب" توسل في دعائه باسم من أسماء الله تعالى وهو الرب، والتوسل بأسماء الله تعالى في الدعاء من أسباب الإجابة.

 ثم كرر ذلك ومن أسباب الإجابة الإلحاح على الله تعالى.

قال ابن رجب: (وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَدْعِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَدَهَا غَالِبًا تُفْتَتَحُ بِاسْمِ الرَّبِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ).

"ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام([3])" أي طعامه وشرابه ولباسه وغذاؤه كله من الحرام إما لذاته أو لكسبه.

وغذي: ضبطها المؤلف في باب ضبط المشكل في آخر هذه الرسالة، فقال: (هو بضم الغين وكسر الذال المعجمة المخففة).

"فأنى يستجاب لذلك" أنى: اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني يبعد أن يستجاب لهذا، مع تعدد أسباب الإجابة في حقه كما تقدم.

وهذا يدل على خطر تناول الحرام، وأنه سبب لعدم إجابة الدعاء.

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ:

عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وعند الترمذي وَغَيْرِهِ زِيَادَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ " فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ " وقال في الإرواء: إسناده صحيح تحت رقم 12.

ولفظ ابن حبان: (الخير طمأنينة والشر ريبة) وصححه في الإرواء 7/155.

وقال عمر t: دعوا الربا والريبة. رواه ابن ماجه برقم 2276 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.

(عن الحسن بن علي) الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط النبي صلى الله عليه وسلم، والسبط: هو ابن البنت، وابن الابن يسمى: حفيدا.

وأما قوله: (وريحانته) الريحانة هي: الزهرة الطيبة الرائحة، وقد وَصف النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بأنهما ريحانتاه من الدنيا.

وقوله: "دع ما يريبك" أي اترك ما يلحقك به ريب وشك وقلق "إلى ما لا يريبك" أي إلى شيء لا يلحقك به ريب ولا شك ولا قلق.

وضبطها المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: (بفتح الياء وضمها لغتان، والفتح أفصح وأشهر، معناه: اترك ما شككت فيه واعدل إلى ما لا تشك فيه)

فهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو نافع للعبد إذا عمل به، فإن العبد يَعرض له في بعض أموره ما يجعله يتردد ويشك، فحينئذ يقال له: دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه. فيحصل له بذلك الاطمئنان والبراءة لدينه.

والْحَلَالَ الْمَحْضَ لَا يَحْصُلُ في قلب المؤمن منه رَيْبٌ، بَلْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَأَمَّا الْمُشْتَبِهَاتُ فَيَحْصُلُ بِهَا لِلْقُلُوبِ الْقَلَقُ وَالِاضْطِرَابُ الْمُوجِبُ لِلشَّكِّ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَرِعًا، تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ.

وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا شَيْءٌ أَهْوَنُ مِنَ الْوَرَعِ، إِذَا رَابَكَ شَيْءٌ، فَدَعْهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَسْهُلُ عَلَى مِثْلِ حَسَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبَ غُلَامٌ لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ إِلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَازِ: إِنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، فَاشْتَرِ السُّكَّرَ فِيمَا قِبَلَكَ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ، فَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلٌ فَإِذَا فِيمَا اشْتَرَاهُ رِبْحُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، قَالَ: فَأَتَى صَاحِبَ السُّكَّرِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ غُلَامِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ، فَلَمْ أُعْلِمْكَ، فَأَقَلَّنِي فِيمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ، وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ، قَالَ: فَرَجَعَ فَلَمْ يَحْتَمِلْ قَلْبُهُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَأُحِبُّ أَنَّ تَسْتَرِدَّ هَذَا الْبَيْعَ، قَالَ: فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: تَرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فِيمَا لَا تَرَوْنَ بِهِ الْيَوْمَ بَأْسًا.

وإذا دخل على المرء مال مشتبه فإنه يستحب له الصدقة به قاله ابن رجب رحمه الله تعالى.

ومن الأمثلة لما يرتاب فيه الإنسان:

إذا طرأ الشك بعد الفراغ من العبادة فإن الشك يترك، ولا يلتفت إليه، إلا أن يتيقن أنه أخل بالعبادة.

مثاله: من فرغ من صلاته ثم شك هل صلى أربع ركعات أو ثلاث؟ فيترك الشك، ولا يلتفت إليه، والأصل صحة صلاته، إلا أن يتقين أنه صلى ثلاثا فيلزمه الإتمام إن كان الفصل قصيرا، ويسجد للسهو، وإلا أعاد الصلاة.

وهذا ما لم يصل إلى حد الوسواس، فإن وصل إلى حد الوسواس فلا يلتفت إليه.

وعدم الالتفات إلى الوسواس هو ترك لما يريبه إلى ما لا يريبه، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - الشك إذا كثر فلا عبرة به، لأنه يكون وسواسا، وعلامة كثرته: أن الإنسان إذا توضأ لا يكاد يتوضأ إلا شك، وإذا صلى لا يكاد يصلي إلا شك، فهذا وسواس فلا يلتفت إليه، وحينئذ يكون قد ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.

 

وَينبغي التنبه إلى أَنَّ التَّدْقِيقَ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنِ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ كُلُّهَا، وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَأَمَّا مَنْ يَقَعُ فِي انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقِ الشُّبَهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَسْأَلُونَنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» .

الحديث الثاني عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» حديث حسن، رواه الترمذي وغيره.

هذا الحديث حكم عليه جماعة من الحفاظ بأنه مرسل، كما ذكره ابن رجب.

ولكن حسنه المؤلف رحمه الله تعالى، وحسنه شمس الدين ابن مفلح في الفروع 5/522.

أخرجه الإمام أحمد 1737، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

وأخرجه الترمذي 2318، وقال الألباني: صحيح لغيره.

وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب.

ومعنى الحديث: أن مَن حسُن إسلامه ترك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال؛ ومعنى يعنيه: أي يهمه، وتتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه.

 وليس المراد أنه يترك ما لا يعنيه بحكم هواه، وما تميل إليه نفسه، بل بحكم الشرع، ولهذا جعله من حسن الإسلام، فإذا حسن إسلام المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام الكامل يقتضي ترك ما لا يعني المرء في دينه، فيترك المحرمات والمشتبهات والمكروهات بل وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه.

وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: من عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه.

فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله، فيتجاوز فيه، ولا يتحرى.

وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله، فقد كمل حسن إسلامه.

وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسُن إسلامه وأنه تضاعف حسناته، وتكفر سيئاته، ففي " صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل»

فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النية فيه.

ولا يدخل في ترك ما لا يعني الإنسان أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لإخوانه، فإن هذا مما يعنيه لأن الإسلام أمر بذلك.

الحديث الثالث عشر

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» رواه البخاري ومسلم.

ولفظ مسلم برقم: 45: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).

قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي لا يتم إيمان أحدكم، فالنفي هنا للكمال والتمام، وليس نفيا لأصل الإيمان.

لأن عدم محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه، لا يخرج به من دائرة الإيمان، ولا يعتبر مرتدا، وإنما هو من باب النصيحة، فيكون النفي هنا نفيا لكمال الإيمان.

يبين ذلك رواية ابن حبان لهذا الحديث، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لنفسه من الخير" رواه ابن حبان 235. وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان 1/304.

فتبين بهذه الرواية أن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته.

وقوله: "حتى يحب لأخيه" (حتى) للغاية، يعني: إلى أن "يحب لأخيه"

وقوله: "لأخيه" أي المؤمن "ما يحب لنفسه" من الخير، ودفع الشر.

والمقصود أن من خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه، فقد نقص إيمانه بذلك.

ودليل وجوب هذه الخصلة أن الإيمان لا يُنفى إلا لفوات واجب فيه أو وجود ما ينافيه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما) أخرجه الترمذي.

ومحبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه لا تكون إلا ممن له قلب سليم لإخوانه المسلمين، لا يحمل لهم غشا ولا حقدا ولا غلا.

وفي الحديث التحذير من الحسد؛ لأن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يتمنى زوال نعمة الله عن أخيه المسلم.

وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة والنجاة من النار على هذه الخصلة؛ ففي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) رواه مسلم 1844.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» متفق عليه، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن، ويحزنه ما يحزنه.

ومما ورد عن السلف من محبتهم للناس ما يحبون لأنفسهم:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.

وقال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم، ولم ينسب إلي منه شيء.

الحديث الرابع عشر

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري ومسلم.

"لا يحل دم امرئ مسلم" أي لا يحل قتل المسلم، وكذا لا يحل قتل المرأة المسلمة، لأن الأحكام الشرعية تعم الرجل والمرأة إلا ما قام الدليل على تخصيص أحدهما بالحكم.  

وتحريم دم المسلم أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهو من الكبائر العظيمة، قال تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) (النساء: 93)

ولهذا أول ما يقضى بين الناس من حقوق العباد في الدماء كما جاء في الحديث.

وأما غير المسلم فإن كان معصوم الدم وهو الذمي والمعاهد والمستأمن، فلا يحل قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة) وإن كان غيرُ المسلم حربيا، وهو من ليس بينه وبين المسلمين ذمة ولا عهد ولا أمان فهو مباح الدم والمال.

"إلا بإحدى ثلاث" استثنى من تحريم قتل المسلم أن يكون واحدا من هؤلاء الثلاثة فيحل قتله.

وفي الحديث حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث عمد إلى التقسيم في قوله: (بإحدى ثلاث)؛ لأن التقسيم يحصر المسائل ويجمعها وهو أسرع حفظا وأبطأ نسيانا.

"الثيب الزاني" الثيب هو: الذي جامع في نكاح صحيح، فإذا زنا بعد أن أنعم الله عليه بنعمة النكاح الصحيح صار مستحقا للقتل، بأن يرجم حتى الموت بالإجماع.

ومفهوم قوله "الثيب" أن البكر لا يحل دمه إذا زنا، وهو الذي لم يجامع في نكاح صحيح.

وفي صحيح مسلم عن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .

"والنفس بالنفس" المقصود به القصاص، أي أنه إذا قتل إنسان إنسانا عمدا عدوانا قتل به عند توفر الشروط التي يذكرها الفقهاء.

وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}

ويدخل في عموم الآية قتل الرجل بالمرأة والمرأةِ بالرجل؛ لأنها نفس بنفس، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قتل يهوديا قتل جارية.

ويستثنى من عموم قوله: {النفس بالنفس} صور، منها:

  • أن يقتل الوالد ولده، فالجمهور على أنه لا يقتل به.
  • أن يقتل الحر عبدا، فالجمهور على أنه لا يقتل به.
  • أن يقتل المسلم كافرا، فإن كان حربيا، لم يقتل به بغير خلاف، لأن قتل الحربي مباح بلا ريب، وإن كان ذميا أو معاهدا، فالجمهور على أنه لا يقتل به أيضا، وفي " صحيح البخاري " عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل مسلم بكافر» .

"والتارك لدينه" أي المرتد بأي نوع من أنواع الردة.

"المفارق للجماعة" هذا عطف بيان، يعني أن التارك لدينه مفارقٌ للجماعة خارج عنها.

وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بدل دينه فاقتلوه».

قال ابن رجب: (والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين).

ومن حل دمه في الشرع فليس لكل أحد من الناس أن يقتله، بل ذلك خاص بولي الأمر أو نائبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، ولئلا يكون الأمر فوضى.

الحديث الخامس عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» رواه البخاري ومسلم.

«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» " يدل على أن هذه الخصال الثلاث المذكورة في الحديث من خصال الإيمان، والأعمال داخلة في مسمى الإيمان.

فأول هذه الخصال: أن يقول الخير، وأن يصمت عما سواه.

وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) رواه الإمام أحمد 13048، وحسنه الألباني في الصحيحة 2841.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» رواه الترمذي 2501، وصححه الألباني.

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» .

وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليقل خيرا أو ليصمت) أمر بقول الخير، وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، بل إما أن يكون خيرا، فيكون مأمورا بقوله، وإما أن يكون ليس بخير، فيكون مأمورا بالصمت عنه.

وقول الخير نوعان:

  1. خير لذاته: كذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم ونحو ذلك.
  2. خير لغيره: كالتحدث بالكلام المباح مع والديه لإدخال السرور عليهما، فهذا الكلام يعد من الخير المأمور به؛ لما يترتب عليه من المصلحة.

أما القول الذي ليس بخير لذاته ولا لغيره فهو مأمور بالصمت عنه، فيدخل في ذلك الكلام المحرم والمكروه، ويدخل فيه أيضا المباح الذي لا حاجة إليه في أموره وحوائجه، فالسكوت عن هذا الكلام أفضل من التكلم به؛ لأن الكلام المباح ربما جره إلى الوقوع في الكلام المنهي عنه، كما هو واقع عند كثير من الناس.

ولأن الإكثار من الكلام المباح بلا حاجة يوجب قسوة القلب.

وقد روي في الأثر: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه.

وقد قال الله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وقد حكى ابن رجب إجماع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات.

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد.

وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان.

وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحِكمة الصمت.

وليس الكلام مأمورا به على الإطلاق، ولا السكوت مأمورا به على الإطلاق، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر.

وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيهما أفضل الصمت أو النطق؟ فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه.

وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصامت على علم كالمتكلم على علم، فقال عمر: إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلَهما يوم القيامة حالا، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق؟ فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا.

 

الخصلة الثانية المأمور بها في هذا الحديث: إكرام الجار، وفي رواية في البخاري 5185، ومسلم 47: "فلا يؤذي جاره"، وفي رواية في البخاري 6138: (فليصل رحمه) بدل: (فليكرم جاره).

ويدخل في إكرام الجار، إكرامه بالكلام الحسن، والبشاشة عند اللقاء، وإكرامه بالطعام والهدية، وحفظه في ماله وأهله، وعدم أذيته، وما أشبه ذلك مما يعد في العرف إكراما.

وكلما كان الجار أقرب كان حقه أعظم.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الظاهر أنه يشمل حتى جاره في المتجر، كجارك في الدكان مثلا، لكن هو في جار البيت أظهر.

فأما أذى الجار، فمحرم فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، وهو في حق الجار أشد تحريما.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أيسرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ) . . . وقَالَ: (لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرق من بيت جاره) رواه البخاري في الأدب المفرد ص57، وصححه الألباني.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه».

وروى الإمام أحمد 9675، أن رجلا قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: " هِيَ فِي النَّارِ " وصححه الألباني في الصحيحة 190.

وفي " الصحيحين " عن عائشة وابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» .

وفي الترمذي «عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة، فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار ظننت أنه سيورثه» " فإذا كان هذا في حق الجار اليهودي فكيف بالمسلم.

ومن حسن الجوار أن يصبر على أذاه، فعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: " ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ . . . - وذَكَر منهم - الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ " رواه الإمام أحمد 21340، وصححه الألباني في صحيح الجامع 3074.

الخصلة الثالثة مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إكرام الضيف، والمراد إحسان ضيافته، ويدخل في ذلك إكرامه بالكلام الحسن والبشاشة، والطعام والشراب وما أشبه ذلك مما يعد إكراما في العرف.

والضيف: المسافر الذي ينزل بك، فهذا ضيف يجب إكرامه.

والوجوب مقيد عند بعض الفقهاء بما إذا كان في القرى أي المدن الصغيرة، أو على أهل الخيام، وأما في الأمصار والمدن الكبيرة فلا يجب، لأن هذه فيها المطاعم والفنادق التي يأوي إليها المسافر، أما القرى الصغيرة التي لا يوجد ذلك فيها فتجب ضيافته.

والواجب في الضيافة يوم وليلة، وتمام ثلاثة أيام مستحب.

 ففي " الصحيحين عن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته قالوا: وما جائزته؟ قال: " يوم وليلة " قال: والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك، فهو صدقة».

الحديث السادس عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: «لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب» رواه البخاري.

هذا جاء بعدة روايات، منها رواية الترمذي أن الرجل قال: يا رسول الله، علِّمني شيئاً ولا تُكثر عليَّ، لَعَلِّي أعيَه، قال: ((لا تَغْضَب)) ، فردد ذلك مراراً، كلُّ ذلك يقول: ((لا تغضب)) (2020)

وفي رواية للإمام أحمد أن الرجل: سأل النَّبيَّ r: ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل -؟ فقال النبي r: ((لا تَغْضَب)) . وحسنه الألباني في صحيح الترغيب 3/45

وفي رواية للطبراني أن الرجل قال: دلني على عمل يدخلني الجنة؟ فقال النبي r: (لا تغضب، ولك الجنة) قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح. وقال الألباني في صحيح الترغيب 3/46: صحيح لغيره.

فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ r أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها؛ لكثرتها، فوصَّاه النَّبيُّ r أنْ لا يغضب، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً، والنَّبيُّ r يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير.

فإن المرء إذا غضب دعاه غضبه إلى كثير من الأفعال والأقوال المحرمة، كالقتل والضرب والعدوان على غيره، والسب والقذف وفحش القول، بل ربما وصل به الحال أن ينطق بالكفر عياذا بالله.

ويشهد لهذا المعنى أن رجلا من أصحاب النبي r قال: قلتُ: يا رسولَ الله أوصني، قال: ((لا تَغْضَبْ)) قال الرجل: ففكرتُ حين قال النَّبيُّ r ما قال، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه. رواه الإمام أحمد. – قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب 3/45 –

ودل هذا الحديث برواياته على وصية النبي r وتأكيده بترك الغضب، وأنه مما يباعد العبد عن غضب الله، وأنه سبب لدخول الجنة.

قال جعفر بنُ محمد: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ. وقيل لابنِ المبارك: اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضبِ. وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغضب، والطمع.

ومعنى قوله r: ((لا تَغْضَبْ)) أي تخلَّق بمحاسن الأخلاق، من الكرم والحِلم والحياء، والتواضع وكف الأذى والصفح والعفو، وغيرها من كريم الخصال، فإن من تخلَّق بها، أوجب له ذلك دفعَ الغضب عند حصول أسبابه، والتحرزَ منه قبل وقوعه.

ويدخل في معنى الحديث، أن من وقع منه الغضب، فليجاهد نفسه في ألا يعمل بما يمليه عليه غضبه، من الانتقام والانتصار للنفس، فإن الغضب إذا مَلَك الإنسان، صار كالآمر الناهي له، فمن جاهد نفسه عند الغضب اندفع عنه شره.

وقد أثنى الله على عباده المؤمنين فقال: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) وقال سبحانه: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) 

ومن الأسباب المعينة على دفع الغضب، وتسكينه بعد وقوعه:

  •  أن يستعيذ الغاضب من الشيطان الرجيم، فعن سليمانَ بن صُرَد t قال: استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ r ونحنُ عنده جلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضباً، قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النَّبيُّ r: ((إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها لذهبَ عنه ما يجد، لو قال: أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم)) متفق عليه.
  • ومن أسباب تسكين الغضب، أن من غضب وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضجع، لما روى أبو ذرٍّ t أنَّ النَّبيِّ r قال: ((إذا غَضِبَ أحدُكُم وهو قائِمٌ، فَلْيَجْلِسْ، فإنْ ذَهَبَ عَنه الغضبُ وإلا فليَضطجعْ)) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 3/908. والحكمة في ذلك والله أعلم، أن القائم متهيِّئ للانتقام، والجالس أبعد عن الانتقام، والمضطجع أكثر منه بعدا.
  • ومن أسباب تسكين الغضب، أن يسكت الغاضب عن الكلام لما روى ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ r قال: ((إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ، فليَسْكُتْ)) رواه الإمام أحمد. وصححه الألباني في صحيح الجامع (693)

وهذا دواء عظيم للغضب؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه، من القول ما يندم عليهِ بعد زوال غضبه، من السِّباب وغيره، فإذا سكت سلم من ذلك كله.

  • ومما يعين على تسكين الغضب بعد وقوعه، أن يتذكر المرء ما ورد في فضل مَلْك النفس وكظم الغيظ عند الغضب، فعن أبي هُريرة t عن النَّبيِّ r قال: ((لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ)) متفق عليه.

 وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تغضب ولك الجنة)

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله r: (ما من جُرعة أعظم أجرا عند الله، من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله) رواه ابن ماجه. قال المنذري في الترغيب: ورواته محتج بهم في الصحيح. وقال الألباني في صحيح الترغيب 3/47: صحيح لغيره.

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ r عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ» رواه الترمذي (2021) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ  وقال الألباني في صحيح الترغيب 3/48: حسن لغيره.

 

وهدي النبي r في الغضب أكملُ الهدي، فكان لا يغضب وينتقِمُ لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله، لم يَقُمْ لِغضبه شيء، وخدمه أنس t عشرَ سنين، فما قال لشيء فعله: ((لم فعلت كذا)) ولا لشيء لم يفعله: ((ألا فعلت كذا)) .

ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ t قَولَ القائل فيه: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه r وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أنْ قال: ((قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر)) متفق عليه .

وكان r إذا رأى، أو سَمِعَ ما حرمه الله، غَضِبَ لذلك، وقال فيه، ولم يَسْكُتْ، وقد دخل بيتَ عائشة t فرأى ستراً فيه تصاويرُ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه، وقال: ((إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذاباً يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ)) متفق عليه. ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه، غَضِبَ، واشتد غضبُه، ووَعَظَ النَّاسَ، وأمر بالتَّخفيف. رواه مسلم.

وكان من دعائه r: ((أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا)) رواه النسائي، وهذا عزيز جداً في الناس، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يبالي يما يقول.

الحديث السابع عشر

 عن أبي يعلى شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . رواه مسلم.

(إن الله كتب الإحسان على كل شيء) كتابة الله تعالى نوعان: كتابة قدرية، وكتابة شرعية.

الكتابة القدرية لابد أن تقع، والكتابة الشرعية قد تقع من بني آدم وقد لا تقع.

مثال الأول: قول الله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فهذه كتابة قدرية.

ومن الكتابة الشرعية قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) أي كتب شرعا.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) هذا من الكتابة الشرعية، وهي التي يتجه الخطاب فيها للمكلفين، ولهذا مثَّل النبي r في هذا الحديث بمثال يتعلق بالمكلفين، وهو قوله r: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة . . .).

و(على) في قوله r: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) بمعنى (في).

فيكون معنى الحديث: إن الله تعالى أوجب الإحسان في كل شيء؛ لأن لفظ: كتب. يدل على الوجوب، كما في قوله سبحانه: (كتب عليكم الصيام).

وقد أمر الله عباده بالإحسان، وحثهم عليه ورغبهم فيه في عدة آيات، فقال سبحانه: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وأخبر أن المحسنين ينالون محبته، كما في قوله تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). وقال جل وعلا: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والمحسنون هم أهل معية الله عز وجل، معيةِ النصر والحفظ والتأييد كما في قوله سبحانه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

ولذا فقد تَسَمَّى ربنا جل جلاله وتقدست أسماؤه باسم المحسن، فعن أَنَسٍ t عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ الإِحْسَانَ فَإِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَإذا قلتم أحسنوا) رواه ابن عدي في الكامل 7/307، وقال الألباني في الصحيحة (469): إسناد جيد.   

والإحسان المأمور به على مرتبتين: إحسان واجب كالإحسان إلى الوالدين ببرهما، والإحسان إلى الأرحام بصلتهم، وتارة يكون الإحسان مستحبا، كالإحسان إلى الفقير بصدقة التطوع عليه.

والإحسان يكون في كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات: الإتيان بها بتكميل شروطها وأركانها وواجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب.

والإحسان فيما يتعلق بالمحرمات: يكون بالكف عنها، كما قال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه}. فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.

والإحسان في الصبر على ما قدر الله تعالى، فيكون بالصبر عليها من غير تسخط ولا جزع.

والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله.

فيحسن في معاملته صالحي المؤمنين، ويحسن للفساق من هذه الأمة، بل ويحسن للكفار، بأن يعامل الجميع على وفق شريعة الله عز وجل.

والإحسان الواجب في حق من له ولاية على الناس، يكون بالقيام بواجب الولاية من العدل بين الناس وإعطائهم حقوقهم.

والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان مستحب.

ومن الإحسان الإحسان في القول، بأن يتكلم بالكلام الحسن ويُحجم عن الكلام القبيح، لقوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) بل يتحرى في كلامه أحسن ما يمكنه، لقول الله تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن).

والإحسان يكون بما وافق الشرع وإن كان فيه تغليظ، كما في إقامة الحدود الشرعية فإنها إحسان؛ لما يترتب عليها من المصالح العظيمة ودرء المفاسد الكبيرة، وإن كان في إقامة الحد إضرار بالمحدود، وكذا قتل ما أمر الشرع بقتله من آدمي أو حيوان هو في الحقيقة إحسان؛ لما في قتله من المصالح ودرء المفاسد.

وبهذا يتبين أن قوله r في هذا الحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) من جوامع كلمه r، لجمعه المعاني الواسعة في جملة واحدة، وهو قاعدة من قواعد الدين؛ لأن الإحسان المأمور به يعم الإحسان في أمور الدين والدنيا.

(فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة) هذا مثال على الإحسان، وهو الإحسان عند قتل من يستحق القتل من آدمي أو بهيمة، وذلك بأن يُقتل بما يكون أسرعَ في إزهاق روحه، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ إِيلَامٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.

والقِتلة والذِّبحة بالكسر، أي الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة القتل، وهيئة الذبح.

والأمر هنا للوجوب، فدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة.

ولهذا المعنى فقد نهى النبي r عن القتل بالنار؛ لما فيه من التعذيب، ففِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» . وقال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه البخاري.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصبر البهائم. وهو: أن تُحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت، وفيهما أيضا، «عن ابن عمر: أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا» .

وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، وهي الوسيلة الشرعية الأشهر، فغالب من يستحق القتل يكون قتله شرعاً بهذه الوسيلة، حتى قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (القتل إذا أُطلق في لسان الشرع، كان قتلاً بالسيف)([4])

 فإن تعذر استعمال السيف ينتقل إلى وسيلة أخرى يتحقق بها إحسان القتل، والمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة من الأطباء.

(وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة) أي عند تذكية البهيمة، فهو مأمور بإحسان الذبح، ولذا قال:

(وليُحِد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) لأن الذَّبْحَ بِالْآلَةِ الْحَادَّةِ يُرِيحُ الذَّبِيحَةَ بِتَعْجِيلِ زُهُوقِ نَفْسِهَا.

ويدل له أيضا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم - أمر بحَدِّ الشِّفار – أي السكاكين - وأن توَارى عن البهائم، "وإذا ذَبح أحدكم فليجْهِزْ". يعني فليسرع الذبح. رواه أحمد (5864) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. ورواه البيهقي في الكبرى برقم (19139) وقال بعده: كَذَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ مَوْصُولًا جَيِّدًا. وصححه الألباني في الصحيحة برقم (3130).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضعٍ رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: (أفلا قبل هذا، أتريد أن تميتها موتتين) رواه البيهقي في الكبرى، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (24).

والأمر في قوله: (وليحد أحدكم شفرته) للوجوب، لأنه يتحقق به إحسان القتل المأمور به، فإن ذَبَح بسكين كالَّة أي ليست حادة، ولكن قطع ما يجب قطعه فالذبيحة حلال لكنه آثم حيث لم يحد الشفرة.

فائدة: ذكر الخطابي في معالم السنن 4/183 في شرح حديث: (وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء) أن الله تعالى قد ألهم الحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالاستغفار للعلماء مجازاة لهم على حسن صنيعهم، بأن أمرو الناس بما أمر به الشرع من الإحسان إلى الحيوان والرفق به، وعدم إضراره.  

الحديث الثامن عشر

عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.

هذا حديث عظيم اشتمل على وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده.

وقد ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاث جمل:

الأولى: (اتق الله حيثما كنت) "اتق الله" أي اتخذ وقاية من عذاب الله عز وجل، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

وعرف طلق بن حبيب رحمه الله تعالى التقوى بقوله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

وأعلى درجات التقوى أن يفعل المرء الواجبات، ويترك المحرمات والشبهات، ويفعل المندوبات، ويترك المكروهات.

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام.

وقال ميمون بن مهران: المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}، قال: أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر، فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر.

فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى»

ومن لازم التقوى العلم بما يُتقى، فالجاهل لا يحسن أن يتقي الله تعالى لجهله، فقد يقع في الحرام ويترك الواجب.

" حيثما كنت" حيث: ظرف مكان، أي في أي مكان كنت، سواء أكنت في السر أم في العلانية.

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة)

والجملة الثانية: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها" أي إذا زلت بك القدم وفعلت سيئة فأتبعها بحسنة، فإنها تمحوها.

فدل هذا الحديث على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن تلك الحسنة هي التوبة، ويدل له أيضا قوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ فَنَزَلَتْ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} متفق عليه، وهذا يدل على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن الحسنة التوبة.

وهذا من فضل الله تعالى على عباده، أن يسر لهم تكفير السيئات بعدة طرق، فتكفر السيئة بالتوبة منها، وبالحسنات التي تمحوها، وبرحمة الله تعالى، وبغير ذلك.

وظاهر الحديث أنه لا يشترط لكون الحسنة تمحو السيئة أن ينوي بفعل الحسنة محو السيئة التي فعلها، بل بمجرد فعل الحسنة تمحى السيئة، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.

الجملة الثالثة: " وخالق الناس بخُلُق حسن" أي عامل الناس بالأخلاق الفاضلة قولا وفعلا.

والخُلُق الحسن عُرِّف بأنه كف الأذى، وبذل الندى، والصبر على الأذى وطلاقة الوجه.

من كف أذاه عن الناس، وبذل لهم العطاء من الخير، وصبر على أذاهم، وقابلهم بوجه طلق، فهو ممن اتصف بحسن الخُلق.

والخلق الحسن من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، فهو داخل في الجملة الأولى: (اتق الله حيثما كنت) وإنما أفرده بالذكر لأجل العناية به، لأنه قد يُظَن أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده، كما أن بعض من يقوم بحق الله تعالى والإقبال عليه والاشتغال بطاعته يقع منه شيء من التقصير في حقوق العباد، ولهذا قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (الجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين).

وقد ورد في فضل حُسن الخلق أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا) رواه الترمذي 2018، وصححه الألباني.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» رواه أبو داود 4798، وصححه الألباني.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» أخرجه الترمذي.

والخلق الحسن قد يكون جبليا، وقد يكون مكتسبا.

فبعض الأخلاق تكون جبلية في الإنسان، بمعنى أن الله تعالى يخلقه على هذا الخُلق الحسن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة" قال: يا رسول الله أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: "بل جبلك الله عليهما" قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب.

وقد يكون الخُلق مكتسبا، فيسعى الإنسان ويجاهد نفسه على تحسين خُلقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري 1469، ومسلم 1053.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) رواه الطبراني في الأوسط 2663، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2328.

الحديث التاسع عشر

«عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» .

رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وفي رواية غير الترمذي: «احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» .

هذا الحديث رواة الترمذي 2516 كما قال المؤلف رحمه الله تعالى، ونقل قوله: حديث حسن صحيح.

وقال ابن رجب: عن رواية الترمذي إنها حسنة جيدة.

وصححه الألباني.

وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً، وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ.

وقد أفرده ابن رجب بالشرح في رسالة بعنوان: نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس. وهي مطبوعة.

" يا غلام" لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيرا آنذاك، فكان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد ناهز الاحتلام.

وفيه ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم للصغار، وعنايته بتعليمهم ما ينفعهم.

"إني أعلمك كلمات" أي جمل، فإن الجملة يطلق عليها كلمة، ولهذا يقال في: لا إله إلا الله. كلمة الإخلاص، كما قال ابن مالك في ألفيته:

وكِلمة بها كلام قد يؤم.   أي يقصد.

وفيه حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أتى بكلام مجمل (أعلمك كلمات) ليتشوف المخاطب إلى ما بعده، فيكون أبلغَ في ثبوت العلم.

"احفظ الله يحفظك" أي احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن لازم ذلك أن يكون على علم بما يفعل ويترك، فإذا حفظت الله تعالى فإنه يحفظك؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

 وعُلم من هذا أن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه الله عز وجل.

وَحِفْظُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، يَدْخُلُ فِيهِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ، كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّوْا عَنْهُ.

فمَن حفظ الله حفظه الله من كل أذى.

وَمِن حِفظ اللَّهُ تعالى لعبده الصالح أن يحفظه في ذريته بعد موته، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا.

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ: لَأَزِيدَنَّ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِكَ، رَجَاءَ أَنْ أُحْفَظَ فِيكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.

النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ حفظ الله تعالى لعبده، وهو أعظم من الأول: حِفْظُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ، وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِيمَانِ.

"احفظ الله تجده تجاهك" احفظ الله: تقدم بيان معناها، ومعنى: تجده تجاهك. يعني تجد الله عز وجل أمامك، فهو معك يدلك على كل خير، ويهديك إليه، ويصرف عنك كل شر.

وهذه المعية الخاصة كما قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة.

أما المعية العامة فهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {يستخفون من الناس وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وتَقْتَضِي عِلْمَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِمْ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِتَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْهُ.

"إذا سألت فاسأل الله" إذا سألت حاجة فلا تسأل إلا الله عز وجل ولا تسأل المخلوق شيئا.

وفي حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ألا يسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ. رواه مسلم 1043.

وإذا قُدِّر أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عز وجل لو شاء لمنعه من إعطائك ما سألته.

أما من كان محتاجا، ولم يجد بداً من سؤال الناس، لفقرة أو عجزه عن الكسب، أو كان كسبه لا يفي بحاجته، جاز له السؤال، لكن لا يأخذ من المال إلا بقدر ما تندفع به حاجته، لما روى قبيصة بنُ مخارق t أن النبي r قال له: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمَّل حَمالة – أي دينا - فحلَّت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قِواما من عيش . . . ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش . . . فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا" رواه مسلم 1044.

ومع جواز السؤال عند الحاجة إلا أن الأولى أن يتعفف المؤمن عن سؤال الناس قدر الإمكان، وأن يستغني بالله تعالى، ويُعظِم رجاءه به وتوكله عليه، وسؤاله وحده، فعنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري 1469 ومسلم 1053.

"وإذا استعنت فاستعن بالله" أي وإذا طلبت العون فلا تطلبه إلا من الله عز وجل، لأنه الذي بيده كل شيء.

وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه فاعتقد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك.

وقوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّ السُّؤَالَ هُوَ دُعَاؤُهُ سبحانه، وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، كما جاء في الحديث.

"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك"

الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله عز وجل ونعلم أن الأمة جميعا لا يجلبون لنا خيرا إلا بإذن الله عز وجل.

"وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" وعلى هذا فإن نالك ضرر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك، فارض بقضاء الله وقدره، وهذا لا يمنع أن يسعى الإنسان في دفع الضرر عن نفسه، والمطالبة بحقه إذا ظُلم.

"رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف" يعني أن ما كتبه الله عز وجل قد فرغ منه منذ زمن بعيد، فالأقلام رفعت والصحف جفت من المداد، ولا تبديل لكلمات الله.

ويدل لذلك حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " رواه مسلم 2653.

"وفي رواية غير الترمذي: احفظ الله تجده أمامك" وهذا بمعنى "احفظ الله تجده تجاهك" وقد تقدم بيان معناه.

"تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" يعني قم بحق الله عز وجل في حال الرخاء وفي حال الصحة وفي حال الغنى يعرفك في الشدة إذا زالت عنك الصحة وزال عنك الغنى واشتدت حاجتك، عَرَفك بما سبق منك من الطاعة التي تعرَّفتَ بها إلى الله عز وجل فَنَجَّاك مِنَ الشَّدَائِدِ، وَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ.

وَفُسِّر قول الله عز وجل في قصة يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، قِيلَ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الرَّخَاءِ.  قاله غير واحد من المفسرين، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ([5]).

وعن قتادة (فلولا أن كان من المسبحين) كان كثير الصلاة في الرخاء، فنجاه الله بذلك([6]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» رواه الترمذي 3382، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ» وحسنه الألباني.

"واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك" أي واعلم أن ما قدَّر الله تعالى ألا يصيبك فلن يصيبك، وما قدر أن يصيبك فلا بد أن يصيبك، لأن ما قدره الله تعالى لا بد من وقوعه، فالأمر كله بيد الله سبحانه، وهذا فيه التسليم التام لما يقع على العبد من قدر الله عز وجل.

وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}  

وفيه تسلية للعبد عند وقوع المصيبة، فإن (ما أصابك لم يكن ليخطئك) وتسلية له عند فوات ما يحب، لأن (ما أخطأك لم يكن ليصيبك).

وإذا وقعت المصيبة فإن للمؤمن بالقضاء والقدر درجتين:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْضَى بما قدَّر الله عليه من البلاء، وَهِيَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ جِدًّا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ عَلْقَمَةُ: هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى.

وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ، فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» .

وَمِمَّا يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَقْضِ قَضَاءً، إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ " رواه الإمام أحمد 12160، وقال محققو المسند: حديث صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع 3985.

فَالرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ.

وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا، فَالرِّضَا مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَفِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ جَزِيلَ الْأَجْرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: الرِّضَا عَزِيزٌ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ.

"واعلم أن النصر مع الصبر" هذا فيه الحث على الصبر، وأن الصابر موعود بالنصر.

وَهَذَا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، وَهُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ، هُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فَإِنَّ جِهَادَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ» .

فَمَنْ صَبَرَ فِيهِمَا، نُصِرَ وَظَفِرَ بِعَدُوِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فِيهِمَا وَجَزِعَ، قُهِرَ وَصَارَ أَسِيرًا لِعَدُوِّهِ أَوْ قَتِيلًا لَهُ.

"واعلم أن الفرج مع الكرب" الفرج: انكشاف الشدة، فكلما اكتربت الأمور فإن الفرج قريب، لأن الله عز وجل يقول في كتابه: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)

وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} وَقَالَ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «وإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» " هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}

 فكل عسر يعقبه يسر، بفضل الله تعالى ورحمته بعباده. قال الله تعالى: (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا).

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

([1]) تنبيه: هذا الشرح المتواضع مستفاد من عدة شروح لأهل العلم، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([2]) في النهاية (طمر): (الطِّمْر: الثوبُ الخَلَق).

([3]) قال الطيبي في شرح المشكاة 7/2097: (ذكر قوله: ((وغذى بالحرام)) بعد قوله: ((ومطعمه حرام)) إما لأنه لا يلزم من كون المطعم حرامًا التغذية بها، وإما تنبيهًا به علي استواء حاليه، أعني كونه منفقًا في حال كبره، ومنفقًا عليه في حال صغره في وصول الحرام إلي باطنه، فأشار بقوله: ((ومطعمه حرام)) إلي حال كبره، وبقوله: ((وغذى بالحرام)) إلي حال صغره، وهذا دال علي أن لا ترتيب في الواو، وذهب المظهر إلي الوجه الثاني.

أقول: ولعل العكس أولي؛ لأن قوله: ((وغذى)) وقع حالًا، وهو فعل ماض؛ فلابد من تقدير ((قد)) ليقرب التعدية إلى قول المقدر في ((يا رب)) كما سبق. وكذا قوله: ((ومطعمه وملبسه)) حالان منه، وهما جملتان اسميتان تدلان علي الثبوت والاستمرار، كأنه قيل: يقول: يارب! وقد قرب قوله ذاك بتغذيته بالحرام، وكذا حاله أنه دائم الطعم واللبس من الحرام. وخص من الأزمنة المستمرة زمان حال الدعاء، ومن المذكورين الطعم دون اللبس؛ لأن الطعم أبلغ من اللبس، وفي هذا الزمان أشنع، وإنما قلنا: إنه أبلغ؛ لأنه يصير جزء المغتذي؛ ولذلك عدل عن الطعم إلي التغذية).

     وفي شرح الأربعين لابن عثيمين ص144: ("ومطعمه حرام" يعني طعامه الذي يأكله حرام، أي حرام لذاته أو لكسبه. "ومشربه حرام" يعني شربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه. "وغذي بالحرام" يعني أنه تغذى بالحرام الحاصل من فعل غيره).

([4]) المغني 9/148.

([5]) تفسير ابن كثير.

([6]) الصحيح المسبور 4/211.

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله