الدليل

2025-11-19 13:27:04

شرح الأربعين النووية لبرنامج دليل الأحاديث من 36- 50 مع زيادات ابن رجب المجلس الخامس

شرح الأربعين النووية([1])

برنامج دليل

المجلس الخامس 28/7/1446ه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد.

الحديث السادس والثلاثون:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» رواه مسلم بهذا اللفظ.

قوله: "من نفَّس" أي وسع.

"عن مؤمن كربة" الكربة هي: الشدة والضيق الذي يحصل للإنسان.

"من كُرب الدنيا" أي من الكرب التي تكون في الدنيا، سواء أكانت الكربة مالية أو غيرها.

"نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" الجزاء من جنس العمل من حيث الجنس، فمن يُنفِّس عن المؤمن يُنفِّس الله عنه، لكن من حيث النوع يختلف اختلافا عظيما، فكرب الدنيا لا تساوي شيئا بالنسبة لكرب الآخرة، فإذا نفس الله عن الإنسان كربة من كرب الآخرة كان ثوابه أعظم من عمله.

ففيه الحث والترغيب على تنفيس كرب المؤمنين.

والجزاء من جنس العمل، قاعدة مطردة في الشريعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى: (جزاءً وفاقا) أي وفق أعمالهم). تهذيب السنن 12/176.

 قال تعالى: (ليجزي الذين اساؤوا بما علموا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقال سبحانه: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وقال عز وجل: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى)

ولما ذكر الله نعيم أهل الجنة في سورة الرحمن، قال: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).

وفي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متفق عليه

وتنفيس الكربة تخفيفها عمن وقعت عليه، وأما تفريج الكربة فهو أعظم؛ وهو أن يزيل عنه الكربة حتى تنفرج ويزولَ همُّه وغمه، ومثال ذلك: لو كان أخوك المسلمُ في كربة، ويحتاج إلى عشرة آلاف ريال لتفريج كربته، فإن أعطيته خمسة آلاف فقد نفست عنه، وخففت كربته، لكنك لم تفرجها، وإن أعطيته عشرة آلاف فقد فرجت كربته، وأزلت همه وغمه، فجزاء التنفيس عن أخيك في الدنيا أن ينفس الله عنك في الآخرة، وجزاء التفريج في الدنيا التفريج عنك في الآخرة جزاء وفاقا.

"ومن يسَّر على معسر" أي سهَّل عليه، كما قال الله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).

"يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة" ويشمل هذا التيسير تيسير المال، وتيسير الأعمال، وتيسير التعليم وغير ذلك، فيشمل كل نوع من أنواع التيسير.

"ومن ستر مسلما" ستر: أي أخفى وغطى، والمقصود ستر مسلما ارتكب ما يعاب. إما في المروءة والخلق، وإما في الدين والعمل، وثوابه: "ستره الله في الدنيا والآخرة"

لكن يستثنى من ستر المسلم من كان معروفا بالشر والفساد، وفي الستر عليه ضرر، وهو أن يتمادى في شره وفساده، وربما أذية الناس، فهذا لا يُستر عليه، بل يُرفع أمره إلى من يؤدِّبه.

"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" يعني أنك إذا أعنت أخاك كان الله

في عونك كما كنت تعين أخاك.

وهذا مقيد بعونه على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

"ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" المراد بالعلم هنا علم الشريعة، وما يحتاج إليه من علوم الآلة كاللغة العربية وما أشبهها.

فمن وفقه الله تعالى لسلوك طريق العلم الشرعي وأعانه الله تعالى على الانتفاع به والعمل به كان ذلك سببا للوصول إلى الجنة.

"وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله" أي في المساجد، فإن المساجد هي بيوت الله عز وجل، كما قال الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال* رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار).

"يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم" أي يقرؤونه لفظا ويفهمون معناه، ويدرس بعضهم على بعض هذا القرآن الكريم.

"إلا نزلت عليهم السكينة" أي الوقار والطمأنينة.

"وغشيتهم الرحمة" أي تغشاهم رحمة الله عز وجل.

"وحفتهم الملائكة" أي أحاطت بهم إكراما لهم.

"وذكَرهم الله فيمن عنده" أي أن هؤلاء القوم الذين اجتمعوا في المسجد يتدارسون كلام الله عز وجل يذكرهم الله فيمن عنده، وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" فإذا ذكرتَ الله في ملأ بقراءة القرآن أو غيره فإن الله تعالى يذكرك عند ملأ خير من الملأ الذي أنت فيهم.

"ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" بطأ: بمعنى أخَّر، والمعنى: من أخره العمل لم ينفعه النسب، لقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

الحديث السابع والثلاثون:

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.

قوله r: (إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات) أي كتب وقوعها وكتب ثوابها، فهي واقعة بقضاء الله وقدره المكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب ثوابها بما دل عليه الشرع.

(ثم بين ذلك) أي بين ما يتعلق بالحسنات والسيئات مفصلا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

وفيه الإجمال ثم التفصيل والبيان، وهذا من البلاغة؛ ليقع البيان موقعه في النفس.

وتضمَّن هذا الحديث والأحاديث الواردة في معناه كتابة الحسنات، والسيئات، والهم بالحسنة والسيئة، فهذه أربعة أنواع:

النوع الأول: عمل الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دل عليه قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}.

وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له، فدل عليه قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف.

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود t قال: «جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة».

وقوله في حديث أبي هريرة t: «إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله عز وجل لأنه أفضل أنواع الصبر، و{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

ومضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام، وتكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه، وبحسب الحاجة إليه.

النوع الثاني: عمل السيئات، فتكتب السيئة بمثلها، من غير مضاعفة، كما قال تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} ولقوله r في هذا الحديث: «كتبها الله سيئة واحدة».

لكن السيئة تعظم أحيانا بشرف الزمان أو المكان، كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}: في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حُرُما، وعظَّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.

وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك.

وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته بالله، وقربه منه، ولهذا توعَّد الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها، ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك، كما قال تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا - إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات}. وقال تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا - ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين}.

النوع الثالث: الهمُّ بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة، وإن لم يعملها، لقوله r في هذا الحديث: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة) لأن الهمَّ نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فتكتب له حسنة كاملة.

والظاهر أن المراد بالهم هنا هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرد الخطرة التي تخطر، ثم تذهب من غير عزم ولا تصميم. قال أبو الدرداء: من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى يصبح، كتب له ما نوى.

النوع الرابع: الهمُّ بالسيئات من غير عمل لها، ففي هذا الحديث أنها تُكتب حسنةٌ كاملة، وفي حديث أبي هريرة t قال: «إنما تركها من جرَّايَ» يعني: من أجلي. وهذا يدل على أن المراد من قَدِر على ما همَّ به من المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة؛ لأن تركه المعصية بهذا القصد عمل صالح.

فأما إن هم بمعصية، ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين، أو مراءاة لهم، فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية، لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم. وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا ترك المعصية لأجل ذلك، عوقب على هذا الترك.

وأما إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثم حيل بينه وبينها، فقد ذكر جماعة من أهل العلم أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

والحاصل أن هذا الحديث حديث عظيم يدل على عظيم رحمة الله تعالى بعباده، بمضاعفة حسناتهم التي عملوها، وعلى مجازاتهم على الهم بالحسنة حسنة وإن لم يعملوها، ومجازاتهم على السيئة بمثلها، بل لو هم بسيئة فتركها خوفا من الله تعالى لأثابه عليها حسنة، وحينئذ فلا يهلك على الله عز وجل يوم القيامة إلا هالك، ولا ترجح سيئات أحد على حسناته إلا هالك خاسر، قد سعى في السيئات، وفرط في حصول الحسنات، والله المستعان.

الحديث الثامن والثلاثون:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه» رواه البخاري.

قيل: إن هذا الحديث أشرف حديث رُوي في ذكر الأولياء.

قوله عز وجل: (من عادى لي وليا) أي اتخذه عدوا له، وهذا معناه أنه أبغض الولي، وهذا فيه تفصيل: إن عادى الولي وأبغضه لما هو عليه من الدين فهذا ظاهر في أنه داخل في هذا الحديث وأن الله يؤذنه بالحرب.

أما إن حصلت بينه وبين ولي من أولياء الله تعالى خصومه على الدنيا، فإن صار مع الخصومة بغضاء له وكراهية فيخشى عليه أن يدخل في هذا الحديث، وإن كانت الخصومة بدون بغضاء فلا يدخل في الحديث، ولا يكون ممن آذنه الله تعالى بالحرب.

وذلك لأن الصحابة y حصلت بين بعضهم خصومات، وترافعٌ إلى القاضي، وهم سادات الأولياء من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، فوقوع الخصومة بلا بغضاء لا يدخل في هذا الحديث.

وولي الله عز وجل بيَّنه سبحانه في القرآن، فقال: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) فمن كان مؤمنا تقيا كان لله ولياً.

وهناك فرق بَيْنَ " الْوَلَايَةِ " بِالْفَتْحِ وَ " الْوِلَايَةِ " بِالْكَسْرِ، فَالْوَلَايَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَهُ فِي هَذِا الحديث، والْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ الَّتِي هِيَ الْإِمَارَةُ([2]).

ووَلاية الله عز وجل نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة: وَلايته على الخلق كلهم تدبيرا وقياما بشؤونهم، وهذا عام لكل أحد، للمؤمن والكافر، ومنه قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون*ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق).

ووَلاية خاصة: وهي ولاية الله عز وجل للمتقين، قال الله عز وجل: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) فهذه وَلاية خاصة وقال الله عز وجل: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون).

(فقد آذنته بالحرب) يعني: فقد أعلمته وأنذرته بأني محارب له، فحرب الله للعبد إيصال عذابه ونكاله إليه.

وفي الحديث الدلالة على أن معاداة أولياء الله من كبائر الذنوب، لقوله: "فقد آذنته بالحرب" وهذه عقوبة خاصة على عمل خاص، فيكون هذا العمل من كبائر الذنوب.

وقوله: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»

هذا فيه وصف أولياء الله تعالى الذين تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، فقسم أولياءه المقربين إلى درجتين:

الأولى: درجة المقتصدين، وهم من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.

الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله، كما قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» فمن أحبه الله، رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره، فأوجب له ذلك القرب منه سبحانه وبحمده.

ودل هذا الحديث على أن جنس الفرائض أحبُ إلى الله من جنس النوافل.

ودل أيضا على إثبات صفة المحبة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنها تتفاضل، لقوله: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه".

ودل على الحث على الإكثار من النوافل، وأنها سبب لمحبة الله تعالى لعبده.

قوله: (فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).

قوله: "كنت سمعه . . ." من المعلوم أن الحديث ليس على ظاهره، لأن سمع المخلوق حادث ومخلوق وبائن عن الله عز وجل، فما معناه إذن؟

المعنى أن الله تعالى إذا أحب عبدا سدده في سمعه وبصره ويده ورجله، أي: أن يُوفَّق في جوارحه، بحيث لا يسمع إلا ما يرضي الله عز وجل، وإذا سمع انتفع، ولا يبصر إلا ما يرضي الله تعالى، وإذا أبصر انتفع، وهكذا في بقية الجوارح([3]).

وهذا ليس من التأويل؛ لأن المقطوع به في النصوص الشرعية أنه تعالى وتقدس لا يكون بذاته سمعا ولا بصرا ولا يدا ولا رجلا، فدل على أنه يوفَّق في سمعه وبصره . . . فلا يسمع إلا ما يحب الله، ولا يبصر إلا ما يحب الله . . .

قوله: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»

(ولئن) اللام واقعة في جواب القسم المقدر.

والاستعاذة هي الاعتصام والالتجاء.

يعني أن هذا الولي المحبوب إلى الله تعالى، له عند الله منزلة عالية تقتضي أنه إذا سأل الله شيئا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله عز وجل.

فذكر السؤال الذي به حصول المطلوب، والاستعاذة التي بها النجاة من المرهوب.

وقد كان كثير من السلف الصالح معروفا بإجابة الدعوة، منهم سعد بن أبي وقاص t فقد كان مجابَ الدعوة.

ونازعت امرأة سعيد بن زيد t - أحد العشرة المبشرين بالجنة - في أرض له، فادعت أنه أخذ منها أرضها، فقال: اللهم إن كانت كاذبة، فأعم بصرها واقتلها في أرضها، فعميت، وبينا هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت.

الحديث التاسع والثلاثون:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» حديث حسن, رواه ابن ماجه, والبيهقي, وغيرهما.

هذا الحديث يشهد لمعناه قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)}, وقال {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106)}.

وفي صحيح مسلم 126 لما نزلت: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ الله عز وجل: قَدْ فَعَلْتُ ".

فقوله: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان» إلى آخره.

تقديره: إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ، أو ترك ذلك عنهم.

واللام في قوله r: (لي) للتعليل، أي تجاوز من أجلي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

ففيه سعة رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده حيث رفع عنهم الإثم عند وقوع المخالفة حال النسيان والخطأ والإكراه.

ويفهم من قوله (إن الله تجاوز لي) أن هذا من خصائص هذه الأمة، فقد رفع الله عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلها من الأمم.

وقوله: «الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه».

فأما الخطأ والنسيان، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما، قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الخطأ قال الله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص t سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر»

وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه، قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.

والمراد بالخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئا، فيقع منه غير ما قصده.

مثل أن يقصد قتل كافر، فيقتل مسلما.

والنسيان: أن يكون ذاكرا لشيء، فينساه عند الفعل.

وكلاً من الخطأ والنسيان معفو عنه، بمعنى أنه لا إثم فيه.

ولكن رفع الإثم لا يعني ألا يترتب عليه حكم.

فمثلا من نسي الوضوء، وصلى ظانا أنه متطهر، فلا إثم عليه، لكن متى ما تذكر أنه صلى بغير طهارة لزمه أن يعيد الصلاة بطهارة.

ولو ترك الصلاة نسيانا ثم ذكر، فإن عليه القضاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا: {وأقم الصلاة لذكري}».

ولو صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيا، فلا إثم عليه، وصلاته صحيحة على القول الراجح.

ولو أكل في صومه الواجب ناسيا، فلا إثم عليه، ولا يبطل صيامه، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه، فإنما أطمعه الله وسقاه»

والضابط في هذا: أن ما كان من باب التروك يعذر فيه بالجهل والنسيان، وما كان من باب الأوامر لا يعذر فيه بالجهل والنسيان.

ولو قتل مؤمنا خطأ، فإن عليه الكفارة والدية، وكذا لو أتلف مال غيره خطأ يظنه أنه مال نفسه فعليه الضمان.

والضابط فيه: أن ما كان من إتلاف في حقوق الآدميين فلا يسقط بالجهل والنسيان؛ لأن حقوقهم مبنية على المشاحة، فلا بد من الضمان، ولكن يسقط الإثم؛ لعدم القصد.

فمن جهة الحكم التكليفي لا يؤاخذ، وأما من جهة الحكم الوضعي فيؤاخذ، فيلزمه الضمان.

ومن المسائل المتعلقة بهذا الحديث: أن من ارتكب الحرام عالما بالحكم، لكن لا يعلم ما يترتب على الحكم كالحد والكفارة، فإنه لا يسقط عنه الحد ولا الكفارة؛ لأنه غير معذور، ويدل لذلك إيجاب النبي r الكفارة على المجامع في نهار رمضان، لأنه عالم بالتحريم، وإن كان لا يعلم ما يترتب على جماعه.

 فالقاعدة: أن الجهل بما يترتب على الفعل ليس بعذر، وإنما العذر الجهل بالحكم.

أما المكره فهو نوعان:

 أحدهما: من لا اختيار له بالكلية، ولا قدرة له على الامتناع، كمن حُمِل كرها وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله، أو حُمل كرها، وضُرب به غيره حتى مات ذلك الغير، ولا قدرة له على الامتناع، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق، ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء.

 والنوع الثاني: من أُكره على الفعل بالتهديد بالقتل ونحوه، فهذا معذور، بشرط أن يكون المكرِه قادرا على تنفيذ ما أَكره به، أما إذا كان غير قادر فلا يعد إكراها.

واتفق العلماء على أنه لو أُكره على قتل معصوم لم يُبَح له أن يقتله، فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل، فإذا قتله في هذه الحال، فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود: المكرِه والمكرَه؟ لاشتراكهما في القتل.

وأما الإكراه على الأقوال، فاتفق العلماء على مَن أُكره على قول محرم إكراها معتبرا أنه لا إثم عليه، وقد دل عليه قول الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} «وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: وإن عادوا فعد» وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدونه من الكفر، ففعل.

فرفع الله عز وجل حكم الكفر عن المكرَه، فما دون الكفر من المعاصي من باب أولى.

وسائر الأقوال يُتصور عليها الإكراه، فإذا أُكره بغير حق على قول من الأقوال، لم يترتب عليه حكم من الأحكام، وكان لغوا، فإن كلام المكره صدر منه وهو غير راض به، فلذلك عفي عنه، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة. وبهذا فارق الناسي والجاهل، وسواء في ذلك العقود: كالبيع والنكاح، أو الفسوخ: كالخلع والطلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنذور.

وأما الإكراه بحق، فهو غير مانع من لزوم ما أُكره عليه، فلو أَكره الحاكم أحدا على بيع ماله ليوفي دينه صح البيع؛ لأنه إكراه بحق.

الحديث الأربعون:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري.

هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل.

وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} [غافر: 39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.

وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنا، فينبغي أن يكون حاله فيها على أحد حالين: وهما ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنهما.

فأحدهما: أن يكون في الدنيا كأنه غريب، والغريب إذا نزل في بلد الغربة لا يتعلق قلبه بها، بل قلبه متعلق بوطنه، ويعد العدة للرجوع إليه، فكذلك فليكن المؤمن في هذه الدنيا، وحينئذ فلا يكون له هم في الدنيا إلا التزود بما ينفعه من الأعمال الصالحة، ولا ينافس أهل البلد فيما يتنافسون فيه من الدنيا.

الحال الثاني: أن يُنزِّل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة المسافر غير المقيم، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمَّته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا.

وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما، (إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) المعنى: اعمل العمل قبل أن تصبح ولا تقل غدا أفعله، لأن منتظر الصباح إذا أمسى يؤخر العمل إلى الصباح، وهذا غلط، فلا تؤخر عمل اليوم لغد.

وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء أي اعمل وتجهز، وهذا أحد المعنيين في الأثر.

أو المعنى: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح لأنك قد تموت قبل أن تصبح. وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء لأنك قد تموت قبل أن تمسي.

قال المروزي: قلت لأبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي.

قوله: «وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك» يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت.

وقد قيل في حماد بن سلمة رحمه الله تعالى: لو قيل له: إنك تموت غدا، ما قدر أن يزيد في العمل شيئا.

وقد جاء معنى هذه الوصية عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) رواه الحاكم في المستدرك 7846، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب 3/311.

الحديث الحادي والأربعون:  

عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» حديث صحيح , ورويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح.

هذا الحديث صرح النووي رحمه الله تعالى بصحته، وقال: رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح. يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على تارك المحجة " يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة.

قال ابن رجب: تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه، ثم ذكرها.

لكن قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عليهم جميعا رحمة الله تعالى بعد أن نقل تصحيح النووي للحديث، واستبعاد ابن رجب صحته، وأن بعض أهل العلم تعقب ابن رجب: (قلت: ومعناه صحيح قطعًا وإن لم يصح إسناده. وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} وغير ذلك من الآيات، فلا يضر عدم صحة إسناده).

وأما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه. وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. وذم سبحانه من كره ما أحبه الله، أو أحب ما كرهه الله، قال: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}، وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}.

فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت المحبة، حتى أتى بما ندب إليه منه، كان ذلك فضلا، وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها، كان ذلك فضلا.

وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين» فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يقدِّم محبة الرسول r على محبة جميع الخلق، ومحبة الرسول r تابعة لمحبة مرسِله وهو الله عز وجل.

والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنه الميل إلى خلاف الحق، كما في قوله عز وجل: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}، وقال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}.

وقد يُطلَق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقا، فيدخل فيه الميل إلى الحق وغيره.

وربما استعمل بمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه، وسئل صفوان بن عسال t هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الهوى؟ فقال: سأله أعرابي عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم، قال: (المرء مع من أحب) ولما نزل قوله عز وجل: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء}، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقال عمر في قصة المشاورة في أُسارى بدر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فهذا الحديث مما جاء في استعمال الهوى بمعنى المحبة المحمودة.

الحديث الثاني والأربعون:

عن أنس بن مالك رضي عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة» رواه الترمذي رحمه الله وقال: حديث حسن.

هذا الحديث أخرجه الترمذي في جامعة (3540) وقال: هذا حديث حسن غريب. وصححه الألباني.

قال ابن رجب: هذا الحديث تفرد به الترمذي . . . وإسناده لا بأس به.

فقد تضمن حديث أنس رضي الله عنه أن هذه الأسباب الثلاثة - الدعاء والاستغفار وعدم الشرك - يحصل بها المغفرة:

أحدها: الدعاء مع الرجاء، (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}

لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد تتخلف إجابته، لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، كما في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه» وفي الحديث القدسي: قال الله عز وجل: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ". رواه الإمام أحمد 9076، وصححه الألباني في الصحيحة 1663.

فما دام العبد يُلِحّ في الدعاء، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب، يوشك أن يُفتح له.

وقوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» يعني: مهما كثرت ذنوب العبد فإن الله تعالى بعفوه ورحمته يغفرها، ولا يتعاظمها ولا يستكثرها.

السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء، وهو السحاب.

والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها.

وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة يؤمر به، كقوله تعالى: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}، وقوله: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.

وتارة يمدح أهله، كقوله: {والمستغفرين بالأسحار}، وقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله}.

وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}.

وكثيرا ما يُقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح.

السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها - خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة.

لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة.

أو يقال: إن من لقي الله تعالى مخلصا له الدين لا يشرك به شيئا، بأي نوع من أنواع الشرك، لا شركا أكبر ولا أصغر ولا خفي ولا جلي، فليس في قلبه رغب إلا إلى الله تعالى وحده، ولا رجاء إلا بالله وحده فحسنة هذا التوحيد العظيم تكون سببا لمغفرة ذنوبه وإن عظمت، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، وفيه الدليل على فضل التوحيد.

وبهذا انتهت الأربعون النووية.

أما زيادات ابن رجب فهي ثمانية أحاديث زادها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى على الإثنين والأربعين حديثا التي جمعها النووي رحمه الله تعالى، فصارت خمسين حديثا في جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وشرحها في كلها في كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، فأجاد في شرحها وأفاد، جزاه الله خيرا.

وأكثر شروح الأربعين النووية التي وقفت عليها والتي أُلفت بعد الحافظ ابن رجب لم تشرح فيها هذه الثمانية أحاديث، ولم يشرحها إلا القليل من أهل العلم، منهم: فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى (ت: 1417ه) في التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية، وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد في فتح القوي المبين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك في الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

الفرائض: أي الأنصباء المقررة في كتاب الله تعالى، وهي: النصف، والربع، الثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

بأهلها: من يستحقها بنص القرآن.

فما أبقت الفرائض: بعد أخذ كل ذي فرض فرضه.

فلأولى رجل: أقرب رجل في النسب إلى المورث.

ذكر: هذا الوصف للتنبيه على سبب استحقاقه، وهو الذكورة التي هي سبب العصوبة، وسبب الترجيح في الإرث، ولذلك جعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيوف، والأرقاء والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، ونحو ذلك.

هذا الحديث مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها.

وهو أصل في باب الفرائض، ومن جوامع كلم النبي r.

وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قسمة المواريث في ثلاث آيات في سورة النساء:

  1. قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم . .) وهي في ميراث عمودي النسب، أصول الميت وفروعه.
  2. قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم . .) وهي في ميراث الزوجين والإخوة لأم.
  3. قوله تعالى في آخر السورة: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة . .) وهي في ميراث الإخوة الأشقاء ولأب.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (فهذا الحديث مبين لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ومبين لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة مما لم يصرح به القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبين أيضا لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضم هذا الحديث إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كله معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات).

وقد دل هذا الحديث:

  1. على أن الإرث نوعان: فرض: وهو الإرث المقدر، وتعصيب: وهو الإرث بلا تقدير.
  2. أنه عند قسمة الميراث يبدأ بأصحاب الفروض، فإن بقي شيء من التركة فيعطى لأولى رجل من العصبة.
  3. أن العاصب بنفسه يسقط إرثه بالتعصيب إذا استكملت الفروض التركة، لمفهوم قوله r في الحديث: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) ففيه أنه إن لم يبق شيء سقط العاصب.
  4. أن العاصب إذا انفرد أخذ جميع المال؛ لأنه إذا كان يأخذ ما بقي بعد الفروض، فإذا لم يوجد فروض لزم أن يأخذ كل المال.
  5. أن ما بقي من التركة بعد أصحاب الفروض يكون لأولى عاصب، فإن كان منفردا أخذ الباقي كله، وإن كان معه غيره قسم الباقي عليهم بعدد رؤوسهم، وإن كان معهم إناث يرثون بالتعصيب بالغير، صار المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
  6. يستدل بهذا الحديث على أنه إذا اجتمع جدٌّ وإخوة أشقاء أو لأب فإن الجد يحجبهم؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ فالجد في جهة الأبوة، والإخوة في جهة الأخوة، والأبوة مقدمة جهةً على الأخوة.

إشكال:

  لماذا أتى بقوله: (ذكر) بعد قوله: (فلأولى رجل) مع أن الرجل لا يكون إلا ذكراً؟

الجواب: أنه أتى به ليفيد أن المراد بالرجل كل ذكر، ولو لم يكن بالغاً؛ لأن الرجل أصالة هو الذكر البالغ من بني آدم، وليس هذا المعنى مراداً في الحديث، فأتى بلفظ (ذكر) ليعم البالغ وغيره.

وأُجيب أيضا بأن إطلاق لفظ (الرجل) قد يُراد به الشخص، أي ما يعم الرجل والمرأة، ولهذا جاء تأكيد الرجل بالذكر؛ لإخراج المرأة، ومن شواهد ذلك قوله r: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس . . .) فإن هذا الحكم يعم الرجل والمرأة.

الحديث الرابع والأربعون.

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» خرجه البخاري ومسلم.

هذا الحديث أصل في باب الرضاع، وجاء في الصحيحين بلفظ: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) رواه البخاري 2645 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم 1445 من حديث عائشة رضي الله عنها.

وفيهما بلفظ: (إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ) رواه البخاري 5099، ومسلم 1444، من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال ابن رجب: (وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة، وأن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب).

والتحريم بالرضاع تحريم مؤبد.

وقد جاء في القرآن الكريم تحريم الأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة في قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة)

وجاء في السنة هذا الحديث وما في معناه أن كل من حرم بالنسب حرم مثله بالرضاعة.

والمحرمات بالنسب أي القرابة سبع ذكرهن الله تعالى في قوله سبحانه: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم . . .)

والمحرمات بالمصاهرة أربع، ذكرهن الله تعالى في قوله سبحانه: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء . . .) وقوله تعالى: (وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)

فإذا أرضعت امرأة طفلا في الحولين خمس رضعات فأكثر صارت أماً له من الرضاع كما تحرم أمه من النسب، وصار أبو المرضعة وأجدادها آباء وأجدادا له من الرضاعة، وصارت أمها وجداتها أمهات وجدات له من الرضاعة، وصار إخوانها أخوالا له من الرضاعة، وأخواتها خالات له من الرضاعة، وأولاد المرضعة سواء من الزوج صاحب اللبن أو من غيره إخوة له من الرضاعة، وصار زوج المرضعة صاحب اللبن أباً له من الرضاعة، وأبو الزوج وأجداده أجداداً للمرتضع من الرضاعة، وأم الزوج وجداتها جدات للمرتضع من الرضاعة، وإخوان الزوج وأخواته أعماماً وعمات له من الرضاعة، وأولاد الزوج من المرضعة أو من غيرها إخوة له من الرضاعة، والزوجات الأخريات لزوج المرضعة زوجات أب المرتضع من الرضاعة، وهكذا.

والذي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ما يتعلق بتحريم النكاح، والجمع بين قريبتين وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في حِلِّ نحو نظر وخلوة وسفر، لا في باقي الأحكام، كتوارث ووجوب الإنفاق ونحو ذلك.

التحريم المذكور في هذا الحديث بالنظر إلى المرضعة وزوجها صاحب اللبن فإن أقاربهما أقارب للرضيع، وأما أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا ينتشر فيهم التحريم، ولا يثبت لهم شيء من أحكام الرضاع.

الحديث الخامس والأربعون

 عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله حرم عليهم الشحوم، فأجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه» خرجه البخاري ومسلم.

عام الفتح: فتح مكة، وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة.

حرَّم: بإفراد الضمير، وإن كان المقام يقتضي التثنية، إشارة إلى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ناشئ عن أمر الله تعالى، وهو نحو قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه).

والخمر: كل ما خامر العقل، أي غطاه على وجه اللذة والطرب.

وكل مسكر من أي شيء كان فهو خمر، سواء من العنب أو التمر أو البر أو من أي نوع كان، فما أسكر فهو خمر.

ولأجل مضرته العقلية والاجتماعية حرمه الشارع، فبيعه حرام لا يستثنى منه شيء حتى في حال إباحة تناول الخمر لضرورة، فيباح شرب الخمر لدفع لقمة غص بها ولا حضره غيره، بل يجب عليه أن يشرب الخمر لدفع الغصة؛ لئلا يهلك، فلا يجوز بيع الخمر حتى في حال إباحتها؛ لأن إباحتها على وجه نادر، والعبرة بالغالب.

الميتة: هي كل ما لم يمت بذكاة شرعية. هذا الضابط، فشمل ما مات بغير ذكاة، وشمل ما مات بذكاة غير شرعية، إما لعدم أهلية المذكِّي أو لخلل في الذكاة، وشمل ما لا تبيحه الذكاة كالحمار، فلو ذبح شخص حمارا وقطع البلعوم والمريء والودجين فإنه ميتة، لأنه لا تبيحه الذكاة.

فالميتة يحرم بيعها مطلقا.

وهل الميتة هنا على العموم؟ لا، المراد بالميتة: الميتة المحرمة احترازا من الميتة الحلال كميتة السمك والجراد هذه يجوز بيعها؛ لأنها حلال تؤكل بكل حال وبدون ضرورة.

والخنزير: وهو حيوان معروف خبيث يأكل الأنتان والعذرة، معروف بعدم الغيرة، ثم هو نفسه خبيث لقوله تعالى: {فإنه رجس} [الأنعام: 145]. فلا يحل بيعه مطلقا.

والأصنام: وهي جمع صنم، وهو ما عبد من دون الله كالشجرة والحجر وغير ذلك وهي ليست لذاتها، ولكن لما يراد بها من الشرك، والشرك أعظم الذنوب، فلا يجوز أن يشتري الأصنام أبدا، اللهم إلا إذا لم تتوصل إلى إتلافه إلا بذلك فهذا جائز، لكنه بيع صوري؛ لأنه لا ثمن له شرعا.

هذه أربعة أشياء: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، والحكمة من ذلك: أما الخمر فلأنها مفسدة للعقل مفسدة للمجتمع، وأما الميتة والخنزير فلأنهما طعام خبيث لا ينال المرء منهما إلا المضرة والمرض، وأما الأصنام فلأنها مفسدة للأديان، فصارت الحكمة من تحريم بيع هذه الأشياء حماية العقول والأبدان والأديان.

أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن: أي: المراكب البحرية تدهن بالشحم، من أجل ألا يتشرب الخشب الماء؛ لأن الخشب إذا تشرب الماء ثقل وغرقت السفينة.

وتدهن بها الجلود: أي الجلود التي تدبغ؛ لأن الدهن يلينها.

ويستصبح بها الناس: أي يوقدون بها المصابيح.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" يعني: لا يحل البيع؛ لأن السياق في البيع. وليس الذي لا يحل هو الانتفاع بشحوم الميتة في طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح به.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل الله اليهود"، "قاتل" بمعنى: أهلك، وقيل بمعنى: لعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.

واليهود معروفون بالمكر والخداع، كما فعلوا في الحيتان حين حرم عليهم صيد السمك في يوم السبت فابتلاهم الله عز وجل وصارت الحيتان تأتي يوم السبت على ظاهر الماء شُرَّعا وفي غير السبت لا تأتيهم، فتحيلوا ووضعوا الشباك في يوم الجمعة، فتأتي الحيتان يوم السبت وتدخل في الشباك، ثم إذا كان يوم الأحد جاءوا وأخذوها وقالوا: نحن ما صدنا يوم السبت، فعاقبهم الله تعالى بأن جعلهم قردة.

ومن المعلوم أن الله عز وجل حرم عليهم الشحوم: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها} [الأنعام: 146] حرم الله عليهم شحوم البقر والغنم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا (أي الأمعاء) أو ما اختلط بعظم، لكنهم كما قال النبي r في هذا الحديث: "إن الله حرم عليهم الشحوم، فجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه"، جملوه، أي: أذابوه، ثم باعوه واشتروا بثمنه ما يأكلونه، وقالوا نحن لم نأكل الشحم، فهذه حيلة على ما حرَّم الله عز وجل، ودعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بان الله يقاتلهم تحذيرا من فعلهم وتنفيرا عنه؛ لأن من فعل كفعلهم استحق ما يستحقون.

الحديث السادس والأربعون

عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: وما هي؟ قال: البتع والمزر، فقيل لأبي بردة: وما البتع؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير، فقال: كل مسكر حرام» خرجه البخاري.

وخرَّجه مسلم، ولفظه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشراب يقال له: البتع من العسل، فقال: كل مسكر حرام» .

وفي رواية لمسلم: فقال: «كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام»

وفي رواية له قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال: «أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة».

فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات، المغطية للعقل.

وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون - إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90 - 91] .

فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار، وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء، فإن من سكر اختل عقله، فربما تسلط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم، وربما بلغ إلى القتل.

ومن قامر فربما قُهر، وأُخذ ماله قهرا، فلم يبق له شيء، فيشتد حقده على من أخذ ماله، وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراما.

وأخبر سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن السكران يزول عقله أو يختل، فلا يستطيع أن يذكر الله، ولا أن يصلي، فما أدى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته، كان محرما.

وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه.

وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما خرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وخرج أبو داود، والترمذي، وحسنه من حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق، فملء الكف منه حرام».

حكم تعاطي الأدوية المشتملة على الكحول:

يحرم التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات؛ فعن طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ t أنه سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ - أَوْ كَرِهَ - أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ»([4])، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي r قال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ»([5]).

ولا يجوز خلط الأدوية بالكحول المسكرة، لكن لو خُلطت بالكحول جاز استعمالها إن كانت نسبة الكحول قليلة لم يظهر أثرها في لون الدواء ولا طعمه ولا ريحه، فإن ظهر لها أثر في الدواء حَرُم استعماله.

 

استخدام المخدرات والمفترات والمنشطات:

يُقصد بالمخدِّرات ما يُغَطِّي العقل والفكر، ويصيب متعاطيها بالكسل، والثقل، والفتور، من الأفيون والحشيش والكوكايين والمورفين، والشَّبُو والقَات ونحوها.

والمخدِّرات حرام كيفما كان تعاطيها؛ لأنها من الخبائث، وقد قال الله تعالى في وصف نبيه محمد r: (ويُحلُّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث) ولحديث عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله ﷺ قال: (كل شراب أسكر فهو حرام) ، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام... (الحديث، وعن أُم سلمة رضي الله عنها قالت: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ»([6])، ولعظم خطر هذه الموادّ المخدِّرة، وشدَّة إفسادها، وفتكها بشباب الأمة، ورجالها، وشغلهم عن طاعة ربّهم، وجهاد أعدائهم، ومعالي الأمور، حرّمها الإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكل ما يُغيِّب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تَغَيُّب العقل حرام بإجماع المسلمين)([7]).

حكم الاتّجار بالمواد المخدِّرة: ورد تحريم بيع الخمر عن رسول الله ﷺ، ففي حديث جابر رضي الله عنه عن النَّبيّ أنه قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنـزير والأصنام) ولقوله ﷺ: (إن الله إذا حَرَّم شيئاً حَرَّم ثمنه).

ولذا قال العلماء: إنّ ما حرَّم الله الانتفاع به يحرم بيعه، وأكل ثمنه.

ولمّا كانت المخدِّرات يتناولها اسم الخمر، فإنَّ النهي عن بيع الخمر يتناول هذه المخدِّرات شرعاً، فلا يجوز بيعها إذن، ويكون المال المكتسب من الاتِّجار بها حراماً.

عقوبة تعاطي المخدِّرات: مَن تعاطى المخدِّرات أكلاً أو شرباً أو حقناً ونحو ذلك، فإن هذا المخدِّر له حالتان:

الأولى: أن يكون مُؤثِّراً في العقل على وجه اللّذّة، وهذا حقيقة السُّكْر، فيكون مسكراً يجب فيه حدّ الخمر على متعاطيه، ومِن أمثلة ذلك: الحشيش.

الثّانية: أن يُغيِّب العقل على غير لذّة، فهذا لا يُعدّ مُسْكِراً، لكن تجب فيه عقوبة تعزيريّة.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ:

عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

(مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً) أَيْ ظَرْفًا (شَرًّا مِنْ بَطْنٍ) صِفَةُ وِعَاءٍ جَعَلَ الْبَطْنَ أَوَّلًا وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا لِحَوَائِجِ الْبَيْتِ تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا هِيَ لَهُ وَالْبَطْنُ خُلِقَ لِأَنْ يَتَقَوَّمَ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ شَرًّا مِنْهَا.

(بحسب بن آدَمَ أُكُلَاتٌ) بِضَمَّتَيْنِ خَبَرُهُ نَحْوُ قَوْلِهِ بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ وَالْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ أَيْ يَكْفِي ابن آدم لقيمات، يحصل بها سَدِّ الرَّمَقِ وَإِمْسَاكِ الْقُوَّةِ (يُقِمْنَ صُلْبَهُ) أَيْ ظَهْرَهُ.

(فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ) أَيْ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ التَّجَاوُزِ عَمَّا ذَكَرَ فَلْتَكُنْ أَثْلَاثًا (فَثُلُثٌ) يَجْعَلُهُ (لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ) يَجْعَلُهُ (لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ) يَدَعُهُ (لِنَفَسِهِ) أَيْ يُبْقِي مِنْ مِلْئِهِ قَدْرَ الثُّلُثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّنَفُّسِ وَيَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ صَفَاءٍ وَرِقَّةٍ.

وفي هذا المعنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يجب المسرفين)

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الطِّبِّ كُلِّهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَاسَوَيْهِ الطَّبِيبَ لَمَّا قَرَأَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " كِتَابِ " أَبِي خَيْثَمَةَ، قَالَ: لَوِ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، سَلِمُوا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَتَعَطَّلَتِ الْمَارِسْتَانَاتُ وَدَكَاكِينُ الصَّيَادِلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ التُّخَمُ، . . .

وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةِ طَبِيبُ الْعَرَبِ: الحِمية رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَالْبِطْنَةُ رَأْسُ الدَّاءِ.

فَهَذَا بَعْضُ مَنَافِعِ تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَتَرْكِ التَّمَلِّي مِنَ الطَّعَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاحِ الْبَدَنِ وَصِحَّتِهِ.

وَأَمَّا مَنَافِعُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَلْبِ وَصَلَاحِهِ، فَإِنَّ قِلَّةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقُوَّةَ الْفَهْمِ، وَانْكِسَارَ النَّفْسِ، وَضَعْفَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ، وَكَثْرَةُ الْغِذَاءِ تُوجِبُ ضِدَّ ذَلِكَ.

 وَقَالَ الْمَرْوَذِيُّ: جَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي أَحْمَدَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْجَرُ، وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؟ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً وَهُوَ يَشْبَعُ؟ قَالَ: مَا أَرَى.

وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ، وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ مَلَكَ بَطْنَهُ، مَلَكَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا، وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مِعْدَةً مَلْأَى.

وقال الْحَسَنِ لَمَّا عَرَضَ الطَّعَامَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَكَلْتُ حَتَّى لَا أَسْتَطِيعَ أَنْ آكُلَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَيَأْكُلُ الْمُسْلِمُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ يَأْكُلَ؟ ! .

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَصِحَّ جِسْمُكَ، وَيَقِلَّ نَوْمُكَ، فَأَقِلَّ مِنَ الْأَكْلِ.

وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى التَّقَلُّلِ مِنَ الْأَكْلِ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ، وَقَالَ: «حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ».

وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ».  

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ شَبَابٌ يَتَعَبَّدُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ فِطْرِهِمْ، قَامَ عَلَيْهِمْ قَائِمٌ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَنَامُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ

 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ كَانَتْ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

هذا الحديث خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ».

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ».

والنفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يُظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.

والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يُظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك. وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمسة:

أحدها: أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له.

والثاني: إذا وعد أخلف، وهو على نوعين:

  1. أن يعِد ومن نيته ألا يفي بوعده، وهذا أشر ما يكون من إخلاف الوعد، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل، كان كذبا وإخلافا للوعد.
  2. أن يعِد ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له فيُخلف من غير عذر له في الخُلف.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ t أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟» قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ» رواه أبو داود 4991، وحسنه الألباني.

والثالث: إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا، وهذا مما يدعو إليه الكذب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار».

فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة - سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات، ومن أخبث خصال النفاق.

ويدخل في ذلك إقامة الدعوى الكيدية لدى القاضي، والدعوى الكيدية: هي دعوى يقيمها المدعي من غير حق، فيطالب بأمر لا حق له فيه؛ لغرض الإضرار بالمدعى عليه، أو يقيمُ الدعوى في قضية لا مصلحة له منها، أو يعيدُ إقامة الدعوى المنتهيةِ شرعا؛ كل ذلك بغرض مضارة المدعى عليه.

وصاحب الدعوى الكيدية متعرض لسخط الله عز وجل؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه» رواه أبو داود 3597 وصححه الألباني.

ولذا فيحرم أن يتوكل المحامي أو غيره عن أهل الخصومات والدعاوى الباطلة؛ لئلا يكون شريكا معهم في الإثم، وقد نهى الله عن ذلك في قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) ومعنى الآية: لا تخاصم عمن عرفت خيانته، ممن يدعي ما ليس له، أو ينكر حقا لازما عليه، سواء عَلِم ذلك يقينا، أو غلب على ظنه أنه مبطل في دعواه، فلا يجوز له التوكل نيابة عنه، عملا بقول الله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)

الرابع: إذا عاهد غدر، ولم يف بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، فقال: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به»

والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهد كافرا، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل نفسا معاهدا بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» خرجه البخاري.

وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئا. وأما عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثما. ومن أعظمها: نقض بعض الرعية ما في أعناقهم من البيعة لولي أمر المسلمين، ففي الصحيحين عن أبي هريرة t عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فذكر منهم: ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفَى له، وإلا لم يفِ له» ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها، ويحرم الغدر فيها: جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر الطاعة ونحوه.

الخامس: الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن الرجل أمانة، فالواجب عليه أن يؤديها، كما قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» وقال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق.

وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل له: إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعد هذا نفاقا.

وكان الصحابة y يخافون النفاق على أنفسهم، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. ويذكر عن الحسن قال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.

وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟

ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقا، كما في " صحيح مسلم " «عن حنظلة الأسيدي أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».

وفي مسند البزار عن أنس t قال: «قالوا: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره، قال: كيف أنتم وربكم؟ قالوا: الله ربنا في السر والعلانية، قال: ليس ذاكم النفاق».

الحديث التاسع والأربعون

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه 730، والبيهقي في شعب الإيمان 2/405، وقال بعده: (قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْكَسْبِ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ إِذَا غَدَتْ فَإِنَّمَا تَغْدُو لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - لَوْ تُوَكَّلُوا عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي ذَهَابِهِمْ وَمِجِيئِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَرَأَوْا أَنَّ الْخَيْرَ بِيَدِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَنْصَرِفُوا إِلَّا سَالِمِينَ غَانِمِينَ كَالطَّيْرِ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا، لَكِنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّتَهُمْ وَجَلَدِهِمْ وَيَغِشُّونَ وَيَكْذِبُونَ، وَلَا يَنْصَحُونَ وَهَذَا خِلَافُ التَّوَكُّلِ").

وروى ابن حبان في صحيحه 3238، عن أَبي الدرداء t قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أَجله". وقال الألباني في صحيح موارد الظمآن 1/449: صحيح لغيره. وانظر: الصحيحة 952.

وهذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلَب بها الرزق، قال الله عز وجل: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا - ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.

وحقيقة التوكل على الله تعالى: هو الاعتماد على الله عز وجل في جلب المصالح ودفع المضار، والثقة به سبحانه في ذلك، مع بذل الأسباب المشروعة.

وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، وقال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}، وقال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}

ومما يدل على الأخذ بالأسباب أن النبي r دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، وظاهر بين درعين في بعض غزواته، وهو سيد المتوكلين r.

وأرشد r إلى الجمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله تعالى بقوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله) رواه مسلم.

وفي الحديث أن طلب الرزق وقته النهار، كما قال تعالى: (وجعلنا النهار معاشا) والليل سكن.

وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه، كما في حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» . وفي حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم».

وعن الفضيل بن عياض أنه قيل له: لو أن رجلا قعد في بيته زعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنه قد وثق به، لم يمنعه شيئا أراده، لكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم، «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر» ولم يقولوا: نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل، وقال الله عز وجل: {وابتغوا من فضل الله}، ولابد من طلب المعيشة.

وخرج الترمذي من حديث أنس t قال: «قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل».

الحديث الخمسون:

عن عبد الله بن بسر قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع؟ قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل» خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ.

وأخرجه الترمذي 3375 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ t أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ» وصححه الألباني.

(بشيء أتشبث به) أي أتمسك به كما في الرواية التي ذكرها المصنف؛ ليسهل علي أداؤه.

وفيه فضل الصحابة r لحرصهم على الخير، والسؤال عنه.

والمراد بالشرائع التي كثرت في الحديث أي النوافل، فأراد الصحابي t بسؤال النبي r معرفة طريق من طرق الخير يخصه بمزيد عناية، لأجل تحصيل الثواب الجزيل من الله تعالى، وأما الفرائض فإنها مطلوبة كلها، يجب على المسلم التمسك لها جميعا.

وقوله r: (من ذكر الله عز وجل) الذكر يكون عاما وخاصا:

أما العام فيدخل فيه الصلاة وقراءة القرآن الكريم وتعليم العلم والذكر الذي هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحوه، والدعاء وغير ذلك مما يذكر الله تعالى به.

وأما الذكر الخاص فهو الثناء على الله تعالى بتحميده وتكبيره وتسبيحه وتهليله ونحوه، وهو الذي يقرن كثيرا بالدعاء، فيقال: الذكر والدعاء.

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟، قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» رواه ابن حبان في صحيحه 818، وقال الألباني في صحيح موارد الظمآن 2/314: حسن صحيح.

وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بأنْ يذكروه ذكراً كثيراً، ومَدَحَ من ذكره كذلك؛ قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.

وقال كعب: من أكثر ذكر الله، برئ من النفاق.

ويشهد لهذا المعنى أنَّ الله تعالى وصف المنافقين بأنَّهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، فمن أكثر ذكرَ الله، فقد بايَنَهُم في أوصافهم، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله، وأنْ لا يُلهي المؤمنَ عن ذلك مالٌ ولا ولدٌ، وأنَّ من ألهاه ذلك عن ذكر الله، فهو من الخاسرين.

قال الربيعُ بنُ أنس، عن بعض أصحابه: علامةُ حبِّ الله كثرةُ ذكره، فإنَّك لنْ تحبَّ شيئاً إلا أكثرت ذكره.

وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كلِّ

أحيانه.

والمعنى: في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه، وسواء كان على طهارةٍ أو على حدث.

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في آخر شرحه لهذا الحديث: (ذكرنا في أوَّل الكتاب أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بجوامع الكلم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يُعجِبُه جوامع الذكر، ويختاره على غيره من الذكر، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس، عن جُويرية بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بُكرةً حين صلَّى الصبحَ وهي في مسجدها، ثمَّ رجع بعد أنْ أضحى وهي جالسةٌ، فقال: (مازلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟) قالت: نعم، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرات، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزَنتهُنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَةَ عرشه، ومداد كلماته)).

والحمد لله رب العالمين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 

 

([1]) تنبيه: هذا الشرح المتواضع مستفاد من عدة شروح لأهل العلم، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.

([2]) منهاج السنة النبوية 7/28.

([3]) ينظر: القواعد المثلى لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى ص67.

([4]) أخرجه مسلم (1984).

([5]) أخرجه ابن حبان (1391) وقال الألباني في التعليقات الحسان (3/73): حسن لغيره.

([6]) أخرجه أبو داود (3686) وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/44).

([7]) الفتاوى الكبرى (3/423).

📄 اضغط لمشاهدة الملف

المقاطع ذات صله