الدليل

2025-11-19 13:39:19

شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية المجلس 2

شرح لامية شيخ الإسلام

برنامج دليل 1446هـ

المجلس الثاني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الناظم رحمه الله تعالى:

قُبْحاً([1]) لمنْ نَبَذ القُرَانَ وراءَهُ        وإذا استدلَّ يقولُ قالَ الأخْطَلُ

أي قبَّح الله من ينبذ كتاب الله تعالى وراءه، ولا يحتج به، وإذا استدل على هذه المسائل العظام، ومنها صفات الله تعالى يستدل بقول الأخطل.

والأخطل هو غياث بن غوث التغلبي النصراني، شاعر زمانه، فاق أقرانه في الشعر، توفي سنة 92هـ([2]).

قال ابن كثير في البداية والنهاية 9/290: (وَكَانَ الْأَخْطَلُ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ * مِنْ غَيْرِ سيف ودم مهراق

وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكَلِم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً.

فإنه إنما يقال استوى على الشيء إذ كان ذلك الشيء عاصياً عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفساً واحداً، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 5/146: (لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:

ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق

ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد عُلِم أنه لو احتج بحديث رسول الله ﷺ لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يُعرف إسناده، وقد طعن فيه أئمة اللغة؛ وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه «الإفصاح» قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب؛ ولا هو جائز في لغتها. وهو إمام في اللغة على ما عُرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل).

وأيضا احتج أهل البدع بقول الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما    جُعِل اللسانُ على الفؤاد دليلا

فاستدل به الأشاعرة على أن كلام الله تعالى هو الكلام النفسي، أي الكلام الذي يكون في النفس، أما القرآن الذي نتلوه، والذي بين دفتي المصحف فهو عندهم مخلوق، فوافقوا المعتزلة في أنه مخلوق، تعالى الله عن ذلك علوا عظيما.

والعجب من هؤلاء يتركون النصوص الصريحة الكثيرة الدالة على أن القرآن كلام منزل غير مخلوق، ثم يحتجون بكلام شاعر نصراني على هذه المسألة العظيمة من مسائل الاعتقاد، مع أنهم لا يرون الاحتجاج بحديث الآحاد في العقائد، ولو كان مخرجا في الصحيحين البخاري ومسلم، ولا شك أن هذا من التناقض، ومن اتباع الهوى، نسأل الله تعالى العافية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 6/296: (ولهذا كان مما يشنع به على هؤلاء أنهم احتجوا في أصل دينهم ومعرفة حقيقة الكلام - كلام الله وكلام جميع الخلق - بقول شاعر نصراني يقال له الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقد قال طائفة: إن هذا ليس من شعره وبتقدير أن يكون من شعره فالحقائق العقلية أو مسمى لفظ الكلام الذي يتكلم به جميع بني آدم لا يرجع فيه إلى قول ألف شاعر فاضل دع أن يكون شاعرا نصرانيا اسمه الأخطل، والنصارى قد عُرف أنهم يتكلمون في كلمة الله بما هو باطل والخطل في اللغة هو الخطأ في الكلام وقد أنشد فيهم المنشد:

قبحا لمن نبذ القرآن وراءه ... فإذا استدل يقول قال الأخطل).

قال الناظم:

والمؤمنون يرون حقاً ربهم         وإلى السماء بغير كيف ينزل

في هذا البيت مسألتان من مسائل العقيدة:

المسألة الأولى: رؤية الله تعالى:

فالمؤمنون بالله عز وجل يرون الله تعالى يوم القيامة في الجنة رؤية حقيقية لا مجازا، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، أن الله تعالى يُرى يوم القيامة في الجنة، يراه المؤمنون، وهو أعظم نعيم أهل الجنة، وهذا متفق عليه بين السلف، ودلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وإنما أنكرها طوائف من أهل البدع، كالجهمية والمعتزلة، والرافضة والإباضية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان تلبس الجهمية 2/392: (قد أثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يُرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانًا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمسانيد).

وفي نظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني رحمه الله تعالى ص238، نقلٌ عن جماعة من أهل العلم أن أحاديث الرؤية متواترة.

وقد قال الشيخ التاودي رحمه الله تعالى([3]):

مما تواترَ حديثُ من كذَبْ     ومَن بنى لله بيتاً واحتسَبْ

ورؤيةٌ شفاعةٌ والحـــــــــــــــــوضُ      ومسحُ خفين وهاذي بعضُ

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في حادي الأرواح ص285 عن رؤية المؤمنين ربهم جل وعلا في الجنة: (اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون).

الأدلة على إثبات رؤية الله تعالى:

قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أي وجوه يومئذ أي يوم القيامة ناضرة، أي حسنة مشرقة، إلى ربها ناظرة، أي ترى ربها عيانا.

وقال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ والحسنى هي الجنة، والزيادة هي رؤية الله تعالى.

فعَنْ صُهَيْبٍ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26] رواه مسلم 181.

وقال سبحانه: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾

قال ابن كثير في تفسيره 7/407: (وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يُونُسَ: 26] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيب بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ: أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ).

وقال عز وجل عن الكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾

قال ابن القيم في حادي الأرواح ص292: (وجه الاستدلال بها أنه سبحانه وتعالى جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته واستماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون ولم يسمعوا كلامه كانوا أيضا محجوبين عنه، وقد احتج بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة) ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال: (لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضي).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» رواه مسلم 180.

وعن أبي هُرَيْرَةَ t أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ ...» رواه البخاري 7437، ومسلم 182.

وعن جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ t قال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ([4]) فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» - يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ -، ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: 130] رواه البخاري 573، ومسلم 633.

والمعنى: أنكم سترون ربكم جل وعلا رؤية واضحة جليَّة لا ترتابون فيها، كما ترون هذا القمر رؤية واضحة.

المسألة الثانية: نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا:

فأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى صفة النزول إلى السماء الدنيا، وهي أقرب السماوات إلى الأرض، كما دلت الأحاديث على إثبات هذه الصفة، من غير تأويل ولا تكييف، بل ينزل نزولا حقيقيا يليق بجلاله وعظمته، لا يماثل نزول المخلوق.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» رواه البخاري 1145، ومسلم 758.

قال شيخ الإسلام في شرح حديث النزول ص5 عن هذا الحديث: (قد استفاضت به السنة عن النبي ﷺ، واتفق سلف الأمة وأئمتها وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول).

وقال شمس الدين محمد بن عبد الهادي في الصارم المنكي ص229: (وأعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلَف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، وكذلك هم مُجمِعون على إثبات الإتيان والمجيء، وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك، وأما المعتزلة والجهمية فإنهم يردُّون ذلك ولا يقبلونه، وحديث النزول متواتر عن رسول الله ﷺ).

وذكر الكتاني في نظم المتناثر ص178 أن حديث النزول من الأحاديث المتواترة، ونقل ذلك عن جماعة من أهل العلم.

وقوله: (وإلى السماء بغير كيف ينزل) تقدم معنا في الدرس الأول، أن صفات الله تعالى لها كيفية، لكن هذه الكيفية مجهولة لنا؛ لأن الشيء إنما تُعلم كيفيته بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق غير موجودة في صفات الله، وبهذا عُرف أن قول السلف: "بلا كيف". معناه بلا تكييف، لم يريدوا نفي الكيفية مطلقاً، لأن هذا تعطيل محض([5]).

وفي قوله ﷺ في حديث النزول: (ينزل ربنا) دليل على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى.

قال الناظم:

وأُقِرُّ بالميزان والحوض الذي      أرجو بأني منه رِيَّاً أنهل

في هذا البيت مسألتان من مسائل العقيدة:

المسألة الأولى: الميزان:

الميزان في الشرع: هو ما ينصبه الله تعالى يوم القيامة لوزن أعمال العباد إظهارا لكمال عدله.

وقد ورد ذكره في عدة آيات منها:

قوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾

وقوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ..﴾

وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ..﴾

وفي الأحاديث ورد ذكر الميزان، منها:

عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ»، قَالَ: «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» رواه الترمذي 2639، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ». وحسنه السخاوي في رسالته عن الميزان المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية 56/161.

وقال الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم 135: (وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قالا).

وفي حديث البطاقة الدليل على أن الميزان له كفتان.

ومن الأدلة على إثبات الميزان قول النبي ﷺ: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» متفق عليه.

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيق السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ) رواه الإمام أحمد برقم (3991) وحسنه الألباني في التعليق على العقيدة الطحاوية ص418.

وقال النبي ﷺ: «الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان ..» رواه مسلم.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وُزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. ويوضع الصراط مثل حدِّ الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» رواه الحاكم 8739، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وذكره الألباني في الصحيحة (941) وقال: ... ورواه الآجري في الشريعة موقوفا على سلمان وإسناده صحيح وله حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي.

وقال السخاوي في رسالته عن الميزان المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية 56/160: وحكمه الرفع، إذ لا مجال للرأي فيه.

وقال السفاريني في لوامع الأنوار البهية عن الميزان 2/185: (وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر، وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه)

الخلاف في الموزون:

أي ما الذي يوضع في الميزان يوم القيامة؟

فيه أقوال لأهل العلم:

  1. أن الذي يوزن الأعمال:

لحديث: «والحمد لله تملأ الميزان ..»

وروى أحمد برقم (15662) ش عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «بَخٍ بَخٍ، لَخَمْسٌ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبُهُ وَالِدَاهُ». وصحح إسناده الألباني في الصحيحة 1204.

وعن أبي الدرداء t أن النبي ﷺ قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء» رواه الترمذي برقم (2002) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني.

2-أن الذي يوزن الصحف التي فيها الأعمال:

لحديث البطاقة المتقدم.

3-أن الذي يوزن هو العامل نفسه:

لحديث أبي هريرة t مرفوعا: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» متفق عليه.

ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق وفيه أنه ﷺ قال عن ساقيه: «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد»

قال ابن كثير في التفسير: (وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها).

المسألة الثانية: الحوض:

الحوض: هو مجمع الماء.

والمراد بالحوض أي حوض النبي ﷺ الذي يكون يوم القيامة.

فمن أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بالحوض، فالرسول ﷺ له حوض، وكل نبي من الأنبياء عليهم السلام له حوض؛ لأن الناس يصيبهم عطش شديد يوم القيامة يحتاجون معه إلى الماء، وحوض نبينا ﷺ هو أعظم الحياض طوله شهر وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وآنيته عدد نجوم السماء من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، نسأل الله تعالى من فضله.

وقد حكى أبو العباس القرطبي في المفهم 6/90 إجماع السلف على إثبات الحوض والإيمان به، وأنه أنكره بعض الطوائف من المبتدعة.

وأحاديث الحوض بلغت حد التواتر:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 13/35: (والأحاديث في ذمهم [يعني الخوارج] والأمر بقتالهم كثيرة جدا، وهي متواترة عند أهل الحديث، مثل أحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والحوض).

ومن الأحاديث الواردة في الحوض:

عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «.. فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ». رواه البخاري 3163، ومسلم 1845.

ومعنى (أثرة): أي يُفضَّل عليكم غيركم في الأموال.

وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا ..» متفق عليه.

ومعنى: (فرطكم على الحوض) أي سابقكم إليه كالمهيئ له.

وروى أبو داود برقم (4749) عن عبيد الله بن زياد أنه بعث لأبي برزة رضي الله عنه فقال: .. إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض سمعتَ رسول الله ﷺ يذكر فيه شيئا؟ فقال له أبو برزة: نعم، لا مرة ولا ثنتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضبا. وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

صفة الحوض:

جاء في حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا» متفق عليه.

كيزانه: الكِيزان جمع كُوز، وهو الكأس.

وفي حديث حارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ t قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ «كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ» متفق عليه.

الذين يذادون عن الحوض:

جاء في حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي ومِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ».

فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ (رَاوِي هذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ) يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا. متفق عليه.

وروى البخاري برقم 6586 عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى».

ومعنى (فَيُحَلَّئُونَ عَنْه) أي يُطْرَدُونَ عنه.

قال الناظم:

وكذا الصراط يُمَدُّ فوق جهنم     فمسلَّمٌ([6]) ناجٍ وآخر مهمل

الصراط في اللغة: الطريق قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ يعني بكل طريق.

والمراد بالصراط يوم القيامة هو الجسر الممدود على متن جهنم.

فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصراط الذي ينصب على متن جهنم إذا انتهى إليه الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف.

وقد دلَّ على ثبوته عدة أحاديث، منها:

ما روى مسلم برقم (315) أن حَبْرا من أحبار اليهود سأل النبي ﷺ فقال: أين يكون الناس ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾؟ فقال رسول الله ﷺ: «هم في الظلمة دون الجسر ...».

وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «... ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجَسْرُ قَالَ مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا ...» رواه البخاري برقم (7439)

ومعنى مدحضة: من دحضت رجله إذا زَلِقت. ومعنى مزلة: من زلت القدم إذا سقطت.

والكلاليب جمع كلوب: حديدة معطوفة الراس يعلق عليها اللحم.

والخطاطيف جمع خُطاف وهو الحديدة المعوجة كالكلوب يُختطف بها الشيء.

والحسكة: هي الشوكة الصلبة.  مفلطحة: أي عريضة.  عُقيفاء: معوجة.

والسعدان: نبات ذو شوك.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «.. وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَبِهِ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو..» رواه البخاري (6573)

ومعنى المخَرْدَل: أن كلاليب النار تقطعه فيهوى في النار، وقيل: المخردل المصروع.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . . . فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ قَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى دُونَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ ذَلِكَ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ، يُضِيءُ مَرَّةً، وَيُطْفِئُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمُهُ، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ، فَيَمُرُّ وَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ، دَحْضُ مَزِلَّةٍ، فَيُقَالُ: انْجُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، وَيَرْمُلُ رَمَلًا، فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ قَالَ: يَجُرُّ يَدًا وَيُعَلِّقُ يَدًا وَيَجُرُّ رِجْلًا وَيُعَلِّقُ رِجْلًا وَتَضْرِبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، قَالَ: فَيَخْلُصُون فَإِذَا خَلَصُوا قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْكِ بَعْدَ الَّذِي أَرَانَاكِ، لَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا" رواه الحاكم 3424 و8751، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وصححه الألباني في التعليق على العقيدة الطحاوية ص415.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وُزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. ويوضع الصراط مثل حدِّ الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» رواه الحاكم 8739، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وروى مسلم 195عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله ﷺ: «... وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمرُّ أولكم كالبرق، قال: قلت بأبي أنت وأمي: أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمرِّ الريح، ثم كمر الطير وشدِّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلَّقة، مأمورة بأخذ من أُمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفا».

فالحاصل أن للصراط صفات، وهي:

1-مدحضة مزلة.

2-له حافتان.

3-عليه كلاليب.

4-أنه كحد السيف.

قال الناظم:

والنار يصلاها الشقي بحكمة       وكذا التقيُّ إلى الجنان سيدخل

أي والنار يدخلها ويعذب فيها الشقي، الذي أساء العمل، فيدخلها بحكمة الله عز وجل، والتقي الذي عمل بطاعة الله تعالى، واجتنب معاصيه يدخل الجنة برحمة أرحم الراحمين، فهو جل وعلا يعذب الأشقياء في النار بحكمته وعدله، ويُنعِّم الأتقياء برحمته وفضله، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾

فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالجنة وأنها دار جزاء المتقين، وبالنار وأنها دار جزاء الكافرين، ومن شاء الله أن يعذب فيها من عصاة الموحدين.

وأنهما مخلوقتان، يعني أن خلقهما قد تمَّ، وليس خلقهما موقوفا على قيام الساعة، فهما مخلوقتان قبل خلق آدم وخلق المكلفين، يدل له قوله تعالى: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ والألف واللام في الجنة للعهد، يعني الجنة المعهودة التي هي دار النعيم.

ومن لم يؤمن بالجنة والنار فهو كافر؛ لأنه مكذب للكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة 1/45: (قد اتفق أهلُ السنة والجماعة على أنَّ الجنة والنار مخلوقتان، وقد تواترت الأحاديثُ عن النبي ﷺ بذلك) ثم ذكر عدة أحاديث تدل على ذلك، منها:

 ما في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «إن أحدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مقعدُه بالغداة والعشيِّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدُك حتى يبعثك الله يوم القيامة».

وفي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدريِّ t عن النبي - ﷺ - قال: «اختصمت الجنةُ والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلُني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم؟ وقالت النار: ما لي لا يدخلُني إلا الجبَّارون والمتكبِّرون؟ فقال للجنة: أنت رحمتي أرحمُ بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذِّبُ بك من أشاء» الحديث.

ومن الأدلة على أنهما مخلوقتان قوله تعالى في الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وفي النار: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فكلمة (أعدت) دليل على أنهما موجودتان.

ثم قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة 1/49: (وأمَّا القولُ بأنَّ الجنة والنار لم تُخلقا بعد، فهو قولُ أهل البدع من ضُلَّال المعتزلة ومن قال بقولهم . . . وهذه الأحاديثُ وأمثالهُا تردُّ قولهم)

ومن أدلة وجوب الإيمان بالجنة والنار حديث عُبَادَة بْن الصَّامِتِ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ» رواه البخاري 3435، ومسلم 28.

قال الناظم:

ولكلِ حيٍ عاقلٍ في قبرِه          عملٌ يُقارنه هناك ويُسأل

أي أن كل مكلف إذا مات ودفن في قبره، فسوف يجد عاقبة عمله معه في قبره، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ويُفتن في قبره فيُسأل من قِبَل الملكين: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وحينئذ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

والقبر أول منازل الآخرة للعبد بعد موته، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه.

وكَانَ عُثْمَانُ t إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» رواه الترمذي 2308، وحسنه الألباني.

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ في ثبوت عذاب القبر للكفرة والعصاة، ونعيمه للمؤمنين التقاة، فيجب على العبد اعتقاد ذلك والايمان به، ولا يخوض في كيفية ذلك واستبعاده بعقله، فإن العقل لا مدخل له في أمور الغيب، والواجب فيها التسليم لما جاء به الشرع، وإعادة الروح إلى الجسد في القبر، واتصالها به، ليس على الوجه المعهود لنا في الدنيا.

ومن أدلة عذاب القبر:

أنه قد جاء في كتاب الله تعالى ما يدل على تعذيب الكفار بعد خروج أرواحهم، ولا يكون ذلك إلا في البرزخ، كما في قوله تعالى: ﴿ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾

وقال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾

فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾» قَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾» رواه البخاري 4699، ومسلم 2871، واللفظ لمسلم.

وأخبر الله جل وعلا عن عذاب آل فرعون بقوله: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ فهم من بعد موتهم إلى يوم القيامة يُعرَضون على النار غدواً وعشياً يعني أول النهار وآخره وهذا عذاب لهم في قبورهم، وأما يوم القيامة فيدخلهم الله تعالى أشد العذاب.

وأحاديث عذاب القبر وفتنته متواترة عن رسول الله ﷺ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى([7]).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي ﷺ على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» ثم قال: «بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» متفق عليه، فالسعي بين الناس بالنميمة، وذلك بنقل الكلام بينهم على وجه الإفساد، وعدم الاستتار والتنزه من البول، هما من أسباب عذاب القبر.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رواه البخاري 1377، ومسلم 588، واللفظ لمسلم.

(فتنة المحيا والممات) أي فتنة الحياة وهي ما يعرض للمرء مدة حياته من الافتنان بالدنيا وشهواتها، وفتنة الممات أي ما يفتن به بعد الموت.

وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ t قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: «يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا» رواه مسلم 2869.

وعَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ، إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» قَالَ: «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟» قَالَ: «فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ» قَالَ: «فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ» قَالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا» قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا([8])، إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. رواه مسلم 2870.

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ». قَالَ: «فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» قَالَ: «فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى». قَالَ: «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ». قَالَ: «فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ». قَالَ: «وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، وَمَالِي». قَالَ: «وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ». قَالَ: «فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ([9]) مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ([10])، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: 40] فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا». ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ، فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31] «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ» رواه الإمام أحمد 18534، وهذا لفظه، وقال محققو المسند: إسناده صحيح. ورواه أبو داود 4753، وصححه الألباني.

وحديث البراء t صححه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح ص46.

وثبت أن اسم الملكين اللذين يسألان صاحب القبر هما المنكر والنكير.

فعن أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ - أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ - أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» رواه الترمذي 1071، وحسنه الألباني.

قال الناظم:

هذا اعتقاد الشافعي ومالك      وأبي حنيفة ثم أحمدَ يُنقَل

أي ما تقدم في هذه المنظومة هو اعتقاد الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب الفقهية السُّنِّيَّة، وهو المنقول عنهم، نقله أئمة هذا الشأن، الذين دونوا عقائد السلف.

وقد ذكرهم المؤلف من غير ترتيب للمتقدم منهم والمتأخر؛ لضرورة النظم، وهم بحسب تواريخ وفياتهم:

الأول: الإمام أبو حنيفة([11]): هو النعمان بن ثابت بن زُوْطَى التيمي، الكوفي، مولى بني تيم الله بن ثعلبة. الإمام، فقيه الملة، عالم العراق.

 ولد سنة ثمانين على الصحيح، في حياة صغار الصحابة.

ورأى أنس بن مالك لما قَدِم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم.

وروى عن: عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له. ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وعبد الله بن دينار، وحماد بن أبي سليمان، وبه تفقه، وغيرهم كثير.

وذكر الذهبي أنه روى عن الإمام مالك بن أنس وهو أصغر منه.

وعُني بطلب الآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى، والناس عليه عيال في ذلك.

وأجمعوا على أنه مات سنة خمسين ومائة ببغداد، وله سبعون سنة.

وروى عنه الجم الغفير نحو أربعة آلاف نفس.

قال الشافعي: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا، لقام بحجته.

عن القاضي أبي يوسف، قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلا يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل. فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة، وتضرعا، ودعاء.

قال أبو حنيفة: رأيت رؤيا أفزعتني، رأيت كأني أنبش قبر النبي ﷺ فأتيت البصرة، فأمرت رجلا يسأل محمد بن سيرين. فسأله، فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله ﷺ.

وقال عبد الله بن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان، كنت كسائر الناس.

وعن أبي حنيفة، أنه قال: ما جاء عن الرسول ﷺ فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة، اخترنا، وما كان من غير ذلك، فهم رجال ونحن رجال.

دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء، فامتنع، فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: لا أصلح. قال: كذبت. قال: فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح، فإن كنت كاذبا، فلا أصلح، وإن كنت صادقا، فقد أخبرتكم أني لا أصلح. فحبسه.

وقال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.

وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

قال الذهبي: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلَّمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.

وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

الثاني: الإمام مالك([12]): هو أبو عبد الله مالك بن أنس، بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، ولد على الأشهر سنة 93 هـ.

جدُّه أبو عامر صحابي جليل رضي الله عنه شهد المغازي كلها مع النبي - ﷺ - خلا بدراً.

وهو إمام دار الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والعالم الذي انتشر علمه في الأمصار، واشتهر فضله في الأقطار، ضُربت له أكباد الإبل وارتحل الناس إليه من كل فج.

قال الإِمام الشافعي رضي الله عنه: مالك أستاذي وعنه أخذت العلم، وجعلت مالكاً بيني وبين الله حجة، وإذا ذُكر العلماء فمالك النجم الثاقب، ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته.

ألف كتاب الموطأ، وهو من أعظم كتب الإسلام.

قال بعضهم: إنما سَمَّى كتابه الموطأ لأنه عرضه على بضعة عشر تابعياً وكلهم واطئوه على صحته.

وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله ﷺ اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلاد وكل مصيب. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك قال: لما حج المنصور قال: عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها أن تنسخ ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منه نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوا إلى غيرها. فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.

وكان إذا أراد أن يحدِّث توضأ وجلس على فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث، فقيل له في ذلك، فقال: أُحبُّ أن أعظِّم حديث رسول الله ﷺ ولا أحدث به إلا متمكناً من طهارة.

وكان مهاباً جداً إذا أجاب في مسألة لا يمكن أن يقال له من أين، وكان الثوري إذا جلس بين يدي مالك ونظر إلى إجلال الناس له وإجلال مالك للعلم أنشد:

يأبى الجوابَ فلا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان

أدبُ الوقار وعزُّ سلطان التُّقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطانِ

قيل له: كيف أصبحت؟ قال: في عمر ينقص وذنوب تزيد.

ورُوى عنه رضي الله عنه أنه قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فقد أدركت سبعين ممن يقول: قال فلان قال رسول الله ﷺ عند هذه الأساطين، وأشار إلى أساطين مسجد رسول الله ﷺ فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أميناً، لم يكونوا من هذا الشأن، ويقدُم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه.

أخذ عن أكثر من تسعمائة شيخ منهم ابن شهاب الزهري والعلاء بن عبد الرحمن وحميد الطويل ومحمَّد بن المنكدر وزيد بن أسلم ووهب بن كيسان وأبو عبد الله نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وغيرهم كثير.

انتصب لتدريس العلم وهو ابن سبع عشرة سنة واحتاج إليه شيوخه، وروى عنه الكثير ممن تقدمه أو عاصره أو تأخر عنه.

والرواة عنه كثيرون جداً بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته ألف الخطيب كتاباً فيهم وذكر القاضي عياض أنه ألف في المشاهير منهم كتاباً ذكر فيه نيفاً على الألف والثلاثمائة، وقال الحنفية: أجلُّ من روى عن مالك أبو حنيفة، وقال ابن الأثير: كفى مالكا شرفا أن الشافعي تلميذه وكفى الشافعي شرفا أن مالكا شيخه، وقال الأمير في ثبته: رواية أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة.

وممن أخذ عن مالك عبد الله بن المبارك وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج والدراوردي وعبد الرحمن بن مهدي والمغيرة بن عبد الرحمن ومحمد بن دينار والقعنبي ومطرف بن سليمان وعبد الملك بن الماجشون وعبد الله بن نافع الصائغ وأسد بن الفرات وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن عبد الحكم ويحيى بن يحيى القرطبي، وغيرهم كثير.

أفرد ترجمته جماعة من المتقدمين والمتأخرين بالتأليف.

وتوفي بالمدينة النبوية سنة 179 هـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

الثالث: الإمام الشافعي([13]): هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلبي، الإمام العالم، ولد بغزة، وقيل: بعسقلان، سنة خمسين ومائة، ومات أبوه وهو صغير، فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، لئلا يضيع نسبه، فنشأ بها، وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ابن ثماني عشرة سنة. أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي.

وعُني باللغة والشعر، وأقام في هذيل نحوا من عشر سنين، وقيل أكثر من ذلك، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ والأئمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته، وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه، عن مسلم بن خالد الزنجي.

من تلاميذه الإمام أحمد بن حنبل، والبويطي، والمزني، والربيع بن سليمان وغيرهم كثير.

انتقل آخر حياته إلى مصر فأقام بها إلى أن مات فيها سنة أربع ومائتين، وصنف بها كتابه الأم، وهو من كتبه الجديدة؛ لأنها من رواية الربيع بن سليمان وهو مصري.

وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة، منهم عبد الرحمن بن مهدي وسأله أن يكتب له كتابا في الأصول فكتب له الرسالة، ويحيى بن أكثم القاضي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.

وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحوا من أربعين سنة، وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود، من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» قال: فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية.

وقال أبو ثور: ما رأينا مثل الشافعي، ولا رأى هو مثل نفسه.

وقد كان رحمه الله من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة، وأشد الناس انتزاعا للدلائل منهما، وكان من أحسن الناس قصدا وإخلاصا، كان يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم، ولا ينسب إليَّ شيء منه أبدا، فأؤجر عليه ولا يحمدوني.

وقد قال غير واحد عنه: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله ﷺ، فقولوا به ودعوا قولي فإني أقول به، وإن لم تسمعوه مني. وفي رواية: فلا تقلدوني. وفي رواية: فلا تلتفتوا إلى قولي. وفي رواية: فاضربوا بقولي عُرْض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله ﷺ.

وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء. - يعني البدع - وفي رواية: خير له من أن يلقاه بعلم الكلام. وقال أيضا: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام.

وقال البويطي: سمعت الشافعي يقول: عليكم بأصحاب الحديث؛ فإنهم أكثر الناس صوابا.

وكان يقول: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ، جزاهم الله خيرا، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. ومن شعره في هذا المعنى قوله:

كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ ... إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ

الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ

وكان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر.

وقد روى عنه الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، على طريقة السلف.

وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل: يوم الجمعة، في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، عن أربع وخمسين سنة. وكان أبيض جميلا طويلا مهيبا، يخضب بالحناء مخالفة للشيعة، رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الجنة مأواه.

الرابع: الإمام أحمد بن حنبل: هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني ينتهي نسبه إلى معد بن عدنان.

إمام أهل السنة والجماعة بلا منازع.

ولد في بغداد سنة 164هـ، وتوفي بها سنة 241 هـ، عن عمر بلغ سبعة وسبعين عاماً.

وكنيته أبو عبد الله مع أن ابنه الأكبر صالح وابنه الثاني عبد الله، فلعله كان يتكنى بأبي عبد الله قبل زواجه فغلبت عليه هذه الكنية، وذلك أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين من عمره.

بدت على الإمام أحمد علامات النجابة منذ صغره، واشتهر بالشغف في التعلم والرغبة في العلم، قال الحافظ الهيثم بن جميل الأنطاكي رحمه الله تعالى: (إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه).

ومن تواضعه أنه لم يكن يفخر بعروبته، وقد سئل مرة عن ذلك وهل هو عربي؟ فقال: نحن قوم مساكين.

وكان رحمه الله تعالى زاهداً في الدنيا لا يجري لها ذكر على لسانه، وكان عالماً عاملاً مداوماً على العبادة وكان لا يُظهر النسك.

قال تلميذه أبو داود: لقيت مائتين من مشايخ العلم فما رأيت مثل أحمد بن حنبل لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا فإذا ذُكر العلم تكلم.

وكان يقول: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به حتى مرَّ بي أن النبي ﷺ احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت.

وكان رحمه الله تعالى يكره الشهرة ويَفِرُّ منها، وإذا مشي في الطريق يكره أن يتبعه أحد.

قال عنه عيسى الرملي: "عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه وبالصالحين ما كان ألحقه عَرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها".

وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى مهيباً في ذات الله تعالى حتى إن علماء زمانه كانوا يجلونه ويهابونه.

وكان متعففاً فلا يقبل أعطيات أحد، يقول الرمادي سمعت عبد الرزاق وذكر أحمد بن حنبل ففاضت عيناه، وقال: بلغني أن نفقته نفدت فعرضت عليه عشرة دنانير ليأخذها، فقال يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.

  إلا أنه كان يقبل الهدية ويثيب عليها بأكثر منها. وكان يتقوَّت من غلة عقار كان له ببغداد، وربما تقوَّت من عمل يده.

ورحل رحمه الله تعالى في طلب العلم إلى بلدان كثيرة منها الكوفة والبصرة والحرمين وصنعاء والشام.

وكان ولوعاً بالعلم حتى بعد إمامته فيه فقد روى صالح قال: رأى رجلاً مع أبي محبرة، فقال له يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين فقال: "من المحبرة إلى المقبرة".

وكان له شيوخ كُثر فقد روى في المسند عما يزيد على مائتين وثمانين شيخاً، وكان شيخه الذي اختص به ولازمه الحافظ هشيم الواسطي إذ لازمه قريباً من أربع سنين.

وأما تلاميذه والآخذون عنه فقد جاوزا الخمسمائة نفس، أشهرهم:

-  أحمد بن حميد أبو طالب المشكاني المتوفى سنة 244هـ من رواة المسائل.

-  مهنا بن يحيى السلمي المتوفى سنة 248هـ من رواة المسائل.

-  إبراهيم بن هانئ النيسابوري المتوفى سنة 265 هـ من رواة المسائل.

-  ابنه صالح المتوفى 266هـ. وابنه عبد الله المتوفى سنة 290هـ.

-  حنبل بن إسحاق بن حنبل المتوفى سنة 273هـ. ابن عم الإمام أحمد.

-  أبو داود سليمان الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ.

-  حرب الكرماني المتوفى سنة 280هـ. رحمهم الله تعالى.

وأما كتبه فقد بلغت نحو الثلاثين كتاباً أعظمها المسند المشهور وفضائل الصحابة رضي الله عنهم والعلل ومعرفة الرجال والزهد والورع والرد على الزنادقة والجهمية وغيرها.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

قال الناظم:

فإن اتبعت سبيلهم فموفق        وإن ابتدعت فما عليك معوَّل

أي فإن اتبعت أيها السائل سبيل هؤلاء الأئمة، وسرت على طريقتهم في الاعتقاد والعمل فأنت موفق، أي وفقك الله وهداك لاتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.

وإن ابتدعت في دين الله عز وجل، وخالفت ما دلت عليه النصوص الشرعية على ما فهمه السلف، فما عليه معول، أي لا يعول عليك في الاعتقاد ولا يلتفت إليك.

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإسلام والسنة، وأن يعيذنا من الشرك والبدعة، ومن كل ما يغضبه.

والحمد لله رب العالمين، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

 

 

([1]) قبحاً: مفعول مطلق، حذف عامله، وفي بعض النسخ: (قبحٌ).

([2]) ينظر: سير أعلام النبلاء 4/589، والبداية والنهاية 12/438.

([3]) ينظر: نظم المتناثر للكتاني ص18.

([4]) (لا تضامون) يجوز ضم التاء وفتحها، وهو بتشديد الميم من الضم، أي لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا يقول: أرنيه. بل كل ينفرد برؤيته، ورُوي بتخفيف الميم من الضيم، وهو الظلم، يعني لا ينالكم ظلم بأن يرى بعضكم دون بعض، بل تستوون كلكم في رؤيته تعالى (فإن استطعتم) جزاء هذا الشرط ساقط هنا، تقديره: فافعلوا. كما جاء مصرحاً به في رواية البخاري.

([5]) ينظر: تلخيص الحموية للشيخ ابن عثيمين ص37.

([6]) في بعض النسخ: (فموحدٌ)

([7]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 13/35: (والأحاديث في ذمهم [يعني الخوارج] والأمر بقتالهم كثيرة جدا، وهي متواترة عند أهل الحديث، مثل أحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والحوض).

([8]) الخضر ضبط بفتح الخاء وكسر الضاد، ومعناه: يملأ نعما غضة ناعمة، وأصله من خضرة الشجرة.

([9]) السَّفود؛ ضبط بفتح السين، وتشديد الفاء: حديدة يُشوى بها اللحم.

([10]) المُسُوح، بضمتين، جمع مِسح، بكسر الميم: كساء معروف، وقال النووي: هو ثوب من الشعر غليظ معروف.

([11]) تنظر ترجمته في الجواهر المضية في طبقات الحنفية للقرشي 1/26، وسير أعلام النبلاء للذهبي 6/390.

([12]) تنظر ترجمته في شجرة النور الزكية لمخلوف 1/80-83.

([13]) تنظر ترجمته في البداية والنهاية لابن كثير 14/132-140.

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله